الفصل التاسع : كيرلس الأورشليمي، في وحدانية اللّه

الفصل التاسع

كيرلس الأورشليمي، في وحدانية اللّه(*)


»... إنَّما الله فيك وليس آخر، ليس إله غيرَه. إنَّك الإله

متحجِّب، يا إله إسرائيل المخلِّص... إنَّكم لا تخزون

ولا تخجلون إلى دهور الأبد، لأنَّه هكذا قال الربُّ خالق

السماوات، الله جابل الأرض وصانعها... إنّي أنا الربُّ

وليس آخر« (إش 45: 14-18)

1. للآب والابن مجد واحد

»تبارك إله ربِّنا يسوع وأبوه« (2 كو 1: 3؛ رج يو 20: 17)؛ تبارك ابنه الوحيد (رو 9: 5)؛ لأنَّنا عندما نفكِّر في »الله« نفكِّر بنفس الوقت في »الآب«، لكي نحتفي بشكل لا يتجزَّأ بتمجيد الآب والابن (مع الروح القدس). إذ ليس للآب مجد وللابن مجد آخر، بل هو المجد الوحيد نفسه (مع الروح القدس). وبما أنَّ الابن هو الابن الوحيد للآب، فعندما يُمجَّد الآبُ يشترك الابنُ في هذا المجد ذاته. وبما أنَّ مجد الابن مستمدٌّ من كرامة الآب (أم 17: 6)، فعندما يمجَّد الابن إذن، يكرَّم الآب الكليّ الصلاح تكريمًا عظيمًا.

2. الله فوق كلِّ إدراك

إنَّ الذهن يدرك ذلك بسرعة؛ لكنَّ اللسان في حاجة إلى كلمات ووسائل أخرى عديدة. تحيط العين بعدد كبير من الكواكب دفعة واحدة؛ ولكنَّنا إذا أردنا أن نصف كلَّ كوكب منها، وأن نعرِّف ما هو كوكب الصباح وما هو كوكب المساء، وما هو كلِّ كوكب، فإنَّنا في حاجة عندئذٍ إلى كلمات كثيرة. ويدرك الذهنُ كذلك، في لحظة واحدة، الأرضَ والبحر وجميع آفاق الكون. وما يدركه في لحظة يستلزم الكثير من الكلام للتعبير عنه. هذا المثل الذي قدَّمتُه عظيم، ولكنَّه ضعيف لا يفي بالمطلوب؛ لأنَّما ما نقوله عن الله، ليس ما هو خاصٌّ به (لأنَّ ذلك معروف منه وحده)، بل ما يمكن أن تحويه طبيعتُنا البشريَّة، وما يستطيع أن يتحمَّله ضعفُنا. في الواقع إنَّنا لا نعبِّر عمّا هو الله، بل عمّا لا نعرفه عنه على وجه الضبط. إنَّنا نعترف بذلك بكلِّ بساطة، لأنَّ الاعتراف بالجهل في الأمور الإلهيَّة لَعلم عظيم. »عظِّموا الربَّ معي ولنرفع اسمه جميعًا« (مز 34: 4). أجل، فلنفعل ذلك جميعًا، لأنَّ فردًا واحدًا لا يكفي؛ وحتّى عندما نتَّحد جميعًا لا يمكنّا أن نفعله كما ينبغي. وأنا لا أتكلَّم عنّا نحن الحاضرين هنا، بل عن الكنيسة الجامعة، عن الكنيسة القائمة الآن والكنيسة المقبلة. فليجتمع القطيع بأسره، ومع ذلك سيكون عاجزًا عن أن يفي الراعيَ حقَّه من المديح.

3. إبراهيم يعترف أمام الله بأنَّه تراب ورماد

كان إبراهيم رجلاً عظيمًا ومحترمًا؛ كان عظيمًا بين البشر. ولكنَّه عندما اقترب من الله اعترف بتواضع: »أنا تراب ورماد« (تك 18: 27). لم يقل »أنا تراب« ثمَّ سكت. كمن كان يريد أن يلمِّح بأنَّه كان عنصرًا عظيمًا، ولكنَّه أضاف »ورماد« ليعلن بذلك عن ضعفه ونتانته. هل يوجد أحطَّ من الرماد وأنعم منه؟ قارن الرماد بمنزل، والمنزل بمدينة، والمدينة بمقاطعة، والمقاطعة بالإمبراطوريَّة الرومانيَّة، والإمبراطوريَّة الرومانيَّة بكلِّ الأرض في حدودها، والأرض كلَّها بالسماء التي تحيط بها! والمقارنة بالسماء أشبه ما تكون بمقارنة النقطة المركزيَّة بمحيط المدار. واعلم أنَّ السماء الأولى التي نراها أصغر من الثانية، والثانية أصغر من الثالثة. (ذكر الكتابُ هذه السماوات ]2 كو 12: 2[ لا لأنَّها هي وحدها التي توجد، بل لأنَّنا لم نُمنح الآن إلاَّ معرفة هذه السماوات)، وحتَّى هذه السماوات التي لا نعرفها، لا تستطيع أن تتغنّى بتسابيح الله كما ينبغي، فهل في استطاعة التراب والرماد، وهما من أحطِّ ما في الوجود، أن يُسبِّحا الله كما ينبغي وأن يتحدَّثا بلياقة عن الله الذي يمسك بيده كرَّة الأرض ويعتبر سكّانها كالجراد؟ (إش 40: 22).

4. الطبيعة تفوق إدراك الإنسان فكم بالأحرى الله!

إذا حاول أحد أن يتحدَّث عمّا يخصُّ الله، فليتحدَّث أوَّلاً عن حدود الأرض. أنت تسكن الأرض ولا تعرف حدودها، فمن أنّى لك أن تعرف بجدارةٍ صانعَها؟ أنت ترى الكواكب، ولكنَّك لا ترى خالقها. إحصِ عدد ما تراه، وعندئذٍ يمكنك أن تفسِّر ما لا تراه؛ »ذلك الذي يحصي عدد الكواكب ويدعو كلَّها بأسمائها« (مز 147: 4). لقد هطلتْ أخيرًا أمطار غزيرة وتلاشت قطراتها بأقلِّ من لمح البصر؛ فأحصِ إذا استطعت القطرات التي سقطت على المدينة، وأنا لا أقول على المدينة، بل على سطح منزلك لمدَّة ساعة. أحصها إن استطعت. وإن لم تستطع اعترف بضعفك، واعترف كذلك بقدرة الله، لأنَّه »يحصي قطرات المطر« (أي 36: 27) التي سقطت على الأرض، ليس الآن فقط بل في الأزمنة كلِّها. الشمس من صُنع الله وهي كبيرة، ولكنَّها إذا قورنت بالكون تبدو صغيرة للغاية. فحاول أن تدرك الشمس أوَّلاً، ثمَّ ابحث في أمور الربّ. »لا تطلب ما يُعييك نيله ولا تبحث عمّا يتجاوز قدرتك، لكن ما أمرَك الله به، فيه تأمَّل« (سي 3: 22).

5. تبرير علم اللاهوت

وربَّ معترضٍ يقول: إذا كانت الطبيعة الإلهيَّة لا يمكن إدراكها، فلماذا تتحدَّث عنها؟ فهل لأنّي لا أستطيع أن أشرب النهر كلَّه، ألا يمكنّي أن آخذ منه حاجتي؟ وهل لأنَّه ليس في سعة العيون كلِّها استيعاب الشمس كلِّها، ألا أستطيع أن أنظر إليها ما فيه الكفاية لفائدتي الخاصَّة؟ وإذا دخلتُ حديقة عظيمة ولم أقدر أن آكل من كلِّ ثمارها، فهل تريد أن أخرج منها جائعًا؟ إذن لأُسبِّح خالقنا وأمجِّده، لأنَّ هذه الكلمة الإلهيَّة أمر: »كلُّ نسمة فلتسبِّح الربّ« (مز 150: 6)؛ وأنا أسعى الآن إلى تسبيح الربِّ لا إلى تفسيره. وبما أنّي أعلم أنّي لا أستطيع أن أفيه حقَّه من التسبيح، فأنا أبذل ما في وسعي للقيام بعمل التقوى هذا، لأنَّ الربَّ يسوع يعزّيني عن ضعفي عندما يقول: »الله لم يرَه أحد قطّ« (يو 1: 18).

6. الله يسمو على الملائكة، فكيف لا يسمو على الإنسان؟

وربَّ معترض يقول: ماذا إذن؟ ألم يُكتب: »إنَّ الملائكة الصغار في السماوات يشاهدون أبدًا وجه أبي الذي في السماوات«؟ (مت 18: 10). أجل، إنَّ الملائكة ترى الله، ولكن ليس كما هو، بل بحسب ما في وسعها؛ إذ يسوع ذاته يقول: »لا أنّ أحدٌّا رأى الآب، بل من أتى من لدن الآب، هو الذي رأى الآب« (يو 6: 46). إنَّ الملائكة ترى إذن بحسب ما في وسعها، ورؤساء الملائكة يرون بحسب ما في قدرتهم، والعروش والسلاطين يرون أحسن من السابقين، ولكن لا كما ينبغي. والوحيد الذي يمكن أن يراه كما ينبغي - فما عدا الابن - هو الروح القدس، »لأنَّه يفحص كلَّ شيء ويعرف حتّى أعماق الله« (1 كو 11: 10). وكما أنَّ الابن الوحيد يعرف الآب كما ينبغي، كذلك يعرفه الروح القدس؛ إذ يقول يسوع: »ما من أحد يعرف الآب إلاَّ الابن، ومَن شاء الابن أن يكشف له« (مت 11: 27). إنَّه يرى الله كما ينبغي ويكشف عنه مع الروح القدس، وبالروح القدس، بحسب قدرة كلِّ واحد. وبما أنَّ الابن الوحيد يشترك في لاهوت الآب مع الروح القدس، فهو الذي وُلد منذ الأزل بعيدًا عن كلِّ هوى (2 تم 1: 9)، يعرف والده ويعرف الآبُ مولوده. الملائكة لا يعرفونه (لأنَّ الابن الوحيد يكشف عنه مع الروح القدس وبواسطته، بحسب قدرة كلِّ واحد كما قلنا ذلك). فلا يخجل الإنسان إذن بالاعتراف بجهله. أنا أتكلَّم الآن، والجميع يتكلَّمون كلٌّ في حينه، أمّا كيفيَّة الكلام فلا أعرفها. فمن أنّى لي أن أفسِّر ذلك الذي وهبني الكلام نفسه؟ أنا الذي أملك روحًا لا أستطيع أن أصف كلَّ مميزّاتها، فمن أنّى لي أن أفسِّر ذلك الذي أعطاني النفس؟

7. الله مساوٍ لذاته

يكفي تقوانا أن نعرف فقط أنَّ لنا إلهًا، وهذا الإله واحد كائن منذ الأزل، يشبه ذاته على الدوام، وليس هناك أب غيره، ولا أحد أقوى منه، بحيث إنَّه لن تنازعه خليفةٌ مُلكَه. إله له أسماء متعدِّدة، قدير لا يتغيَّر جوهره. وليس لأنَّه يُدعى صالحًا وعادلاً وقديرًا وصباؤوت يعني أنَّه يتغيَّر ويتنوَّع، ولكنَّه واحد هو هو ويُظهر طاقات لاهوته بألف كيفيَّة. لا زيادة فيه ولا نقص، بل هو مشابه لنفسه في كلِّ شيء. فهو ليس عظيمًا في الصلاح فقط مع بقائه قليل الحكمة، ولكنَّ قدرته متساوية في الحكمة والصلاح. إنَّه لا يرى من جهة دون أخرى، بل كلُّه عين وكلُّه أذن وكلُّه ذهن. إنَّه ليس مثلنا يعرف شيئًا ويجهل آخر، فمثل هذا القول تجديف لا يليق بجوهر الله. إنَّه يعرف الكائنات قبل كيانها، قدّوس هو وقدير، يفوق الكائنات كلَّها في السموِّ والعظمة والحكمة؛ ونحن لا نستطيع أن نتكلَّم عن مبدئه وشكله ونوعه، إذ يقول الكتاب: »وأنتم لم تسمعوا صوته قطّ ولا رأيتم وجهه« (يو 5: 37). وهكذا قال موسى لآل إسرائيل: »احتفظوا لأنفسكم جدٌّا أنَّكم لم تروا صورة« (تث 4: 15). فإذا كنّا لا نستطيع أن نتصوَّر له شكلاً، فكيف يستطيع ذهننا أن يدرك طبيعته؟

8. التصوُّرات الخاطئة عن الله

تصوَّر الناسُ اللهَ بصور مختلفة، ولكنَّهم أخطأوا جميعًا: فحسبَه البعضُ نارًا (حك 13: 2) والبعض رَجلاً مجنَّحًا. بحسب ما هو مكتوب - إذ أساؤوا فهم العبارة القائلة: - »وبظلِّ جناحيك استرني« (مز 17: 8)، ناسين قول ربِّنا يسوع المسيح في حديثه إلى أورشليم: »كم من مرَّة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا« (مت 23: 37)؛ ذلك أنَّهم أخذوا معنى كلامه حرفيٌّا فاعتبروا الذي لا يقع تحت حسٍّ إنسانًا. وتجرَّأ آخرون على القول إنَّ لله سبعَ أعين بحسب ما هو مكتوب: »هذه هي سبع أعين الربِّ الجائلة في الأرض كلِّها« (زك 4: 10). فلو كان لله أعين سبع لكان نظره جزئيٌّا لا يقع على كلِّ شيء. ومثل هذا القول عن الله تجديف، إذ من الواجب أن نعتقد أنَّ الله كامل في كلِّ شيء، كما يعلِّمنا يسوع المسيح بذلك: »إنَّ أباكم الذي في السماوات هو كامل« (مت 5: 48): كامل في الرؤية، كمامل في القوَّة، كامل في العظمة، كامل في علم المستقبل، كامل في الصلاح، كامل في العدل، كامل في الرحمة. لا يحدُّه مكان بل هو يخلق كلَّ مكان ويُوجَد في كلِّ مكان. عرشه السماء، ولكنَّه يعلو عليها، »والأرض موطئ قدميه« (إش 66: 1؛ أع 7: 49)، وتمتدُّ قوَّته إلى ما تحت الأرض.

9. الله يفوق إدراك البشر

الله الأوحد يُوجَد في كلِّ مكان ويَرى كلَّ شيء، ويَخلق كلَّ شيء بالمسيح إذ »كلٌّ به كوِّن، وبغيره ما كان شيء« (يو 1: 3). إنَّه ينبوع كلِّ صلاح ونهر خيرات لا ينضب، ونور أزليّ يسطع على الدوام، وقوَّة لا تعرف الكلل في تحمُّل أسقامنا وزلاّتنا بينما نحن عاجزون على حمل اسمه. »ألعلَّك تدرك غور الله، يقول أيّوب: أم تبلغ إلى قياس القدير؟« (أي 11: 7). فمن أنّى لك أن تدرك صانع الأشياء كلِّها؟ »ما لم تره عين ولا سمعت به أذُن ولا خطر على قلب بشر ما أعدَّه الله للذين يحبّونه« (1 كو 2: 9؛ إش 64: 4). إن كان ما أعدَّه الله يفوق أذهاننا، فكيف يمكننا أن ندرك مَن أعدَّ هذه الأشياء لأذهاننا؟ »ما أبعد غور غِنى الله وحكمته وعلمه، يقول بولس الرسول، ما أعسر إدراك أحكامه وتبيُّن طرقه!« (رو 11: 33).

10. في تعدُّد الآلهة

إنَّ الله من العظمة بحيث لو إنّي تحوَّلت كلِّي إلى لسان لما استطعت التحدُّث عنه كما يليق. وحتّى لو اجتمعت الملائكة بأسرها، لَما استطاعت أن تمجِّده كما يستحقّ. ومع أنَّ هذا الإله في منتهى الصلاح والعظمة، فقد تجاسر الإنسان أن يقول للحجر الذي نحته: »أنت إلهي« (إش 44: 17). فيا للعمى المريع الذي يهوي بالإنسان من عظمة هذا قدرها إلى انحطاط هذا عمقه! الخشب الذي خلقه الله وسقاه بالمطر، وسوف تحرقه النار وتحوِّله إلى رماد، هذا الخشب يُدعى الله، والله الحقيقيّ يُزدرى به. لقد تجاوزتْ خباثةُ الوثنيَّة الحدود: فقد عبدت القطَّ والكلب والذئب بدلاً من الله؛ والأسد الذي يفترس الإنسان، عُبد بدلاً من الله محبِّ البشر. وعُبد الثعبان والتنّين اللذان كانا سبب خسراننا الفردوس، ممّا أدى بنا إلى الابتعاد عن خالق الفردوس! إنَّني أخجل أن أقول - ومع ذلك سأقول - إنَّ البعض عبدوا النبات، وأُعطي الخمرُ ليفرح قلب الإنسان (مز 104: 15)، فعُبد »باخوس« بدلاً من الله. وخلق الله القمح عندما قال: »لتنبت الأرض نباتًا عشبًا يبزر بزرًا بحسب صنفه« (تك 1: 11). حتّى »يسند الخبزُ قلبَ الإنسان« (مز 104: 15)، كيف تُعبد »سيريس«؟ وكيف أنَّ النار التي تتولَّد من احتكاك الأحجار، لا تزال تكرَّم حتّى اليوم؟ وكيف يُعتبَر »فولكان« صانعَ النار؟

11. تعدُّد الآلهة يدعو إلى مجيء الابن

فمن أين أتى تعدُّد الآلهة عند اليونانيّين؟ اللهُ لا جسد له، فكيف ينسبون الزنى إلى الذين يسمُّونهم آلهة؟ إنّي أضرب صفحًا عن تحوُّل »جوبتير« إلى بجعة، وأخجل من الإشارة إلى تحوُّله إلى ثور، لأنَّ عجيج الثور لا يليق بإله! لقد وُجد إله الإغريق زانيًا، فلم يخجلوا منه؛ ولكن إن كان زانيًا فهو ليس إذن بإله. إنَّهم يتحدَّثون عن موت آلهتهم، وعن أهوائهم وغيرتهم بعضهم من بعض؛ فانظر من أيَّة كرامة سامية سقطوا! هل نزل ابن الله من السماء بدون سبب؟ ألم يأتِ ليشفي جرحًا كان هكذا عظيمًا؟ جاء الابن ليُخبر عن الآب، فهل كان مجيئه باطلاً لذلك؟ لقد عرفتَ ما هو الدافع الذي حدا بالابن إلى النزول من عن يمين الآب. كان الآب غير معروف، فكان لا بدَّ للابن من أن يصلح الأمر. كان لا بدَّ للذي »به كان كلُّ شيء« (يو 1: 3)، أن يقدِّم لربِّ الكون الخليقةَ بأسرها. كان لا بدَّ من شفاء هذا الجرح. هل كان هناك ما هو أخطر من هذا المرض: أن يُعبد الحجر بدلاً من الله؟

12. خطأ الثنائيَّة

لم ينشر الشيطان هذه الأباطيل عند الوثنيّين وحدهم، ولكن بين كثير ممَّن يدَّعون زورًا بأنَّهم مسيحيّون، مستغلِّين اسمَ يسوع العذب، ليحاولوا، بكلِّ كفر، أن يفرِّقوا بين الله وخلائقه. إنّي أتحدَّث عن أبناء الهراطقة بأنَّهم أصدقاء المسيح، ولكنَّهم في الواقع أعداؤه. لأنَّ الذي يجدِّف على أبي المسيح هو عدوّ الابن أيضًا. لقد تجرَّأوا ونادوا بإلهين: إله للخير وإله للشرّ. يا لَلعمى المريع! إن كان هناك إله، فهو لا يمكن أن يكون إلاَّ إلهًا صالحًا، إذ هو، إن لم يكن صالحًا، فلا يمكن تسميته إلهًا، لأنَّ الصلاح هو من خصائص الله. وبما أنَّ الله وحده يخصُّه الصلاح والخير والقدرة، فلا بدَّ لهم من الاختيار بين أمرَين: فإمّا أن يتوجَّهوا إلى الله لقدرته، أو أن يجرِّدوه من كلِّ قدرة، وبالتالي فلا داعي لهم للتوسُّل إليه.

13. سخافة الثنائيَّة

وقد تجرَّأ الهراطقة على المناداة بوجود سماوين، ومصدرين للخير والشرّ، وأنَّهما غير مولودين، فإن كانا غير مولودين فهما متساويان في كلِّ شيء. فكيف إذن يبدِّد النور الظلام، وبأيَّة كيفيَّة هما متَّحدان أو منفصلان؟ لا يمكنهما أن يكونا متَّحدين، إذ يقول الرسول: »أيَّة علاقة للنور بالظلمة؟« (2 كو 6: 14)؛ وإن كان أحدهما منفصلاً عن الآخر، فلا شكَّ في أنَّ كلاهما يحتلُّ مكانًا مستقلاٌّ عن الآخر، وإن كانا يقيمان في مكان واحد، فلنا إذن إله واحد، ونحن نعبد إلهًا واحدًا. وعليه يجب أن نستخلص من ذلك أنَّنا إذا سايرناهم في جنونهم، فإنَّنا ننتهي إلى عبادة إله واحد. لنسألهم عمّا يقولون في صدد الإله الصالح: هل هو قدير أم غير قدير؟ إن كان قديرًا فكيف لا يستطيع أن يسحق الشرَّ؟ وكيف يتأتّى الشرُّ على الرغم من إرادته؟ إن كان هو يراه ولا يستطيع أن يمنعه، فلا بدَّ أنَّهم ينسبون إليه العجز؛ وإن كان يستطيع أن يمنعه ولا يفعل، فهو إذن خائن. فانظر إذن إلى جنونهم: إنَّهم يدَّعون أحيانًا أنَّ إله الشرِّ لا علاقة له بالإله الصالح فيما يختصُّ بالخليقة. ويقولون أحيانًا إنَّ له ربع العالم. ويقولون كذلك إنَّ الإله الصالح هو أبو المسيح، ويسمُّون المسيح هذه الشمس. ولكن إذا كان العالم - حسب عقيدتهم - ناشئًا عن إله الشرّ، وإذا كانت الشمس في العالم، فكيف يمكن لابن الله الصالح أن يخدم مُكرَهًا إله الشرّ؟ إنَّنا نتلوَّث بالحديث عن هذه الأشياء. ولكنَّنا نتحدَّث عنها حتّى لا يسقط أحد من الحاضرين هنا في حمأة الهراطقة عن جهل. إنّي أعلم أنَّ فمي قد تلوَّث، وكذلك آذان الذين يستمعون. ولكنَّ الموضوع لا يخلو من فائدة، إذ من الأفضل أن نحدِّثكم عن عقائد الآخرين الخرقاء، على أن ندعكم تسقطون فيها عن جهل. إنَّ عقيدة الهراطقة الكافرة عديدة الشُعب؛ وعندما يضلُّ أحدٌ طريق التقوى، ينساق إلى إحدى شُعَبها.

14. سيمون الساحر مصدر كلِّ هرطقة

إنَّ سيمون الساحر مصدر كلِّ هرطقة، هذا الذي جاء عنه في أعمال الرسل (8: 18-21) أنَّه أراد أن يشتري بالمال نعمة الروح القدس المجّانيَّة؛ فسمع هذا القول: »لا حظَّ لك في هذا الأمر ولا نصيب« (أع 8: 21). وعنه جاء كذلك: »خرجوا من عندنا ولم يكونوا منّا، ولو كانوا منّا لظلُّوا معنا« (1 يو 2: 19). فهذا الرجل، بعدما طرده الرسل، جاء إلى رومة حيث استمال إليه زانية اسمها »هيلين«، وتجاسر على الادِّعاء، مجدِّفًا، بأنَّه هو الذي ظهر على جبل سيناء كآب، ثمَّ ظهر لليهود كيسوع المسيح، لا في جسد حقيقيّ بل في ظاهر جسد، وأخيرًا كالروح القدس الذي وعد المسيح بإرساله كمُعزٍّ. لقد خدع مدينة رومة بكاملها، بحيث أنَّ الإمبراطور كلوديوس أقام له تمثالاً نقشت عليه باللغة اللاتينيَّة هذه العبارة التي يمكن ترجمتها: »إلى سيمون الله القدّوس«.

15. بطرس وبولس يدحضان ضلال سيمون الساحر

ولمّا كان هذا الضلال ينتشر في نطاق واسع، فقد جاء بطرس وبولس، رئيسا الكنيسة، إلى رومة ووضعا حدٌّا له. ذلك أنَّهما أسقطا جثَّة هامدة ذاك الذي كان يدَّعي أمام الجماهير بأنَّه الإله سيمون؛ إذ هو كان قد صرَّح بأنَّه سيرتفع إلى السماء، وينطلق في الهواء على مركبة شيطانيَّة. فركع خادما الربّ معربَين بهذه الكيفيَّة عن ذلك الاتِّفاق الذي سبق ليسوع أن تحدَّث عنه بقوله: »إذا جمع اثنان منكم في الأرض صوتيهما وطلبا حاجة، حصلا عليها من أبي الذي في السماوات« (مت 18: 19). فقد كان اتِّفاقهما في الصلاة كسهم سُدِّد إلى الساحر، فأرداه جثَّة هامدة على الأرض. لا تستغرب من ذلك حتّى لو كان في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب. لأنَّ بطرس يقبض مفاتيح السماوات (مت 16: 19)، ليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب أيضًا. لأنَّ بولس كان قد اختُطِف إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس، وسمع كلمات سرِّيَّة لا يحلُّ لإنسان أن ينطق بها (2 كو 12: 2-4). لقد أسقطا من علوِّ السماء إلى الأرض ذاك الذي كان يدَّعي أنَّه إله، وزجّا به طبقات الأرض السُفلى. لقد كان هذا الرجل تنّين الخبث الأوَّل، فلمّا قُطع رأسه نبتت من جذر الشرِّ هذا رؤوسٌ كثيرة.

16. ضلال الأبيونيّين ومرقيون

وعمل كيرنتوس أيضًا على خراب الكنيسة، وكذلك ميناندر وكربوقراط والأبيونيّون ومرقيون فمُ الكفر. ذلك أنَّه بشَّر بإلهين مختلفين أحدهما صالح والآخر عادل، مناقضًا ما قاله الابن: »يا ابتِ العادل« (يو 17: 25). وكان يقول كذلك إنَّ الآب هو غير الذي خلق الكون، مخالفًا بذلك قول الابن: »إذا كان العشب الذي يُوجد اليوم في البرّ، ويُطرح غدًا في التنّور، يلبسه الله هذا الشكل« (لو 12: 28)، و»إنَّه يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، ويُنزل غيثه على الأبرار والفجّار« (مت 5: 45). ويعتبر مرقيون هذا المصدر الثاني للشرّ، إذ أنَّه اختار شهادات من العهد القديم ودحضها بشهادات من العهد الجديد. وكان بذلك أوَّل من تجرَّأ على فصل العهدَين، تاركًا الكرازة بكلمة الإيمان بلا دليل، لأنَّه كان قد تخلّى عن الله. وبما أنَّه لم يعد هناك مبشِّر للإيمان، فقد أراد تقويض إيمان الكنيسة.

17. ضلال باسيليدس وفالنتينوس

ثمَّ أعقبه باسيليد السيِّئ الذكر، وهو شخص فاسق دعا إلى الفسق. وجاء أيضًا فالنتينس معينًا للشرّ، فنادى بوجود ثلاثين إلهًا. لقد كان الوثنيّون يعترفون بعدد قليل من الآلهة. أمّا هذا الذي كان يدَّعي أنَّه مسيحيّ، فقد بلغ به الضلال إلى حدِّ المناداة بثلاثين إلهًا. فقد كان يقول إنَّ فيتوس (أي العمق) وهذا لائق بمن هو في أعماق الشرِّ أن يبدأ تعليمه من العمق قد ولد سيغا (أي الصمت). ومن سيغا ولد الكلمة. لقد كان فيتوس هذا شرٌّا من نرفُس الذي للإغريق، إذ هو تزوَّج من أخته. لأنَّ فالنتينس كان يعلِّم بأنَّ سيغا كانت بنت فيتوس. هل ترى كيف كانوا يخلعون على بدَعهم طابع المسيحيَّة! تريَّثْ قليلاً وسوف تكره كفرهم. فقد كان فالنتينوس، يقول فيتوس، ولد ثمانية »إيّونات« ومنهم وُلد عشرة، ومن العشرة وُلد اثنا عشر ذكرًا وأنثى. ولكن ما هو دليلهم؟ هلاَّ ترى سخافة هذه التأكيدات؟ وما الدليل على الثلاثين »إيّونًا«؟ أنَّه يجيب على ذلك بقوله إنَّه مكتوب: عندما اعتمد يسوع كان عمره ثلاثين عامًا (لو 3: 23)؛ فهل في هذا دليل؟ حتّى لو افترضنا أنَّ يسوع عندما اعتمد كان له من العمر ثلاثون عامًا، هل يوجد خمسة آلهة لأنَّه كثَّر خمسة أرغفة لخمسة آلاف رجل؟ (مت 14: 13-21) أو هل لا بدَّ من وجود اثني عشر إلهًا لأنَّ عدد تلاميذه كان اثني عشر؟

18. المسيح بحسب تعليم فالنتينوس

وهذه الترَّهات ليست شيئًا بالنسبة لأقوال كفره الأخرى. فقد تجاسر وقال: إنَّ كمال الآلهة هو كائن »أنثى - ذكر« يُدعى الحكمة. يا له من كفر! لأنَّ المسيح هو »حكمة الله« (1 كو 1: 24) وابنه الوحيد. وهذا الكفر يحقِّر في تعليمه حكمة الله ويحطُّها إلى منزلة امرأة، إلى العنصر الثلاثين، إلى آخر مخلوق. ويضيف أنَّ الحكمة سعت لترى الإله الأوَّل؛ وإذ لم تحتمل بهاءه، سقطت من السماء وألقيَ بها إلى المرتبة الثلاثين فتنهَّدت، ومن دموعها وُلد الشيطان، ومن بكائها على سقوطها كوَّنت دموعُها البحر. أترى هذا الكفر! كيف يتولَّد الشيطان من الحكمة والفطنة من الشرّ، والنور من الظلمة؟ ويقول كذلك إنَّ إبليس وَلد آخرين، بعضٌ منهم خلق العالم. وقد جاء المسيح ليُبعد الناس عن خالق العالم.

19. اهرب من الهراطقة

اسمع ماذا يقولون عن شخص المسيح يسوع، لكيما تزداد كراهية لهم. إنَّهم يعلِّمون أنَّ الحكمة، بعدما سقطت، اجتمعت الإيّونات التسعة والعشرون - لكيما لا يبقى العدد الثلاثون غير كامل - وكوَّنت المسيح. وهم يقولون إنَّ المسيح هو ذكر وأنثى في نفس الوقت. هل يوجد كفر أكبر من ذلك؟ إنّي أصف لك ضلالهم حتّى تمقتهم بالأكثر. اهرب من كفرهم، ولا تسلِّم على أيِّ هرطوقيّ، لئلاَّ تشترك معهم في أعمال الظلمة (أف 5: 11). لا تكن فضوليٌّا ولا تحاول أن تستمع إلى أقوالهم.

20. ضلال »ماني«

أَمقُت كلَّ الهراطقة، وخاصَّة ذاك الذي يُدعى بحقّ »ماني« الذي قام من زمن ليس ببعيد في عهد »يروبُس«. لقد بدأ ضلاله منذ سبعين عامًا، ولا يزال إلى يومنا هذا؛ أحياء رأوه بأعينهم. فأمقُت إذن الكفر الذي كان يسود منذ وقت قريب. وامقت، بسبب هذه العقائد الكافرة، صانعَ الخبيث ومستودع كلِّ كفر، وبحيرة الأوحال، الذي جمع فيه كلّ هرطقة. وإذ أنَّه أراد أن يتفوَّق في الشرّ، قبل كلَّ هرطقة ملأى بالتجديف، وربط بينها في هرطقة واحدة بحيث أنَّه خرَّب الكنيسة، أو بالحري أهلك مَن كانوا خارجًا عن الكنيسة، إذ كان زائرًا كالأسد يفترس كلَّ من يجده (1 بط 5: 8). لا تُبالِ بكلامهم العذب ولا باتِّضاعهم المزعوم، فإنَّهم حيّات »أولاد الأفاعي« (مت 3: 7). يهوذا أيضًا قال: »السلام يا معلِّم«، وهذا لم يمنعه أن يكون خائنًا (مت 26: 49)، فلا تقبِّلْهم واحفظ نفسك من سمومهم.

21. تعاليمه الكاذبة

ولئلاّ أبدو أنّي أتَّهمه باطلاً، سنرى مَن هو ماني وما هي تعاليمه. ولو أردنا أن نسرد كلَّ ما عمل وكتب، لقضينا العمر كلَّه في عرضه بجدارة. فتذكَّر بهذا لكي يكون لك عونًا في حينه - ما نقوله الآن وما قلناه سابقًا - حتّى يعرفه مَن لم يسبق لهم معرفته، ويتذكّره من سبق لهم معرفته. ماني ليس من أصل مسيحي، حاشا! ولا هو كسيمون (الساحر) محروم من الكنيسة، لا هو ولا معلِّموه؛ لأنَّه سرق شرور الآخرين ونسبها إلى نفسه، وإليك بأيَّة كيفيَّة.

22. سيتيانُس وتلميذه تيريبنثوس أصل »المانيَّة«

كان في مصر رجل يُدعى »سيتيانُس« من أصل شرقيّ، لا علاقة له بالمسيحيَّة ولا باليهوديَّة. سكن في الإسكندريَّة وامتثل بحياة أرسطو، وصنَّف أربعة كتب: دعا أحدهما إنجيلاً، ولم يكن يحمل من الإنجيل غير الاسم، إذ لم يكن ينطوي على أعمال المسيح. ودعا الثاني »الفصول« والثالث »الأسرار«، والرابع، وهو المتداول اليوم، سمّاه »الكنز«. وقد كان له تلميذ يدعى »تيريبنثوس«، ضربه الربُّ بمرض خطير فمات.

23. موت تيريبنثوس

ورث تيريبنثوس، تلميذ الفساد، المال والكتب والهرطقة، وأتى إلى فلسطين. ولمّا عُرف في اليهوديَّة، حُكم عليه؛ فقرَر الذهاب إلى بلاد الفُرس. ولكي لا يعرفه أحد هناك، استبدل اسمه باسم »بوذا«. ولكن هناك أيضًا أصبح له أعداء كثيرون بين تلامذة ميترا، إذ دخلوا معه في نقاش وجدال وأثبتوا ضلاله. فالتجأ إلى أرملة لتحميه. وفي ذات يوم صعد إلى السطح، وأخذ يستدعي شياطين الهواء الذين لا يزال المانيّون يستدعونهم إلى اليوم من تحت شجرة التين الملعونة، فضربه الله، فسقط من السطح ومات. وهكذا زال الوحش الثاني.

24. كوبريكوس يخلفه باسم »ماني«

فخلَّف وراءه تفسيرَه للكتب الكافرة، فورثته الأرملة مع ما تركه من المال. وإذ لم يكن لها قريب أو صديق، قرَّرت أن تشتري شابًا يُدعى »كوبريكوس«، تبنَّته وهذّبته كابنها في التعاليم الفارسيَّة. وهكذا سنَّت سهمًا شرّيرًا ضدّ البشريَّة. اشتهر كوبريكوس، العبد الشرّير، بين الفلاسفة. وعند موت الأرملة ورث الكتب والمال. ولكي لا يحتفظ باسم العبوديَّة، استبدل اسم كوبريكوس باسم »ماني« الذي هو مرادف كوبريكوس بالفارسيَّة. وإذ حسب نفسه مجادلاً، لقَّب نفسه ماني، كما لو كان سيِّدًا ممتازًا في الجدال، على غرار سلفه. لكنَّه سعى إلى تمجيد ذاته، كما يقال في لغة الفارسيّين. إلاَّ أنَّ العناية الإلهيَّة جعلته يدين نفسه رغمًا عنه. فبينما كان يظنُّ أنَّ اسمه مكرَّم في لغة الفُرس، كان هذا الاسم عند اليونان »مانيا« يعني الجنون.

25. يدَّعي ماني بأنَّه الروح القدس وصانع عجائب

لقد تجاسر فادَّعى أنَّه »البارقليط« أي المؤيِّد، على الرغم من أنَّه مكتوب: »أمّا مَن كفر بالروح القدس فلا غفران له أبدًا« (مر 3: 29). لقد ارتكب تجديفًا بادِّعائه أنَّه الروح القدس. ليت من يشترك مع هؤلاء الناس يرى معَ من يتَّحد! لقد أثار العبدُ العالم، إذا هو مكتوب: »تحت ثلاث ترتجُّ الأرض، وتحت الرابع لا تستطيع الاحتمال، تحت عبد إذا ملك« (أم 30: 21-22). وهذا ما حصل: فأخذ يعد بما يفوق طاقة البشر. فقد حدث أنَّ مرض ابن ملك الفرس، وكان بقربه عدد من الأطبّاء. فادَّعى ماني أنَّ في استطاعته أن يشفيه بصلواته، لكونه رجلاً تقيٌّا. فانسحب الأطبّاء، وتخلَّت الحياة عن الطفل. وهنا انفضح أمره، وكُبِّل الفيلسوف العظيم بالسلاسل وأُلقي في السجن، لا لأنَّه أراد أن يرشد الملك إلى طريق الحقّ، ولا لأنَّه حطَّم الأصنام، بل لأنَّه قال إنَّه يمنح الحياة، فكذب، أو بالأحرى لأنَّه ارتكب جريمة قتل. فالطفل الذي كان بإمكانه أن يُشفى عن يد الأطبّاء، قتله ماني عن إهمال بطرده الأطبّاء.

26. ماني بعد فشله

لقد تحدَّثتُ عن شرور هذا الرجل العديدة: فأَذكُر أوَّلاً تجديفَه ثمَّ عبوديَّته: ليس هناك ما يدعو إلى الخجل من العبوديَّة، لكنَّ الشرَّ هو أنَّه كان عبدًا فتظاهر بأنَّه حرّ. ثالثًا وعدَه الكاذب. رابعًا قتله الطفل. خامسًا عار السجن. ولم يقف الأمر عند عار السجن، بل هرب منه. هرب ذاك الذي كان يدَّعي أنَّه البارقليط والمدافع عن الحقّ. لم يكن خلفًا ليسوع الذي ذهب إلى الصليب طوعًا، بل هرب بالعكس. ونتيجة لذلك، أمر ملك الفرس أن يقاد الحُرّاس إلى الموت. وهكذا كان ماني سببًا في موت الطفل من جرّاء عجرفته، وسببًا في موت الحرّاس من جرّاء هربه. فهل يستحقُّ العبادة من ساهم في جريمة قتل؟ أما كان يليق به أن يقتدي بيسوع القائل: »فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون« (يو 18: 8). أما كان يقتضي عليه أن يقول مع يونان: »خذوني وألقوني في البحر...، لأنَّ هذه الزوبعة العظيمة إنَّما حلَّت بكم بسببي« (يون 1: 12).

27. جدال بين ماني والأسقف أرخلاوس حول إله العهد القديم والعهد الجديد

هرب من الفرس ولجأ إلى بلاد ما بين النهرين. ولكنَّ الأسقف أرخلاوس، سلاح العدل، اعتقله ودعاه إلى محفل من الفلاسفة يضمُّ وثنيّين كذلك، حتّى لا يُتَّهم القضاة المسيحيّون بالتحيُّز. قال أرخلاوس لماني: »أخبرنا بماذا تبشِّر؟« عندئذ تكلَّم ذاك الذي فمه قبر مفتوح (مز 5: 10) بتجاديف ضدَّ خالق كلِّ الأشياء، إذ قال: »إنَّ إله العهد القديم هو مصدر الشرّ، إذ يقول عن نفسه: »أنا نارٌ آكلة« (تث 4: 24). فبدَّد أرخلاوس الحكيم تجديفه بقوله: »إن كان إله العهد القديم، كما تقول، يدعو نفسه نارًا، فإنَّ ابنه أيضًا قال: »جئتُ لألقي على الأرض نارًا« (لو 12: 49). وإن كنت تتَّهم الذي يقول: »الربُّ يحيي ويميت« (1 مل 2: 6)، فلماذا تكرِّم بطرس الذي أقام طابيته (أع 9: 40)، وجعل سفيرة تموت؟ (أع 5: 10). إن كنت تلوم الذي أعدَّ نارًا، فلماذا لا تلوم الذي قال: »اذهبوا عنّي إلى النار الأبديَّة« (مت 25: 41). إن كنت تلوم من قال: »أنا الربّ... مجري السلام وخالق البشر« (إش 45: 7)، فكيف تفسِّر قول يسوع: »ما جئتُ لأحملَ سلامًا بل سيفًا« (مت 10: 34)؟ بما أنَّ الاثنين يقولان نفس الشيء، فإنَّنا أمام أحد أمرين: إمّا أنَّ الاثنين صالحان بالتشابه، أو إذا كان يسوع عندما يقول ذلك، لا يستحقُّ اللوم، فلماذا تلوم الذي يقول نفس الشيء في العهد القديم؟

28. (تابــع)

عندئذٍ أجابه ماني: لماذا يسبِّب الله العمى للإنسان؟ إذ يقول بولس: »... عن الكفّار الذين أعمى بصائرهم إله هذه الدنيا لئلاّ تضيء لهم بشارة مجد المسيح بنورها« (2 كو 4: 4). فأجابه أرخلاوس بحقّ: »اقرأ جيِّدًا ما جاء قبل ذلك: فإذا كانت بشارتنا لا تزال محجوبة، فإنَّما هي محجوبة عن السائرين في طريق الهلاك« (2 كو 4: 3). إنَّها، كما ترى، محجوبة عن الهالكين، إذ لا يجب أن يُعطى ما هو مقدَّس للكلاب (مت 7: 6). ثمَّ هل إله العهد القديم وحده هو الذي أعمى أذهان غير المؤمنين؟ ألم يقل يسوع نفسه: »إنَّما أخاطبهم بالأمثال لأنَّهم بصراء ولا يبصرون« (مت 13: 13). هل بدافع البغض كان يريد ألاَّ يبصروا؟ أم بسبب عدم استحقاقهم، لأنَّهم أغمضوا عيونهم؟ (مت 13: 15). فالواقع أنَّه حيث يوجد الفساد تغيب النعمة؛ »لأنَّ من كان له شيء يزاد حتّى يفيض، ومن ليس له شيء يُنتزَع منه حتّى الذي له« (مت 25: 29).

29. أمثال عن عمى الوثنيّين

هذا، ويفسِّره البعض تفسيرًا محقٌّا يليق بنا أن نأخذ به: إن حقٌّا هو أعمى أذهانهم لكيلا يؤمنوا، فقد أعماهم لأجل غاية صالحة، لكي ينظروا نحو الخير، لأنَّه لم يقل: »أعمى نفوسهم« بل »أذهان غر المؤمنين«. ومعنى هذه العبارة هو كالآتي: »إعمِ الأفكار الدنسة عند الرجل الدنس فيخلص، إعمِ دهاء اللص فيخلص الرجل«. وإن كنت لا تقبل هذا التفسير، فهناك تفسير آخر: الشمس تعمي من كانت عيونهم مريضة، فمن كانت أعينهم مريضة يعميهم النور، لا لأنَّ من خصائص الشمس أن تعمي، بل لأنَّ جوهر العيون عاجز عن البصر، وهكذا الحال مع غير المؤمنين: بما أنَّ قلوبهم مريضة، فهم لا يستطيعون التطلُّع إلى بهاء اللاهوت. فهو لم يقل: »أعمى أذهانهم لكيلا يفهموا الإنجيل«، بل »لئلاَّ يروا ضياء بشارة ربِّنا يسوع المسيح« (2 كو 4: 4). يحقُّ لكلِّ إنسان أن يسمع الإنجيل، أمّا ضياء البشارة فمحفوظ للذين يعرفهم المسيح، لأجل هذا تكلَّم الربّ بأمثال مع الذين كانوا لا يقدرون أن يسمعوه (مت 13: 13). لأنَّ ضياء المجد كان للذين تلقَّوا النور، والعمى كان لغير المؤمنين. هذه الأسرار التي تشرحها لك الكنيسة الآن، أنت يا من تجاوز مرحلة طالب العماد، لم تعتَد أن تفشي بها للوثنيّين. إنَّنا لا نبوح للوثنيّ بالأسرار الخاصَّة بالآب والابن والروح القدس؛ إنَّنا لا نتكلَّم بأسرارنا إلى طالبي العماد إلاَّ بطريقة مقتضبة. ولكنَّنا غالبًا ما نتحدَّث بطريقة مستترة، حتّى يفهم المؤمنون الذين يعرفون، ولا يتكدَّر الذين لا يعرفون.

30. إعدام ماني

بمثل هذه البراهين وغيرها يُغلَب التنّين، وبمثل هذه المناقشات صرَع أرخلاوس ماني. فهرب من هذا المكان ذاك الذي كان قد فرَّ من السجن، ولجأ إلى قرية حقيرة، مثلما فعلت الحيَّة في الفردوس: تركت آدم واقتربت من حواء؛ لكنَّ أرخلاوس، الراعي الصالح الذي يسهر على قطيعه، ما إن سمع بهربه حتّى أسرع إلى البحث عن الذئب. وعندما رأى ماني خصمه فرَّ هاربًا، وكان هذا آخر هرب له. إذ بحث عنه خيّالة ملك الفُرس في كلِّ مكان وقبضوا على الهارب. وأبلغوه قرار الحكم الذي كان يجب أن ينفَّذ فيه بحضور أرخلاوس. لقد اعتُقِل ماني - هذا الذي كان يعبده تلاميذه - وأحضر أمام الملك؛ فوبَّخه الملك على كذبه وهربه وازدرى عبوديَّته، وانتقم لموت ابنه، وحكم عليه بالموت بسبب قتل حرّاس السجن. فأمر بسلخ جلد ماني حسب قوانين الفُرس، وقُدِّم جسده طعامًا للوحوش الضارية، أمّا جلده الذي كان يغطّي أبشع نفس، فعُلِّق على أبواب المدينة. والذي كان يدَّعي أنَّه البارقليط، ويَعلم الغيب ويتكهَّن به، لم يعرف أن يتكهَّن بهربه الخاصّ!

31. تلاميذ ماني وسخافة التقمُّص

كان له ثلاثة تلاميذ: توما، وبدّاس وهرماسّ. لا يقرأنَّ أحدٌ »إنجيل توما«، لأنَّه ليس من أحد الرسل الاثني عشر، بل أحد الثلاثة من تلاميذ ماني. لا يذهبنَّ أحد إلى المانيّين مفسدي النفوس الذين يتظاهرون بالصيام بشربهم عصير القشّ، ويتكلَّمون بالشرِّ على خالق الأطعمة، بينما هم يتلذَّذون بأشهى الأطعمة. إنَّهم يعلِّمون أنَّ من اقتلع العشب يتحوَّل إليه. فإن كان أحد يجمع عشبًا أو بقولاً يتحوَّل إليها، فإلى كم نوع يتحوَّل المزارعون والجنائنيّون؟ الجناينيّ الذي أخذ منجله وجعل يقلع الأعشاب الرديئة، كما نراه يفعل، إلى أيِّ نوع من العشب يحبُّ أن يتحوَّل؟ أليس حقٌّا من السخافة أن يؤكِّد أحدٌ مثل تلك العقائد السخيفة المشينة! الراعي الذي يرعى القطيع ذبح نعجة وذئبًا، فإلى أيِّ منهما يتحوَّل؟ كثير من الناس يصطادون سمكًا وطيورًا، فإلى أيٍّ منهما يتحوَّلون؟

32. الماني يلعن بدلاً من أن يبارك

فليردَّ المانيّون، أبناء الكسل، هؤلاء المتطفِّلون الذين يأكلون من تعب العاملين، إنَّهم يرحِّبون ببشاشة بالذين يُحضِرون لهم الطعام، ثمَّ يلعنونهم بدل أن يصلُّوا لأجلهم، وإذا أتاهم أحد من أتباعهم بتقدمة ما، يقولون له: »ابتعد قليلاً فأباركك«. ثمَّ يأخذ الخبز في يديه ويقول المانيّ للخبز: - كما أقرَّ بذلك الذين ارتدُّوا منهم - »أنا لم أصنعك«، ثمَّ يصبُّ اللعنات على العليِّ ويلعن الخالق، وهكذا يأكل الخبز، إن كنت تبغض الطعام هكذا، فلماذا تبتسم لمن يقدِّمه لك؟ وإن كنت شكورًا لمن قدَّمه لك، فلماذا تصبُّ اللعنات على الخالق المحسن، على الله؟ ويتابع المانيّ: »أنا لم أزرعك، ليُزرَع من زرعك؛ أنا لم أحصدك، ليحصد من حصدك، أنا لم أخبزك في النار، ليُشوَ من خبزك«. ها هو امتنان أولئك الناس.

33. تصرُّفات المانيّين البذيئة

هذه التصرُّفات تدلُّ على فساد الأخلاق، ولكنَّها ليست بشيء إذا ما قورنت بغيرها. إنّي لا أجرؤ على وصف استحمامهم أمام الرجال والنساء، لا أجسر فأقول ماذا يلمسون عندما يغطسون، وأيَّة قباحات يتعاطَون! ليُفهَم بالتلميح إلى ما نقول: ليفكِّر الرجال في ما يحدث لهم في أحلامهم والنساء في حيضهنَّ. إنَّنا ندنِّس فمنا بالتحدُّث عن هذه الأمور المخزية. هل يستحقُّ الوثنيّون كراهيَّة أكثر منهم؟ هل السامريّون أكثر كفرًا منهم، واليهود أكثر ذنبًا، والزناة أكثر فسقًا منهم؟ لأنَّ الذي يستسلم للفسق إنَّما يفعل ذلك للذَّة مدَّة ساعة، ولكنَّه بعد ذلك يدين عمله ويقرُّ بأنَّه تنجَّس، ويشعر بحاجة إلى التطهير، ويعترف بقباحة عمله. أمّا المانيّ فإنَّه يقيم مذبحه وسط الأدناس ويلوِّث فمه ولسانه. وأنت أيُّها الإنسان، هل تقبل تعليمًا من فم كهذا؟ وتذهب للقائه فتقبِّله؟ فبغضِّ النظر عن كفرهم، ألا تهرب من دنس هؤلاء الأشرار الذين هم شرٌّ من كلِّ أوكار الدعارة!

34. كيف يفسِر المانيّون المطر؟

تندِّد الكنيسة بهذه الأمور وتعلِّمك، إنَّها تكشف عن الأوحال كي لا تقع فيها. تريك الجراحات لكي لا تُجرَح. يكفيك أن تعرف هذه الأشياء دون أن تجرِّبها. الله يُرعد وكلُّنا نرتعد، أمّا هؤلاء فيجدِّفون. يرسل الله الصاعقة، فننحني جميعنا حتّى الأرض، أمّا هم فيرسلون اللعنات ضدَّ السماء. يقول يسوع إنَّ أباه يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار ويُنزل غيثه على الأبرار والفجّار (مت 5: 45)؛ وهؤلاء يقولون إنَّ المطر يتأتّى عن حبٍّ فاسق ويجرؤون على التأكيد بأنَّ السماء عذراء جميلة وشابٌّا جميلاً، وأنَّهما يشعران كالجِمال والذئاب في أيّام القيظ بالشهوة الجنسيَّة تدفعهما الواحد نحو الآخر في فصل الشتاء. فيسعى الشابُّ إلى العذراء بوحشيَّة، فتهرب، ولكنَّه يطاردها؛ وهو إذ يركض وراءها يعرق، وهذا العرَق هو المطر. هذا مكتوب في أسفار المانيّين، وقد قرأناه، إذ لم نكن نصدِّق أقوال مَن سردوه؛ وقد قمنا بهذه الأبحاث في عقيدة الكفر لفائدتكم.

35. ما أجمل الحياة المسيحيَّة بالنسبة لحياة المانيّين

ولكن ليحفظكم الله من مثل هذا الضلال، وليجعلكم تكرهون هذه العقيدة النكراء كرهكم للحيَّة؛ بحيث يتسنّى لكم أن تسحقوا رأسهم بينما هم يرصدون عقبكم (تك3: 15) اذكروا ما قيل لكم: أيُّ اتِّفاق يمكن أن يكون بين عقيدتنا وعقيدتهم؟ أيَّة صلة ممكنة بين النور والظلمات؟ (2 كو 6: 14). أيَّة علاقة بين قداسة الكنيسة وأعمال المانيّين المشينة؟ هنا ترتيب ونظام وقداسة وطهارة، وهناك النظر إلى امرأة لاشتهائها (مت 5: 29) واللعنة. هنا الزواج المقدَّس، والعفَّة في الترمُّل والبتوليَّة الملائكيَّة، والشكر بعد الطعام والامتنان للخالق موزِّع كلِّ شيء؛ هنا يُعبد أبو المسيح، هنا الخشوع والورع نحو مرسل المطر؛ هنا نرفع التمجيد لذاك الذي يبرق ويُرعد.

36. اختاروا عقائد الكنيسة السليمة

اتَّحدْ بالنعاج واهربْ من الذئاب، ولا تبتعدْ عن الكنيسة، وامقت الذين تلوَّثوا يومًا بهذه العقائد. وإن هم لم يتوبوا فعلاً بارتدادهم إلى العقائد السليمة، فلا تخاطر وتلحق بهم. لقد سلَّمتُ إليك الحقيقة عن وحدانيَّة الله، فميِّز بين التعاليم كما تميِّز بين الأعشاب: »تحقَّقوا كلَّ شيء وتمسَّكوا بالحسن. اجتنبوا كلَّ شرّ« (1 تس 5: 21). وإن كنت فيما مضى مثلهم، فاعترف بخطئك. لأنَّ هناك طريقًا للخلاص، إذا أنت تقيَّأت السمَّ ومقتَّ الضلال من كلِّ قلبك، وابتعدت عنه لا بفمك بل بنفسك، وعبدتَ أبا المسيح، إله الشريعة والأنبياء، واعترفت بأنَّ الإله نفسه صالح وعادل، عندئذٍ يحفظكم جميعًا من كلِّ خطر وعثرة ويثبِّتكم في الإيمان بيسوع المسيح ربِّنا، الذي له المجد إلى أبد الدهور. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM