الفصل 10: وضع الأبرص

وضع الأبرص

بعد كلام عن الذبائح والكهنوت، كانت شرائع للمؤمنين في الحالات الصعبة. فالكاهن، ابنُ هرون، يقدّم »شريعة« (ت و ر ا) أو قاعدة من أجل الحياة، أو طريقاً نتبعها. كدت أقول »شهادة حسن ملوك« بالنسبة إلى حالة معيّنة. حينئذ يكون ذاك الكاهن »فمَ« الربّ، والرب يوافق على ما يقوله. وهكذا لا يكون عذرٌ لأعضاء شعب الله بأن يمضوا ويسألوا السحرة والعرّافين. هكذا تُحفظ النقاوة في الشعب، وقداسةُ المؤمنين تكون جواباً على قداسة الرب. وشرائعُ الطهارة وشرائع القداسة بدت توسّعاً في كلام الربّ في سفر اللاويين: »كونوا قدّيسين لأني أنا قدّوس« (لا 11:45).

في هذه المجموعة، كان فصل كامل (لا 13:1 ي) حول البرص. ونحن نتوقّف عند ثلاثة أمور. المرض والخطيئة. البرص والنجاسة. تقدمة تكون شهادة لهم.

1 - المرض والخطيئة

الصورة غامضة، في العهد القديم، عن الأمراض. فالنصّ يذكرها بشكل سريع جداً، ويتوقّف عند ما هو ظاهر. نتوء في الجلد، جرح، كسر، حمّى، إعاقة. ووُجدت وظيفة الطبيب لدى بني اسرائيل، ولكن الحذر لم يترك المؤمنين. أين هو دور الله؟ فإذا كان المرض عقاباً عن الخطيئة، فلا يحقّ لنا أن نطلب الشفاء قبل أن يغفر الله خطايانا. وهو في غفرانه يشفينا. هنا نتذكر شفاء المخلّع: بعد أن غُفرت خطاياه، قيل له: إحمل سريرك وامضِ إلى بيتك.

قال ابن سيراخ: »المرض الطويل يهزأ بالمريض، والملك اليومَ، في غدٍ يموت« (سي 10:10). وسوف يلوم سفر الأخبار الثاني (16:12) الملك آسا الذي مرض في آخر أيامه: »ما استعان بالربّ، بل بالأطبّاء«. من أجل هذا، قال ابن سيراخ أيضاً في وجه حذرٍ امتدّ طويلاً في الشرق: »أكرم الطبيب لأجل فوائده، ولأن الربّ خلقه. فمن العليّ معرفته، ومن الملوك جوائزُه« (38:1). ويتبع هذا الحكيم: »الربّ خلق الأدوية من الأرض، من الطبيعة، والعاقلُ يستخدمُها« (آ 4).

لا شك أنه في استطاعة الجميع أن يسألوا الطبيب، ويلجأوا إلى فنِّه، ويستفيدوا من أدوية يصفها لهم، وهي أدوية وقاية أكثر منه أدوية شفاء. في 2 مل 20:7، نقرأ كلام اشعيا للملك احزيا: »خذوا قرص تين وضعوه على الجرح ليُشفى«. أما أيوب »فأخذ شقفة من الخزف ليحكّ جسده بها« (أي 2:8).

وفي ديانة ترفض كل فكرة سحر، ولا تعرف سوى المجازاة على هذه الأرض، هناك رباط بين العافية والقداسة. نقرأ مثلاً في خر 20:22: »أكرم أباك وأمّك ليطول عمرك«. وفي لا 20:19 نفهم أن الخاطئ يتحمّل عاقبة إثمه. ومقابل هذا، يسير المرض في موازاة الخطيئة. فالعاهرة في أم 2:19، »هوى بيتُها إلى الموت، وطريقها إلى الظلمات«. ويقول أم 5:5: »قدماها تسيران إلى الموت، وخطواتها تتمسّك بعالم الأموات«. في هذا المنظار، نفهم ما قاله سفر الخروج: »إن سمعتم لصوت الربّ إلهكم، وسرتُم باستقامة أمامه، وأصغيتم إلى وصاياه، وعملتم بجميع فرائضه، فجميع الضربات التي أنزلتها بالمصريّين لا أُنزلها بكم«. هم خطئوا فضُربوا. وأنتم يمكن أن تُضرَبوا إن خطئتم.

إذن، يُنسَب أصل المرض إلى الله. قال أيوب (19:20 - 21): »عظامي لصقت بجلدي، ونجوتُ بجلد أسناني. ارحموني، يا أصدقائي، ارحموني: يدُ الله هي التي ضربتني«. وهكذا أحسّ أيوب في مرضه أن الله نفسه يهاجمه. وإن كان المرض من الله، فمنه أيضاً الشفاء. قال أليفازفي أي 5:18 عن الله: »يجرح ولكنه يضمّد، ويضرب ويداه تشفيان«. فهو من يُعطي الموت والحياة (تث 32:19). هو يجلب العافية ويمنح الشفاء (اش 19:22). والويل لمن يشكّ بعونه!

في هذه العقليّة، تخضعُ حالات الأمراض »الخطيرة« إلى الكاهن (تث 24:8). بما أنه حارس قداسة الشعب، فهو وحده يحكم في الطاهر والنجس. وُجد طبٌّ مقدّس في حال البرص (لا 13:1 ي) والسبلان (لا 15:1 ي). هاتان هما الحالتان الوحيدتان اللتان يذكرهما الكاتب فتطلبان أن يتدخَّل الكاهن.

يأتي المريض إلى الكاهن، ويُقرّ بذنوبه أمام الله. ونجد أكثر من عيّنة من هذه التشكيّات التي يرفعها المريض إلى الله، في سفر المزامير. »لا تغضب، يا ربّ، في معاتبتي، ولا تحتدّ إذا أدّبتني. سهامك نشبت فيّ، ويدُك ثقلت عليّ. جسدي غير معافى، لأنك غضبت. وعظامي غيرُ سليمة، لأني خطئتُ« (مز 38:2 - 4). ونقرأ في مز 39:9 - 12: »أنقذني من جميع معاصيّ، ولا تدع الجهّال يعيّرونني. تألّمتُ ولم أفتح فمي، لأنك أنت فعلتَ ما بي. إرفع ضربتك عني، فمن جور يدك فنيتُ«.

في كل هذا، لا يُعتبر المرض في حدّ ذاته مرضاً كما نقول في أيامنا. بل يُنظر إليه حصراً من الوجهة الدينيّة. أي كحدث يَكشف مصيرَ الانسان ويُدخله في تاريخ الخلاص. إذن، يكون الشفاء علامة عودة إلى الربّ. ومقابل هذا، تكون العودة بداية الشفاء (اش 6:10). وفي الوقت عينه، يُعتَبر المرضُ فوضى كونيّة، بحيث إن غياب كل ألم، وبالتالي الموت، يدلّ على الأزمنة الاسكاتولوجيّة، على النهاية. »فالذين فداهم الربّ يرنّمون، ويكون على وجوههم فرحٌ أبويّ. يتبعهم السرور والفرح، ويهرب الحزن والنحيب« (اش 35:10؛ رج 65:20: لا بكاء، لا صراخ).

2 - البرص والنجاسة

بين الأمراض التي تذكرها التوراة، يحتلّ البرص حيّزاً هاماً. وبالإضافة إلى البرص المعروف، نجد كل ما يمسّ الجلد: نتوء، طفحة جلدية، لمعة (لا 13:2). يتفحّص الكاهن (آ 3). ثم يُعلن الحكم (آ 9 - 17). هو يحكم بطهارة المريض أو بنجاسته.

فالبرص خطير، بسبب عدواه والضرر الذي يسبّبه للجماعة. لهذا، هو نموذج »عقاب« الله (أيوب)، ويدلّ على الكره الذي تُلهمه هذه الظاهرةُ المقلقة. هي ضربة يضرب بها الله الخطأة (تث 28:35). هي علامة الكفر. لهذا لا ندهش إن جاء البرص بين »ضربات« مصر (خر 9:8 - 12) مع القروح والبثور، وإن عَدّ داودُ هذا المرض بين تلك التي تمنّاها ليوآب، لأنه قتل آب أبنير (1 صم 3:29). مريم أخت موسى تجاوزت شريعة الله (عد 12:10 - 15؛ تث 24:9) فأصابها البرص، وكذلك الملك عزيا (2 أخ 26:19 - 23). وعبد الرب وعابده ضُرب بالبرص، مع أنه بريء، بسبب خطايا البشر (اش 53:3 - 12؛ رج مز 73:14).

في الشرق القديم، انقسم العالمُ بالنسبة إلى الله، بين طاهر ونجس، بين مقدّس وعاديّ، بين مبارك وملعون (= لا مبارك). جاء البرص في خانة النجس، فمنع صاحبَه الاتصال بالأقداس. نحن أمام نجاسة، أمام »حالة« يجب أن نخرج منها. وإذ سأل الأبرص الكاهن، فلكي يخرج من حالته أمام الله وفي المجتمع. هل هو طاهر، فيحق له أن يشارك في شعائر العبادة؟ أو هل يعلن حالة نجاسته فيعيش على هامش المجتمع؟ فالموضوع موضوع إيمان وموضوع حياة في المجتمع. فإن رأى الكاهن أن مريضه مصابٌ بالمرض، يُعلنه نجساً، ويُبعده عن الجماعة.

يُحرم هذا الأبرص من الاقتراب إلى الله في شعائر العبادة. كما هو ينجّس كل من يلمسه (هنا يُخطئ البعض حين يقولون إن الشيطان ينتقل من انسان إلى انسان). لهذا، تُستعمل علامات ليعرف الناسُ بحضور الأبرص ويتجنّبوه: يشقّ ثيابه. يكشف رأسه علامة الحداد. ويغطي شاربيه لئلاّ تنتقل العدوى بتنفّسه. ويحذّر الناس، فينادي: نجس، نجس (آ 45). ويُمنع هذا الانسان من الإقامة في المخيّم (في المحلّة، في القرية، آ 46)، في المدن (2 مل 7:3) ولا سيّما أورشليم. فيجب إطلاقاً أن لا تُنجّس المدينةُ المقدّسة.

3 - تقدمة، شهادة لهم

إعتبرت النصوص أن شفاء البرص ممكن، لأنهم ضمّوا إلى هذا المرض كل ما يصيب الجلد. وكما أن الكاهن يتفحّص المرض، فهو أيضاً يتفحّص الشفاء. وكلامه برهانٌ على غفران الله. ولكن الشريعة أوصت بتقدمة ذبيحة شبيهة بذبيحة الخطيئة، ليعود المريض إلى الجماعة، وبالتالي يشارك في شعائر العبادة. وزوال المريض اسمه »التطهير« كما اسمه »الشفاء« فيقال: شُفيَ أو طَهُر. رج مت 8:2 - 3؛ 10:8؛ 11:5؛ مز 1:42؛ لو 5:12 - 13.

وتحدّث كتاب الطقوس عن تقدمة طيرين: واحد يُذبَح والآخر يُطلق حراً بعد أن يغمّس في مياه خاصة ويُرَش على الأبرص (14:2 - 8). ذاك هو طقس التطهير كما نجده في التوراة. وبعد سبعة أيام، تأتي طقوس من نوع آخر. هي اجراءات وقائيّة. فعلى المريض أن يحلق كلَّ شعره، أن يغسل ثيابه، أن يغتسل (آ 9). وفي الغد، أي في اليوم الثامن، يقدّم ذبيحة ثانيةً تكفيراً عن الخطيئة ويقدّم محرقة. ويُتمّ الكاهنُ طقسَ التطهير، فيضع من دم الذبيحة على أذن المريض وإبهام يده اليمنى وإبهام رجله اليمنى. ثم بمسح بالزيت سائر أعضاء المريض، ويصبّ ما تبقّى من الزيت على رأس المريض (آ 10 - 32).

تُبيّن هذه الطقوسُ أننا أمام مزيج من كتابَي طقوس. واحد للتطهير. وواحد نقدّم فيه ذبيحة مع عناصر أخرى. هي طقوس قديمة تتضمّن بعض المعتقدات السحريّة، ولكن الإيمان بالربّ حوّل مدلولها. وتوخّى كلّ هذا التشريع أن يحافظ على قداسة الشعب المختار في مجمله، على قداسة الأرض كلها، وعلى قداسة كلّ مؤمن بمفرده. واللاهوت الذي نجده في هذا الطقس يدلّ على نيّة عميقة، موحّدة، رغم تشتّت الفرائض المأخوذة من أكثر من طقس. ويشهد اللاهوت على اهتمامات الجماعة البعد منفاويّة، وعلى متطلّباتها المتنامية على مستوى الطهارة. ولكن ما يُؤسف له هو أنَّ تجمّدَ الشرائع وصل بالمؤمنين إلى الشكليّات التي نادى بها الفريسيون: هم ما استطاعوا أن ينفتحوا على المدلول الحقيقيّ للطهارة الخلقيّة (روم 14:14؛ لا شيء نجس في ذاته). لهذا شجب يسوع مثل هذه العقليّة بشدّة وقساوة: »الويل لكم، يا معلّمي الشريعة والفريسيون المراؤون« (مت 23:4، 13).

خاتمة

نحن نقرأ هذين الفصلين (لا 13 - 14) من العهد القديم، استعداداً لشفاء الأبرص كما في مر 1:40 - 45؛ مت 8:1 - 4؛ لو 5:12 - 16. هكذا نكتشف الاطار الاجتماعي والدينيّ الذي فيه تمّ عملُ يسوع، ونفهم توصية يسوع للأبرص بأن يمضي إلى الكاهن ويقدّم القربان عن طهره »شهادة لهم« (آ 44؛ مر 1:45).

لا نشرح النص، بل نُبرز ارتباطَ شريعة الطاهر والنجس بالألم المرتبط بنهاية الانسان. ونستطيع أن نربط بين شفاء الأبرص وسائر الشفاءات فنفهم أن مجيء المسيح ارتبط بها، فوجب على يوحنا المعمدان أن يعرف أن يسوع هو ذاك الآتي، بحيث لا ننتظر آخر (مت 11:5؛ لو 7:22). هو أخذ على عاتقه أمراضنا وحمل أوجاعنا (مت 8:17)، لهذا استطاع أن يُلغي كلَّ فصْل بين الطاهر والنجس دون أن يتخلّى عن الطاعة للشريعة. كلُّ هذه المعجزات تدلّ على أن المسيح هو عبد الربّ المتألّم، وأن السلطان الذي ناله من الآب قد سلّمه إلى تلاميذه، فقال لهم: اشفوا المرضى، اطردوا الشياطين (مت 10:8؛ مر 16:18؛ لو 9:2، 6). وأخيراً نشرح العهد القديم بالعهد الجديد والعكس بالعكس. ففرائض العهد القديم لا تُفهم بدون المسيح. ولا نستطيع أن نشرح شفاء الأبرص إن لم نعد إلى سفر اللاويين. فالعهد القديم يبقى بالنسبة لنا نحن المسيحيين كلامَ الله الذي ما زال يتوجّه إلينا. فيا ليتنا نسمعه ونفهمه!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM