الفصل 19: أنطاكية والحكم السلوقي

أنطاكية والحكم السلوقي

إرتبطت مدينة أنطاكية بالسلوقيّين. فقبل أن تصبح عاصمة السلوقيّين على يد سلوقس الأوّل نيكاتور (= المنتصر)، أقام فيها بعض الروّاد اليونانيّين الذين حاولوا أن يزرعوا المستوطنات العديدة في البحر المتوسّط، ولا سيّما بعد هزيمة الفرس أمام الأسطول اليونانيّ، وضُعف الفينيقيّين. أراد سلوقس أن يترك الشرق ويتوجّه إلى الغرب، فجعل في أنطاكية عاصمته ودعاها باسم أبيه أنطيوخُس. وتعاقب أبناء سلوقس على الحكم من سنة 305 إلى سنة 64 ق.م.، ساعة جاء بومبيّوس الرومانيّ واحتلّ سورية وجعلها مقاطعة رومانيّة قبل أن يصل إلى فينيقية وفلسطين ومصر.

1- بداية السلالة السلوقيّة

أخذت هذه السلالة اسمها من سلوقس الأوّل نيكاتور (312-281 ق م). وُلد سنة 358 من أب مقدونيّ (أنطيوخُس). كان أحد القوّاد في جيش فيلبّس، والد الإسكندر الكبير. ومع الإسكندر صار قائد الألف. حين مات الإسكندر سنة 323 ق.م.، كان المدافع عن المملكة بانتظار أن يتسلّم بابلونية في قسمة أولى لتركة الإسكندر. وفي قسمة ثانية، حاول أن يصل إلى الهند، ولكنّه اكتفى بخمسمئة فيل نالها سنة 304. من أجل هذا، أخذ يمتدّ إلى الغرب، وأعلن نفسه ملكًا سنة 305.

نشير هنا إلى أنّ الزمن السلوقيّ يبدأ في الأوّل من تشرين الأوّل سنة 312 ق.م.، وعيد رأس السنة يقع في الأوّل من نيزان (3 نيسان) سنة 311. هذا التاريخ مهمّ جدٌّا، وسيظلّ مستعملاً مدّة طويلة لدى المؤرّخين وعند نسّاخ المخطوطات. وإذا أردنا أن نعرف تاريخ مخطوط جُعل في إطار السنة السلوقيّة، نضيف 311 سنة، فتكون لنا السنة حسب التقويم المسيحيّ.

2- مسيرة السلوقيّين بعد سلوقس الأوّل

حكم أنطيوخُس الأوّل سوتر (= المخلّص) من سنة 281 حتّى 261، وذلك بعد موت أبيه قتلاً. عندئذٍ بدأ الصراع بين السلوقيّين والبطالسة اللاجيّين، حكّام مصر، حول فلسطين وسورية الجوفاء (ما يقابل سهل البقاع وامتداده). ولكنّ مصر ظلّت مسيطرة على المنطقة. أمّا ما يمكن أن نشدّد عليه من أعمال لأنطيوخُس، كما لأبيه، هو أنّه قام بعمليّة هَليَنة المدن العديدة، أي طبعها بالطابع الهلّينيّ. فأدخل الحضارة واللغة اليونانيّتين، فصار الناس يكتبون في اليونانيّة. نذكر على سبيل المثال، الكتّاب اليهود أمثال حزقيال التراجيديّ، وأرسطوبولس (القرن الثاني ق.م.)، وديمتريوس صاحب الأحداث المؤرّخة (كرونيكة) الذي كتب في القرن الثالث ق.م.، وغيرهم.

أمّا أنطيوخُس الثاني الذي سُمّي الإله (تِيُوس) فحكم من سنة 261 حتّى 246. معه كانت الحرب السلوقيّة اللاجيّة الثانية، التي انتهت بزواج أنطيوخُس من برنيقة أخت الملك بطليمُس الثاني، بعد أن طلّق امرأته الأولى لاودكيّة. هذا ما يشير إليه دا 11: 6 بطريقته المرمّزة: »وبعد انقضاء سنين يتعاهدان، وتأتي بنتُ ملك الجنوب إلى ملك الشمال لتنفيذ العقد«. ملكُ الجنوب هو ملكُ مصر، وملكُ الشمال هو الملكُ السلوقيّ. ولكن الملكة الأولى لم تسكت، فقتلت أنطيوخُس، وقتلت برنيقة. لهذا كانت الحرب الثالثة بين »الجنوب« و»الشمال« في أيّام سلوقس الثاني (246-226) كالينيكُس أو المجيد في النصر، الذي عرفت المملكةُ السلوقيّة تفكّكًا كبيرًا في أيّامه. بعد أن تحرّرت بلاد الفرات واستقلّت، ووصلت جيوش بطليمُس الثالث إلى آسية الصغرى، أي كيليكية في تركيا الحاليّة، طُرد الملك السلوقيّ من أنطاكية، ولكنّه حين استعادها لقيَ ثورةً من أخيه الأصغر، أنطيوخس الثالث الكبير (322-187) الذي قتل سلوقس الثالث ابن سلوقس الثاني. كلّ هذه الحروب والمؤامرات يمكن أن نقرأها في دا 11: 7ي.

3- أنطيوخُس الثالث وأنطيوخس الرابع

كان أنطيوخُس الثالث ابن سلوقس الثاني. بدأ حكمه بقمع الثورات العديدة. وفي سنة 219، قام بالحرب مع ملك الجنوب. ولكنّه هُزم في رفح (رافيا) في فلسطين الحاليّة. ولكنّه عاد إلى الحرب على مصر، فانتصر سنة 200 انتصارًا جعله يسيطر على سورية وفلسطين سيطرة ستمتدّ مع خلفائه حتّى مجيء بومبيّوس سنة 64 ق.م.

ولكنّ رومة قلقَتْ من انتصارات هذا الملك في مصر، بعد انتصارات أخرى في بلاد فارس. فحاربته وانتصرت عليه: أجبرته على أن يتخلّى عن الممتلكات في آسية الصغرى، وعن فِيَله التي كانت بمثابة الدبّابة في منطق الحرب الحديث، وأن يسلّم أسطوله. وهكذا ضعُف في البحر والبرّ. وفرضت عليه رومة أن يسلّم عددًا من الرهائن، بينها ابنه، وأن يدفع ضريبة الحرب، خمسة عشر ألف وزنة. فانتقل هذا الكبير إلى حالة من الفقر جعلته يسلب الهياكل، فمات وهو يسلب هيكل بال في المايس (دا 11: 19)، في خوزستان (راجع عيلام في الجنوب الغربيّ لإيران الحاليّة).

هذا ما يشير إليه سفر المكابيّين الأوّل (6: 1-4) فيجعل أنطيوخس الرابع أبيفانيوس هو الذي يُقاوَم من قبل الكهنة ويُقتل في تلك الأصقاع البعيدة. ويعتبر الكتاب أنّ ما حدث لهذا الملك، كان عقابًا من الله، لأنّه اضطهد المؤمنين ومنعهم من العمل بحسب الشريعة، ولا سيّما الختان، وأراد أن يفرض الحضارة اليونانيّة من تقاليد وممارسة الألعاب الشبه أولمبيّة، حيث يكون المصارع عريانًا. وسوف يتحدّث الفصلُ السابع من سفر المكابيّين الثاني عن موت أمّ مع أولادها السبعة، ويعمّم سفرُ المكابيّين الأوّل، فيتحدّث عن مذبح زوش في قلب معبد الإله الحيّ، الذي سُمّي »رجاسة الخراب«، عن مضايقة »كلّ من وُجد عنده سفر من العهد أو اتّبع الشريعة«، كان يُقتل بأمر الملك، وتُحرَق الأسفار. ويتابع: »كانوا يقتلون النساء اللواتي خَتنّ أولادهنّ، ويعلّقون أطفالهنّ في أعناقهنّ، ويقتلون أيضًا أقاربهنّ والذين ختنوهم« (1: 54-61).

حاول أنطيوخُس الرابع أن يستفيد من ثورات داخليّة في مصر، ليهاجمها. ولكنّ رومة منعته. وسوف تتدخّل رومة، فتبقي هذا »الرجل المريض« حيٌّا، إلى الوقت الذي فيه ستضع حدٌّا للحكم السلوقي سنة 64 ق.م.

4- تأثير أنطاكية والسلوقيّين في الشرق

تأسّست أنطاكية رسميٌّا في 22 أيّار سنة 300، فصارت أكثر مدن الشرق ازدهارًا، ولم تسبقها سوى الإسكندريّة. تحضّرت بالحضارة اليونانيّة في العمق، وأخذت بالآلهة اليونانيّة دون أن تنسى آلهة الشرق الذي تعيش فيه.

منها انطلق السلوقيّون فبنوا المدن العديدة، وسمّوها باسم أنطيوخس أو سلوقس أو لادوكيّة، امرأة أنطيوخس الثاني.

فبجانب أنطاكية سورية (سمّيت مدينة الله، تيوبوليس) التي هي اليوم مدينة تركيّة، التي عدّت نصف مليون نسمة تقريبًا، والتي فيها دُعي تلاميذ يسوع للمرّة الأولى مسيحيّين، كانت أنطاكية بسيدية التي هي اليوم بلواص، في تركيا. أسّسها سلوقس الأوّل حوالى سنة 280، وما عتَّمت أن صارت مدينة حرّة سنة 189. زارها بولس الرسول في الرحلة التبشيريّة الأولى، وألقى عظة في مجمعها (أع 13: 14-50).

نشير هنا إلى أنّ المدن التي تسمّت باسم أنطاكية عديدة. نذكر منها على سبيل المثال: أنطاكية على كراغوس، في إيسورية (ليكاؤونية). أنطاكية على مياندريس أو أنطاكية كارية، في تركيا، التي عُقد فيها مجمع إقليميّ سنة 366 أو 367. أنطاكية على بيراموم، قرب كراتاس في كيليكية الثانية.

ثمّ نذكر أكثر من سلوقية في هذه المملكة الواسعة التي امتدّت من البحر المتوسّط وحاولت أن تصل إلى الهند.

يذكر الكتاب المقدّس سلوقية البحريّة أو سلوقية جبل بيارية. منها انطلق بولس في رحلته الرسوليّة الأولى (أع 13: 4) فوصل إلى قبرص. كانت مرفأ هامًا من أجل التجارة الآتية من الشرق نحو اليونان وإيطاليا.

ففي أناتولية وحدها، أربع مدن بأسماء سلوقية: بسيدية، بمفيلية، كارية، فريجية. وهناك سلوقية على العاصي، ومدينتان في بلاد الرافدين، هذا عدا عن سلوقية التي على نهر دجلة. وفي سورية الجوفاء، ضمّ اسم سلوقية إلى اسمَي مدينتين من الدكابوليس (أو المدن العشر): أبيلية، جدارة. ومرفأ مدينة غزّة، في فلسطين، تسمّى أيضًا باسم سلوقس.

هنا نتذكّر السلوقيّة، التي امتدّت من سهل بابلونية إلى وادي حلب، إلى شاطئ البحر المتوسّط حتّى شاطئ كيليكية، وشكّلت مناطقُ بلاد الرافدين وسورية الطبيعيّة وكيليكية، النواة الاقتصاديّة والاستراتيجيّة والسياسيّة.

أمّا سلوقية بلاد الرافدين، فأسّسها سلوقس نيكاتور سنة 312، لتحلّ محلّ بابل كمركز سياسيّ وحضاريّ في بلاد الرافدين، ودُعيت بأكثر من اسم: سلوقية على دجلة، سلوقية بابلونية، سلوقية أشورية، سلوقية الفراتيّين. وسلوقية كيليكية أسّسها سلوقس الأوّل سنة 300، على نهر كاليكاداموس، فابتعدت ستة كلم عن الشاطئ. سُمّيت سلوقية تراخيوتيس (في إيسورية)، وكانت بداية »الطريق السريع« إلى أناتولية أو برّ الأناضول الحاليّ.

وكانت سلوقية فلسطين مدينة هلّينيّة في ما يُسمّى الجولان اليوم. سوف يحتلّها الإسكندر جنايوس، فما عادَ لها أهمّيّة تُذكر في زمن الرومان.

ومع سلوقية وأنطاكية، نذكر لاودكيّة أو اللاذقيّة التي هي اسم عدّة مدن هلّينيّة. نذكر لاودكيّة على ليكوس. تبعد 6 كلم عن دنيزلي (تركيا). هي مدينة في فريجية. أسّسها في القرن الثالث أنطيوخس الثالث، قرب هيرابوليس وكولوسّي. بشّرها أبفراس، تلميذ بولس، على ما يبدو (كو 4: 16)، وأرسل لها يوحنّا رسالة ترد بين الرسائل إلى الكنائس السبع (رؤ 1: 11؛ 3: 14-22). وهناك لاذقيّة (لاودكيّة) سورية، واللاذقيّة المحروقة، في بسيدية، ولاذقيّة لبنان التي تقابل تلّ النبيّ مند، وتقع جنوب بحيرة حمص، في فينيقية لبنان.

لماذا ذكرنا هذه المدن التي بناها السلوقيّون؟ لأنّها كانت مركز إشعاع للحضارة الهلّينيّة في الشرق الأوسط، مقابل الخصوصيّات المحلّيّة، سواء الدينيّة أو السياسيّة، أو العرقيّة والقبليّة. ونفهم هنا مثلاً رفْضَ العالم اليهوديّ لما أراد أن يفعله بشكل خاصّ أنطيوخس الرابع أبيفانيوس. ويجدر القول إنّ حركة الهلينيّة هذه سوف تتواصل، حتّى في زمن الاحتلال الرومانيّ. فبومبيّوس، مثلاً، فصل المدن العشر (ديكابوليس) الواقعة بمجملها في شرقيّ الأردنّ، عن مملكة اليهوديّة (الإسكندر جنايوس)، وجعل عليها حاكمًا سوريٌّا لكي يقوّي فيها العنصر الهلّينيّ، ويخلق حاجزًا في وجه المدّ الساميّ الآتي من اليهوديّة. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى المدن المؤسّسة في سورية وفينيقية وفلسطين. وكذلك في عمق بلاد الرافدين وصولاً إلى إيران الحاليّة. ونشير بشكل عابر إلى أنّ الأسرى المسيحيّين الذين أخذهم الساسانيّون من أنطاكية، لعبوا هم أيضًا دورًا في نقل الثقافة اليونانيّة وحضارتها، كما في نقل الإنجيل، لا سيّما وأنّ أسقفًا أنطاكيٌّا رافقهم في الأسر، فكانوا خميرة في عجين العالم الساميّ الذي سيطرت عليه اللغة الآراميّة بانتظار السريانيّة.

خاتمة

تلك نظرة إلى السلوقيّين الذين خلفوا الإسكندر في حكم الشرق، وجعلوا عاصمتهم أنطاكية. أرادوا أن يمتدّوا إلى الشرق، ولكنّهم توقّفوا عند حدود الهند، وأرادوا أن يمتدّوا نحو أوروبّا، فأُوقفوا في كيليكية من أعمال تركيا. وكانت حرب بينهم وبين البطالسة (في مصر)، انتهت بسيطرة السلوقيّين التي وصلت إلى حدود مصر. وأهمّ من الاحتلال العسكريّ، هناك الاحتلال الحضاريّ، وفيه حاول هؤلاء الملوك الذين تشرّبوا الحضارة اليونانيّة، أن يوحّدوا العالم في خطّ تطلّعَ إليه الإسكندر المقدونيّ، كما سبق الفرس وحاولوا. ولكنّ التأثير اليونانيّ لم يتعدّ المدن إلاّ قليلاً، وظلّت القرى والأرياف مطبوعة بالطابع الساميّ. من أجل هذا، توسّعت الكنيسة البيزنطيّة في المدن، في سورية ولبنان وفلسطين والأردنّ اليوم، وتجذّرت الكنيسة السريانيّة في الريف. بل إنّ أنطاكية نفسها احتفلت بالليتورجيّا في اللغة اليونانيّة، ساعة كان الريف المحيط بها يصلّي في السريانيّة. كلّ هذا المدّ الحضاريّ، انطلق من أنطاكية التي ما زالت تجمع في تراثها الروحيّ بطاركة العالَمين البيزنطيّ والسريانيّ، لأنّها انطلقت من حضارة آراميّة، فطعّمتها بالحضارة اليونانيّة، وهمّها أن تسيطر ثقافة واحدة في الشرق والغرب، أن تسيطر اليونانيّة على العالم الساميّ. غير أنّ المدّ العربيّ سوف يبدّل المعادلة، فتصبح أنطاكية عربيّة سنة 636، بانتظار أن تصبح تركيّة سنة 1939، في بداية الحرب العالميّة الثانية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM