المزمور الخامس: صلاة إنسان يستجير بالله

 

المزمور الخامس

صلاة إنسان يستجير بالله؟

1 - توسُّل وتضرُّع

نتابع قراءة المزامير، ونتذكّر أنّ المزامير هي تراتيل، هي كتاب الصلاة في الشعب العبرانيّ، في الشعب المسيحيّ، وما زال الناس يتلونها، يرتّلونها، يصلّونها يومًا بعد يوم، وهي تتوزّع بأنواع عديدة. فالصلاة تتنوّع بتنوّع حاجات الناس. واليوم نقرأ المزمور الخامس الذي يمكن أن نسمّيه صلاة الصباح، صلاة رجل يستجير با؟. »مزمور لداود«.

هذا المزمور هو مزمور توسّل، هو مزمور تضرّع يرفعه المؤمن إلى ا؟ في ضيقه. الضيق يحيط به. الأعداء يضايقونه. لهذا هو يصرخ إلى ا؟ الذي يسمّيه الملك إلهه، مليكه: »لصوت استغاثتي استمع يا مليكي«.

الملك هو الذي يدافع عن قضيّة الضعفاء، عن قضيّة المظلومين. وإذا كان الملك هو ا؟، فكم يكون الدفاع ناجعًا، قويٌّا. ولكي يطلب هذا المؤمن من الربّ أن يساعده، هو يحدّثه عن حالته التعيسة، وهذه الحالة التعيسة تأتي من فاعلي الإثم الذين يفعلون الشرّ، الذين يسفكون الدماء، يقول: »كلّ من يفعل الأثم، تمقت السفّاحين الماكرين«.

السفّاحون هم الذين يسفكون الدماء، والماكرون هم أصحاب المكر والكذب، أصحاب الغشّ. أتُرى إنّها المرّة الأولى التي يهتمّ فيها الربّ بأحبّائه؟ كلاّ. كم من مرّة في الماضي عرف المؤمن أنّ الربّ تدخّل. إذًا هو سيتدخّل من أجله أيضًا. في الماضي تدخّل ا؟ من أجل أحبّائه، وهذا المؤمن هو أيضًا من أحبّائه. لذلك التجأ إلى الهيكل، طلب حماية الربّ، عرض عليه قضيّته، وهو مؤمن كلّ الإيمان بأنّ الربّ سيفعل، بأنّ الربّ سينجّي، بأنّ الربّ سيحمي مختاره. بعد هذه المقدّمة الطويلة، قبل المزمور الخامس الذي هو في الواقع صلاة الصباح، صلاة يوجّهها البارّ المضطَهد إلى ديّان البشر ليخلّصه من أعدائه. نبدأ بقراءة النصّ:

لكبير المغنّين على المزمار مزمور لداود: »أصغِ يا ربّ إلى كلامي، وتعرَّف إلى تنهّداتي«.

2 - في وجه النفاق والكذب

هذا المزمور الذي أنشده أحد المؤمنين في الهيكل أو ربّما في خدر بيته، صار صلاة الجماعة في الهيكل. ورافقه المزمار، رافقته الآلات الموسيقيّة وارتبط بداود. كانت هناك مجموعة ربّما كانت لداود وأضيف عليها مزامير ومزامير بحيث قيل إنّ المزامير هي مزامير داود. »أصغِ يا ربّ إلى كلامي وتعرّف إلى تنهّداتي«. مع آ 2، يتوسّل المرتّل لكي يسمعه الربّ، ليستجيب صلاته، ليصغيَ إلى صوته. هو يستغيث ويتألّم: »فإنّي إليك أصلّي«. جاء إلى رواق الهيكل في لقاء مع الربّ وهناك سجد.

لماذا يصلّي هذا المؤمن؟ السبب الأوّل: لأنّ النفاق موجود، لأنّ الشرّ موجود، لأنّ فَعَلَة الأثم موجودون. إذًا يصلّي المؤمن لكي يرتاح العالم من النفاق، من الشرّ، من الألم. كيف يرضى بعدُ الربّ أن يوجد كلّ هؤلاء وأن يتضايق أبراره. لهذا السبب يصرخ إليه: أزل الشرّ، أزل البغض، أزل الحقد، أزل النفاق من العالم. كيف ترضى أن يأتي إلى هيكلك من يفعل السوء؟ كيف ترضى أن يأتي إلى هيكلك من يتباهى بقدرته وعظمته وماله؟ كيف تقبل أن يجاورك من ينطق بالكذب؟ من ينكر الحقّ؟ من يقتل الناس؟ وهكذا طلب من الربّ أن يتدخّل لأنّ الشرّ هو في كلّ مكان.

والسبب الثاني نقرأه في الآية 8 - 9. المقطع الرائع. »وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك يا ربّ، وبخضوع أسجد لك في هيكلك المقدّس«. »أنا بكثرة رحمتك«. هذا هو السبب الثاني الذي يجعل المؤمن يصلّي، لأنّه يعرف أنّ الربّ رحوم، أنّ الربّ كثير الرحمة، ولا يرحم كما يرحم البشر. فرحمة البشر محدودة. هو لا يرحم كما ترحم الأمّ. فقد يأتي وقت تتخلّى فيه عن أولادها. أمّا رحمة الربّ فهي إلى الأبد. رحمته إلى جيل فجيل، رحمته كثيرة، رحمته لا حدود لها. ونحن نتمسّك بهذه الرحمة. وحين يعرف المؤمن أنّه مغمورٌ برحمة الربّ يتجاسر فيدخل بيت الربّ بكلّ ثقة واتّكال. يمكن أن يكون خاطئًا، ويقول الكتاب: ليس بارّ ولا واحد، ولكنّ رحمة الربّ تجعل الإنسان يثق أنّه قد غُفر إليه. بمجرّد أن يكون قد طلب من الربّ. غفر له الربّ. لهذا يستطيع أن يدخل بيت الربّ، أن يسجد في الهيكل المقدّس، أن يسجد بخشوع أمام الربّ.

3 - يا ربّ العدل

يضع المؤمن نفسه تجاه أولئك الذين كانوا ثائرين عليه،الذين يتهدّدون، الذين يريدون له الشرّ. وهنا يطلب من الربّ العدل، العدل مع ثلاث كلمات. أوّلاً الهداية، ثانيًا السبيل، ثالثًا الطريق.

الهداية، الربّ هو الذي يهدينا، الذي يوجّه خطانا. سواء السبيل وطريق النجاة. هو يفتح أمامنا الطريق التي تسمح لنا أن ننجو من الشرّ، ننجو من السوء، من الكذب، ننجو من الموت. »بمشهدٍ من الثائرين عليّ«. يرى هؤلاء الرافضون، يرى هؤلاء الخصوم أنّني نجوت فيعرفون أنّك الإله القدير. لا لم ينجُ المؤمن بقوّته وبحيلته وبوسائله. هو مثل أشخاص كثيرين اليوم: يقضون الليل كلّه في الصلاة. يقضون الليل كلّه في السهر مع الربّ أو أحد القدّيسين.

وهذا المؤمن قد يكون سهر كلّ الليل، وفي الصباح انتظر أن يكون قد استجابه الربّ. هي ساعات الصباح الأولى »في الصباح باكرًا« يوجّه نظره، قلبه، صلاته إلى الهيكل. نظره كنظر الأمَة إلى سيّدتها، كنظر العبد إلى يد سيّده، هكذا ينظر المؤمن، عينه تنظر، قلبه يرتفع، يحبّ، ينتظر، يستعدّ لأن يقول نعم، وشفاهه تتحرّك وربّما لا تُسمِع صوتًا. فالشفاه يمكن أن تصرخ، أن تستغيث: »لصوت استغاثتي استمع يا مليكي، يا إلهي إليك أصلّي«. ويمكن أن تكون الصلاة تمتمة لا يسمع صوتها، على مثال ما فعلت أمّ صموئيل حين طلبت من الربّ أن يعطيها ولدًا.

نظر. بعينه ينظر، بقلبه يفهم ويستعدّ، صلاته هي صلاة الفم، صلاة الشفتين. وبعد النظر والقلب والصلاة، هي الذبيحة التي سيقدّمها للربّ. يقول في الآية 4: »في الصباح باكرًا تسمع صوتي وباكرًا أتأهّب وأنتظر«. هذا المؤمن لا يتّكل على ذاته. هو أضعف من أن يفعل. لا يتّكل على إمكاناته بل يجعل اتّكاله كلّه على الربّ، على الربّ الذي اختاره، وقد يكون هذا المؤمن أحد الكهنة.

اختاره ليكون كاهنه ويقدّم الذبائح باسمه وباسم الشعب. اختاره وكرّسه. يعني صيّره له، صار مُلك الربّ، لم يعد يستطيع التصرّف بحياته وأعماله وأقواله، صار ملك الربّ. اختاره الربّ، كرّسه وساعده على الصلاة، علّمه كيف يصلّي. هنا نتذكّر القدّيس بولس يحدّثنا عن الروح القدس كيف يصلّي فينا. ونحن عندما نقرأ الكتاب المقدّس نصلّي إلى ا؟ بكلام ا؟. يساعده ا؟ على الصلاة ويساعده على تقدمة الذبيحة. وإن هو تنهّد، وإن هو استغاث، وإن هو أسمع صوته، وإن هو تأهّب، فلأنّه يعرف أنّ ا؟ لا يتخلّى عنه، أنّ ا؟ لا ينسى ما عمله تقيُّه في الماضي، هذا هو المعنى الذي نكتشف في القسم الأوّل من المزمور حتّى الآية الرابعة.

4 - اسمع، أَصغِ

»أصغِ يا ربّ إلى كلامي وتعرّف إلى تنهّداتي، لصوت استغاثتي استمع يا مليكي، يا إلهي، إليك أصلّي«.

صلاة الصباح يتلوها المؤمن. ونحن أيضًا يمكن أن نتلوها في الصباح بشكل خاصّ، ولكن في كلّ وقت بشكل عامّ. نحن نتأكّد أنّ الربّ يسمعنا عندما نناديه، يستجيبنا عندما نطلب. وفي أيّ حال لا يتخلّى عنّا لو تخلّت الأمّ عن أولادها. فا؟ لا يتخلّى عن أبنائه. ويتابع النصّ: »إله أنت لا يُسرّ بالشرّ، ولا يجاور أهل السوء. المتباهون لا يقفون أمامك، وتبغض كلّ من يفعل الأثم. تبيد الناطقين بالكذب، وتمقت السفّاحين الناكرين«.

الربّ هو الذي نجّاه. ليت الخصوم يفهمون هذا، فلا يعودوا يهاجمون الأبرار. في آية 8، يدلّ المؤمنُ الربَّ على نوعيّة هؤلاء المنافقين. لا برارة عندهم، لا صدق عندهم. هم يستحقّون العقاب الكبير بسبب معاصيهم. آية 10 - 11: نلاحظ هنا كم هو قاسٍ تجاه هؤلاء الأشرار. أوّلاً: الأفواه الكاذبة، ثمّ الداخل، النوايا الشرّيرة، الحلوق قبور مفتوحة لا يخرج منها إلاّ الموت، وأخيرًا الألسنة تكذب، تحاول أن تدعو، أن تعد بالخير وفي النهاية فهي تكذب. تجاه المنافقين يبقى البارّ وحده أمام الربّ. وهكذا ينتهي المزمور كما بدأ بالاتّكال الكامل على الربّ.

آية 12: ماذا يطلب المؤمن؟ يطلب النجاة والبركة. ولا يطلبها لنفسه وحده بل يطلبها لجميع عبيد الربّ، شرط أن يكونوا من الأوفياء. هذه البركة التي هي بهجة، التي هي فرح. ولماذا يفرح المؤمنون الأبرار؟ لماذا يبتهجون؟ لأنّ الربّ يكتنفهم برضاه، لأنّ الربّ يحيطهم كما يحيط الدرعُ بالمحارب فلا تصل إليه سهام العدوّ ولا يصيبه أيّ شرّ. وهكذا وضع المرتّل ثقته الكاملة بالربّ. التجأ إلى الهيكل، إلى الديّان الإلهيّ، إلى صاحب الحقّ والعدل. صرخ إلى ا؟، إلى ملكه، فوجد باب الهيكل مفتوحًا أمامه، فوجد رحمة الربّ تحيط به، تُرشده، توجّهه، بل وجد أمامه الطريق مفتوحة، مسهّلة.

هيّئوا طريق الربّ، أجل، لسنا نحن من يُهيّئ طريق الربّ. يصرخ المرتّل إلى الربّ، وجد عنده الخلاص، لهذا هتف هتاف الفرح، هو لا ينتظر لأنّه يعرف أنّ الربّ سيفعل: فعل في الماضي مع الأبرار السابقين، وهو يفعل اليوم مع هذا المرتّل كما يفعل معنا، فلا يبقى لنا إلاّ أن نقول: »في الصباح باكرًا تسمع صوتي وباكرًا أتأهّب وأنتظر. أصغِ يا ربّ إلى كلامي واستمع إلى صلاتي«. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM