الفصل الخامس عشر: ثاودورس بن قرَّة، ميمر في الحريّة

 

الفصل الخامس عشر

ثاودورس بن قرَّة، ميمر في الحريّة

هو ابن الرها، ويُرجَّح أنَّه وُلد سنة 755. يُعتبَر أوَّل لاهوتيّ كتب باللغة العربيَّة. هو ملكيّ المذهب. بعد دراسة الطبّ والمنطق والفلسفة ترهَّب في دير مار سابا بالقرب من القدس. عُيِّن أسقفًا لحرّان سنة 795، وتوفِّي نحو سنة 830. مؤلَّفاته عديدة: السجود للصور، في وجود الخالق والدين القويم... وها نحن نقدِّم »ميمر في الحرِّيَّة«.

جاء في ثلاثة أقسام. في الأوَّل يؤكِّد أبو قرَّة عدم وجود حتميَّة أو جبر لدى الله، وهكذا ردَّ على أتباع المذهب الجبريّ. وفي الثاني يحلِّل التعاليم المانويَّة ويدحضها. في القسم الثالث، يترك أبو قرَّة ماني يغوص في أفكاره الحمقاء والباطلة، ليواجه مشكلة علم الله المسبق وتأثيره في الحرِّيَّة الإنسانيَّة. أمّا نحن فنورد القسم الثاني بعد اتِّصال بالأب سمير خليل اليسوعيّ. فله وللمجلَّة شكرنا(1).

116 فنقولُ لك، يا ماني:

إن كان الجسدُ غالبًا على النفس،

يقهرُها، كقولِك،

117 فإنَّ النفسَ لا تقدرُ أن تمتنعَ عن الشرِّ،

أن تعملَه، ما دامتْ في الجسد.

* * *

118 وأنتَ، حيث جئتَ

تأمر الأنفسَ بالخير، وتنهاها عن الشرّ،

119 قد كان ينبغي لك، بدلَ هذا،

أن تستجيشَ من الطيب،

120 فتخلِّص الأنفسَ من الجسد،

وهي تكفيك المؤونة،

121 فلا تعملُ الشرَّ،

بل تعملُ الخير.

122 لأنَّ ذلك من سُوسِها.

123 فأمّا أن تجيءَ،

لتأمُرَ النفسَ بالخير، وتنهاها عن الشرّ،

وأنت تزعمُ أنَّها مقهورةٌ من الجسد،

124 فإنَّك إنَّما تُشبهُ رجلاً عمدَ إلى عقابٍ

قد أُوثقتْ أجنحتُه بالحبالِ الثخينةِ إلى جنبِه،

125 وقال له: »طرْ«،

من غير أن يفكَّ وثاقَه.

126 وأحرى بمَنْ فعل ذلك أن يكونَ هلَك.

فكفى بك منَ الحُمقِ غايةٌ.

* * *

127 والعجبُ من جهلِك، يا ماني

إنَّك تعتدُّ حجَّةً لتُحقِّقَ الكونَين،

اللذين أبدعتَهما من طغيانِ قلبك،

128 بما قال إنجيلُنا المقدَّس:

»إنَّها لا تستطيع الشجرةُ الطيِّبةُ

أن تجعلَ ثمارًا رديئة،

129 ولا الشجرةُ الشرّيرة

تستطيع أن تجعلَ ثمرًا طيِّبًا«.

130 ثمَّ تقولُ »إنَّ الأنفسَ من الجوهرِ الطيِّب،

وإنَّها تعملُ الشرَّ مع الأجساد«.

131 إنَّ قولَك لخلافُ

ما تأوَّلتْ عليه كلمةُ الإنجيل.

* * *

132 فلعمري، لئن كانَ الطيبُ

لا يستطيعُ أن يعملَ الشرَّ،

133 فإنَّه ينبغي للأنفسِ التي هي من جوهرِ الطيبِ

ألاَّ تعملَ الشرَّ مع الجسد،

لا كما قد تقولُ أنتَ (أنَّها تعمل).

134 وإن كانت النفسُ لا تعملُ شرٌّا البتَّة،

لا خارجًا عن الجسد، ولا مع الجسد،

كما تأوَّلتْ عليه كلمةُ الإنجيل،

135 فما أدري كيف جئتَ أنت، يا خائب،

أن تأمرها بالخيرِ وتنهاها عن الشرّ.

136 ما هذا إلاَّ شبيهٌ

بأن يأمر الإنسانُ الشمسَ في الظهيرة،

137 فيقولُ لها: »أنيري، يا شمسُ«.

وهذا الحمقُ بعينِه!

138 فأمّا الجسدُ، فإنّي لا أظنُّ لك إليه سبيلاً

أن تأمرَه بالخير وتنهاه عن الشرّ،

139 إذ تزعم أنَّه من جوهرِ الشرّ،

140 وتقولُ، على تأويلك كلمة الإنجيل،

إنَّ الشرّير لا يستطيعُ أن يعملَ الخير.

141 وإلاَّ، أشبهتَ من يتملَّقُ النارَ

أن تبردَ، وألاَّ تحرُق.

142 فعلى كلِّ حال، أمرُك ونهيُك ليس يُشبِهُ

ما قد تأوَّلتْ عليه كلمةُ الإنجيل.

* * *

143 ولكنْ كلمةُ الإنجيل

إنَّما عنى بها المسيحُ إلهنا

النيَّةَ الطيِّبةَ والنيَّةَ الشرّيرة.

144 واعلمْ أنَّ النيَّة الحسنةَ

لا تعملُ عملاً قبيحًا،

145 والنيَّةَ القبيحةَ لا تعملُ عملاً حسنًا.

146 وذلك حقّ،

ما دامتِ النيَّةُ الحسنةُ حسنة،

والنيَّة القبيحةُ قبيحة.

147 غير أنَّه لم يقلْ إنَّ النيَّة القبيحةَ

لا تقدرُ أن تتغيَّر، فتصيرَ حسنة؛

148 ولا إنَّ النيَّةَ الحسنة

لا تستطيع أن تتحوَّلَ، فتكونَ قبيحة.

149 بل قد دلَّ، في تعليمه كلِّه، على تغييرِ النيَّة

عن كلِّ واحدة من الحالين إلى صاحبها.

* * *

150 وإنَّما يشبِهُ (ماني)، في قوله هذا، رجلاً قال:

»إنَّه لا يستطيع النائمُ أن يقرأ صحيفته،

ولا النبهانُ يستطيعُ أن يرى حلمًا«.

151 والأمرُ على ما قال،

ما دام النائمُ نائمًا، والنبهانُ نبهانًا.

152 ولكنْ قد يتغيَّر النائم، فيكونُ نبهانًا،

ثمَّ يستطيعُ أن يقرأ صحيفته؛

153 ويتغيَّر النبهان، فيكون نائمًا،

ثمَّ يستطيعُ أن يرى حلمًا.

154 كذلك تستطيعُ النيَّةُ الحسنةُ

أن تتغيَّر عن حالها الحسنة،

155 فتكونَ قبيحة،

ثمَّ تعملُ أعمالاً رديئة.

156 وتستطيعُ النيَّةُ القبيحة

أن تتغيَّر عن حال قبحها،

157 فتكون حسنة،

ثمَّ تعملُ أعمالاً طيِّبة.

158 كما قال يوحنّا المعمدانُ لأحبار اليهود:

»يا أولاد الأفاعي،

159 من أرشدكم إلى أن تهربوا من الرجز الآتي.

اعملوا أعمالاً تشاكلُ التوبة«.

160 ألا ترى أنَّه سمّاهم أولادَ الأفاعي،

وطلب منهم أعمالَ التوبة؟

161 لأنَّ بمشيئتهم صاروا أولاد الأفاعي،

وبمشيئتهم يقدرون أن يتحوَّلوا عن حالهم،

فيعملونَ أعمالَ التوبة.

* * *

162 ولكنَّ ماني، إنَّما يتمايل تمايلَ السكران،

الذي، حيثما مال، صرع.

163 فإن كان ما يتأوَّلُ عليه كلمةُ الإنجيل حقٌّا،

فقولُه »إنَّ الأنفس تعملُ الشرَّ مع الأجساد« باطل.

164 وإن كان قوله »إنَّ الأنفس تعملُ الشرَّ مع الأجساد« حقٌّا،

فما تأوَّل عليه كلمةُ الإنجيل باطل.

165 وعلى كلِّ حال،

إن كانت الأنفسُ لا تستطيعُ أن تعملَ الشرَّ،

أو إن كانت مقهورةً أن تعملَ الشرّ،

166 فمجيءُ ماني إليها ظلٌّ،

وأمرُه إيّاها ونهيُه أحمقُ الحمقِ وأخيبُ الخيبة.

167 ليت شعري، أكان لك جسد،

يا ماني، أم لا؟

168 فإن زعمتَ أنَّه كان لك جسد

كسائرِ الناس،

169 فقد كانت نفسُك مقهورة،

لا محالة، من جسدك،

170 أن تعملَ الشرَّ،

الذي هو عملُ الجسد، بزعمِك.

171 ولا تستطيعُ أن تكونَ صالحًا.

كما قد كنتَ في كلِّ نحوٍ من الفسق تامٌّا.

172 وكنتَ كاذبًا،

لأنَّ الكذب نوعٌ من الشرّ.

173 وإذ كنتَ كاذبًا،

فقولُك كلُّه باطل، لا محالة.

174 وإن زعمتَ أنَّ قولك ليس بباطل،

فإنَّ جسدك إذنْ لم يقهَرْ نفسك،

175 ولم يحملها على الكذب

الذي هو من سوسِه.

176 بل هي قهرتِ اللسان،

الذي هو عضوٌ من الجسد،

حتّى نطقَتْ بالحقِّ عليه.

177 وصار قولُك يُبطِلُ نفسه.

* * *

178 وأشبهتَ رجلاً يدَّعي أنَّه أخرس،

لا يقدرُ أن ينطقَ بلسانه للناس،

179 ويقولُ: »ألا فاعلموا، أيُّها الناس،

إنّي أخرس، لا أستطيع أن أنطق«.

180 فدعواه هي التي تُبطلُ نفسَها.

181 كذلك أنت، يا ماني،

قولُك يُبطِلُ نفسه،

182 حيث تزعم أنَّه كان لك جسد،

وأنَّ الجسد قاهر للنفس، يحملها على خصاله،

183 ثمَّ تقول:

»إنَّ ما نطق به لسانُك حقّ«.

184 وعلى كلِّ حال،

قد صار قولُك مردودًا:

185 إن زعمتَ أنَّه كذب،

وإن زعمتَ أنَّه حقّ.

186 وكفى بما قد وقعتَ به جهلاً.

* * *

187 وإن زعمتَ أنَّه لم يكن لك جسد،

وأنَّك مشيتَ في غير الشرّير،

188 فالعجبُ كيف لم يأخذْك،

فيحبسك في بعضِ أجساده.

189 إذ كان قد سبى الأنفسَ التي من جوهرِك،

من جوف محلَّتها،

حتّى حبسها في أجساده.

190 فإنَّه أولى، إذ قد قطنتَ ببلاده،

أن يجدك صيدًا عتيدًا،

فيحبسُك في أجساده.

* * *

191 فإذ لم يفعل ذلك،

فهو أحدُ اثنين:

192 إمّا أن يكون عجزَ عنك،

وإمّا أن يكون قد حلم.

193 فإن كان قد عجزَ عنك،

فإنَّه كان ينبغي للطيب الذي تعتدُّ أنَّه يأمرُك

194 بإنقاذِ الأنفس من أيدي الشرّير،

ليُريحها من سجونه؛

195 أو يضُمَّ إليك قوَّةً أخرى من قوَّته،

حتّى تفعلَ ذلك بلا كُلفة.

196 وإن كان الخيرُ تركَ الأنفس،

عن عمدٍ، بيد الشرّير،

197 فليس الشرّير بأسوأ صنعًا إلى الأنفس،

من حيث يقدرُ أن يخلِّصَها من يديه، ولم يفعل.

198 وإن كان هذا رأيه،

فإنَّه كان غنيٌّا عن إرسالك إليها.

199 وإن كان الشرّير حلمَ عنك،

فهو قادرٌ أن يأخذك.

200 فهو في هذه الحال خير.

* * *

201 وحزبك، يا ماني، كلُّه،

الذين لا نشكُّ أنَّ لهم أجسادًا،

202 فهم، من قِبَلِ تعليمك هذا،

لا محالة، يعملون الشرَّ كلَّه،

203 الذي هو، بزعمك،

من سُوسِ أجسادِهم الغالبة على أنفسهم.

204 ولا يرعوون من القتلِ والزناء والسرقة،

والكذب، وغيرِ ذلك من أنواع الشرّ.

205 وكان قولُك خليقًا أن يتحقَّق،

لو لم يكن في الدنيا غيرُ أهلِ ملَّتك.

206 لأنَّهم لم يقبلوا تعليمك،

إلاَّ ليُزيلوا الورعَ عن قلوبهم.

207 فلا يمتنعون من شهوةٍ تتوقُ إليها نفوسُهم،

كائنةً ما كانت.

208 وإن بدا من أحدهم صلاح،

فصلاحه مبطِلٌ لما ينتحِلُ من دينه، لا محالة.

* * *

209 وأمّا غيرُ حزبك، يا ماني، من أهلِ الحقّ،

فإنّا نراهم تُذلُّ أجسادُهم لأنفسِهم، لحُسنِ نيّاتهم.

210 وهذا الجسد، الذي تقولُ أنتَ

إنَّه شرّير، غلبَ على النفس،

211 قد نراهُ يصومُ ويصلّي،

وتسعى رجلاه في عيادةِ المرضى،

212 وتتقلَّبُ يداه في إعطاء الصدقةِ

وخدمةِ أهل السُقمِ والضعف.

213 ولسانُه ينطقُ بالحقِّ والرشد؛

وعينه تصُدُّ عن النظرِ المريب.

214 وتحيدُ مسامعه عن المنطقِ السوء.

215 وكلُّ واحد من حواسِّه

ينصرفُ عن معصيةِ الله.

216 وهو قدسٌ كلُّه،

عند من أحسنَ سياسته، وصدَّ عن تعليمك،

217 وأقام نيَّته بالتعليم الحقّ،

الذي هو إنجيلُ المسيحِ المقدَّس،

ابنِ مريم العذراء.

218 ولا تقتصرُ النفسُ من الجسد

أن تجعله تبعًا لحُسنِ نيَّتها الباطنة فقط،

من شدَّة قدرتها عليه،

219 حتّى تُتعِبه في الخير الظاهر على سماعه،

من نيَّتها الداخلة.

220 فيصيرُ الأمرُ بالعكس،

خلافًا لقولك، يا ماني،

221 ويبقى الجسدُ يعملُ الخير

والنفسُ تنوي الشرّ.

222 ولا نريدُ أن نطنِبَ في قولِ ماني،

فنخرجَ من سمَتِنا.

223 لأنّا، لو ذهبنا أن نتفرَّغَ إلى صحيفته

إذًا لوضعنا مصاحفَ كثيرة

224 نبدي فيها منه أسمجَ السماجة

وأحمقَ الحُمق.

225 فلعمري، إنَّه ليس التائهُ في منامه

بأضلّ، فيما يرى من أحلامه،

من ماني فيما كان يتوهَّمُه عقله.

226 وإنَّما عارضنا قوله أدنى معارضة

لمشاكلته قولَ من يريدُ إبطال الحرِّيَّة

في إدخال القهرِ عليها.

227 وقد يَحقُّ علينا أن يمضي قولُنا في سبيله،

حتّى يتمَّ على جهتِه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM