الفصل 11: تشبهوا بالله

تشبهوا بالله

بعد أن حدَّثنا سفرُ اللاويّين عن الشرائع حول الذبائح والمحرقات (ف 17 - 18)، قدّم ما يُسمّى شريعة القداسة (ف 19). قسم أول ذات مضمون اجتماعي، يرد في صيغة المخاطب المفرد (أنت): »لا تستغلّ قريبك ولا تسلبه. لا تحتفظ بأجرة أجير عندك إلى الغد« (آ 13). وقسم ثان ذات طابع اجتماعيّ وعباديّ معاً يأتي في صيغة المخاطب الجمع (أنتم): »لا تأكلوا لحماً بدمه، لا تتشاءموا من شيء ولا تتفاءلوا« (آ 26). أي لا تمارسوا السحر والعرافة وتبحثوا عن الفأل. وتأتي العبارة بعد كل »فريضة«: أنا الربّ. أنا الربّ إلهكم.

1 - كونوا قدّيسين

»وكلّم الربّ موسى قائلاً: »كلّم جماعة بني اسرائيل وقل لهم: »كونوا قدّيسين، لأني أنا الربّ إلهكم قدوس« (19:1 - 2).

هاتان الآيتان تطبعان بطابعهما مجمل ف 19، حول كل الشرائع التي تُعلَن. فكل أمرٍ، سواء كان خاصاً أم عابراً، يأتي من الربّ. فالشعب يطلبون إرادته ولا يطلبون شيئاً آخر. وأصل هذه »الأوامر« وطابعها الالهيّ، لا تخفّ قيمتها لأن موسى هو الوسيط بين الله والشعب. فهو في الواقع، ينقل كلام الله. إذا كان الله هو القدوس، لا يقدر الانسان أن يقترب منه دون أن يحترق بناره. لهذا طلبوا من موسى أن يكلّمهم هو، ولا يكلّمهم الربّ (خر 20:19).

اعتُبر موسى وسيطَ كلّ وحي في العهد القديم. ووساطتُه في مسيرة الخروج وفي لقاء سيناء، جعلت منه، لا أولَ قائد لشعبه وحسب، بل أيضاً مؤسّسَه البشريّ الحقيقيّ. من هذا القبيل، لن يحلّ أحدٌ محلّه. ونحن لا ندهش إن نُسب إليه كلّ ما استجدّ من أمور في متطلّبات العهد على مرّ العصور. فالطابع الموسويّ لشرعة العهد وسفر التثنية وشريعة القداسة وشريعة الكهنوتيّة، هو قبل كلّ شيء كلامٌ لاهوتيّ. غير أن له أيضاً قيمة تاريخيّة، لأنه يشدّد على التواصل الداخليّ في التشريع، انطلاقاً من أصله الحاسم، في موسى.

توجّه موسى إلى »بني اسرائيل«. يعني إلى الشعب قبل أن يكلّم الأفراد. هناك شرائع تعني بشكل خاص هذه الفئة أو تلك من الناس، هذا الشخص أو ذاك. ولكن منذ البداية هو الشعب كشعب يتلقّى وحيَ مشيئة الله، ويُدعى إلى التجاوب معها. هذا البعد الأساسي »للشعب« في ديانة اسرائيل وخلقيّته، يرتبط ارتباطاً مباشراً بواقع العهد. »أكون لكم إلهاً، وتكونون لي شعباً«. ذاك هو هدف كل أفعال الربّ وأقواله: أن يجمع بشراً في شعب يخصّه. حين خرج الناس مع موسى، دعاهم الكتاب من الرعاع. وما كان يوحّدهم سوى شخص موسى. ولكن شريعة الربّ كما تلقّوها على جبل سيناء هي التي وحّدتهم، جعلت منهم شعباً. وإن قلنا منذ بداية الخروج: »شعب اسرائيل« فنحن نستبق الواقع الذي لا نقدر أن نقوله إلاّ في نهاية المطاف.

هذا »الشعب« ليس جماعة من صنف واحد، حيث الواحد نسخة عن الآخر، بل جماعة يكون فيها دورٌ لكل واحد. دُعي »بنو اسرائيل« هنا »ع د ه«، مجموعة، جمهوراً. في العربية، نقرأ: واعد. أي اتّفق اثنان بأن يلتقيا في موضع واحد وفي وقت معيّن. وفي السريانيّة »ع د ت ا« (البيعة، الكنيسة) تعود إلى »و ع د«، جمع القوم. نحن هنا أمام توضيح يقوم به المدوّن الكهنوتيّ فيما بعد. ففي المنظار العباديّ، حين يلتئم بنو اسرائيل في جماعة ليتورجيّة، يحقّقون ملء التحقيق طابعَهم كشعب الله. فإن كانت مثلُ هذه النظرة تقود إلى تشويه الواقع، إلاّ أنها تبقى في العمق نظرة صحيحة. وهي تدل على وعيٍ حادّ، خلال حقبة المنفى وما بعد المنفى، حين حدّد بنو اسرائيل نفوسَهم بالنظر إلى الربّ قبل أن يتحدّثوا عن أمّةٍ أو عن نسل.

»كونوا قدّيسين لأني أنا الربّ الهكم قدوس«. ذاك هو الأمر. لا يلاحظ الكاتب الشعب »المقدس«. بل يدعوهم إلى القداسة. هو محطّ كلام في شريعة القداسة. الأمر الأول: كونوا قديسين. وسائر المتطلّبات تنبع من هذا الأمر وتحاول أن تفصّله في الحياة اليوميّة لدى الأفراد والجماعات.

2 - قداسة الربّ

بما أن هذا الأمر الذي يفرض نفسه يتأسّس على لازمة »لأني أنا قدوس«، نحدّد بإيجاز بما تقوم به قداسة الربّ. فالقداسة مقولة جوهريّة ومشتركة بين جميع الديانات: تشمل خبرة ما هو سريّ، عجيب، مهيب. وهي تصبح ملموسة في أشخاص مقدّسين، في نُظمُ، في أمكنة، في أغراض، في أوضاع مقدّسة. إذن، لا تنحصر هذه المقولة الدينيّة في شعب اسرائيل، وهو لا يقدر أن يحتكرها. ولكن نظراً إلى الخبرة الفريدة التي اختبرها هذا الشعب مع إلهه، ننتظر أن نكتشف عنده سمة خاصة جداً.

لا نعرف معرفة دقيقة أصل لفظ »ق د ش«. أما الجذر الأكثر احتمالاً فيتضمّن »الفصل«. يُفصَل ما هو دينيّ عمّا هو عاديّ. وحين نقول »يهوه قدوس« نعبّر بقدر استطاعتنا عمّا فيه من عمق عميق، من شخصيّ شخصيّ، لا نستطيع أن نتصرّف به كما نشاء وكأنه صنمٌ بين أيدينا. أقدمُ نصّ فيه يُدعى الربّ »قدوس« هو في 1 صم 6:20: تابوت العهد هو العلامة المنظورة لحضور الربّ الناشط. وسياق النصّ سياقُ حرب مقدّسة. كشف الربّ عن نفسه على أنه ربّ شعبه ومخلّصه القدير. وأكّد التزامه بقضيّة شعبه فانتصر على الأعداء. قال أهل بيت شمس: »من يقدر أن يصمد أمام الربّ الاله القدوس هذا«؟

الربّ هو من لا نقدر الاقتراب منه. هو الآخر الآخر. حضوره يضع البليلة لدى الغرباء. غير أن بني اسرائيل لا يستطيعون أن يلتقوا به ساعة يشاؤون، وبحسب نزواتهم ورغباتهم. فهناك تشريع مفصّل من فرائض ومحرّمات، يجعل حول الله القدوس، منطقةً قدسيّة لا يستطيع انسان أن يتجاوزها دون أن ينال العقاب. فما هو أصيل في شعب اسرائيل، مفارقةٌ تقول إن هذا الاله القدوس، المتعالي، هو ذات الاله الذي يُقيم مع الناس علاقاتٍ خاصةً جداً، في التاريخ وفي العهد. لا أحد يقدر أن يضع يده على الربّ، ومع ذلك، فالربّ يغار على شعبه (يش 24:19).

هذا الاله هو بعيد. ومع ذلك، هو قريب. هو الآخر. الآخر ومع ذلك خلق الانسان على صورته ومثاله: بُعدان متكاملان في سرّ الله، ففي كلّ ما هو في شخصه، وفي كلّ ما يميّزه عن سواه، يبقى إلهَ الشعب. مقابل هذا، في علاقاته الحميمة جداً مع شعبه، يبقى الآخر الذي يعطي ذاته دون أن يتغرّب عن ذاته.

شدّد الأنبياء تشديداً على هاتين الوجهتين معاً، فقال عاموس لنساء السامرة: »تظلمن الفقراء وتسحقن البؤساء« (4:1). وقال هوشع: »أحاطني بيت افرايم (اي مملكة الشمال بعاصمتها السامرة) بالغدر والمكر« (12:1)119. وقال هو :: »أنا الله لا انسان، وقدوس بينكم«. وجعل اشعيا من هذه المفارقة مركز تعليمه الذي نستطيع أن نوجزه بعبارة استنبطها: »قدوس اسرائيل« (اش 1:4؛ 5:19، 24؛ 10:17،20؛ 12:6).

انطبع اشعيا، كما انطبع بولس بخبرته على طريق دمشق، بلقائه مع الاله المثلّث التقديسات (ف 6)، المالك على شعبه، الكاشف مجدَه في الأرض كلها، فذكّر هذا الشعب الذي بدأ يشكّ بقدرة الله أمام القوّة الأشوريّة، بالإيمان بالربّ. فبالرغم من جميع الظواهر، ما يصنع التاريخ ليسوا الملوك والسياسيّون والمتآمرون والجيوش، بل الربّ الذي يوجّه كل شيء من أجل قصده. إذن نقول: الرب وحده قدوس. وقدرته مطلقة على جميع الأمم، وسيادته فاعلة في شعبه (اش 8:11 - 15؛ 31:8 - 9؛ رج 9:6؛ 29:23).

3 - الطابع الخلقيّ لقداسة الله

وشدّد الأنبياء أيضاً على الطابع الخلقيّ لقداسة الله. تحدّث عا 2:7 عن اسم الله القدوس الذي يُقسم بقداسته (عا 4:2). وإذ وجد اشعيا نفسه في حضرة ربّ الجنود، ربّ الأكوان، القدوس، اكتشف في لمحة بصر خطيئتَه. الربّ هو البرّ في كماله، وحضوره يكفي ليعرّي البشر من الظلم الذي فيهم وينزع عنهم روح الظلم. قال عاموس عن معاصي بيت اسرائيل: »يبيعون الصدّيق بالفضة، والبائس بنعلين، ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب، ويزيحون المساكين عن طريقهم« (2:6 - 7).

وحين أسّست شريعة القداسة (لا 19:2) تشريعها على قداسة الربّ، لجأت إلى هاتين الوجهتين في سيادة الله المطلقة، وفي متطلّبات خلقيّة حول العدالة. من جهة، هناك في لا 19 شرائع ومحرّمات تُشير إلى الوجهة الخلقيّة. »لا تسرقوا... لا تحلفوا باسمي كذباً« (آ 11 - 12). »وإذا حصدتم حصيد أرضكم، لا تلتقطوا ما تعفّر منه بالتراب... بل اتركوا ذلك للمسكين والغريب« (آ 9 - 10). ومن جهة ثانية، تذكّرنا آ 2 بالله القدوس، التي تحدّد إيمان الشعب المختار في جوهره: الاعتراف بالربّ اللامنظور. الاله الآخر، إله شعبه: »فأنا قدوس في وسطكم«.

ونجد في شريعة القداسة، أكثر من مرة العبارة الطويلة: »أنا الربّ إلهكم« (آ 2، 3، 4، 10، ..25.). أو العبارة القصيرة: »أنا الربّ« (آ 12، 14، 16، ..18.).

ترد العبارة الطويلة في صيغة المخاطب الجمع، وتتسجّل في عمق خطبة تعبّر عن روح شريعة القداسة. ثم نلاحظ أن هذه العبارة تختلف عن العبارة القصيرة، فترافق تذكّر الخروج والعهد. مثلاً، نقرأ في آ 34: »وليكن عندكم الغريب والنزيل فيما بينكم كالأصيل منكم. أحبّوه مثلما تحبّون أنفسكم لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. أنا الربّ إلهكم«. كما تنظر إلى التاريخ في خط التقليد الاشتراعي، على أنه آتٍ، بينما هو قد مضى. والكاتب الملهم يعود إلى الوراء ليقرأ الماضي على ضوء الحاضر. »أنا الربّ إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر« (آ 36): هذا التذكير التاريخيّ، الذي يشبه مقدمة الدكالوغ أو الكلمات (الوصايا) العشر (خر 20:2)، ليس عبارةً شكليّة. بل يتوخّى أن يحدّد موقع الوصايا التالية كجواب ضروريّ لعمل الله السابق، الذي تدخّل في التاريخ فجعل من بني اسرائيل شعبه.

حين خلّص يهوه شعبه من مصر جعل نفسه ربَّ هذا الشعب وسيّده: »أنا الذي أخرجكم من أرض مصر ليكون لكم إلهاً، أنا الربّ« (لا 22:33). ونقرأ في لا 26:12- 13: »وأسير فيما بينكم، وأكون لكم إلهاً، وأنتم تكونون لي شعباً. أنا الربّ إلهكم الذي أخرجكم من أرض المصريّين لئلاّ تكونوا لهم عبيداً«. إذن، تتضمّن عبارة »أنا الربّ إلهكم« كلَّ تاريخ التحريرات السابقة. فالربّ تجلّى بملء حريّته، على أنه ربّ شعبه، حين خلّصه. فهو يخصّه ولا يخصّ سواه. فيجب على المؤمن أن يُقرّ بسيادة الربّ ويعمل مشيئته، بملء حريّته. فما قيمة شريعة نمارسها كالعبيد؟ وهكذا تَثبّت بعدُ ممارسة الوصايا التي جاءت بعد الوصيّة الأولى (أنا هو الربّ إلهك): هو »نعم« حرّ ومفروض، به يقبل بنو اسرائيل أن يكونوا شعب الربّ.

فعلُ الأمر الأول عامّ جداً: كونوا قديسين. شعب اسرائيل هو شعب مقدّس لأن الربّ اختاره. فرزه من بين الأمم، كما يُفرز الحملُ من بين القطيع ليكون ذبيحة للفصح. نقرأ في تث 7:6: »فأنتم شعبٌ مقدّس للربّ إلهكم. فالربّ اختاركم له من بين جميع الشعوب التي على وجه الأرض« (رج تث 14:2؛ لا 11:44 - 45). هو شعب مقدس. فيجب عليه أن يتحلّى بالقداسة. وهذا النداء إلى القداسة ليس أولاً نداءً إلى الكمال الخلقيّ لدى الفرد. بل أطلِق إلى مجمل بني اسرائيل، فأوصاهم بأن يحيوا كشعب منفصل عن سائر الأمم، كشعب يخصّ الله حصراً. بعد الموقف السلبيّ (الانفصال)، هناك المعنى الإيجابي (الارتباط بالله). مثلُ هذا الأمر يقابل كلّ المقابلة الوصيّة الأساسيّة في الدكالوغ: »لا يكن لك آلهة غيري« (خر 20:3). وتستضيء هذه الوصيّة بما في لا 20:26: »كونوا لي قدّيسين (= مكرّسين) لأني أنا الربّ قدوس. اتّخذتكم بدل سواكم من الشعوب لتكونوا لي«. فالانفصال عن سائر الشعوب يقابل الانتماء التام إلى الله. ويجد عنه تعبيراً ملموساً في مجموعة ممارسات عباديّة ومواقف خلقيّة تتيح للغريب أن يرى في هؤلاء المؤمنين شعب الله حقاً.

ويَبرزُ البعدُ الخلقيّ للقداسة المفروضة هنا، بوجود فرائض ومحرّمات طقوسيّة في ف 19، وبوصايا وممنوعات خلقيّة. بما أن الربّ هو الآخر الآخر، فهو نقيّ من كل خطيئة. فعلى شعبه أن يتميّز عن سائر الأمم بحياة خلقيّة، بعيدة عن الخطيئة. هل نفهم هنا أن قداسة الشعب التي تتطلّبها قداسة الله، هي على مستوى قداسة الله؟ هذا ما لا يقوله العهد القديم. ولكن يقوله العهد الجديد: »كونوا كاملين لأن أباكم السماويّ كاملٌ هو« (مت 5:48).

فعلى المسيحيّين أن يُحبّوا حتّى أعداءهم، وهكذا يتصرّفون حقاً كأبناء الله أبيهم. في سفر اللاويّين، لا يؤكّد النصّ بشكل صريح أن قداسة الربّ هي نموذج قداسة المؤمن. ولكن بشكل ضمنيّ. هذا ما نفهمه من خلال نصوص العهد، حين نقابل أعمال الله الحانية مع المتطلّبات التي تتبع عمل الله. لا يستطيع الشعب أن يجعل تساميه مثل تسامي الربّ. فقداستُه تقابل من بعيد قداسة الله، على مثال مخافته التي تقابل سيادة الله المطلقة. والشعب بانتمائه الحصريّ إلى الرب، يشهد لقداسة الربّ، »يقدّسه«.

نقرأ في لا 22:31 - 33: »فاحفظوا وصاياي واعملوا بها، ولا تدنّسوا اسمي القدوس، بل أقدَّس في وسط بني اسرائيل، أنا الربّ الذي قدّسكم، الذي أخرجكم من أرض مصر ليكون لكم إلهاً. أنا الربّ«.

خاتمة

وهكذا ينطلق الشعب من قداسة الربّ، على أنها نموذج قد استه ونموذجها، فيسير نحو اللامحدود، في طريقه تقوده دوماً إلى الأمام، ولا تتوقّف. ووحده مجيءُ ابن الله يتيح للمؤمنين أن يحقّقوا ملء التحقيق المثال الدينيّ والأخلاقيّ الذي قدّمه العهد القديم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM