الفصل 21: أرز لبنان لا يخضع الّا للرب!

أرز لبنان لا يخضع الّا للرب!

حين تتكلّم النصوص القديمة على الأرز، تشير إلى الصلابة والديمومة والقوّة. وحين نقرأ لفظة »إرز« في اللغة العبريّة، نفهم أنّنا أمام شيء صُنع من الأرز، فبدا شديدًا متينًا. بل وصل الاشتقاق إلى اللغة العربيّة فقال: »شجرة أرزة«، أي قويّة وصلبة. وردتْ كلمةُ »أرز« سبعًا وسبعين مرّة في الكتاب المقدّس، ففهمنا أنّ هذه الشجرة تتفوّق على باقي الأشجار، وهي تقيم في جنّة الله، بل هي تخصّ الله، بحيث تحدّثت النصوص عن »أرز الربّ«، »أرز الله«. وارتبطت بلبنان، فقال فيها أشعيا: »مجد لبنان أعطي له«. ومع ذلك، فنحن حين نقرأ النصوص، نظنّ أنّ الربّ يريد أن »يحطّم الأرز«؛ فكيف نفهم كلام الكتاب المقدّس في هذا المجال؟ نتوقّف هنا عند ثلاثة مقاطع:

الأوّل يجعل العوسجة تجاه الأرز: أتراها تستطيع أن تحرقه؟

الثاني يسمعنا صوت الله الذي يكسر الأرز، يكسر أرز لبنان، دون أن يقول لنا السبب.

الثالث يقابل بين الله والأرز: مَن هو أقوى؟ أترى يستطيع الأرز أن يستكبر ويتعالى تجاه ذاك الذي »حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين«؟

1- الأرز والعوسجة

يرد هذا النصّ في سفر القضاة، وهو يقدّم مثلاً من الأمثال. كان أبيملك بن جدعون قد نصَّب نفسه ملكًا على بني شكيم. قتل إخوته جميعًا، فما بقي سوى يوتام الذي جاء ينبّه المدينة من الخطر المحدق بها، مع احتقار لهذا الملك. اعتبر نفسه أرزة متينة صلبة؛ فإذا هو عوسجة، بل إنّ هذه العوسجة تريد أن تسيطر، تحرق وتدمّر.

صوّر يوتام الوضع في البلاد مع هذا النظام الجديد الذي لم يكن الشعب يرضى به، وهو الذي اعتبر أنّ الله وحده ملك فيه. فهذا الإنسان الحقير يتعدّى على حقوق الله، وهذه العوسجة التي لا نفع منها، تريد أن تهاجم الأرز، فهل تقدر عليه؟ وهكذا بدا الأرز للوهلة الأولى وكأنّه يتماهى مع الله، لأنّه شجر الله. وفي هذا قال مز 104: 16: »أشجار الربّ تشبع مطرًا، أرز لبنان الذي غرسه«.

البداية مع العوسجة، والنهاية مع الأرزة، وبين الاثنتين ذكر المثلُ ثلاث أشجار تزيّن أرض الموعد، أرض الربّ: »الزيتونة« التي تعطي زيتًا لمجد الله في هيكله، وتفرح قلب الإنسان بما تحمل من عطر؛ و»التينة« التي تحمل الحلاوة والطيب للملوك؛ و»الكرمة« التي تستعمل في شعائر العبادة فترضي الله، وفي أعياد الناس فتحمل إليهم الفرح. شجرات ثلاث مفيدات رفضت أن تكون ملكة. أمّا تلك التي لا فائدة منها، فنصّبت نفسها ملكًا، فبدت صورة عن أبيملك الذي فعل ما فعل بأهل شكيم. فوجب عليهم أن يحرقوه كما تُحرق العوسجة، قبل أن يحرقهم هو. فما هي هذه الملكيّة التي يغذّيها الطموح الشخصيّ، ولا يدفع إليها نداء من الربّ، كما كان الأمر مع شاول وداود، ولا تحرّكها روح المسؤوليّة؟

ولكن قد تتغلّب العوسجة لفترة محدودة، وفي النهاية تزول. قد تُضايق الزيتون والتين والكرم، ولكنّها لا تستطيع أن تصل إلى الأرز الذي هو أرفع الأشجار، فلا تقدر عليه يد بشريّة. ولبنان حيث ينبت الأرز، يرتفع فوق كلّ أرض في هذا الشرق. لهذا، بدت السخرية واضحة: كيف تواجه هذه الشجرة الصغيرة فخر البلدان جميعًا ومقام الملوك والآلهة؟ أقام سليمان في غابة من الأرز (1 مل 7: 6-7)، وغشّى الهيكل كلّه، جدرانًا وسقفًا بخشب الأرز الذي لا يصل إليه سوس ولا تطاله يد الفناء؛ إنّه رمز الخلود. أمّا النيتجة فنقرأها في 2 مل 14: 9، في كلام ردّده الملك يوآش، فأفهمه أن يقف عند حدّه: »أرسل العوسج بلبنان إلى الأرز يقول: زوّج ابنتك لابني. فمرّ وحش البريّة في لبنان، وداس العوسج«. أترى العوسج يواجه الأرز؟ أترى هذا الملك الضعيف يواجه مَن هو أقوى منه دون أن يحمل إلى أرضه الموت؟

2- صوت الربّ كالرعد (مز 29: 1-11)

لا تقدر شجرة، مهما عظمت، على الأرز. هي لا تستطيع أن تواجهه، ولا أن تقاومه. فالأرز لا يقابَل بسائر الأشجار، سواء كان السرو والدلب والسنديان والآس. نقرأ في حز 31: 2 كلامًا عن الفرعون وعظمته: يشبّهه النبيّ بأرز لبنان العالي، بأغصانه الجميلة والوارفة الظلّ: وحوش البريّة لا تدوسه، بل تقيم في ظلّه، والمياه الغزيرة لا تهدّده، بل ترفده الحياة. مقام الأرز في جنّة الله: »أين للسرو مثل أغصانه؟ أين للدلب مثل فروعه؟ لا جمال يساوي جمال الأرز، ولا حسن يتفوّق على حسنه« (حز 31: 8).

غير أنّه هذه الشجرة التي زيّنت جنّة الله، قد تشامخت وجعلت رأسها بين الغيوم. ما خافت من الخليقة. أتراها لا تخاف الله الذي صنعها، كما صنع الجبال التي ألّهها البشر؟ بل هي تخاف صوت الله وترتجف. فأمام الربّ ترتعش الأرض وتتزعزع، وتهتزّ أسس الجبال (مز 18: 8). ومثلها الأرز لا يقف ثابتًا أمام الربّ القدير وإله الأكوان. يكفي أن يسمع صوته. هذا ما نكتشفه في المزمور التاسع والعشرين.

هذا المزمور هو امتداح لصوت الله، أي للرعد. هو أقدم أناشيد التوراة. استلهم مديحًا كنعانيٌّا لهدد، إله الرعد، وجُعل بشكل فعل إيمان بالله القويّ القدير الذي لا يقف بوجهه الملوك، ولا تثبت أمامه الطبيعة المؤلّهة، سواء كان حرمون الجبل المحرّم على البشر والمقدَّس، أو كان لبنان بجباله الشاهقة التي تحدّاها غلغامش وصعدها، فوصل إلى أرزها الذي يعيّد له أهل شمال لبنان في السادس من آب، في ما يسمّى عيد الربّ، بعد أن كان العيد عيد أرز الربّ.

أبناء الله أو أبناء الآلهة هم الملوك. فالملك في التوراة يُصبح قائمًا مقام الله. يوم يعتلي العرش، يتبنّاه الله، كما نقرأ في المزمور الثاني: »قال لي الربّ، أنا الملك: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك«. وفي الحضارات الشرقيّة، من مصر إلى بابل، الملك هو صورة الله على الأرض، هو الله. إذن، يتوجّه الخوف إلى ملوك الأرض الذين يعتبرون نفوسهم من مصاف الآلهة، فلا يعودون يهتمّون بالبشر الضعفاء، بل هم ينحازون إلى الأشرار ولا يحكمون للذليل واليتيم، ولا يُنصفون الفقير والأرملة، ولا يُنقذون الوضيع والبائس (مز 82: 2-4). فالله يأتي كالقاضي فيقضي من أجل شعبه، وكالديّان الذي يدين من يموتون مثل بشر، ويسقطون مثل أيّ عظيم، ويبقى الله وحده واقفًا والملوك عند قدميه.

ما هو سلاح الله كي يخضع الملوك؟ صوته، صوت الرعد. ترد هنا لفظة »صوت« سبع مرّات، فتدلّ على ملء قدرة الله التي تفعل. هذا الصوت يفعل في المطر الغزير الذي يلي البرق (آ 7) والرعد. يفعل الآن، فيدعو الملوك إلى الخضوع والتوبة، كما في خبرة الخروج (خر 9: 14: لا نظير لي في الأرض). وقد فعل منذ البدء، فهدّأ المياه الأولى وأخرج منها الحياة، في البداية وبعد الطوفان. في البيت الثاني (آ 5-6)، نسمع صوت الربّ يفعل في لبنان، في جبل لبنان المقدّس، الذي هو مسكن بعل، ويكون في ما بعد بغاباته، مركز العبادات الكنعانيّة التي عرفت البغاء المكرّس والزنى في ظلّ المعابد. وحين يُذكر لبنان، يُذكر الأرز الذي هو رمز العظمة والقوّة. فطموح الملوك وقوّاد الحرب كان الوصول إلى شجر الأرز وقطعه. يشير أشعيا إلى أحد الطغاة (لا يذكر اسمه) الذي جاء بأصوات الهتاف، فقطع السرو وأرز لبنان (أش 14: 8). ولكن لبنان يبقى أقوى وأرزه يبقى صامدًا. لهذا، فهما يشمتان بهذا الذي احتلّ الجبل، لأنّه لن يصعد من بعد، لأنّه ضعيف، وذاهب إلى الموت.

ومن جبل لبنان، يتابع صوت الله مسيرته حتّى يصل إلى سريون، أي حرمون (تث 3: 9). فالجبال التي هي علامة الصمود والثبات، تخاف وتقفز كالعجل بين يدي صاحبه. فالله يُمسك الملوك بخزامة (أش 37: 29)، كما يمسك الفلاّح ثوره.

نلاحظ هنا السخرية مع الكلام على العجل الذي يمثّل عبادة الصحراء مع هارون، وما فعله الملك يربعام في بداية مملكة الشمال (1 مل 12: 31-32). أمّا الثور فيشير إلى أرض مصر. وفي النهاية، يصل صوت الربّ إلى نهاية المطاف، فتتحرّك البرّيّة كما المرأة حين تلد، ولكنّها لا تلد. الأيائل تطّرح، الغابات تتعرّى من أوراقها، حتّى وإن كانت أشجارها الأرز والسنديان. وهكذا تفقد الطبيعة كلّ مجدها أمام مجد الله، كما فقد الملوك عزّهم أمام عزّة الله. ففي بداية المزمور قال المؤمن للملوك، لأبناء الله: »قدّموا للربّ مجدًا وعزّة« (مز 29: 1)، فهو وحده المجيد، وحده العزيز. فما أرادوا، لهذا بدأ، فضرب الطبيعة، فخضعت له. أما يتعلّم الملوك أن يخضعوا؟ هذا ما يجعلنا في سفر الخروج مع معناه الرمزيّ والروحيّ. فالفرعون الذي لا يُذكر اسمه، يقف في وجه الله، يعاند الله. ضُربت الطبيعة أوّلاً بالبَرَد والوباء...، وفي النهاية، مات بكر الفرعون، فأحسّت البلاد كلّها بموت أبكارها، وخضع الفرعون وشعبه. وإذ عادوا إلى معاندة الله، هلكوا في البحر الذي يرمز إلى الشرّ. وفي نهاية مز 29، سينشد شعب الله في الهيكل: »المجد لك يا ألله« (آ9). وحين يجلس الربّ على الطوفان كما على عرش، يفهم المؤمن أنّ العزّة عادت إلى الربّ، فأعطاها لشعبه كمقدّمة للبركة والسلام.

تصّور هذا الشاعر أرض الربّ، شرط أن تعبد الإله الواحد، لا الآلهة العديدة، وتراعي الصغار والضعفاء فيها. تصوّر صوت الربّ الغاضب، أي الآتي ليعاقب. يخرج من البحر، يصعد الجبل، جبل لبنان وجبل حرمون، فيصل إلى البريّة ويعود إلى البحر. تكسّرَ الأرزُ كقصبة صغيرة، تروّض الجبل كالعجل، خسرت قادش قدسيّتها بعد أن تعرّت أشجارها المقدّسة من أوراقها. أمّا أرض الربّ فما أصابها سوء. هي تعيش في العزّة والبركة والسلام. فقد عرفت يوم افتقادها (إر 27: 22؛ لو 19: 44). عرفت اليوم الذي فيه يزورها الربّ، فاستعدّت لذلك اليوم بالتوبة والتواضع. وما قاله العهد القديم عن الطبيعة والملوك، قاله العهد الجديد عن أورشليم التي رفضت أن تستقبل ربّها، فعرفت الدمار سنة 70 ب.م. كعقاب لها. رفض الجبل أن يخضع، فزُعزع؛ رفض الأرز أن ينحني، فتكسّر. نحن نلاحظ هنا الصور والرموز؛ فالكلام على الأرز لا يتوقّف عند الأرز، وإن كانت خبرة رأى فيها الناس العاصفة تحطّم الأرز وأغصانه. فالكلام يصل إلى من يمثّله الأرز، إلى الملوك والعظماء الذين ائتمروا على الربّ وعلى مسيحه، ورفضوا سيادتهما. فجاء جواب الإيمان: »الساكن في السموات يضحك، والسيّد يستهزئ بهم، يؤنّبهم في غضبه، وفي غيظه يرعبهم« (مز 2: 4-5). »يرعاهم بعصا من حديد«. لو كانت عصا الراعي، لكانت من خشب، ولكنّها من حديد؛ بعد أن رفض الملوك التعقّل والحكمة، عند ذلك صار الملوك كإناء من خزف، فحطّمتهم، قدرةُ الله. ولماذا؟ لأنّهم تكبّروا، ونسوا شعبهم، ولا سيّما الفقراء. إذن، لا بدّ من ملك يعيد الحكم لله، والعدل والإنصاف في وسط الشعب. مثل هذا الملك يدوم ما دامت الشمس وما دام القمر جيلاً بعد جيل (مز 72: 1-5).

3- مجيء الربّ (أش 2: 6-22)

حسب الملوك أنّهم وحدهم، فسادوا ومادوا، ولكنّهم نسوا أنّ الله هو ملك الملوك. اعتبروه غير موجود على مثال الجاهل (مز 53: 2)، ففسدوا ورجسوا وجاروا. يا ليتهم عرفوا أنّ الربّ من أعلى السماء يُشرف على البشر. اعتبروه بعيدًا لا يرى ولا يسمع كالأصنام، ولكنّه القريب الآتي »كي يحطّ المتكبّرين ويرفع المتواضعين«. هذا ما نقرأ في هذا النصّ من كتاب أشعيا الذي يبدأ في آ9 فيقول: »انحطّ مقام البشر وسقطوا، فلا يقومون«. ولكنّهم في النهاية سوف يفهمون، مهما كانوا عظماء. لهذا »دخلوا في الصخر، واختبأوا في التراب من هيبة الربّ وعظمة بهائه« (آ 10).

ماذا نقرأ في هذه القصيدة الأشعيائيّة؟ هناك موضوع أوّل: طهور الربّ وما فيه من رعب يحسّ به الإنسان في أعماقه (آ 10، 19، 21). وموضوع ثانٍ: انخفاض تشامخ الإنسان (آ 9، 11، 17) تجاه ارتفاع الله (آ 11، 17). يذكر النصّ خطايا بيت يعقوب (آ 6-9)، ثمّ يتحدّث عن يوم الربّ وضحاياه (آ 10-16). وفي النهاية، يرفض بطلان الأصنام، سواء كانت من خشب أو حجر، أو من لحم ودم، ساعة يظنّ الملوك أنّهم صاروا من مصاف الآلهة ويجب أن يُعبدوا. ذاك كان الواقع بالنسبة إلى السلوقيّين وأباطرة رومة، بل ما زال الوضع هو هو اليوم، حيث تؤلّه الأشخاص والأفكار والنظريّات والمعتقدات. وننسى ذاك الذي قال لنا: »أنا هو الربّ إلهك، لا يكنْ لك إله غيري« (خر 20: 2-3).

يبدأ النبيّ كلامه بصلاة يوجّهها إلى الربّ، فيريه خطايا شعبه: المال والربح السريع اللذان هما ثمرة الجور، ويقودان إلى الترف، والكفر، وعبادة الأوثان. ولا ينسى الربّ الحرب التي يمقتها الربّ مع الخيل والمركبات (آ 8). في آ 10، يتوجّه النبيّ إلى الخطأة. هو لا يذكر خطاياهم، بل يصوّر العقاب الذي ينتظرهم. وما يميّز أشعيا هنا، هو أنّه يبدّل أفق توجّهه: ما عاد محصورًا في بيت يعقوب، بل تحدّث عن الإنسان، كلّ إنسان، بشكل عامّ: كلّ مستكبر متعال، كلّ مترفّع (آ 12). ويأتي الكلام مهدّدًا: فالله هو إله الرعد، فعلى الإنسان أن يختبئ، لأنّ يوم الربّ آت. لو كانت حياة الناس في البرارة وفي حياةٍ بحسب وصايا الله، لما كانوا يخافون، لهذا قال هوشع: »ما أكثر ما أحبّهم! غضبي فارقني. أكون لهم كالندى، فيزهرون كالسوسن، ويمدّون جذورهم كلبنان. فروعهم تنتشر، يكون بهاؤهم كالزيتون، ورائحتهم كلبنان. يرجعون ويسكنون في ظلّي، فيحيون كما في جنّة. يُزهرون كالكرم، ويكون ذكرُهم كخمر لبنان« (هو 14: 5-8).

نجد هنا في هوشع الصورة الحلوة عن لبنان، عن جبال لبنان، بالزهر والرائحة، بالزيتون والكرم والخمر. فكما اشتهر لبنان في الشرق، يكونون مشهورين ومعروفين. فالربّ يمتدحهم كما امتدح أيّوب الذي هو »رجل نزيه، مستقيم، يخاف الله، ويحيد عن الشرّ« (أي 1: 8). ولكن إن رفضوا أن يسمعوا للربّ، إن تشامخوا على العليّ، فسوف ينحطّون.

وهنا تأتي الصور التي تشير إلى كلّ ما هو متكبّر ومترفّع: أرز لبنان، الأرز العالي، بلّوط باشان، الجبال العالية، التلال المرتفعة، البروج والأسوار، السفن الكبيرة والمراكب. ونلاحظ لفظة »كلّ« التي تتكرّر: كلّ الجبال، كلّ التلال، كلّ برج، كلّ سور... وينتهي كلّ هذا مع صيغة عامّة: »الإنسان، البشر، والبشر...« وينتهي المقطع بعبارة: »ما لكم وللإنسان! في أنفه مجرّد نسمة، فما قيمته؟« (آ 22). هذا ما قاله الحكماء الذين التحقوا بمدرسة أشعيا، وسوف يتواصل كلامهم في أش 5: 14-16: »ينحطّ مقام البشر ويسقطون، وتنخفض عيون المترفّعين«. أمّا الربّ، فيتعالى بقضائه، ويتقدّس بعدله.

هنا نعود إلى حز 31 الذي ذكرنا بعضًا من آياته. الكلام الأساسيّ هو من فرعون الذي سيهجم عليه البابليّون بقيادة نبوخذنصّر. ولكنّ الإنسان لا ينفصل عن الكون، والتاريخ يمتزج بعناصر الطبيعة. أمّا نصّ حزقيال، فيبدأ الحديث عن يوم أسود سوف يصيب مصر وملكها (حز 30: 2). في الفصل 31، يصوّر الفرعون بشكل أرزة، وفي فصل 32 يبكي النبيّ على فرعون الذي يشبّهه بالتمساح ويرثيه. امتدّ فرعون واتّسع، وكذلك الأرز في لبنان. وكما سقط الأرز، سوف يسقط فرعون. في النهاية، الكلام على فرعون نجد عنه صورة معبّرة في الكلام على الأرز.

خاتمة

حين نقرأ هذه النصوص وغيرها، التي تتحدّث عن أرز يحترق أو ينكسر، أو ييبس لغياب الماء الحيّ، نظنّ للوهلة الأولى أنّ الربّ يريد أن يحطّم الأرز، يريد أن يُركّع جبال لبنان. ولكنّ هذا الظنّ ليس في محلّه. أوّلاً نتذكّر أنّ الشرق القديم، شأنه شأن الشرق الحديث، يتوق إلى رؤية جبال لبنان. فموسى تمنّى في آخر حياته أن يرى ذلك الجبل الجميل لبنان (تث 3: 25)، ولكنّ الربّ لم يعطه هذه النعمة. ثانيًا، لا ننس أنّ الربّ الذي خلق لبنان الجميل، يحتاج إليه لكي يعبّر عن جماله الخاصّ، عن حبّه لشعبه ولكلّ الشعوب، عن حبّه لكلّ إنسان. قال في نش 4: 11: »شفتاك أيّتها العروس (وكلّ واحد منّا هو عروس لعريس واحد هو الربّ في العهد القديم، ويسوع المسيح في العهد الجديد) تقطران شهدًا. تحت لسانك عسل ولبن (لا ننسَ نبع العسل ونبع اللبن في جبال لبنان)، ومثل عبير لبنان عبير ثيابك«. ويتابع في آ 15: »عروستي معين جنّات وبئر مياه حيّة نازلة من لبنان«. أمّا العريس، فطلعتُه مثل لبنان (نش 5: 15)، فلماذا نعتبر أنّ الله يريد أن يزيل هذا الجمال؟ الجمال نرجسة متواضعة تفرض نفسها بنفسها، »فلا تماحك ولا تصيح«، ولهذا يحافظ الربّ عليها، يرفعها. أمّا إذا أرادت أن ترتفع، فحينئذٍ تنخفض. وأخيرًا الربّ هو الذي خلق الأرز، غرسه بيده، سقاه، حماه من وحش البريّة، فلماذا يريد أن يقتلعه، أن يدمّره، أن يحرقه؟ فالربّ هو إله الغرس لا إله القلع، إله البناء لا إله الهدم، إله الحياة لا إله الموت. أمّا الكلام على جبال لبنان العالية، وعلى الأرز الشاهق، فيساعد الملوك والعظماء على أن يعرفوا أنّ لا يد فوق يد الربّ، ولا عين مرتفعة تجاه الربّ، ولا عنق تطال سماء الربّ مهما علت. إذا أراد الملوك الحياة، عليهم أن يتقبّلوا الموعظة، ويعبدوا الربّ بخوف، ويطلبوا حماية الله. عندئذٍ يكون الله لهم أبًا، فيحملهم على ذراعه كما تحمل الأمّ طفلها، ويصلح حالهم كما يفعل الربّ مع قطيعه، ويؤمّن لهم الطعام والشراب (هو 11: 3-4) كما فعل في البرّيّة، وإلاّ يكون مصيرهم تحطيمًا كالأرز حين تمرّ العاصفة. يتحوّل الكون إلى قفر (أش 14: 17). ذاك هو الوجه السلبيّ. وفي الوجه الإيجابيّ، يجعل الربّ القفر مرجًا، والأرض القاحلة مجرى مياه. عندئذٍ تُزرع الحقول، وتُغرس الكروم، وتحلّ البركة في كلّ مكان (مز 107: 35-38). عندئذٍ يصحّ كلام قاله ابن سيراخ: »شمخت كأرزة في لبنان، أو كسروة في جبل حرمون« (24: 13). مثل هذا الشموخ يفترض التواضع في الطبيعة ولدى الإنسان. والخضوع الذي يطلبه الكتاب من الأرز، لا يكون للبشر، بل لله، »الذي له وحده تجثو كلّ ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM