الفصل 15: قداسة الله في المجتمع

قداسة الله في المجتمع

مضى النبيّ إلى الهيكل، فرأى شعباً دنس الشفاه. وإلى المدينة، فرأى سفك الدماء وصراخ الظلم ساعة انتظر الحقّ والعدل (5:7). فقداسة الله تظهر من خلال أعمال البشر. ولكن شعب أورشليم خاطئ، فيدينه الله في فئاته المتسلّطة. والدينونة الأولى تصيب المتسلّطين وتفاهتهم. هم لا يستحقّون أن يملكوا. ويا لتعاسة شعب يعرف مثل هؤلاء »القوّاد«. »شعبي ظالموه أولاد، وحاكموه نساء. قادتك هم يُضلّونك ويمحون معالم طرقك« (3:12). نلاحظ نظرة قديمة إلى الولد الذي لا قيمة له، وإلى المرأة التي هي أضعف من الضعف. أما الوضع في أورشليم، فهو أن أم الملك أمسكت الأمور بيدها فسارت بالبلاد في الانحطاط.

ويتابع النبيّ كلامه: »الربّ ينهض عن كرسيّ قضائه، ويتهيّأ ليدين شعبه. الربّ يدعو إلى القضاء شيوخ شعبه وحكّامهم فيقول: أنتم الذين نهبتم الكروم وسلبتم المساكين وملأتم بيوتكم. ما بالكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين« (3:13 - 15). كل هذا هو عمل الكبرياء التي لا تعرف للطموح حدوداً. من أجل هذا، يبدو النبيّ حزيناً ويندُب حظّ شعبه مع هؤلاء المتسلّطين.

في الواقع، تسود الفوضى في أورشليم، فلا يعود يعرف الواحد واجبه. وهؤلاء »العظماء« الذين يعتبرون نفوسهم »آلهة«، هم في الواقع نسمة عابرة. وفي أي حال لا يتميّزون عن الآخرين. كلامٌ وجهه النبيّ في اجتماع الوجهاء، في القصر، أو في الهيكل، خلال عيد كبير، فوقفوا كلّهم في الصف الأمامي. ويهدّد النبي فيقول: »والآن يُزيل الربّ القدير من أورشليم ويهوذا، كلَّ سنَد من الخبز والماء وكلّ عماد: الجبّار والمحارب، القاضي والنبيّ، والعرّاف والشيخ، والقائد والوجيه، والمشير والحكيم، والساحر والذي يكشف الأسرار« (3:1 - 3). وهكذا لم تُفلت فئةٌ من الفئات التي تحكم الشعب. أما النتيجة فمريعة: »ويجعل (الرب) الصبيان حكاماً لهم، والسفهاء أسياداً عليهم. ويقوم الشعبُ بعضهم على بعض، وواحدهم على الآخر، ويستخفّ الصبيّ بالشيخ، واللئيم بالكريم« (3:4 - 5). الانسان العادي يسكت ويحاول أن يساوم ليحفظ رأسه. ولكن النبيّ الذي يرى الأمور بعين الله ويتكلّم باسمه، لا يقدر إلاّ أن يُعلن الحقّ بالفم الملآن. وهذا ما فعله إشعيا مفصّلاً الظلم الذي يُلحقه الأقوياء بالضعفاء.

»ويل للذين يضمّون بيتاً إلى بيت ويَصِلون حقلاً بحقل، حتّى لا يبقى مكان لأحد، فيسكنون في الأرض وحدهم... ويل للمبكّرين صباحاً في طلب المسكر، والساهرين الليل كلّه والخمر تلهبهم. ولائمُهم الكنّارة والعود والدفّ والمزمار، والخمر شرابهم. لا يلتفتون إلى عمل الربّ ولا يتأمّلون ما صنعت يداه... ويل للذين يجذبون الاثم بحبال الباطل، وبمثل أمراس العجلة يجذبون الخطيئة... ويل للذين يدْعُون الشرّ خيراً والخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً، الجاعلين الحلو مراً والمرّ حلواً... ويل للذين يبرّرون الشرّير لأجل رشوة، ويحرمون البريء حقّه« (5:8 - 23).

كرمةُ الربّ خاطئة وهي تستحقّ العقاب. لهذا يبكي النبيّ عليها. فالشعب مات، وعصيانه شوّه طبيعته التي لم تعد طبيعة انسان حيّ يتطلّع إلى الأمام، بل ميت تستعد الجحيمُ لأن تلتهمه. والويل الأول يصيب المضاربين على مستوى التجارة. نسوا أن الله هو صاحب الأرض وأن الشعب ضيف عنده (لا 25:23). في زمن القضاة، كانت أمور الميراث تترتّب على مستوى القبيلة والعشيرة. أما مع الملوك، فظهر التصرّف الاعتباطيّ، وبرز الموظّفون الكبار في اقتصاد رأسماليّ، فأكثروا الظلامات، بحيث كثر عدد العمّال المياومين، العبيد الذين أجبِروا على بيع أرضهم، بل نفوسهم وعيالهم، دون أن يستطيعوا إيفاء ديونهم. فقال فيهم ميخا: »يشتهون حقولاً فيغتصبونها، وبيوتاً فيستولون عليها. يظلمون الرجل وأهل بيته، والانسان وما ملكت يداه« (مي 2:2). وتتوالى  الويلات على أكثر من فئة قلبت القيم رأساً على عقب، فضاع قصدُ الله وعملُه في شعبه. قالوا: هو لا يرى. وإن رأى لا يفعل ولا يتدخّل.

ووراء هؤلاء الأغنياء تقف النساء مع الترف والغنى اللذين هما احتقار للفقراء. »يا لتشامخ بنات صهيون! يمشين ممدودات الأعناق، غامزات العيون، يخطرن في مشيتهنّ ويحجلن بخلاخل أقدامهن. إذاً، سيضرب الربّ بالصلع هامات بنات صهيون ويعرّي عورتهنّ، وينزع في ذلك اليوم زينة الخلاخل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب... ويكون لهنّ النتن بدل الطيب، والحبْلُ بدل الحزام، وقباحة الكيّ بدل الجمال« (3:16 - 24).

خرجت الكبرياء من محيط العظماء، وتوسّع عمل فسادهم، فما لبث ما سُلب من الفقراء في البيوت، بل عُرض على عيون الجميع. سار اشعيا في شوارع أورشليم، فلفت انتباهه نسوة المجتمع المخمليّ. سخر منهنّ، استاء، وأورد ما رأى. كل هذا الغنى هو نتيجة سرقة الفقراء. ونريد بعد ذلك أن لا يتدخّل الربّ. حين تأتي الحرب يتبدّل كل شيء. وهذا الذي اشتراه الكبار من الخارج بسعر باهظ جداً، سيُصبح سلباً إن لم يكن طعماً للنار. »في ذلك اليوم، تتمسّك سبعُ نساء برجل واحد، ويقلن له: نحن نُطعم ونكسو أنفسنا. دعنا نحمل اسمك فننزع عنّا عارنا« (4:1). ولكن من يلتفت إلى مثل هذا السؤال؟ لذلك تبقى صرخةُ النساء صدى في الوادي. فهل ينتبه الشعب، هل يفهم العظماء ما يريده الله؟ وهؤلاء النسوة، إلى متى تشامخهنّ؟

حين يتكلّم النبي عن هذا الوضع ويقسو في حكمه، فهو ينطلق من خبرته مع الله الذي لا يرضى بمثل هذه الحال في شعبه. فقد وصلت الأمور إلى درجةٍ فيها حسبَ العظيمُ نفسه إلهاً يفعل بالبشر ما يشاء، لا انساناً كسائر البشر. فيصرخ اشعيا: »في ذلك اليوم الآتي، يومَ تكون قدرةُ الربّ على كل مستكبر متعالٍ وكل مترفّع فيُحطّ... سينخفض تشامخُ الانسان، وينحطّ ترفّع البشر، والربّ وحده يتعالى« (2:11 - 17). الربّ وحده هو السيّد، وهو يريد أن يكون وسط شعبه ذاك الذي يقدّس ويشفي ويبارك وينتظر التوبة. هنا يقول النبي مكرّراً: »ينحطّ مقام البشر... ويتعالى الرب القدير بقضائه، ويتقدّس الاله القدوس بعدله« (5:15 - 16). حينئذ يستعيد الانسان بُعدَه الحقيقيّ أمام الله، كما يستعيد كرامته التي تنبع من كرامة الله. وهذا يتمّ حين يكون الله هو ذاك الذي يقضي ويدين، وحين تكون عدالته هي المسيطرة، لا عدالة البشر بما فيها من تميّز، وحبّ للرشوة وتملّق للعظماء.

ولكن الربّ إله لا انسان. هو لا يريد هلاك شعبه، بل فداءه، ولكن شرط أن يفهم هذا الشعبُ. لهذا يأتي النداء الأخير مليئاً بالأمل. يعود الربّ إلى ابراهيم الذي افتداه وإلى يعقوب، فيقول: »لن يخجل يعقوب بعد الآن، ولن يصفرّ وجهه، متى رأى أن ذرّيته بعد العمل الذي عملَتْه يداي في وسطهم، يقدّسون اسمي، يقدّسون قدوس يعقوب، ويرهبونني أنا، إله اسرائيل، فيهتدى الضالّون إلى الفهم، والمتذمّرون يقتبلون التعليم« (29:22 - 24). هذا ما تمنّاه اشعيا حين كان في الهيكل. طرح السؤال: إلى متى يا ربّ لا يريد الشعب أن ينظر ولا أن يسمع؟ حين يفهم عملَ الله في وسطه. حين يفهم أنه يقدّس الرب من خلال عبادة حقّة، من خلال حياة تسير بحسب وصايا الله. عندئذ يحقّ له أن يأتي إلى الهيكل ويحمل الذبائح والمحرقات. يحقّ له أن يرفع يديه بالدعاء، فيجد إلهاً يسمع ورباً يستجيب ويقول هاءنذا.

 

خاتمة

تلك كانت نظرة أولى إلى كتاب اشعيا. توقّفنا في الفصول الأولى عند النبي الذي انطبعت حياته بقداسة الله كما اكتشفها خلال رؤية في الهيكل. فهذا الاله الذي يتعالى فوق الجميع، هو في الوقت عينه ذاك الذي يُقيم وسط شعبه. إن هو أراد أن تكون صلاتُنا صادقة، فهو يريد أيضاً أن تكون أعمالُنا مستقيمة. عند ذاك تظهر قداسةُ الله في الأمم الذين يأتون إلى المدينة المقدّسة، إلى أورشليم. هم يصعدون إلى جبل الربّ الذي يعلّمهم كيف يسلكون طرقه، الذي ينيرهم بنوره (2:3 - 5). هم يأتون إلى بيت إله يعقوب ليروا الربّ. فمن يدلّهم عليه سوى شعبه، ومن يُظهر قداستَه سوى المؤمنين به، الذين دعاهم اشعيا فكانوا البقيّة الباقية والجزع الذي سيكون زرع الله المقدّس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM