الفصل 23: صرفت صيدا الموقع التاريخ الرمز

صرفت صيدا الموقع التاريخ الرمز

يروي سفر الملوك الأوّل أنّ إيليّا لم يستطع الإقامة في أرضه خلال الجوع الذي حلّ بالبلاد. في مرحلة أولى أقام عند العرب الذين لم يطعموه فقط لبن الإبل ومشتقّاته، بل نحروا له ذبيحة، وكانوا يحملون إليه الخبز واللحم عند الصباح وعند المساء، وهو يقيم عند سيل كريت الذي يقع شرقيّ الأردنّ (17: 2-6). احترموا صمتَه وصلاته، وعملوا ما عملوا ملتمسين بركته. وفي مرحلة ثانية، ذهب إيليّا إلى شاطئ البحر، إلى منطقة صيدون، إلى قرية تُدعى صرفت. ماذا نعرف عن هذا الموقع الرابض على الساحل الجنوبيّ؟

1- صرفت أو الصرفند

إذا أردنا أن نبحث عن موقع صرفت القديمة، نطلبها قرب الصرفند (في جنوب لبنان)، التي تبعد 15 كلم إلى الجنوب من صيدا، على شاطئ البحر الأبيض المتوسّط الشرقيّ. ذُكر اسمُها على خريطة ميدبا في شرقيّ الأردنّ، التي تعود إلى القرن السادس ب.م.، باسم »الضيعة الطويلة« (ماكرا كومي، Makra komi) لأنّ بيوتها امتدّت إلى شاطئ البحر.

أوّل مرّة ذُكرت صرفت، كان في لوحة أوغاريتيّة تعود إلى القرن الرابع عشر، وفيها نجد لائحة بأسماء أشخاص ترتّبت حسب المدن التي جاؤوا منها، فقرأنا: »ب ن. ص ر ف ت ن«.

وفي نصّ مصريّ يعود إلى الفرعون رعمسيس الثااني (1298-1232)، نجد اسم صرفت في برديّة أنستاسي الأوّل: طرح معلّم سلسلة من الأسئلة على تلميذه حول جغرافية آسية، لكي يتعرّف إلى معلوماته، قال: »حدّثني إذن، عن مدينة أخرى غريبة اسمها جبيل، ماذا تشبه؟ من هي إلاهتها؟ وهذه أيضًا لم تطأها قدماك. والآن، أعلمني عن بيروت وصيدا وصرفت«. وأخيرًا يرد اسم صرفت مرّتين في النصوص الأشوريّة: خلال حملة سنحاريب (705-681) الثالثة، في حطي، صوّرت حوليّاتُ هذا الملك الأشوريّ انتصاراته فقالت: »إنّ عظمة سلاح أشور، ربّي، قلب مدن صيدون الكبيرة وصيدون الصغيرة، وبيت زيتي، وصرفت ومهليبا وأوشو وأكزيب وعكّا: هي مدن قويّة ومحصّنة، فيها العلف والماء والسند، خضعت لدى قدمي«.

والنصّ الثاني الذي وُجد في نينوى ويعود إلى عهد أسرحدّون (680-669)، يقول عن صيدون: »بين هذه المدن (= مدن صيدون)، جعلت مدينتَي معروبو وصرفت في يدي بعلو، ملك صور«.

2- صرفت والكتاب المقدّس

ونعود إلى سفر الملوك الأوّل في الفصل الرابع عشر: »وبعد أيّام جفّ النهر (حرفيٌّا: سيل كريت)، لأنّه لم ينزل على الأرض مطر، فكان كلام الربّ إلى إيليّا قائلاً: »قم وامضِ إلى صرفت التي لصيدون وأقم هناك« (آ 7-9).

وكما استقبل العرب إيليّا في الشرق، استقبلته أرملة في الغرب. لم يكن لها سوى بعض الماء فقدّمته، ولم يكن لها من الدقيق إلاّ ملء الكفّ، ومن الزيت إلاّ اليسير. أعدّت أوّلاً قرصًا (أو كعكة) لأجل إيليّا، وبعد ذلك فكّرت في نفسها وفي ابنها. من جهة، هي عظمة الضيافة، ومن جهة أخرى، عرفت أنّ هذا الإنسان ليس كسائر الناس. لهذا سمّته رجل الله، واعتبرت أنّه جاء إليها لكي يذكّرها بذنوبها. وكيف عرفت ذلك؟ حين مات ابنها. كان الناس (وما زالوا في بعض الأوساط) يعتبرون المرض أو الموت عقابًا لهم على خطيئة اقترفوها. وهذه الأرملة التي فقدت ابنها، أحسّت أنّها خاطئة أمام هذا الرجل القدّيس. لهذا قالت له: »ما لي ولك؟ يا ليتك ظللتَ بعيدًا عنّي وما تدخّلتَ في حياتي«. ولكنّ الله لم يرسل إيليّا إلى هذه المسكينة ليحمل إليها الموت بل الحياة. فهذه التي كانت ستموت من الجوع ولم يبقَ لها سوى القليل من الدقيق والزيت، نالت معجزة لم ينلها »الأبرار« في شعب الله. قال لها النبيّ: »جرّة الدقيق لا تفرغ، وقارورة الزيت لا تنقص، إلى يوم يرسل الربّ مطرًا على وجه الأرض« (1 مل 17: 14). ثمّ إنّ ابنها الذي مات بسبب مرض من الأمراض، سوف يقيمه إيليّا: »أنظري، ابنك حيّ« (آ 23).

أمر الربّ إيليّا، فمضى إلى صرفت صيدا، ووصل إلى باب المدينة، أي إلى الساحة العامّة (آ 10). ويبدو أنّ أحدًا لم يستقبله؛ فالجوع يعمّ البلاد. استقبلته هذه المرأة الفقيرة. وكان لهذا النبيّ أن يُجري أكثر من معجزة في مدينة صرفت وفي بيت أرملة ليس لها من يعيلها في مثل هذا الضائقة. أنكون أكثر سخاء من الله؟ كلاّ! قدّمت هذه المرأة القليل من الدقيق، ففاض الخير في بيتها. وخدمت نبيّ الله، فقدّم لها خدمة جلّى، خدمة لا يقدّمها إنسان بقدرته الخاصّة: قدّم الحياة لابنها الذي مات.

هذه المرأة سيذكرها يسوع في مجمع الناصرة وسيذكر اسم قريتها: صرفت صيدا (لو 4: 25-26). كما أُرسل إيليّا إلى أرض وثنيّة وهناك أجرى معجزة عظيمة، كذلك سيمضي يسوع إلى خارج وطنه ويطبّق على نفسه القول المأثور: »لا يُقبل نبيّ في وطنه«. أتُرى مضى يسوع إلى صرفت؟ ربّما، وهو الذي ذهب أكثر من مرّة إلى نواحي صور وصيدا (مت 15: 21). ولا ننسى أنّ إنجيل لوقا صوّر بعض سمات يسوع انطلاقًا من إيليّا، كما صوّرها متّى انطلاقًا من موسى. وفي أيّ حال، سيكون موسى وإيليّا مع الربّ على جبل تابور: واحد يمثّل الشريعة، وآخر يمثّل الأنبياء.

 

3- وماذا عن صرفت القديمة

ذكرنا النصوص القديمة التي أوردت اسم صرفت، فلم يعد من شكّ في الكلام عن موقعها. ونضيف إلى ذلك قطعة من الرخام اشتراها المتحف اللبنانيّ سنة 1969، وعليها دُوّن: »إلى الإله القدّوس في صرفت«. وقد وُجدت عبارة مماثلة مدوّنة وُجدت في بوتيولي (قرب نابولي)، وتعود إلى القرن الأوّل المسيحيّ. كما وُجد ختم يحمل اسم صرفت، في مكان الحفريّات التي تمّت بين 1969 وسنة 1974.

على ماذا دلّت هذه الحفريّات؟ على مكان مأهول في رأس القنطرة، يعود إلى حقبة البرونز والحديد (القرن الخامس عشر ق.م. وما بعد). وُجد حيّ أصحاب الصناعات والأفران، كما وُجد معبد يعود إلى حقبة الحديد في القرن الثامن. وسوف تكشف التنقيباتُ أيضًا مرفأ يعود إلى الزمن الرومانيّ بين رأس القنطرة ورأس الشيخ يعود إلى القرن الأوّل، مع رصيف مستطيل طوله 15 مترًا، وعرضه 12،5. وبجانب هذا الرصيف كانت أساسات اعتبرها الباحثون بازيليكًا مربّعة الزوايا تعود إلى القرن السادس ب.م.

تلك هي صرفت صيدا التي عاصرت الكنعانيّين والفينيقيّين، كما اليونان والرومان. مرّ فيها إيليّا حاملاً تراث العهد القديم وعبادته للإله الوحيد. ومرّ فيها المسيح، بانتظار أن يعبر بولس في طريقه إلى أورشليم. أبحر بولس من طبرجا شمالي جونيه. من يدري، فقد يكون أبحر في يوم من الأيّام من صرفت، هو أو غيره من المرسلين. فمن الساحل اللبنانيّ انطلق الفينيقيّون يتاجرون. أنعجب أن يكون المسيحيّون أبحروا من هناك من أجل تجارة أخرى؟ ولماذا لا تكون الصرفند أو صرفت صيدا نقطة انطلاق لحمل رسالة الإنجيل؟!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM