الفصل 4: قداسة المكان

قداسة المكان

المكان الذي عنه يتحدّث سفرُ اللاويّين الذي دُوّن بعد المنفى، هو الهيكل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من المنفى، حوالى سنة 520 -515 ق م. هو هيكل صغير بالنسبة إلى ما تخيّلوا عن هيكل سليمان، وما يكون عليه ذاك الذي وسّعه هيرودس الكبير وامتدّ فيه العمل عشرات السنين قبل أن يدمّره الرومان سنة 70 ب م.

لا كلام عن هذا المعبد بشكل مباشر، بل عن ترتيبين يرتبطان به. الأول يتعلَّق بالسراج الذي يُضاء من المساء إلى الصباح، وذلك بشكل دائم (24:3). يكون في خيمة الاجتماع، أمام حجاب تابوت العهد. والزيت الذي يُشعله يكون »زيت زيتون مرصوص نقيّ للإنارة« (24:1). فالنور علامة الحضور. والبيت الذي تملأه العتمة هو بيت تركه أصحابه أو هجروه. أما المعبد فيكون مضاءً طوال الليل، للدلالة على أن الله حاضر. هو ساهر على شعيه، لا ينعس ولا ينام (مز 121:4). نشير إلى أن هذه العادة تتواصل في الكنائس التي تُبقي القربان محفوظاً بعد القداس الالهيّ. بل هو السراج يبقى مضاء لا خلال الليل وحسب، بل خلال النهار والليل. تلك العادة القديمة التي رتّبها سفر اللاويّين، نراها موجودة في معبد شيلو. كان صموئيل نائماً ومصباح بيت الله مضاء، غير منطفئ (1 صم 3:3).

والترتيب الثاني يقوم بصنع اثني عشر قرصاً من الدقيق، قرصاً عن كل سبط من أسباط الشعب. تُجعل الأقراص في صفين على المائدة الطاهرة. ترتّب يومَ السبت، وتبقى على المائدة إلى السبت المقبل. فيأكلها بنو هرون في موضع مقدّس. هي طاولة مصنوعة من ذهب نقيّ، شأنها شأن السراج (24:4). وهي نقيّة في إطار طقوس العبادة. يُوضع على الطاولة البخور وربما الملح كما يقول النصّ اليونانيّ. هذه الأقراص هي علامة العهد، وهي تؤكل في مكان طاهر، في مكانَ يقدر الله أن يُقيم فيه. في الأصول القديمة، كان هذا الطعام يعتبر مهيأ للآلهة. ولكن في التقليد الكهنوتيّ حيث الله بعيد، لا يأكل البشر (ولو كانوا كهنة) مع الله. بل يأكلون أمامه، في حضرته، والطعام طعامه. وهكذا تنتقل قداسة هذه الأقراص »المقدّسة كل التقديس« (24:9) إلى الكهنة فيقيمون في هذه القداسة، في هذا الانفصال عمّا هو دنيويّ، من أجل عبادة تليق بالله. مثلُ هذا الطعام صورة عن طعام قدّمه يسوع لمؤمنيه حين قال: »جسدي مأكل حقاً ودمي مشرب حقاً« (يو 6:55). كان هذا من خلال الخبز والخمر في العشاء الربّاني، في الافخارستيا. ما تصنعه الكنيسة فتتذكّر ربّها هو العهد الجديد الأبدي الذي به تُغفَر خطاياها فتَّتحد مع ربّها إلى أن يجيء.

ويرتبط بالمكان موضوع قداسة الكهنة. »وكلّم الرب موسى فقال: قل للكهنة بني هرون: لا يتنجّس أحدٌ منهم« (21:1). وبمّ يتنجسون؟ إن اقتربوا من ميت. إن حلقوا شعر رؤوسهم ولحاهم، أو خدشوا أبدانهم كما يفعل الكهنة الوثنيون (1مل 18:28: كهنة بعل أمام إيليا). إن تزوّج امرأة زانية أو مدنّسة فُضَّت بكارتها، أو مطلّقة من بعلها (آ 7). ومن يكون فيه عيب من نسل الكهنة، لا يقتربْ ليقدّم وقائد طعام إلهه: الأعمى والأعرج... نشير هنا إلى أن مثل هذه الأمراض تمنع اليوم الانسان من التقدّم إلى الكهنوت.

بما أن مهمّة الكهنة تقوم بجعل البشر يتّصلون بالله الحيّ والقدوس، فعليهم أن يكونوا قدّيسين. كيف يلمس ميتاً ذاك القريبُ من ربّ الحياة؟ وكيف يتّصل بأمور دينويّة و بأشياء نجسة؟ الكاهن يعبد الله، فكيف يأخذ بعادات الأمم الوثنيّة؟ بل هو يتميّز عنها، لأن كهنوته قدّسه ففصله عن العالم المحيط به. لا يحقّ له أن يفعل مثل كهنة بعل. بل لا يحقّ له أن يفعل بعض الأمور التي فعلها سائرُ المؤمنين. لقد صار قُدساً للربّ. وهو يقتات من أقداس الربّ، في موضع مقدّس. لا يحقّ له أن يكون فيه عيب جسديّ، وبالاحرى خُلقيّ. فإن لم يكن مقدّساً، يُبعَد عن القرابين المقدسة (22:1-2).

القداسة في أصلها العبريّ تعني الانفصال. هو انفصال ماديّ: فعلى موسى أن لا يقترب، لأن الأرض التي يقف عليها أرض مقدّسة (خر 3:5). فتلك الأرض تشارك في قداسة من تجلّى عليها. وحضور الله يحدّد علاقةَ جديدة بين الأغراض الماديّة والانسان. لهذا يخضع البشر لأعمال يقومون بها. هنا، مُنعَ موسى من الاقتراب. خلع نعلَيه. الأرضُ مقدسة. والشعب يكون مقدّساً بفعل العهد الذي قطعه مع الربّ (خر 19:6). مثلُ هذه القداسة تَنقل إلى الأشياء أو الأشخاص طابعاً سرياً يولّد الخوف.

سوف ينظّم الكهنة الهيكل، من الأقل قداسة، من رواق الأمم، إلى الأكثر قداسة، إلى قدس الأقداس. إلى قدس الأقداس لا يدخل سوى عظيم الكهنة مرّة في السنة، في يوم كيبور، أو عيد الغفران العظيم. وقبل أن يدخل يخضع لممارسات عديدة، وليس آخرها الذبيحة عن خطاياه. ثم يأتي القدس حيث يُقيم الكهنة، فيرفعون البخور ويذبحون الذبائح. حين نشاهد الهياكل القديمة، كما في عمريت (جنوب طرطوس في سورية) مثلاً، نرى أن القدس وحده له سقف. ولكن لا وجود لقدس الأقداس. فيه يجلس الملك والكهنة الذين يرتبطون به. فالملك هو وحده الكاهن الذي يربط السماء بالأرض. بعد ذلك، رواق الرجال، ثم رواق النساء، وفي النهاية رواق الوثنيّين الذي لم يعتبره اليهود مقدّساً. فكان كلام يسوع قاسياً في انجيل مرقس. »دخل الهيكل وأخذ يُخرج الذين يبيعون ويشترون... ولم يَدَعْ يسوع أحداً ينقل متاعاً في الهيكل... ثم قال لهم: ''بيتي يُدعى بيت صلاة لجميع الأمم، وقد صيّرتموه أنتم مغارة لصوص'' (مر 11:15-17). أما يوحنا فيُرينا يسوع يطهّر الهيكل من البقر والغنم والحمام، لأن لا حاجة بعد إلى هذه الذبائح، بعد أن صار هو الذبيحة الواحدة. ليس المكان هو الذي يقدّس المؤمنين، بل المسيح الذي يجمع المؤمنين بحيث ينتقلون من معبد مصنوع من حجر إلى معبد مصنوع من بشر. على ما قال القديس بطرس، في رسالته الأولى: »وأنتم أيضاً، إبنوا من أنفسكم، كمن حجارة حيّة، بيتاً روحياً، وكهنوتاً مقدّساً، لإصعاد ذبائح روحيّة، مقبولة لدى الله بيسوع المسيح« (1بط 2:5).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM