الفصل التاسع عشر: نصوص متفرّقة

 

الفصل التاسع عشر

نصوص متفرّقة

نذكر في هذا الفصل أربعة كتاب، تركوا حاشية قصيرة حول المرقيونية والمانوية. الأول هو اليعقوبي. والثاني، المسعودي. والثالث، ابن العبري، والرابع، الخوارزمي.

1- المملكة الثانية من أردشير بابكان(1)

وملك أردشير، وهو أوَّل ملوك الفرس المتمجِّسة، وكان ملكه باصطخر، وامتنع عليه بعض كور فارس، فحاربهم حتّى فتحها، ثمَّ صار إلى أصبهان، ثمَّ صار إلى الأهواز، ثمَّ إلى ميسان، ثمَّ رجع إلى فارس، فحارب مَلكًا يقال له أردوان، فقتله؛ وسمّى أردشير شاهنشاه، وبنى بيت نار بأردشير خرَّه، ثمَّ صار إلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، ثمَّ صار إلى سواد العراق، فسكَّنه، وصار إلى خراسان، فافتتح كورًا منها، ولمّا دوَّخ البلاد عقد لابنه سابور المُلك بعده، وتوَّجه، وسمّاه الملك. وتوفِّي أردشير، وكان ملكه أربع عشرة سنة.

وملك سابور ابن أردشير، فغزا بلاد الروم، وفتح منها عدَّة بلدان، وأسر خلقًا من الروم، فبنى مدينة جنديسابور، وأسكنها سبي الروم، وهندس له رئيس الروم القنطرة التي على نهر تستر، وعرْضه ألف ذراع.

وفي أيّام سابور بن أردشير ظهر ماني بن حمّاد الزنديق، فدعا سابور إلى الثنويَّة، وعاب مذهبه، فمال سابور إليه، وقال ماني: إنَّ مدبِّر العالم اثنان، وهما شيئان قديمان: نور وظلمة، خالقان، فخالق خير، وخالق شرّ، فالظلمة والنور كلُّ واحد منهما في نفسه اسم لخمسة معان: اللون، والطعم، والرائحة، والمجسَّة، والصوت، وإنَّهما سميعان بصيران عالمان، وأنَّه ما كان من خير ومنفعة، فهو من قِبَل النور، وما كان من ضرر وبلاء، فهو من قبل الظلمة، وإنَّهما كانا غير ممتزجين، ثمَّ امتزجا، والدليل على ذلك أنَّه لم تكن صورة ثمَّ حدثت، وأنَّ الظلمة هي بدأت للنور بالممازجة، وأنَّهما كانا متماسَّين على مثال الظلّ والشمس، والدليل على ذلك استحالة كون شيء لا من شيء؛ الدليل على أنَّ الظلمة بدأت للنور بالممازجة، أنَّه لمّا كانت مخالطة الظلام للنور مُفسِدة له، كان محالاً أن يكون النور بدأها لأنَّ النور من شأنه الخير. والدليل على أنَّهما اثنان قديمان خير وشرّ، أنَّه لمّا وجدت المادَّة الواحدة لا يكون منها فعلان مختلفان. مثل النار الحارَّة المحرقة لا يكون منها التبريد، والذي يكون منه التبريد لا يكون منه التسخين. فذلك الذي يكون منه الخير لا يكون منه الشرّ، والذي يكون منه الشرّ لا يكون منه الخير.

والدليل على أنَّهما حيّان فاعلان أنَّ الخير تثبت له فعلاً، والشرّ تثبت له فعلاً.

فأجابه سابور إلى هذه المقالة، وأخذ بها أهل مملكته، فعظم ذلك عليهم، فاجتمع حكماء أهل مملكته ليصدُّوه عن ذلك، فلم يفعل.

ووضع ماني كتبًا يثبت بها الاثنين، وممّا وضع كتابه الذي يسمِّيه كنز الأحياء يصف ما في النفس من الخلاص النوريّ والفساد الظلميّ، وينسب الأفعال الرديَّة إلى الظلمة.

وكتاب يسمِّيه الشابرقان يصف فيه النفس الخالصة والمختلطة بالشياطين، والعلل، ويجعل الفلك مسطوحًا، ويقول: إنَّ العلم على جبل مائل يدور عليه الفلك العلويّ. وكتاب يسمّيه كتاب الهدى والتدبير؛ واثنا عشر إنجيلاً يسمّي كلّ إنجيل منها بحرف من الحروف، ويذكر الصلاة وما ينبغي أن يستعمل لخلاص الروح.

وكتاب سفر الأسرار الذي يطعن فيه على آيات الأنبياء.

وكتاب سفر الجبابرة، وله كتب كثيرة ورسائل.

فأقام سابور على هذه المقالة بضع عشرة سنة، ثمَّ أتاه الموبذ، فقال: إنَّ هذا قد أفسد عليك دينك، فاجمعْ بيني وبينه لأناظره! فجمع بينهما، فظهر عليه الموبذ بالحجَّة، فرجع سابور عن الثنويَّة إلى المجوسيَّة، وهمَّ بقتل ماني، فهرب، فأتى إلى بلاد الهند، فأقام بها حتّى مات سابور.

ثمَّ ملك بعد سابور هرمز بن سابور، وكان رجلاً شجاعًا، وهو الذي بنى مدينة رامهرمز، ولم تطل أيّامه، وكان ملكه سنة واحدة.

ثمَّ ملك بهرام بن هرمز وكان مشغوفًا بالعبيد والملاهي، وكتب تلاميذ ماني إليه: أن قد ملَكَ ملكٌ حديث السنّ، كثير التشاغل، فقدم إلى أرض فارس، واشتهر أمره، وظهر موضعه، فأحضره بهرام، فسأله عن أمره، فذكر له حاله، فجمع بينه وبين الموبذ، فناظره، ثمَّ قال له الموبذ: يذاب لي ولك رصاص يصبُّ على معدي ومعدتك، فأيُّنا لم يضرَّه ذلك، فهو على الحقّ. فقال: هذا فعل الظلمة! فأمر به بهرام فحُبس، وقال له: إذا أصبحتَ دعوتُ بك، فقتلتك قتلة ما قُتل بها أحدٌ قبلك؛ فلم يزل ماني ليله يسلح حتّى خرجت نفسه؛ وأصبح بهرام، فدعا به، فوجدوه قد مات، فأمر بحزِّ رأسه، وحشا جسده بالتبن، وتتبَّع أصحابَه، فقتل منهم خلقًا عظيمًا. وكان مُلك بهرام بن هرمز ثلاث سنين.

2- قصَّة الطفيليّ وأصحاب ماني(2)

2705- وذكر ثمامة بن أشرس قال: بلغ المأمونَ خبرُ عشرة من الزنادقة ممَّن يذهب إلى قول ماني [VII, 13] ويقول بالنور والظلمة من أهل البصرة؛ فأمر بحملهم إليه بعد أن سُمُّوا له واحدًا واحدًا؛ فلمّا جُمِعوا نظر إليه طُفَيليٌّ، فقال: »ما اجتمع هؤلاء إلاَّ لصنيع!«؛ فدخل في وسَطهم ومضى معهم وهو لا يعلم بشأنهم، حتّى صار بهم الموكّلون إلى السفينة؛ فقال الطفيليّ: »نزهة لا شكَّ فيها!«؛ فدخل معهم السفينة؛ فما كان بأسرع من أن جيء بالقيود فقيَّد القومَ والطفيليَّ معهم؛ فقال الطفيليُّ: »بلغ أمر تطفيلي إلى القيود!«؛ ثمَّ أقبل على الشيوخ وقال: »فدَيْتكم إيش أنتم؟« - قالوا: »بل أيش أنت وممَّن إخواننا أنت؟« - قال: »والله ما أدري ما أنتم، غير أنّي والله رجل طفيليّ خرجت في هذا اليوم من منزلي فلقيتكم، فرأيت منظرًا جميلاً وعوارض [VII, 14] حسنة ونعمةً ظاهرة، فقلت: شيوخ وكهول وشبّان جُمعوا لوليمة، فدخلت في وسطهم وحاذيْت بعضكم كأنّي في جملة أحدكم؛ فصرتم إلى هذا الزورق؛ فرأيته قد فُرِش بهذا الفرش ومُهد، ورأيت سُفَرًا مملوءة وجُرُبًا وسِلالاً، فقلت: نزهة يمضون إليها إلى بعض القصور والبساتين؛ إنَّ هذا اليوم مبارك! فابتهجتُ سرورًا، إذ جاء هذا الموكَّل بكم فقيَّدكم وقيَّدني معكم؛ فورد عليَّ ما قد أزال عقلي؛ فأخبروني ما الخبر«.

2706- فضحكوا منه وتبسَّموا وفرحوا به وسُرُّوا؛ ثمَّ قالوا: »الآن قد حصلت في الإحصاء وأُوثقت في الحديد؛ وأمّا نحن فمانيَّة غُمز بنا إلى المأمون، وسندخل إليه ويسائلنا عن أحوالنا ويستكشفنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة والرجوع عنه بامتحاننا بضروب من المِحَن، منها إظهار [VII, 15] صورة ماني لنا، ويأمرنا أن نتفُل عليها ونتبرَّأ منها، ويأمرنا بذبح طائر ماء وهو التدْرُج؛ فمن أجابه إلى ذلك نجا، ومن تخلَّف عنه قُتل، فإذا دُعيتَ وامتُحنتَ فأخبِر عن نفسك واعتقادك على حسب ما تؤدِّيك الدلالة إلى القول به؛ وأنت به زعمتَ أنَّك طُفيليّ، والطفيليّ يكون معه مداخلات وأخبار، فاقطَعْ سفرَنا هذا إلى مدينة بغداد بشيء من الحديث وأيّام الناس«.

2707- فلمّا وصلوا إلى بغداد وأُدخلوا على المأمون، جعل يدعو بأسمائهم رجلاً رجلاً، فيسأله عن مذهبه، فيُخبره بالإسلام، فيمتحنه ويدعوه إلى البراءة من ماني ويظهر له صورته ويأمره أن يتفُل عليها والبراءة منها وغير ذلك؛ فيأبون فيُمرّهم على السيف، حتّى بلغ الطفيليّ بعد فراغه من العشرة، وقد استوعبوا عدَّة [VII, 16] القوم؛ فقال المأمون للموكّلين: »مَن هذا؟« - قالوا: »والله ما ندري! غير أنّا وجدناه مع القوم فجئنا به«. - فقال له المأمون: »ما خبرُك؟« - قال: »يا أمير المؤمنين امرأتي طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئًا! وإنَّما أنا رجل طفيليّ«. وقصَّ عليه خبره من أوَّله إلى آخره؛ فضحك المأمون، ثمَّ أظهر له الصورة فلعنها وتبرَّأ منها، وقال: »أعطونيها حتّى أسلَحَ عليها! والله ما أدري ما ماني أيهوديٌّا كان أم مسلمًا«. فقال المأمون: »يُؤدّب على فرط تطفُّله ومخاطرته بنفسه«.

3- ابن العبريّ في كلامه عن المجوس والمانويّين(3)

يقولون (= المجوس) إنَّ للعالم إلهين: واحد منهما صالح، رحيم، سخيّ. والآخر شرّير مضرّ وبخيل. فالذي هو صالح له القوّات الصالحة التي هي الملائكة، وللشرّير قوّات الشرّ التي هي الشياطين. والمانويّون أيضًا قالوا شيئًا مشابهًا. قالوا هناك إلهان وخالقان للعالم. واحد هو النور الكلّيّ وله مساعدون آخرون منيرون التي هي أكبر أو أصغر الواحد من الآخر في العظمة وفي الصغارة، في القوَّة وفي الضعف، هم الملائكة. وآخر هو الظلام الكلّيّ وله مساعدون آخرون مظلمون التي هي أكبر أو أصغر الواحد من الآخر في العظمة وفي الصغارة وفي القوَّة وفي الضعف، هم الشياطين.

4- في مفاتيح العلوم(4)

وعند كلِّ واحد من أصحاب مرقيون وابن ديصانَ إنجيل يخالف بعضُه بعض هذه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل على حدة يشتمل على خلاف ما عليه النصارى من أوَّله إلى آخره، وأولئك يدينون بما فيه، ويزعمون أنَّه هو الصحيح، وأنَّ مقتضاه هو ما كان عليه المسيحُ وجاء به، وأنَّ غيره باطل وأصحابه كاذبون على المسيح. وله نسخة تُسمّى إنجيل السبعين ويُنسَبُ إلى بلامس وفي صدره أنَّ سلام بن عبد الله بن سلاّم قد كتبه من لسان سلْمانَ الفارسيّ ومن نظر فيه لم يخْفَ عليه افتعالُه، والنصارى وغيرهُم يُنكرونه فلا يوجد من الأناجيل إذَنْ من كُتب الأنبياء ما يُعتمَدُ عليه.

* * *

فلنترك جميعَها ونأخذ في تصحيحها من كتاب ماني المعروف بالشابورقان، إذ هو من بينِ كتُبِ الفرس مُعوَّلٌ على عقِب خروج أردشير وماني ممَّن يدين بتحريم الكذب وليس به حاجة إلى افتعال التاريخ، فنقول إنَّه قال في هذا الكتاب في باب مجيء الرسول، أنَّه ولد ببابل في سنة خمسمائة وسبع وعشرين من تاريخ مُنجِّمي بابل، يعني تاريخ الإسكندر، ولأربع سنين خلَونَ من مُلك أذربانَ الملك. وأظنُّ أنَّه أردوانُ الأخيرُ، وزعم في هذا الباب أنَّ الوحي أتاه وهو ابنُ ثلثَ عشرة سنة وذلك في سنة خمسمائة وتسع وثلثين من تاريخ منجِّمي بابل، وسنتين خلتا من سني أردشير ملك الملوك، فنصَّ بذلك على أنَّ المدَّة التي بين الإسكندر وأردشير هي خمسمائة وسبع وثلثون سنة، وأنَّ المدَّة التي بين أردشير ومُلك يزدجرد أربعمائة وستُّ سنين، وهذا هو الصحيح المأخوذ لشهادة كتاب مخلَّد يُدان به، ولأجل أنَّ الحكايات قد صحَّت بالتطابق أنَّ آخِرَ اللبائس عُملَتْ في أيّام يزدجرد بن سابور، وأنَّ اللواحف وُضعتْ في آخر الشهر الذي كانت إليه نوبةُ اللبيسة وهو الثامن، فإذا علمنا على أنَّ ما بين الإسكندر وأردشير خمسمائة وسبع وثلثون سنة، كان بين زرداشت ويزدجرد بن سابور تسعمائة وسبعون سنة بالتقريب، يلزمُها ثمانية أشهر باللبيس، كما فعلوا لكلِّ مائة وعشرين سنة شهرًا. وإذا على أنَّ هذه المدَّة مائتان ونيِّف وستّون سنة أو أكثر إلى ثلثمائة كما ذكر أكثرُهم كان مبلغ السنين ستمائة سنة بالتقريب، ويخصُّها من شهور اللبس خمسةُ أشهر وقد وضعنا من قولهم أنَّها ثمانية هذا خلاص.

* * *

فقد أقرَّ بالجنّ والشياطين، جلُّ الفلاسفة والعلماء كأرسطوطاليس في وصفه إيّاهم بالهوائيَّة والناريَّة، وتسميته لهم بالأنّاس، وكمثل يحيى النحويّ في إقراره بها وكغيره في وصفه لها أنَّهم خبائث الأنفس المتردِّدة بعد انفصالها من أجسادها الممنوعة عن وصولها إلى ما هي منه، بعدمها معرفة الحقيقة واستعمال الحيرورة، ولا أظنُّ أنَّ ماني في كتبه إلاَّ مشيرًا إلى مثل ذلك وإن كانت إشاراته بألفاظ وعبارات ركيكة.

* * *

ثمَّ جاء من بعدهما ماني تلميذ فادرون وكان عرف مذهب المجوس والنصارى والثنويَّة، فتنبَّأ وزعم في أوَّل كتابه الموسوم بالشابورقان وهو الذي ألَّفه لشابور بن أردشير، أنَّ الحكمة والأعمال هي التي لم يزل رُسُل الله تأتي بها في زمن دون زمن، فكان مجيئهم في بعض القرون على يدي الرسول الذي هو البد إلى بلاد الهند، وفي بعضها على يدي زرادشت إلى أرض فارس، وفي بعضها على يدي عيسى إلى أرض المغرب، ثمَّ نزل هذا الوحي وجاءت هذه النبوَّة في هذا القرن الأخير على يديَّ أنا ماني، رسول إله الحقّ إلى أرض بابل. وذكر في إنجيله الذي وضعه على حروف الأبجد الاثنين والعشرين حرفًا، أنَّه الفارقليط الذي بشَّر به المسيحُ، وأنَّه خاتم النبيّين. وأخبر عن كونِ العالم وهيئته بما يُضادُّ نتائجَ البراهين والدلالات، ودعا إلى مُلك عوالم النور والإنسان القديم وروح الحيوة، وقال بقدَم النور والظلمة وأزليَّتهما، وحرَّم ذبح الحيوان وإيلامه وإيذائه النار والماء والنبات على أبلغ وجه، وشرع نواميس يفترضها الصدّيقون وهم أبرار المانويَّة وزهّادُهم على أنفسهم من إيثار المسكنة، وقمع الحرص والشهوة، ورفض الدنيا والزهد فيها، ومواصلة الصوم والتصدُّق بما أمكن، وتحريم اقتناء شيء خلا قوت يوم واحد ولباس سنة، وترك السفاد وإدامة التطواف في الدنيا للدعوة والإرشاد ورسومًا أُخر يفرضونها على السمّاعين أعني أتباعهم، والمستجيبين لهم من المختلطين بالأسباب الدنياويَّة، من التصدُّق بعُشرِ المُلك، وصوم سبع العمر، والاقتصار على امرأة واحدة، ومواساة الصدّيقين وإزاحة عللهم، ويُحكى عنه أنَّه حلَّل قضاء الشهوة مع الغلمان إن اهتاجتْ على الإنسان. ويُستشهد على ذلك باختصاص كلِّ واحد من المنانيَّة بخادم يخدمه أمرد أجرد، غير أنّي لم أجد فيما وقفت عليه من كتبه ذكرًا لما يُشبه ذلك سيرته تدلُّ على خلاف ما حُكي.

وكانت ولادةُ ماني ببابل في قرية تدعى مردينو من نهر كوثى الأعلى على ما حكاه في كتاب الشابورقان، في باب مجيء الرسول في سنة خمسمائة وسبع وعشرين من سني منجِّمي بابل، يعني تاريخ الإسكندر ولأربع سنين خلون من سني أذربان الملك. وجاء الوحي وهو ابنُ ثلث عشرة سنة، في سنة خمسمائة وتسع وثلثين من سني منجِّمي بابل، ولسنتين خلتا من سني أردشير ملك الملوك. وقد صحَّحنا هذا الفصل فيما تقدَّم مُدَّة ملك الأشكانيَّة وملوك الطوائف، واسمُ ماني عند النصارى على ما ذكره يحيى بن النعمان النصرانيّ في كتابه على المجوس، قوربيقوس بن فتق. ولمّا ظهر كثُر مصدِّقوه وأتباعه وألَّف كُتبًا كثيرة، كإنجيله، والشابورقان، وكنز الأحياء، وسفر الجبابرة، وسفر الأسفار، ومقالات كثيرة زعم فيها أنَّه بسط ما رمز به المسيح، ولم يزل أمره يزداد أيّام أردشير وابنه سابور وهرمز ابنه، إلى أن ملك بهرام بن هرمز فطلبه حتّى وجده. وقال: إنَّ هذا خرج داعيًا إلى تخريب العالم، فالواجبُ أن نبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيَّأ له شيء من مراده فالمشهور من حاله أنَّه قتلَه وسَلخ جلده وحشاه تبنًا وعلَّقه من باب مدينة جنديسابور، يُعرف إلى زماننا هذا بباب ماني، وقَتل خلقًا ممّن استجاب له، وقد حكى جبرائيل بن نوح النصرانيّ في جوابه عن رَدِّ يزدانبخت على النصارى، أنَّ لأحد تلامذة ماني كتابًا يخبر فيه عن منيَّته، وأنَّه حُبس بسبب قرابة للملك، كان زعم أنَّ به شيطانًا ووَعد شفاءه فلم يقدر عليه، فجُعلت القيودُ في رجليه والجوامعُ في يديه حتّى مات في الحبس. فنُصب رأسه بباب السرادق، وطُرحت جثَّته في المدرجة تنكيلاً وتمثيلاً به.

وبقي من مستجيبيه بقايا منسوبة إليه مفترقة الديار، لا يكاد يجمعهم موضع واحد في بلاد الإسلام إلاّ الفرقة التي بسمرقند المعروفة بالصابئين. فأمّا خارج دار الإسلام فإنَّ أكثر الأتراك الشرقيَّة وأهل الصين والتبَّت وبعض الهند على دينه ومذهبه وهم في أمره على قولين. فرقة تقول إنَّه لم يكن لماني معجزة، وتحكي عنه أنَّه أخبر بارتفاع الآيات عند مُضيّ المسيح وأصحابه. وأُخرى تزعم أنَّه كان ذا آيات ومعجزات وأنَّ سابور الملك آمن به حين رفعه مع نفسه إلى السماء، ووقفا بينها وبين الأرض في الهواء، وأراه بذلك الأعجوبة. قالوا: وإنَّه كان يصعد من بين أصحابه إلى السماء فيمكث فيها أيّامًا ثمَّ ينزل إليهم، وسمعتُ الأصبهبذ مرزبان بن رستم يحكي أنَّ سابور أخرجه عن مملكته أخذًا بما سنَّه لهم زرادشت من نفي المتنبِّئين عن الأرض، وشرَطَ عليه أن لا يرجع فغات إلى الهند والصين والتبت، ودعا هناك ثمّ رجع فحينئذٍ أخذه بهرام وقتله لأنَّه نقض الشريطة وأباح الدم.

* * *

وأمّا الحرّانيَّة فتوجُّههم إلى القطب الجنوبيّ، والصابئة إلى قطب الشمال، وأظنُّ أنَّ المانيَّة يتوجَّهون إلى هذا القطب أيضًا، لأنَّه عندهم وسطُ قبَّة السماء وأرفعُ موضع فيها. ولكنّي وجدتُ صاحب كتاب الباء وهو من جملتهم والدعاة إليه، يعيب أهل الأديان الثلثة بالتوجُّه إلى سمت دون آخر في جملة ما يُكسِّرُ عليهم، وكأنَّه يشير إلى استغناء المصلّي لله عن التوجُّه إلى قبلة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM