الفصل 14: في شعائر العبادة

في شعائر العبادة

خبرة الله الأولى كانت في الهيكل، ربّما خلال احتفال دينيّ ترأّسه الملك، مع وضع بخور يملأ الهيكل. وكان الحرس حول الملك يُخفونه عن اعين الناس. من هذه الصورة الليتورجيّة انطلق اشعيا ليرى في الله ملك الملوك، وليَفهم أن حضوره لا يكون ملموساً بعد أن »حجب وجهه عن بيت يعقوب« (8:17). خلال هذه الرؤية التي أسّست حياة النبي، لا نرى ذكراً للذبائح ولا للتقدّمات. فنارُ الربّ (أو حضوره) هي التي تنقّي الشفاه والقلوب. يكفي الانسان أن يتقبّلها مع ما في هذا القبول من خطر قد يؤدّي إلى الموت. هذا ما قاله النبيّ: »ويل لي! هلكت لأني رجل دنس الشفتين ومقيم بين شعب دنس الشفاه« (6:5). فالعبادةُ الحقّة هي النظر إلى الله وسماع كلامه. وإذا رفض الشعب أن يرى وأن يسمع، قاد نفسه إلى الخراب وإلى الموت.

في هذا الاطار نفهم ما قاله اشعيا، في خط عدد من الأنبياء حول العبادة في شعب اسرائيل. تعوّدوا أن يأتوا إلى الهيكل كمن يقوم بواجب مفروض عليهم. وإن كان الغنيّ خطئ، فهو يقدّم كبشاً، بل يقدّم عجلاً، فيعتبر أن خطيئته غُفرت ومعصيته سُترت. أما أن يبدّل حياته فأمر آخر. هو يقدّم للربّ ممّا عنده، ولا يقدّم ذاته. يقرّب له صلاة الشفتين ويبقى بعيد القلب الذي هو مركز الحريّة والإرادة والمحبّةً. هي صلاة في القول والكلام ولا تصل إلى العمل الذي يعود إلى الحقّ.

ونسمع كلام النبيّ: »ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعتُ من محرقات الكباش وشحم المسمّنات. دمُ العجول والكباش والتيوس ما عاد يُرضيني« (1:11). بماذا يفترق المؤمن عن غير المؤمن؟ وعابد الربّ الاله عن عابد الآلهة الوثنيّة؟ ويتابع اشعيا كلامه في هذا المعنى: »حين تجيئون لتعبدوني، من يطلب ذلك منكم؟ لا تدوسوا بيتي بعد اليوم، وبتقدماتكم الباطلة لا تجيئوا إليّ، فرائحةُ ذبائحكم معيبة عندي... رؤوس شهوركم وأعيادكم كرهَتْها نفسي. صارت ثقلاً عليّ وسئمتُ احتمالها. إذا بسطتم أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم، وإن أكثرتم من الدعاء لا أستمع لكم« (إش 1:12 - 15).

نستطيع أن نتخيّل العدد الكبير من الحجّاج الآتين من البعيد، ومعهم تقادمُهم وذبائحهم. جاءوا لأن عليهم فرضاً. خطئوا فأرادوا أن يكفّروا عن خطيئتهم ليعودوا إليها سريعاً. هو عمل خارجي. لا يصل إلى الداخل، بحيث إن الدخول إلى الهيكل يُمنع على الذين لا يريدون أن يخضعوا لله القدوس. كأني بالنبي يقول لهم: لماذا تأتون إلى الهيكل بهذه النوايا الشرّيرة والقلب الذي لا يبالي بوصايا الله تجاه القريب؟ في الخارج، تدلّون على العبادة بما تقدّمونه من ضحايا. ولكن إذا غابت محبّة القريب، فهذا يعني أن محبّتنا لله كاذبة. لا بأس إن جئتم للصلاة. ولكن ما الذي يرافق الصلاة لكي يقبلها الله؟

ويُطلق النبيّ الشرط الأساسي: »أيديكم مملوءة بالدماء« (1:15). فهؤلاء المؤمنون ظلموا إخوتهم، سرقوهم، سفكوا الدم البريء، ويعتبرون أن دم الذبائح يغطّي الدم الذي سفكوه. أما هكذا حاول داود الملك أن يخفي خطيئته؟ ولكن كلمة النبي ناتان كانت هنا (2 صم 12). وكذلك اخاب وامرأته ايزابيل: رُجم نابوت وجاء الملك ليرث أرضه (1 مل 21). فما نفع المسح والرماد في تلك الحال؟

إن تعليم اشعيا هو انتقاد عميق للعبادة الذبائحيّة في أيامه، كما يمكن أن تكون انتقاداً لممارسات عديدة في العبادة إن نقصها الأساس. ماذا قال؟ قيمة العبادة لا ترتبط بتعدّد الطقوس. فالربّ لا يطلب ذلك. ولا يقوم بعبادة حقة أناسٌ لا تتوافق حياتُهم مع متطلّبات الله تجاه الذين يطلبون وجهه. لهذا طلب النبيّ: »اغتسلوا، تطهّروا، أزيلوا شر أعمالكم من أمام عينيّ وكفّوا عن الاساءة. تعلّموا الاحسان واطلبوا العدل. أغيثوا المظلوم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة« (1:16 - 17). وفي النهاية، لا يمكن أن تكون شعائر العبادة بدلاً عن أولى الواجبات تجاه القريب، ولا سيّما الضعفاء منهم: الغريب، اليتيم، الأرملة. مثلُ هذا التصرف السطحيّ لا يدلّ أننا نطلب الله القدوس، بل نطلب ذواتنا. فلو قبل المؤمنون بأن يسمعوا لله لقال لهم: »تعالوا الآن نتعاتب! إن كانت خطاياكم بلون القرمز، فهي تبيضُّ كالثلج. وإن كانت حمراء غامقة، فهي تصير بيضاء كالصوف. يا ليتكم تسمعون« (1:18 - 19).

فالنبيّ الذي اختبر قداسة الله في الهيكل، لم يرَ في الهيكل أكثر من مكان يلجأ الناس إليه في وقت الخطر. ولم يرَ في أورشليم مدينةَ القدس التي تحمل القداسة إلى الذين يأتون إليها من البعيد. »فإلى جبل الربّ تتوافد جميع الأمم، ويسير شعوب كثيرون« (2:2 - 3). فماذا تشاهد؟ مدينة تعجّ بالخطيئة. تشبه، بشرِّها المدن التي عاقبها الله العقاب المريع فأكلتها النار والكبريت. تشبه سدوم التي اشتهرت بزناها (تك 19). تشبه عمورة التي فرغت من سكانها فما عاد يسكن فيها أحد. وهذا سيكون مصير أورشليم. فكرمة الربّ لم تحمل ثمراً. فهدّدها الربّ: »فاعلموا ما أفعل بكرمي: أزيل سياجه فيصير مرعى، وأهدم جدرانه فتدوسه الأقدام. أجعله بوراً لا يُفلَح ولا يُزرَع، فيطلع فيه الشوك والعوسج، وأوصي الغيوم أن لا تُمطر عليه« (5:5 - 6).

قداسة طلبها المؤمن على مستوى شعائر العبادة، فإذا هو لا يعود مبرّراً، بل تزداد خطيئته خطيئة، ورياؤه كذباً. قدّم الذبيحة وما جعل ذاته فيها. مزّق ثيابه وما مزّق قلبه. فإلى متى تدوم قساوة القلب هذه؟ إلى أن تخرب أورشليم. حينئذ تعي البقيّةُ الصغيرة الشرَّ الذي وصل إليه الشعب، وتنتظر أن يُعيد الربّ بناء مدينته، فتصبح زرعاً مقدّساً يعطي الثمار المطلوبة في أوانها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM