الفصل 22: منعطف هام في رسالة النبيّ

منعطف هام في رسالة النبيّ

اعتاد الشرّاح أن يقرأوا ف 40 - 55 على أنها اشعيا الثاني تجاه أشعيا الأول بتنوّع نصوصه (ف 1 - 39) وفيها القولُ النبويّ في خط عاموس، والموقفُ التاريخيّ، ولا سيّما في الحرب الأراميّة والافرائيميّة، وفي مقاومة الأشوريّين. ثمَّ تجاه اشعيا الثالث الذي هو كلام تشجيع في قلب الضياع بعد العودة من المنفى (ف 56 - 66). فلقد تبيّن فيما بعد أن كرازة تلميذ اشعيا عرفت حقبتين واضحتين. في الحقبة الأولى، يهتمّ النبي بأن يشجّع أولئك الذين ما عادوا يرجون شيئاً، سوى أن يعيشوا حياتهم كغرباء عن الوطن، بحيث لا يتطلّعون إلى أورشليم وإلى ما يمكن أن يحملوا من رسالة. ولكنه يهتمّ اهتماماً خاصاً بأن يُقنع الذين لم يعد شيءُ يقنعهم، وأن يُزيل الشكوك من الذين غار الإيمان فبدا وكأنه مات، وأن يزيل كل مقاومة في وجه كلام الله وما يقدّمه الناس عليه من اعتراضات. والجواب الأخير: الرب وحده هو الله. لا إله سواه. وهكذا انطلق النبي من الله الخالق، من الله الفاعل في التاريخ، ولو بيد كورش الفارسي، ليعلن وحدانيّة الله. مردوك، إله بابل العظيمة، ليس بشيء. والآلهة بعض الحجر وبعض الخشب مع طلاء من الفضّة والذهب. ونستطيع القول إن التشديد على المونوتاويّة أو عبادة الاله الواحد، سوف تُلقي بضوئها على كلِّ نصوص الكتاب المقدّس، سواء تلك التي سبقت المنفى أو تلك التي جاءت بعد المنفى مع هزء بالآلهة الوثنيّة التي لا تنفع شيئاً، وبالأصنام التي تحوّل عابديها إلى أصنام لا تسمع ولا ترى ولا تفعل.

وبدأت الحقبة الثانية في نهاية ف 48 مع كلام عن الربّ الذي يوجّه مصير شعبه: »إسمع لي، يا يعقوب، يا اسرائيل الذي دعوتُه. أنا هو، أنا الأول والآخر، ويدي أسّست الأرض. يميني قاست السماوات، أدعوهن فيقفن جميعاً. اجتمعوا كلّكم واسمعوا« (48:12 - 14).

هنا ظهر تبدّل على المستوى الأدبيّ، وبان منعطفٌ جديد في حياة النبيّ. قبل ذلك، كان كلام متواتر عن تدخل كورش في الخلاص الذي يقدّمه الربّ. وفي ف 48 يهتف الله: »والرجل الذي أحبّه الرب (فاختاره) سيفعل مشيئته ببابل ويرفع ذراعه على شعبها. أنا أنا تكلّمت ودعوته. جئتُ به وستنجح طريقه« (آ 14 - 15). لهذا، يجب على المنفيّين أن يستعدوا للخروج من بابل، ويسيروا في القفار، في صحراء سورية، فيبلغوا إلى أورشليم حيث يروون عطشهم للاله الحيّ (مز 42:3). أما وقد انتهى عمل كورش فلا كلام بعد عنه، إنما تلميحٌ ربّما في 51:5؛ 54:16.

في ف 40 - 48 تحدّث الربّ عن الجديد الذي سيصنعه. وما عاد يتحدّث عنه. فهذا الجديد صار أمراً مفروغاً عنه. ولن نعود إليه. لا حاجة للنظر إلى الوراء، إلى خلاص تمَّ في الخروج من مصر. كل هذا مضى، والآن انظروا: »ها أنا صانع جديداً، فينشأ الآن، أفلا تعرفونه« (43:19)؟ في الحقبة الأولى، كثر الكلام عن الآلهة الكاذبة. ولكن بدا وكأنَّ الشعب اقتنع. لذلك، فلا حاجة بعدُ إلى مثل هذا الكلام يوجّه إلى المؤمنين بالله الواحد. فالأصنام بدت كلا شيء. في ف 40 - 48، لامَ النبيُّ بنيَّ اسرائيل أكثر من مرّة: ماذا ينتظرون لكي يعودوا إلى الربّ. أما الآن، فلا كلام توبيخ، بل حكمٌ على الذين يرفضون أن يعودوا إلى الربّ؟ »يا جميع موقدي النار، الدائرين حول شرارها. ستدخلون في لهيب ناركم، وفي الشرر الذي أضرمتموه. هو عقاب لكم من يد الربّ وفي العذاب تتقلّبون« (50:11). وفي الحقبة الثانية، تُذكر مراحمُ الله أكثر من مرّة. فهو كالأم التي تهتمّ بأولادها. وتُذكر أورشليم التي هي أمّ تريد أن تجمع بنيها. »مفتدو الربّ الراجعون، الآتون إلى صهيون مرنمين، وعلى رؤوسهم فرح أبديّ. يتبعهم الفرح والسرور، وتهرب الحسرة والنواح« (51:11).

ويُطرح السؤال: لمَ هذا التبدّل في حياة النبي؟ بسبب الصعوبات التي لاقاها والرفض لمشروع يقدّمه باسم الله. رسالته تشبه إلى حدّ بعيد رسالةَ معلّمه البعيد، اشعيا. هذا الشعب لا يريد أن يسمع. وإن هو سمع لا يفهم. ولا يريد أن ينظر. وإن هو نظر لا يبصر. قلبه قاسٍ. أذناه ثقيلتان. عينان مغمضتان (6:9 - 10). وهذا التصلّب الذي دام طويلاً جعل اشعيا يشتكي: »إلى متى يا رب« (آ 11)؟ وجاء الجواب: إلى أن يأتي الخراب. وها هو الخراب تمّ بعد أن دُمّرت أورشليم. وشعب المنفيّين لم يتبدّلوا. ما كانوا أفضل من آبائهم، مع أن بينهم نبيّاً في أرض متفاهم، شأن الذين عاصروا اشعيا في القرن الثامن.

صعوبات لاقاها هذا النبيّ. وعذابات نفسيّة، بل جسديّة أيضاً، جعلته يقول: »أدير ظهري للضاربين، وخديّ لناتفي اللحى، واحتمل التعيير والبصق« (50:6). ما عاد يستطيع أن يُكلّم جمهورَ الشعب، لهذا عاد إلى تلاميذ اختارهم الله أو هم اختاروه. وجّه كلامه إلى مساكين الربّ المنتظرين كل عون من »الربّ الذي يعزّي شعبه، ويرحمه مُشفقاً على بؤسه« (49:13). إلى خائفي الله الذين يسمعون لصوت النبي (50:10). إلى الذين يعرفون الحقّ والعدل، بعد أن جعلوا شريعة الله في قلوبهم (51:7). إلى الذين استحقّوا لقب »عبد الربّ وعابده« مع العلم أن لفظ »عبد« بالنسبة إلى العائش مع الملك، هو أقرب انسان إليه. وعابد الله هو ذاك الذي ترك جميع العبوديّات لكي يتعبّد لمن هو الاله الواحد، للاله الغيور في حبّه، للرحيم في تعامله مع البشر، ولا سيّما أحبّاءه والعاملين بوصاياه (خر 20:5 - 6).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM