الفصل 11: بين الكنيسة الأرمنية والكنيسة السريانية

بين الكنيسة الأرمنية والكنيسة السريانية

حين نعرف أنّ بلاد الرافدين العليا التي نجد فيها الرها (أو أورفا الحاليّة) ونصيبين (أي صوبة) هي على حدود بلاد أرمينيا، لا نستطيع إلاّ أن نتساءل: هل من تأثير بين بلد وآخر، بين الرها (أداسة) عاصمة أوسروين التي تفتخر أنّها نقلت البشارة على يد تاداي أو أدّاي، أحد تلاميذ المخلّص، وبين أرمينيا التي تفتخر بأنها أوّل مملكة مسيحيّة؟ وجوابنا سيكون بالإيجاب. وسيتوزّع كلامنا في ثلاث محطّات: بداية المسيحيّة في أرمينيا. ترجمة الكتاب المقدّس في اللغة الأرمنيّة. ترجمات الأدب السريانيّ إلى الأرمنيّ.

1- بداية المسيحيّة في أرمينيا

اعتاد عدد من الكتّاب أن يعتبر أنّ اهتداء أرمينيا تمّ على يد غريغوريوس المنوّر. فإن أخذنا بهذا القول، نعتبر أنّ الإنجيل وصل إلى أرمينيا في القرن الرابع فقط، وهذا ليس بمعقول. لا سيّما وأنّ ارتباط أرمينيا بالتلميذ تدّاوس أمر معروف. فالتقليد القديم يقول إنّه كان للمسيحيّة أتباع وأنصار بين الأرمن منذ عهد الرسل. جاء اثنان من تلاميذ يسوع، فبشّرا أرمينيا، وأرسَيا التعاليم المسيحيّة، وهما: القدّيس برتلماوس والقدّيس تدّاوس. ثمّ تابع عملَهما غيرُهما من المبشّرين وكانوا سريانًا جاؤوا إلى أرمينيا من جهة الرها. وقد بلغ المسيحيّون منذ أوائل القرن الثاني عددًا لا يُستهان به فعرفوا الاضطهاد.

نتأكّد من هذا الكلام قدم المسيحيّة في الرها مع حكاية أبجر الخامس، وعلاقاته مع المسيح. فإذا كان أوّل ملك مسيحيّ في الرها أبجر التاسع (حوالى 206)، فهذا قد يفهمنا انتشار المسيحيّة إلى الشرق. فقد عرفت الرها مجمعًا انعقد فيها سنة197. وفي سنة 201، كان فيضان دمّر كنيسة من كنائس هذه المدينة السريانيّة. وقد كتب أبارقيوس في بداية القرن الثالث أنّه وجد مسيحيّين عبر الفرات. وكما اشتهرت الرها بمسيحيّتها، اشتهرت بمدرستها التي عمّرت طويلاً بعد أن كان من أساتذتها أفرام السريانيّ مؤسّسها، وقيوري وربّولا وغيرهم.

من أجل كلّ هذا، سُمّي رؤساء كنيسة أرمينيا، الجالسين »على عرش القدّيس تدّاوس«. وهكذا ارتبطت كنيسة أرمينيا في جذورها بالكنيسة السريانيّة. جاءها المرسلون الأوّلون واحتفظوا بلغتهم الليتورجيّة، كما بتقاليدهم حول أبجر وتدّاوس. وهكذا كانت المسيحيّة مزدهرة في القرن الثالث بدليل رسالة بعث بها مارويان، أسقف الأرمن إلى ديونيسيوس، أسقف الإسكندريّة (248-265). وحين وصل غريغوريوس المنوّر، جعل المسيحيّة تسيطر في أرمينيا، فأبعد السريانيّة من الطقوس لكي تصل الصلاة إلى الشعب. وهكذا كوّن غريغوريوس كنيسة متأصّلة في تراثها، وأخذ يهيِّءُ لها الكهنة الجدد الذين يرافقون تطوّرها. ولكن هل توقّف تأثير الكنيسة السريانيّة على الكنيسة الأرمنيّة عند هذا الحدّ؟ لاّ. وسنتوقّف في مقطع ثانٍ عند ترجمة الكتاب المقدّس.

2- ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغة الأرمنيّة

تنسب المراجع التاريخّية الأرمنيّة، ترجمة الكتاب المقدّس إلى الأرمنيّة، إلى مسروب، وهو كاهن أرمنيّ وُلد حوالى سنة 361، وتوفّي في 17 شباط سنة 439، وإلى ساحاق الذي وُلد سنة 350 تقريبًا وتوفّي في 7 أيلول 439. كان ساحاق هذا ابن القدّيس نرسيس الكبير الذي كان من نسل غريغوريوس المنوّر. وبدأ مسروب فاستنبط الأبجديّة الأرمنيّة بحروفها الستّة والثلاثين. وقد أخذ أربعة حروف من السريانيّة. يبدو أنّ الترجمة الأولى للكتاب المقدّس كانت سريعة وانتهت سنة 414. كما يبدو أنّ الأصل الذي أخذ به المترجمون كان النصّ السريانيّ. ولكن بعد ذلك الوقت، أعيد النظر في هذا النصّ على ضوء المخطوط اليونانيّ الإسكندرانيّ في المخطوط اليونانيّ السينائيّ.

هنا ينقسم الباحثون. فبعضهم يعتبر أساس الترجمة الأرمنيّة هو النصّ اليونانيّ. والبعض الآخر يعتبر النصّ السريانيّ. هذا الرأي الأخير يأخذ به معظم العلماء الأرمن. والأمر واضح بشكل خاصّ في ما يخصّ الأناجيل (درسها الأب ليونيه اليسوعيّ) وأعمال الرسل (مع الباحث غاريت) وكتاب الأخبار. ودرس الدكتور مانويل جنباشيان سفر التكوين، فاكتشف المكانة الكبيرة للغة السريانيّة في هذا النصّ الأرمنيّ. ويقول لويس لالوار: »التأثير السريانيّ معقول بسبب العلاقات الوثيقة بين الكنيسة الأرمنيّة في بدايتها، وبين الكنيسة السريانيّة، وبسبب تأثير الكنيسة السريانيّة على الليتورجيّا الأرمنيّة ونُظمها الرهبانيّة والمفردات اللاهوتيّة. ويزداد يقيننا حين نتفحّص بدقّة إيرادات الكتّاب القدماء«. ويتابع هذا العالم الكبير كلامه: »حين درستُ نصوص الترجمة الأرمنيّة في تفسير أفرام للدياتسّارون (عبر الأناجيل الأربعة)، لفت نظري استشهادات من العهد القديم لا تجد لها تفسيرًا إلاّ في الترجمة السريانيّة«. في هذا المجال نطرح سؤالاً: كيف نبرّر وجود رسالة ثالثة إلى الكورنثيّين؟ هذه الرسالة لا تعرفها البيبليا اليونانيّة. وحدها السريانيّة تعرفها.

ونتوقّف بشكل خاصّ عند الترجمة الأرمنيّة للأناجيل. لقد استندتْ إلى نصّ السريانيّة العتيقة (وهو نصّ سابق للسريانيّة البسيطة التي تستعملها الكنائس السريانيّة اليوم)، كما في طبعة كيورتون أو في السينائيّ. وكان خطّان. قال الأب ليونيه: إنّ الترجمة الأرمنيّة الأولى للأناجيل انطلقت من الدياتسّارون الذي ألّفه طاطيانس السوريّ في السريانيّة على ما يبدو. فأجاب أرثور فوبوس: تمّ النقل الأرمنيّ ساعة لم يعد للدياتسّارون سلطة رسميّة، فحلّت محلّه الأناجيل المنفصلة، أو الأناجيل الأربعة.

أمّا الترجمة الأرمنيّة الثانية للأناجيل، فقد استندت إلى نصّ يونانيّ من النمط القيصريّ (أي: قيصريّة فلسطين، على شاطئ البحر). في الواقع، لسنا أمام ترجمة، بل إعادة نظر في الترجمة الأولى انطلاقًا من مخطوطات يونانيّة وصلت إلى أرمينيا. وهذا الوضع بدا واضحًا في ما يخصّ الترجمة الأرمنيّة لسفر التكوين حيث نجد الترجوم الأراميّ والنصّ السريانيّ بجانب إعادة النظر إلى أساس النسخات اليونانيّة. ولماذا التعجّب؟ فالترجمة السريانيّة عادت بعض المرّات إلى اليونانيّة لكي تقدّم نصٌّا قريبًا من نصّ اليونانيّة السبعينيّة التي فرضت نفسها في زمن تدوين العهد الجديد. ومثلها فعلت الأرمنيّة.

3- الأدب السريانيّ واللغة الأرمنيّة

لم يتوقّف فضل مسروب عند وضع الأبجديّة الأرمنيّة، بل عمل على نقل الثقافة الإنسانيّة إلى بني قومه. فأرسل عددًا من الطلاب إلى أمّهات مراكز الفكر المسيحيّ. وأوّل هذه المراكز الرها. وأوّل كتاب نُشر من الأدب السريانيّ كان المقالات الروحيّة لأفراهاط الحكيم الفارسيّ. وجعلت على اسم يعقوب النصيبينيّ، وهو تعود إلى القرن الخامس. ضاعت المقدّمة في السريانيّة ولكنّها حُفظت في الأرمنيّة. واستحقّت الكنيسة الأرمنيّة شكر الكنيسة السريانيّة، لأنّها حفظت لها تفسير القدّيس أفرام للدياتسّارون. لا شكّ في أنّه بقيت من هذا الكتاب بعض النصوص في السريانيّة. ولكنّنا لا نجد التفسير كاملاً إلاّ في الأرمنيّة. وقد تمّ نقله إلى الفرنسيّة. وقد يُنقل قريبًا إلى العربيّة. وحفظت لنا الكنيسة الأرمنيّة أيضًا من مار أفرام تفسير رسائل القدّيس بولس التي نشرت سنة 1893، في البندقيّة (إيطاليا) في الأرمنيّة ونقلت إلى اللاتينيّة بهمّة الآباء المخيتاريّين. واحتفظت الأرمنيّة بكتاب »تعليم الرسل«. ليس هو الديداكيه، بل القوانين الرسوليّة التي نُقلت عن السريانيّة.

يضيق بنا المجال لكي نورد كلّ النصوص السريانيّة التي انتقلت إلى الأرمنيّة. فهناك تفسير لإنجيل يوحنّا دوّنه نانا، المعلّم السريانيّ، وطبع في البندقيّة سنة 1920. و»كتاب قانونيّ إلى الرهبان« أو »بداية التخلّي عن العالم« لفيلوكسينس المنبجيّ. وبضع عظات ليعقوب السروجيّ...

خاتمة

تلك بعض المحطّات التي تلتقي فيها الكنيسة السريانيّة والكنيسة الأرمنيّة. فما من كنيسة تستطيع أن تعيش وحدها. وما منكنيسة تقدر أن تعتبر نفسها جزيرة في بحر. فالتفاعل بين الكنائس واضح ظاهر منذ بداية المسيحيّة. ولم تفلت الكنيسة الأرمنيّة من هذه القاعدة. وقد توقّفتُ في هذا المقال البسيط عند العلاقات الأرمنيّة مع الكنيسة السريانيّة. ولكن هذه الكنائس الأرمنيّة أخذت أيضًا من العالم اليونانيّ ومن العالم اللاتينيّ، فقدّمت للشعب في لغته الوطنيّة غنى الكنائس المختلفة. غير أنّ قصب السبق يبقى للكنيسة السريانيّة التي رافقت الكنيسة الأرمنيّة في ولادتها، فارتبطت الكنيستان بشخص تدّاوس الذي كان أحد تلاميذ يسوع السبعين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM