الفصل التاسع :اعتقاد الصابئة بالعواقب والكواكب

الفصل التاسع

اعتقاد الصابئة بالعواقب والكواكب

1- اعتقادهم بالعواقب

وأمّا من جهة عقيدتهم بالعواقب فإنَّهم يؤمنون منها بالموت وبالنعيم وبالعذاب الأليم »الموقَّت« وبدينونةٍ خصوصيَّة بعد الموت لكنَّهم لا يؤمنون بالحشر. أمّا اعتقادهم بالموت وبالدينونة فهو على الوجه الآتي: وذلك أنَّ السَّيْن (بفتح فسكون. وهو القمر عندهم) يهوي من موطنه ويقف على رجل المحتضر. وينحدر مع السَّيْن روحانيٌّ اسمه »قمامير زيوا« لكي لا يدع القمر يتصرَّف بالمدنف على الموت تصرُّف الطاغية العسوف بالعاجز الضعيف. وقبل الموت بهنيهة يذبح السين الميت ذبحًا إن كان صابئًا ويخنقه خنقًا إن كان غير صابئ. وكلا الذبح والخنق لا يراه الحاضرون. ثمَّ إنَّ النفس تذهب إلى »مَطَرتا«(24) العالم الخاصّ بها، لأنَّ لكلِّ ملَّة عالمًا ولكلِّ عالم موطن سعادة وشقاء. أمّا »مَطَرْتا« الصابئة فتسمّى »مَطرتا بتاهيل« ثمَّ تذهب إلى مَطَرْتا أخرى وهكذا إلى سبع المطراتي إن كان عذابها يستوجب ذلك. ومثل هذه المطراتي يوجد في سبعة العوالم الأخرى. وبعد أن تُطهَّر من ذنوبها وآصارها في مطرتا واحدة أو عدَّة »مطراتي« تصير إلى »مطراتا أواثر« وفي ذهابها إليها يخرج إليها عبيد سبع المطراتي فيسألونها أسئلةً فإن أحسنت الإجابة عنها تركوها وشأنها وإلاَّ قبضوا عليها وأخذوها تحت سطوتهم. ولهذا يجتهد أتقياء الصابئة بتلقين أولادهم هذه الأسئلة والأجوبة منذ نعومة أظفارهم(25) وهذا تعريبها:

»بأسماء الحياة (الثلاثيَّة) العظيمة. حينئذٍ لما بلغت (النفس) إلى سبعة الأسرار خرج قدَّامها عبيد (المطراتي) وجاؤوا متجمِّعين عليها وسائليها وقائلين لها: يا نفس من أين أتيتِ وإلى أين تذهبين؟ فقلت لهم: جئت من المكان الذي يُقال له »الأرض« وأنزل نحو الحدود (أو التخوم أو الأرجاء) الطيِّبة. فقالوا لي: عبد مَن أنتَ؟ ورسول من أنت (تُذكر). فقلت لهم: أنا عبد الأرجاء المحبوبة ورسول آيرَ سغيا (هو من الروحانيّين ومعنى اسمه الأثير الزاخر وهو الملء الإلهيّ Plérome) فحينئذٍ بارَكُوني واحتَرَموني وحفظوني وقالوا لي: كلُّ من يعرف هذا السؤال يصعد نحو الحدود (أو الأرجاء régions) الطيِّبة. وإذا أخفى الواحد سرَّ المكان (أي الأرض) لا يصعد نحو الحدود الطيِّبة«.

وأمّا النعيم ويسمُّونه عندهم »آلما دنهورا« أي عالم الأنوار فيروون عنه نفس ما يقوله النصارى عن السماء أي إنَّه لا حرٌّ ولا برد ولا لصوص ولا أذى من أيِّ نوع كان. وهناك النور والضياء والبهاء متوفِّر ويجد الإنسان في عالم النور كلَّ ما يرغبه من اللذائذ والطيِّبات الخالية من كلِّ زلل أو إثم أو إصر.

أمّا الجحيم فعذابه عندهم ليس بأبديّ بل وقتيّ. وأطول عذاب عندهم يكون إلى فناء العالم وهذا الفناء يكون على هذا الوجه: »زيقا ناشَم« أي »تهبُّ ريح« عاصفة فتمهِّد أوتاد الأرض وتدفن مطمئنّاتها وأجوافها ثمَّ يصير القمران وسائر المتحيِّرات التي هي أولاد »الروهاية« إلى »آلمي دنهورا«. وأمّا بقيَّة النجوم التي لا حياة لها فتتناثر وتهوي هويًا من مواطنها فتضمحلّ. ثمَّ إنَّ سبع طبقات السماء تُطوى طيَّ الدرج فيبتلعها »الأور« وبعد أن يسترطها يأتي إليه »هيفل زيوا« ويقول له بأعلى صوته: »؟ ؟؟؟؟؟؟ (وتُلفظ: أهلى (ehlé) مناثا بْكَرْسَخ) أي: »لي سهمٌ في جوفك«. فيفتح الأور فمه رغمًا عنه ويُجوِّف النفوس الصابئيَّة (أي يقذفها من جوفه). أمّا سائر نفوس بقيَّة الملل فلا تُجوَّف بل تبقى في موطنها وتضمحلُّ فيه عائدة إلى القِدَم. وأمّا سبع طبقات الأرض القائمة على ظهر الأور فتسقط عنه عند سماعه صوت »هيفل زيوا« الجهوريّ وتغدو بحرًا عذبًا كما كانت قبل الخلق.

2- اعتقادهم بالكواكب

أمّا من جهة اعتقادهم بالكواكب والنجوم، فإنَّ الصابئة الحرّانيَّة كانوا يذهبون إلى أنَّها أرواح سماويَّة لا يتطرَّق إليها الفساد والفناء. وكانوا يقرِّبون لها القرابين البشريَّة ويبتهلون إليها وهو أمر ليس فيه شبهة. قال في كتاب السرِّ المكتوم في مخاطبة النجوم ما نصُّه: »هيكل المشتري هو مثلَّث الشكل وأعلاهُ محدَّد وهو مبنيّ بالحجارة الخضر المِسنيَّة ومدهون الجدران دهانًا أخضر وستوره حريرٌ أخضر وفي وسطه مقعدٌ فوق ثماني درج. وعليه صنمٌ من القصدير وله سدنة لا يزالون في تعبدٍ له. فإذا كان يوم الخميس ويكون المشتري في شرقه، أتاه الصابئون وهم لابسون الأخضر وبأيديهم أغصان من السرو وقد تقلَّدوا بقلائد من جوز السرو ويكون معهم صبيّ رضيع يكونون قد اشتروا جارية ووطئها سدنة الهيكل وحملت ورضعت صبيٌّا فيأتون بها وبه بعد ثلاثة أيّام من وضعها فينخسونه بالإبر وهو على يدها حتّى يموت ويقولون: »أيُّها الربُّ الخيِّر قرَّبنا إليك من لا يعرف الشرّ. فتقبَّل قرباننا وارزقنا خيرك وخير أرواحك الخيِّرة«.

وقال عن هيكل المرّيخ: »هيكل المرّيخ مربَّع الشكل وسائره أحمر اللون مدهون بالدهان الأحمر وستورٌ حمرٌ وبه أسلحة معلَّقة. وفي وسطه مقعد قائم على سبع درجات فوقه صنمٌ من حديد وبيده سيف وبيده الأخرى رأس معلَّق بشعره. والرأس مخضَّب بالدماء ويأتونه يوم الثلاثاء حينما يكون المرّيخ في شرقه وقد لبسوا الأحمر وتلطَّخوا بالدماء وبأيديهم خناجر وسيوف ومعهم رجلٌ أشقر أنمش أحمر أبيض الرأس من شدَّة الشقرة والصُّهبة فيُدخلونه في حوض مملوء زيتًا وأدوية تعفِّن اللحم والجلد بسرعة. ويشدّونه بأوتاد في قعر الحوض مغمورًا بالماء المذكور سنةً فإذا انقضى الحول جاؤوا إلى رأس ذلك المغمور فانتزعوه عن البدن بعروقه وأغصانه وأتوا به الصنم وقالوا: أيُّها الربُّ الشرّير الطائش الذي تحبُّ القتل والخراب والحرق وسفك الدماء، قرَّبنا إليك ما يشبهك فتقبَّل منّا واكفنا شرَّك وشرَّ أرواحك«. وهم يزعمون أنَّ الرأس يكلِّمهم بما يصيبهم في سنتهم من خير ومن شرّ(26).

وقد ذكر صاحب الكتاب المذكور سنن الصابئة الحرّانيَّة لكلِّ واحدة من السيّارات مع وصف الهياكل الخاصَّة بها على الوجه الذي ألمعنا إليه. وأمّا اعتقاد صابئة هذا اليوم في نواحي العراق بالنجوم والكواكب فهذا ملخَّصه: إنَّ السيّارات خلقٌ على حدة لها نفس وجسد وكلُّها ذكورٌ إلاَّ »لِيْوَت« يعني الزهرة فإنَّها أنثى. وكلُّ واحد من هذا الخلق يسير على سفينة شراعيَّة في الفضاء يخفق على دقلها الأعلى علمٌ كبير يسمُّونه »دْرفشا« وهي كلمة من أصل فارسيّ نقلها العرب إلى لغتهم بصورة »دِرَفس« بهذا المعنى. وهذا »الدرفشا« نيِّر بذاته، وما غروب السيّارات إلاَّ عبارة عن طيِّ هذا اللواء. وما شروقها إلاَّ عبارة عن نشره. أمّا رأي علماء الفلك في هذا الصدد فيُنزَّل عندهم منزلة الخرافات المختلفة كما ينظِّم الفلكيّون أقوال الصابئة في سلك الرطازات والترَّهات. ولهم في اعتقاد الكواكب آراء وأقاويل غريبة إلاَّ أنَّ مقام هذه المجلَّة يضيق عن إيعابها. وأمّا سائر النجوم فهي عبارة عن لآلئ ودرر مختلفة الحجم والقدر منبثَّة في الفضاء راجعة إلى أصحاب السيّارات أو إلى غيرهم. وأمّا النجم القطبيّ فهو درَّة منزَّلة على باب »أواثر«.

أمّا من(*) جهة اعتقادهم بالمسيح وبيوحنّا المعمدان فإليك تعريب ما قرأته في »الكنز« لا كما يورده عوامُّهم قال وقوله كلُّه كذب كما سترى: »فأُعيد عليكم الكلام يا تلامذتي(27) أنَّ »مشيها« (المسيح) ويُقال له عطارد(28) سوف يختفي عدَّة أشهر في أحشاء »أمٍّ بتول« ثمَّ يبرز منها بجسده. فيربو في حجر والدته ويرضع من لبنها وينشأ بين ظهراني اليهود ويعرض مذهبه كلَّه منذ أوَّل نشأته. ثمُّ يُعِدُّ لنفسه عبدةً له ويُكره أصحابه على استشعار المِرعزاء(29) وجزِّ شعر الرؤوس فيرين الهوى على قلوبهم من حيث لا يدرون. ثم إنَّ أصحابه يقومون بعيده يوم الشمس وسوف يقول لهم: »إنّي إله حقّ وقد أرسلني أبي إلى هنا. إنّي أنا أوَّل الرسل وخاتمهم. إنّي الآب وإنّي الروح القدس وقد نبغت في الناصرة«. وله عرشٌ. وسوف يرفع الناسوت بالناسوت، وسوف ينتقل إلى أورشليم.

»هذا وإنَّ اليهود سوف يتألَّبون إليه بما يرون منه وسوف يُريهم معجزات وآيات غريبة حتّى أنَّه ينشر الموتى من القبور ويُعيد الكلام إليهم. وسوف يدعو اليهود ويقول لهم: تعالوا وعاينوا فإنّي أحيي الموتى وأنشرهم وأدفع الفدية وإنّي أنا ''أنّوش الناصريّ''. هذا وإنَّ الروح نفسه سوف يُسمِع صوته في أورشليم ليشهد له. أمّا مشيها فإنَّه يفتن أبناء الناس يعمِّدهم بماء قابل النشف ويغيِّر عماد الحياة إذ يُعمِّد المتشيِّعين له: »باسم الآب والابن والروح القدس«. ويُزحزح الناس من عماد الحياة الذي تعمَّد به آدم في مياه الأردنّ الحيَّة.

وفي ذلك العهد يولد ابنٌ اسمه »يهيي بن أبو ساوا زكريّا« ويأتيه في شيخوخته. ويكون عمر أمِّه »إينَشوَي« مائة سنة حينما تحبل به. وتلده في هرمها. وأمّا »يَهيى« فسوف ينشأ في أورشليم لأنَّ الإيمان يكون في صدره وسوف يطوف الأردنَّ ويعمِّد الناس مدَّة 42 سنة قبل أن يأتي العالم عُطاردُ المتجسِّد. وبعد ولادة يَهيى في أورشليم بينما يطوف صقع الأردنّ ويعمِّد سوف يأتي: »مْشيها« (المسيح) ويتقدَّم بتواضع ليصطبغ بعماد يَهيى وينتفع بحكمته. لكنَّ »مْشيها« سوف يعبث بمذهب يهيى ويغيِّر عماد الأردنّ. غير أنَّه في اليوم الذي يُتمُّ يهيى مهمَّته آتي إليه وأظهر له حينما يكون ابن 3 سنين ويوم واحد لأُكلِّمه عن العماد وأشرح له النعمة الإلهيَّة وفي آخر الأمر أستلُّ روحه من جسده وأرفعه بالطهارة والنقاء إلى »آلما دَنهورا« وأعمِّده في الماء الحيّ المُنعش ماء الأردنّ الزلال وأُلبسه لباس المجد وأضع على مفرِقه التاج النيِّر وأسمعه أُنشودة القلب الطاهر تلك الأنشودة التي تشبه الأغنية التي يغنّيها ملوك النور ويسبِّحون بها »ملكا دنهورا« إلى دهر الداهرين.

»إلاَّ أنَّ العالم ينحاز إلى الكذب بعد يهيى، ويدفع المسيحُ جميعَ الشعوب إلى اتِّباع تعاليمه. ومثله يفعل اثنا عشر من الرجال الذين سوف يطوفون العالم مدَّة 30 سنة وفي تلك الحقبة يظهر الدجّال في الدنيا. ويقيم الدعوى عليه ويسلِّمه إلى أيدي اليهود ويتركه أصحابه يموت مسمَّرًا على صليب. فحينئذٍ ينتشر أصحاب المسيح على وجه البسيطة وأمّا هو (أي المسيح) فيختفي على جبل »مورا«. وكما أنَّ الشمس تُبقي بخارًا بعد وَهجها فإنَّ هذا المسيح يُثير أيضًا في الأرض تعاليمه. أمّا أبناء الناس الذين دانوا بدين الكذبة السبعة المعروفين باسم ''مدبّري الكواكب السبعة« فإنَّهم يصيرون إلى النار«. كلام الكنزا.

هذا ونكتفي بهذا القدر من ذكر بعض معتقدات الصابئة لأنَّ مجال هذا الموضوع فسيح والإحاطة به في صفحات قلائل ضرب من المحالّ. وقد رأيتَ ممّا مرَّ بك أنَّ ديانتهم خليطٌ من جميع الأديان التي سبقت الميلاد وعقبته فقسْ ما بقي على ما تقدَّم الكلام عليه. هدى الله الزائغين من نهج الحقِّ إلى الصراط المستقيم.

3- بعض شعائرهم الدينيَّة

ليس للمندائيَّة محلُّ صلاة عموميّ يجتمعون فيه كما هو المألوف عند سائر أصحاب الأديان بل الذي ينوب عنه هو النهر لا تتمُّ سُنَّة من سننهم إلاَّ في »الماء العذب الجاري« ويفتتحونها بصلواتٍ يتلونها قبل وُلوجهم الماء ويختتمونها بصلواتٍ أخرى يُرمزون بها عند خروجهم منه. ومن السنن التي يمتازون بها ما يسمُّونه بالعربيَّة »العماد أو المعموديَّة« وبلسانهم: ؟؟؟؟؟؟؟ (مَصوَثا) وهو لا يشبه عماد النصارى إلاَّ من وجه واحد وهو التغطيس بالماء لا غير. والعماد عندهم على ثلاثة أقسام: 1 عماد الولادة والزواج. 2 عماد الجنابة. 3 عماد الجماعة.

1 فأمّا عماد الولادة فيكون على الوجه الآتي: عندما يُولد الطفل يذهب واحد من أقاربه إلى الكاهن ويذكر له يوم ولادة الطفل والساعة التي جاء فيها. وحينئذٍ يراجع الكاهن كتابًا خصوصيٌّا اسمه ؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟ (وتُلفظ: أسفَر مَلواشا ومعناه: كتاب ساعة الحبل) فيبحث الطفل في الكتاب عن الاسم اللائق بالمولود وبعد أن يتمَّ الحساب يقول لطالب اسم الوليد: »اسمه كذا«. وأغلب الأحيان يكتبه على ورقة ويسلِّمه بيد الطالب المذكور ليأتي بها يوم تعميد الوليد. والعادة الجارية عند الصابئة أنَّهم يسمُّون الولد باسم ثانٍ بلسان البلد الذي يوجدون فيه فيكون عربيًا في بلاد العرب وفارسيٌّا في بلاد الفرس وهلمَّ جرَّا. وحينئذٍ لا يذكر الاسم الدينيّ إلاَّ في الشعائر الدينيَّة وما كان من بابها. غير أنَّه يوجد صابئون من لا يسمُّون أولادهم إلاَّ باسم واحد هو الاسم المندائيّ الدينيّ لا غير. فيُعرفون به دينًا ودنيا.

ثمَّ بعد أن يمضي على المولود أربعون يومًا يفكِّر أهلهُ في تعميد ولدهم. ولا يجوز أبدًا العماد قبل هذه المدَّة لكن يجوز إطالتها إلى مدَّة تفوت الشهرين. وفي اليوم المعيَّن يحمل واحد من الأقارب أو الأصدقاء إن ذكرًا وإن أنثى الوليد الذي يُراد تعميده ومع الجماعة والدة الولد(30). ويذهب الجمع إلى الكاهن واسمه عندهم ؟؟؟؟؟؟؟ (ترميدا أي التلميذ) فيلبس حُلَّته الكهنوتيَّة أو الدينيَّة واسمها عندهم »؟؟؟؟؟ رَسْتَه« ثمَّ يمسك عصًا خصوصيَّة يسمُّونها »؟؟؟؟؟؟ مَركنا« وينطلق بالمرأة والوليد وحامل الولد والجمع الحاضر إلى ماء عذب جارٍ ما كان. ومعه شمّاسان صغيران واسم الشمّاس عندهم »؟؟؟؟؟« (شْكَندا) فإذا صار إلى حافة الماء يتلو صلاة افتتاحيَّة ثمَّ يلبس الشمّاس والوليد رَستتهما وبعد ذلك يسأل الترميدا عن اسم الولد فيُذكر له ثمَّ يأخذ الشمّاسُ الولدَ فيتلو الكاهن على رأس الطفل صلوات يستنزل عليه بركات العماد ويعتني كلَّ الاعتناء أن لا يسقط من رأس الولد أو من رستته شيء أبدًا وإلاَّ فإن سقط من المتعمِّد لفافة أو نحو ذلك فيجب على المعمِّد أن يتعمَّد 360 مرَّة قبل أن يُعمِّد الولد و700 مرَّة إذا وقع شيء من الكاهن المعمِّد نفسه. وبعد أن ينتهي الكاهن من تلاوة الصلاة يضع في إصبع المتعمِّد خاتمًا من عود الآس ثمَّ ينزل الكاهن في الماء ومعه الإشكندا حاملاً الطفل بحيث يبلغ الماء ركبة النازلين فيه بدون أن يجوز لهم رفع شيء من ثيابهم الدينيَّة. ثمَّ بعد ذلك يغرف المُعمِّد ماء بيديه ويلقيه على الطفل ثلاث مرّات إلى أن يتبلَّل ثمَّ يقول له بالمندائيَّة(31): »فلان بن فلان. إنَّك تعمَّدت بعماد بهرام العظيم ابن رُربي (فعسى هذا العماد) يحفظك ويُصعدك إلى أعلى (آلما دنهورا) بجاه اسم هيّي (الحياة) واسمه مَنْدا دْهيّي (معرفة الحياة أو رسول الحياة) المذكورَين عليك(32). وبعد ذلك يخرج جميعهم من الماء ثمَّ يستلُّ الكاهن خاتم الآس (وإذا لم يوجد في البلد آس يُبدل بالمَرماحوز الذي يُسمّى أيضًا بالماحوز أو بالمروِ الماحوزيّ marum) من إصبع الولد ويضعه على جبينه تحت عمامته (والعمامة تسمَّى عندهم كنزالا ؟؟؟؟؟؟ وبعد أن يصلّي الكاهن هنيهة يسجد (ومعناه عندهم يحني رأسه وصدره وهو يفعل ذلك كلَّ مرَّة يذكر اسم روحانيٍّ عظيم) ثمَّ يأخذ بيده اليمين شيئًا من الكندر ويُلقيه في نار قد أُوقدت في موقد على هيئة ما يسمّيه العامَّة بالمنقل ويتَّخذ من الطين الحرّ ويُوقَف لهذه الغاية في مثل هذه السنة. وبينما يُلقي البخور على النار يقول: ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ (وتُلفظ: ريها دْبسَّم) أي لتفُح رائحة (وليس معناها كما قال المرحوم نقولا السيوفي:»رائحة ذكيَّة«) وبعد ذلك يضع الكاهن في يده اليسرى مقدار عشر سِمسمات من سمسم مُحمَّص موضوع في كيس له لهذه الغاية ثمَّ يُريق عليه شيئًا من الماء يأخذه بقنّينة من ماء النهر قبل خروجه منه. ثمَّ يلثُّه بأنامل يده اليمنى ويضع منه ثلاث مرّات على جبين الولد ممرٌّا يده من الصدغ الواحد إلى الصدغ الآخر وهو يقول كلَّ مرَّة: .؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟ وتُلفــظ: رشيمَتْ بْرشما دْهيّي. أُشما دْهيّي وأِما دْمَندا دهيّي مَدحرالخ أي: لقد وُسمتَ بسمة الحياة. اسم الحياة واسم معرفة الحياة مذكوران عليك. ثمَّ يصلّي صلاة طويلة ثمَّ يذكر في قلبه بنوع لا يسمعه أحد أسماء سرِّيَّة ويذكر كلَّ اسم على كلِّ عقدٍ من عقود أصابعه الخمس واضعًا كلَّ مرَّة طرف إبهامه على كلِّ عقدٍ ويذكر 61 اسمًا. وهذه الأسماء لا تُذكر لأحد حتّى ولا للصابئة وإذا قُلِّد الكاهن رتبته يقول له مقلِّده الوظيفة حينما يصل إلى تعليمه هذه السنَّة من ديانته: »وعليك الآن أن تُظهر الأسماء التي هي مذكورة في هذه الصفحة لوقت الحاجة« فيجتهد المترشِّح لحفظها على قلبه بدون التلفُّظ بها ثمَّ بعد أن ينتهي المعمِّد من هذه الأسماء يلثم طرف عمامته ويضعها على كلٍّ من عينيه مرَّات عديدة ثمَّ يُنزَع الخاتم من جبهة المتعمِّد ويُلقى في النهر ثمَّ تنزع ثيابُه وهكذا ينتهي العماد. وأجرة العماد لا تتجاوز نصف الفرنك. وهي أجرة واجبة الدفع وإذا أدَّى المتعمِّد أكثر من ذلك فيكون ذا من الأمور المحمودة. وإذا تُوفّي المتعمِّد في أثناء العماد فإمّا أن يتمِّم الكاهن السنَّة إلى آخرها على الميت وإمّا أن يؤتى بواحدٍ من المندائيَّة يُشبه اسمه اسم الميت ويُنهي عليه تتمَّة الحفلة الدينيَّة.

أمّا ما ذكره المأسوف عليه نقولا السيوفيّ فهو زوائد لا تُطابق الحقيقة، والدليل على ذلك إنّي كنت قد أخذت سِفره معي في تجوُّلي في بلاد الصابئة ولمّا تلوتُ على الحضور سنَّة العماد رأيتُ طائفة منهم يفرغون وسعهم في إخفاء ضحكهم عند تلاوة تلك المُختلقات فمنهم من كان يسدُّ فمه بطرف ثوبه ومنهم من كان يجعل رأسه بين يديه ومنهم من كان ينهض من المجلس خوفًا من استغراقه في الضحك ومنهم من كان يُحرّق الأرَّم ضبطًا لنفسِه إلى نحو ذلك من الإمارات المُشعرة بضعف ما أرويه على مسامع الجلاّس. ولمّا انتهيتُ من زيارتي لهم أخذني الشيخ على انفراد وقال لي: إن أغلب ما ذكرته من الأمور الفرديَّة، فإن شئتَ احضرْ هنا نهار الأحد في الساعة الفلانيَّة واشهد عمادًا ثمَّ علِّق ذلك على كنّاشتك. ففعلتُ. وما قرأته هنا هو رواية ما شاهدته بعيني. فلينتبه القارئ.

أمّا عماد الجَنابة فيكون تقريبًا على الوجه المارِّ ذكره. ويتحتَّم على الصابئ كلَّ مرَّة يَجنَب. وهو يجنب في أمور كثيرة: لمس ميتٍ أو مولودٍ أو نفساء أو حائض أو دم حيوان مذبوح على غير سنَّتهم. ومنها إذا عضَّ الصابئَ كلبٌ أو حيوان آخر فأدماه. وكذلك إذا نهشته حيَّة أو لسعته عقرب أو نحوهما من الهوام. ومنها إذا ذهب الواحد منهم إلى بلادٍ أصحابها معذورون أو أكل من لحم لم يذبحهُ واحد من الموظَّفين بذلك. أو أُودع السجن أو أتى امرأته أو احتلم إلى غير ذلك من الأمور التي إذا عمل بها المندائيّ التقيّ الورع فلا يكاد يخرج من الماء. ولذا ترى كثيرين منهم لا يحفلون بسننهم هذه إلاَّ في النادر.

وأمّا عماد الجماعة فلا يكون إلاَّ في عيد واحد يسمُّونه: »؟؟؟؟ « وتُلفظ: »بَنجه« وهي كلمة فارسيَّة معناها (عيد) خمسة (الأيّام). وفي ذلك النهار يتألَّب المندائيَّة من أوب وصوب فيدخلون النهر ثمَّ يقرأ عليهم الكاهن صلوات يكثر في مطاويها ذكر لفظتين وهما: »؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟« وتُلفظ: »هَلَّنْ نَشماثا« ومعناها: »هذه النفوس« فظنَّ حضرة نيقولا السيوفيّ أنَّ معنى هاتين اللفظتين هو اسم تلك الجماعة. وقد قال في كلامه عن هذا العماد إنَّ الحضور يُعمَّدون بالرشّ. وليس الأمر كذلك بل إنَّهم يعمَّدون بالتغطيس كما هو الجاري في العماد المألوف.

ومن سنن(*) الصابئة: »البهثه« ؟؟؟؟؟ ؟؟؟ (وتُلفظ: بههثه) ومعناها »كسرة خبز« وهي مشتقَّة من ؟؟؟ بالحاء ومعناها: شقّ وكسر وفلق. وقد وصفها حضرة الفاضل السيِّد نقولا السيوفيّ وصفًا قرَّبها كلَّ التقريب من »سرِّ القربان« عند النصارى. وذكر لها من تفاصيل الاستعداد وتأثيرها في النفس وتناولها بغير أهليَّة واستحقاق ومحلّ حفظها إلى غير ذلك ممّا لا يخرجها بشيء عن الشَبَر (الإفخارستيّة). ومن هذا ترى أنَّ الفصل المذكور مُختلَقٌ من أوَّله إلى آخره. أمّا حقيقة الأمر فهي هذه: يأتي واحد (مهما كان رجلاً أو امرأة من خدمة الدين أو غيرهم) بقليل من طحين البرّ ويَهيله من علوّ على يدي »الترميدا« المفتوحتين الموضوعتين الواحدة لِصق الأخرى. فيذهب به الكاهن إلى النهر أو إلى ماء جارٍ عذب ويغرف منه قليلاً ويصبُّه على الدقيق فيعجنه بدون خمير وملح ثمَّ يخبزه بهيئة قرص صغيرة قطرها خمسة أو ستَّة سنتيمترات. وبعد أن يخرجها من النار يضعها في محلٍّ خصوصيّ قد أُرصد لهذه الغاية. وهو عبارة عن حفرةٍ قد حُفرت في الحائط أو في شجرة. وبالأخصّ في نخلةٍ على نحو شكل عشٍّ الخطاطيف بعد أن يطهَّرها بالماء ويتلو عليها صلوات خصوصيَّة. وعند العماد يذهب الكاهن ويأخذ منها ما يكفي للمتعمِّدين. وتُخبز البهثه يوم العماد. وإذا مسَّها واحد من العوام فلا يجوز بعد ذلك للكهنة منهم أن يأكلوا منها بل تُذَّخر للعوام منهم لا غير.

وهذه البهثه تُعطى لكلِّ من يتعمَّد صالحًا كان أو شرّيرًا، رجلاً أو امرأة. وبعد أكل البهثه يشرب المتعمِّد ماء من قنّينة صغيرة من الزجاج المألوف وقد مُلئت من الماء الجاري الذي يتعمَّد فيه الصابئ ويتعمَّد كلٌّ من يتجنَّب كما رأيت فُويق هذا وينقد أجرة العماد وهي عبارة عن نصف فرنك أو ما يزيد عليه. والبهثه لا تُفصل عن العماد. كما أنَّ هذا لا يكون بدون تلك. وعليه فكلُّ ما ذُكر في هذا الباب غير ما ذكرناه من التفاصيل فلا يُعتمد عليه لأنَّ ما ذكرناه رأيناه بعيننا. وهو لا يشبه بشيء شَبَر النصارى بل يُشبه كلَّ الشبه ما جاء في تاريخ الكنيسة عن الشيعة الأبيونيّين (وهي من فرق الأدريّين) فإنَّ أصحابها كانوا ينقطعون عن الأشغال يوم الأحد (وكذا يفعل الصابئة إلى يومنا هذا) ويُعمَّدون ويتَّخذون النَّشَر من الماء فقط لا من الخمر. وهكذا يفعل الصابئة كما رأيت.

ومن مخترعات كتاب البحث عن ديانة الصابئة للمرحوم نقولا السيوفيّ: »الاعتراف« وقد سمّاه بلسانهم ؟؟؟؟؟؟ (شُمْهاثا) وقد عرَّفه تعريفًا ووصفه وصفًا بحيث لم يفرِّقه بشيء عن اعتراف النصارى. ومن الغريب أنَّ الصابئة لا تعرف ذلك البتَّة ولم تسمع به بل ولا شبه لهذا السرّ عندها. أمّا الشمهاثا فهي عبارة عن صلاة تُتلى على من أُصيب بمرض مهما كان وبالأخصّ الأمراض العصبيَّة كالرعشة والصرع ونحوهما. والغاية من تلاوتها دفع المرض بالصلاة. وليس »الشمهاثا« غير ذلك فأين الثرى من الثريّا.

وليس في كتاب المرحوم نقولا السيوفيّ بحثٌ عن سنَّة من سُنن المندائيَّة إلاَّ والوهم فيه أو الخطأ يغلب الصحَّة أو الحقيقة. وما ذلك إلاَّ لأنَّ صاحبه قد استند على كلام جاهل من الصابئة أو متجاهل محافظةً على إخفاء السرّ. على إنَّنا لا نطلب من القارئ أن يصدِّق كلامنا إلاَّ من بعد أن يُقابل ما نقله المرحوم بما جاءت به نصوص الصابئة. فإنَّ بعض كتبهم الدينيَّة قد طُبعت اليوم وليس من الصعب الحصول على هذه الكتب. ومن هذه الأسفار المطبوعة »السِدرا ربّا أو الكنزا«(33).

هذا وتتبُّع جميع هذه السنن وذكرها في هذه النبذة فمن الأمور التي تُثير الملل في القرّاء ولذا نعدل عن ذكرها. وكنّا نودُّ أن نشبع الكلام في هذا البحث ونهتك الحجاب عن محيّا تلك الشيعة لكنَّ هناك أسبابًا تحول دون الأمانيّ:

لو بغير الماء حلقي شرِق كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

4- محلُّ وجودهم

كان الصابئة في أيّام الخلفاء الراشدين والعبّاسيّين منتشرين في بلاد سورية وما بين النهرين والعراق وبلاد إيران وشرقيّ بلاد العرب وجنوبيِّها. أمّا اليوم فقد حُصروا في بقعة من العراق وفي بُليدات منه فقط. وإليك أسماؤها: العِمارة وجَلعة صالح (أو قلعة صالح أو الجلعة وهي بُليدة حديثة على بُعد ثلاث ساعات عن العمارة للمنحدر من البصرة) وأبو خصيب (على بعد ساعة وصنف ساعة عن البصرة للمنحدر إلى خليج فارس) وشطرة المنتفِق (أو شطرة المُنتفج أو المنتفك) وسوق الشيوخ والناصريَّة (أو المركز وهي بُليدة حديثة على بعد ثلاث ساعات من أور الكلدانيّين وهي التي تسمّى اليوم المقيَّر أو المكيَّر) والسفحة والجزائر (وهاتان هما قريتان قريبتان من القُرنة) والقرنة والصُّويب (بإزاء القرنة) وشَرِش والشواليش والمجحشيَّة وحَكّام (وتُلفظ حجّام) وآل حسن وقَرمة بني سعيد والحمّار والجبايش (الكبايش) ونهر صالح وكلُّ ذلك بين الناصريَّة والبصرة. وقبل 13 سنة كان الصابئة أيضًا في مدن كثيرة من بلاد فارس منها: شُشتر وشاش ولي ودِزفول والحُويزة والمُحمرَّة وكلُّ ذلك على نهر كارون فاضطهدهم العجم فتشتَّتوا في مدن العراق وبقي منهم بقيَّة في المحمرَّة والحويزة فقط.

وقد ذكر لي بعض شيوخ الصابئة وعلمائها أنَّ من المندائيَّة من قد توطَّن فاس ومِكناس والجزائر وطرابلس الغرب وبالخصوص إنَّه يوجد منهم طائفة عظيمة في »البيّاضيَّة«. وقد بحثت كثيرًا عن اسم هذه البلدة أو هذا الصقع في الكتب التي بيدي فلم أتيسَّر إلى العثور على شيء من هذا القبيل. فعنَّ لي أنَّ المراد بالبيّاضيَّة »جبل لبنان« من باب التفسير المعنويّ (وإن كان في ذلك بعض تكلُّف) وقد نقَّبتُ عن وجود هؤلاء الناس في لبنان ونواحيه فرأيت نُربَر في مقدِّمة كتابه المصحف الناصريّ (ص 14-16) أنَّه يوجد فرقة من الصابئة في »المرقب« ليس بعيدًا من طرابلس وهذا نصُّ كلامه العربيّ بعد التنقيح:

»كان في أرض القدس أناس جليليّون أصحاب بدعة خاصَّة بهم. ومنذ مائة وخمسون سنة هجروا وطنهم وتوطَّنوا »المرقب« وهو ناحية من نواحي لبنان. وقد أقاموا هناك وهم موجودون إلى أيّامنا هذا في ذلك الصقع (أي إلى عهد نُربر وقد توفِّي هذا العلاّمة سنة 1826) يحافظون على ديانتهم وينتسبون إلى يوحنّا المعمدان ويزعمون أنَّها طريقته وهم ليسوا بيهود ولا نصارى بل إنَّهم يجمعون بين الديانتين. وإليك بعض شواعر دينهم: يلبس الكهنة في وقت الصلاة ثوبًا من جلد الحمل ويقدِّسون العسل والجراد ثمَّ يوزِّعون منهما بعد الصلاة على الحضور. ومن هؤلاء من يأخذ شيئًا منهما لبيوتهم ليُعطى لمن لم يحضر الحفلة من أقاربهم ومن معارفهم. والجميع يأخذون تلك الأشياء بكلِّ احترام وإكرام. وفي اليوم الذي يتناولونها يقضون النهار بالعبادة والقنوت والورع ولا يتكلَّمون إلاَّ قليلاً ويسمعون كلام الله. وإذا تفوَّهوا كان موضوع كلامهم روحانيٌّا. وكهنتهم يعظون الشعب مرَّة واحدة في الشهر وذلك في كنيستهم وعن أمور ديانتهم. ويستهلُّون دائمًا خطابهم بقول يوحنّا: »في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والله هو الكلمة«. ومن عجيب أمرهم أنَّهم يعتقدون بقول يوحنّا ولا يعتقدون بالمسيح بكونه أتى إلى العالم كابن الله بل كنبيّ. وهو عندهم بعد يوحنّا في المنزلة. ولهم كنيس خاصّ بهم وليس فيه لا صورة ولا تمثال بل جرن للعماد وحفرة في الأرض لا غير. ولمّا يصلُّون يوقدون سرجًا وشموعًا ثمَّ يضعون العسل والجراد في بُهرة الكنيس ويدورون حولهما بالشموع ثلاث مرّات قائلين: »حبٌّا بأبينا يوحنّا استجبْنا يا ربّ وخلِّصنا من جميع أعدائنا وأنر عقولنا لكي يضيء علينا نور الديانة الحقيقيَّة«. وحينما ينتهون من صلواتهم يناول كهنتُهم العسل والجراد لجميع الحاضرين ويُؤخذ للغائب شيء من ذلك ليعطاهُ في البيت. ويقيمون هذه السنَّة مرَّتين في الأسبوع أي نهار الخميس ونهار الأحد.

»أمّا لبس الكاهن في وقت إقامة الشعائر الدينيَّة فهو عبارة عن »مشلاح« و»قبَّة« من جلد البعير وبيده عصًا. وإذا وعظ الكاهن أتى بالآيات بنصِّها الجليليّ. وأمّا التفسير والشرح فباللسان العربيّ لأنَّ عامَّتهم لا تفهم لغتهم الدينيَّة إلاَّ علماؤهم وكهنتهم. ويتلو الكهنة وعظهم عن ظهر القلب إلاَّ الآيات فإنَّهم يقرأونها قراءة ويأخذونها عن سفر يوحنّا. وإذا أخذ الكاهن بالوعظ تُوصد الأبواب ويقف واحد منهم على الباب بمنزلة حارس. أمّا بقيَّة الجمع فيجلسون صامتين بوقار وأدب كأنَّ على رؤوسهم الطير. وهم يُعيِّدون عيد القدّيس يوحنّا أربع مرَّات في السنة. وفي عيد يوم مولده يسلقون قمحًا ويخلطون به زبيبًا وجوزًا وجرادًا وعسلاً وغير ذلك ويملأون من هذا الخليط صحونًا ويبعث بها بعضهم إلى بعض. وفي ذلك النهار لا يأكلون طعامًا آخر غير هذا الخليط. ثمَّ إنَّ الكاهن يصلّي على هذا الطعام فيحمل كلُّ واحد صحنه على رأسه وفي وسط الصحن شمعة متَّقدة ثمَّ يطوفون والصحون على رؤوسهم حول الكنيس مرَّتين. وإذا انتهوا من ذلك أخذ الكاهن من الخليط وأعطى منه لكلِّ واحد من الحاضرين. وفي يوم عيد عماد يوحنّا يُجدِّدون عمادهم أي يذهب الجميع إلى الماء فيأتيهم الكاهن وبيده علمٌ وعلى رأسه قبَّة من جلد البعير فيأخذ جرَّةً ويملأها ماء ثمَّ يرشُّ على الخارج من الماء شيئًا من ماء الجرَّة قائلاً: »إنّي أجدِّد عمادك باسم أبينا ومنقذنا وكما عمَّد المسيحَ واليهود في الأردنّ وخلَّصهم يُخلِّصك أنت أيضًا«. وبعد أن ينتهي من عماد الجميع ينزل هو أيضًا في الماء ويغتسل. وعلى هذا الوجه تنتهي الحفلة فيرجع جميعهم إلى الكنيس مصفِّقين ومغنّين فيطعمهم الكاهن العسل والجراد. وفي يوم قطع رأس يوحنّا المعمدان يندبونه في الكنيس قائلين: »إنَّ مخلِّصنا في مثل هذا اليوم قتله هيرودس. زاد الله عذاب اللعين عذابًا«. وفي يوم الأعجوبة التي عملها يوحنّا حينما قتل التنّين الذي خرج من بُحيرة طبريَّة (على زعمهم) يُطوِّفون حيواناتهم كلَّها حول الكنيس بفرح عظيم. والمتديِّنون منهم وذوو اليسار يذهبون إلى الجليل لإقامة هذا العيد ويأخذون معهم الضعفاء وأصحاب العاهات لكي يبرأهم قدّيسُهم وهم يمشون حفاة. ولمّا يصلّون هناك يدخلون معبدهم وهو قديم يبعد عن جبل طابور مقدار عشر ساعات وبعد أن يفرغوا من الصلاة والسجود يوزِّع الكاهن العسل والجراد طلبًا لسلامة أرواحهم«.

فنطلب من قرّاء المشرق ممَّن هم في المرقب أن يفيدونا عن وجود هذه الفرقة وهل هي باقية على إقامة تلك السنن الدينيَّة بالوجه الذي ذكرناه؟ وعلى كلِّ حال فإنَّ الصابئة الموجودين هنا لا يعتقدون بشيء من هذا كلِّه ولا يُقيمون سُنَّة واحدة من هذه السنن فلينتبه القارئ.

5- عدد الصابئة

قد أحصيتُ بنفسي عدد الصابئة بلدةً بلدة فوجدتهم لا يزيدون على 1800 نسمة وهم يسيرون إلى الانقراض سيرًا حثيثًا حتّى إنَّه لا يوافينا منتصف القرن الجديد إلاّ وقد مُحوا من سفر الوجود ولم يبقَ منهم باقٍ وبانقراضهم تذهب كتبهم الدينيَّة التي يحافظون عليها محافظتهم على حياتهم وتُنسى لغتهم فتغدو في خبر كان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM