الفصل 8: أرمينيا وهويتها المسيحية

أرمينيا وهويتها المسيحية

حدّدت المراجع المسيحيّة القديمة، في كثير من التوافق، حمل الإنجيل إلى أرمينيا في القرن الثاني، بواسطة السلالة الملكيّة في الرها. فالرسول تدّاي (هو بالأحرى أدّاي التلميذ الذي أرسل إلى الرها ليشفي الملك أبجر) بشّر أرمينيا الجنوبيّة، ومارس برتلماوس رسالته في أرمينيا الشماليّة. وفي أيّ حال، حوالى سنة 200، تحدّث ترتليانس في ردّه على اليهود (7: 4) عن وجود مسيحيّين عديدين في تلك المنطقة. وهكذا جاء المبشّرون الأول من العالم السريانيّ، وهذا ما يفسّر التقارب بين الليتورجيّا الأرمنيّة والليتورجيّا السريانيّة. أمّا الاهتداء الكامل فيعود إلى القدّيس غريغوريوس المنوّر، وفي عهد الملك تريدات الثالث (252-330).

نودّ هنا أن نتوقّف عند ثلاث محطّات. الأولى، بدايات كنيسة أرمينيا التي تعمّدت في الدم. الثانية، الكنيسة الأرمنيّة ومجمع خلقيدونية. الثالثة، المعطيات التاريخيّة في قلب الهويّة.

1- بدايات كنيسة أرمينيا

منذ الاهتداء الرسميّ لمملكة أرمينيا إلى الإيمان المسيحيّ، في بداية القرن الرابع، ارتبط مصيرُ البلاد، بشكل وثيق، بهذا الخيار التاريخيّ. لقد طبع الإيمان المسيحيّ بطابعه العميق، النفسَ الأرمنيّة وحضارتَها.

سبق هذا الحدث الساطع دخول بطيء، ولكن متواصل، للبلاغ المسيحيّ إلى البلاد، منذ تدّاي وبرتلماوس. ونستطيع أن نتتبّع آثار هذا الدخول المسيحيّ المتنامي مع بعض اليقين حتّى منعطف القرنين الثاني والثالث، وربّما قبل هذا التاريخ.

مرّ قرنٌ من الزمن ونصف قرن على الاهتداء المسيحيّ للشعب الأرمنيّ، الذي حُرم من مملكته سنة 428. فما تردّد هذا الشعب من التمرّد على المشروع الساسانيّ (الآتي من بلاد فارس) الذي أراد أن يفرض بالقوّة الديانة المزديّة، بحيث يذوب الأرمن ذوبانًا كاملاً في الإمبراطوريّة. هنا بدأت الملحمة المسيحيّة مع استشهاد ورطان ورفاقه. ففي ليل الثاني من حزيران، مساء العنصرة، الذي سبق المعركة، حثّ ورطان جيشه فقال لهم: »من ظنّ أنّ المسيحيّة كانت لنا لباسًا (نستطيع الآن أن نخلعه)، يعي الآن أنّه لا يقدر أن ينزعه كما لا يقدر أن ينزع لون جلدنا«. كان ذاك عماد الدم بالنسبة إلى الكنيسة الأرمنيّة.

هذا الاستشهاد الجماعيّ للكنيسة الأرمنيّة لن يجد ملء تفسيره، على ما أظنّ، إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار حدثًا آخر مهمًا جدٌّا في تاريخ أرمينيا: إستنباط الأبجديّة وازدهار الثقافة في بداية القرن الخامس (404/405) على يد القدّيس ورتبات مسروب ماستوك، في علاقة وثيقة مع الكاثوليكوس (الرئيس الأعلى في الكنيسة الأرمنيّة) القدّيس ساهاك، ومشاركة عدد كبير من التلاميذ. وغيرةُ مسروب الرسوليّة، جعلته يجول حتّى في أخفى زوايا أرمينيا وفي المناطق الحدوديّة. وما ألهم فكرة خلق أبجديّة، كان في الدرجة الأولى، الضرورات الرعائيّة لرسالته كواعظ متجوّل. ولكنّ الطريقة التي بها تصوّرها وصاغها وحقّقها، تبدو أبعد من متطلّبات الساعة العمليّة. لقد أراد أن يختم ختمًا نهائيٌّا الوحدة الفريدة والمثاليّة في أرمينيا، بين الإيمان والثقافة، بين الهويّة الوطنيّة والمعتقد الدينيّ.

وكانت إحدى النتائج التاريخيّة والمؤسّساتيّة لهذه الوحدة، أنّه رغم الارتباط الوثيق بين المعتقد المسيحيّ والوجدان الوطنيّ، لم يكن صراع مرير بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة، كما كان الأمر بالنسبة إلى بيزنطية حيث الإمبراطور هو رأس الكنيسة، أو إلى رومة حيث البابا هو ملك زمنيّ. فإن وُجد شيء من هذا، ما كان له انعكاسات واسعة. لا نظنّ أنّ هذا يعود فقط، أو في الدرجة الأولى، إلى لاتواصل في الزمن، في السلطة السياسيّة في أرمينيا، وفي نهايتها المبكرّة. فالإكليروس الأرمنيّ، بشكل عامّ، لبث في العصور الماضية، دائم التيقّظ والوعي أمام أخطار يتضمّنها وضعُ كنيسته الخطر. هذا الوضع الذي جعل أرمينيا »على الحدود«، تميّز بالخدمة لا بطموح السيطرة، ومثّل نموذج احترام داخل نظام الإقطاع والمجتمع الأرمنيّ الرفيع.

إنّ نموذج أوارائير في ديناميّة هذا التزاوج بين الدين والهويّة الثقافيّة، بين الكنيسة والعاطفة الوطنيّة، الذي ختمه الشهداء بدمهم، كان له الانعكاسات الكبيرة على التاريخ الأرمنيّ كله. وهذا التاريخ يتكلّم دومًا بأشكال من الشهادة يموت فيها الكثيرون. وكانت الذروة الإبادة الجماعيّة سنة 1915-1916، في خضمّ الحرب العالميّة الأولى. مع أنّ فكرة الإبادة لدى سلطة الثورة في الشباب التركيّ، كان باعثها دوافع غير الدوافع الدينيّة، إلاّ أنّ الدين شكّل بشكل عمليّ المعيار الحاسم للتمييز في قرار الحياة: جميع الذين اعتنقوا الديانة الإسلاميّة نجوا من الموت. فالإبادة الجماعيّة، أو »الشرّ الكبير« للأرمن سنة 1915، يتجذّر تجذّرًا مباشرًا في التراب الكنسيّ واللاهوتيّ والروحيّ، في تراب استشهاد الذين ماتوا في أوارائير بعد أن ذُبحوا. وما كان هناك أيّة مقاومة، إلاّ في بعض المناطق التي حاولت أن تخفّف من قساوة المأساة، ولكن عبثًا.

2- الكنيسة الأرمنيّة ومجمع خلقيدونية

يستحيل علينا أن نتكلّم عن الكنيسة الأرمنيّة، دون معالجة مسألة علاقتها بالمسيحيّة الخلقيدونيّة. لهذا كانت سنة 451 سنة حاسمة بالنسبة إلى الكنيسة الأرمنيّة لسببين اثنين، بعد أن حلّت هذه الكنيسة مع سائر الكنائس السابقة لخلقيدونية أو القبلخلقيدونيّة.

يتوافق الباحثون المعاصرون على اعتبار القرن السادس قرنًا حاسمًا. فيه رفض الأرمن بشكل رسميّ، مجمع خلقيدونية، مع أنّ هناك اختلافات في التاريخ وفي تقدير العوامل والمسبّبات التي حدّدت اختيار شعب أرمينيا. فالمسافة عميقة بين أرمينيا وبيزنطية في النصف الثاني من القرن السادس. ويبقى أنّ سيطرة معارضة خلقيدونيّة كموقف عاديّ وكقاعدة حياة في الكنيسة الأرمنيّة، سوف تكون في العقود الأولى من القرن السادس.

أمّا بواحث هذا الخيار فجاءت غنيّة مع تفاسير مختلفة. نحاول أوّلاً أن نتجنّب مقاربات أحاديّة ذات طابع لاهوتيّ محض أو سياسيّ فقط، فنتطلّع إلى عوامل مختلفة نستطيع أن نجمعها في مقدّمة عامّة، مقولة »السياسة الدينيّة« التي تضمّ في طيّاتها اللاهوت والحقوق والثقافة والسياسة. كلّ هذا يشرح معًا الموقف المعارض لخلقيدونية الذي وقفه الأرمن.

الباعث الكلاسيكيّ الذي اعتاد الكتّاب الخلقيدونيّون أن يطرحوه في الماضي، هو غياب الأرمن من خلقيدونية بسبب الحرب التي ذكرنا. ولكنّهم ضلّوا بعد أن ضلّلهم المفسِّرون المونوفيسيّون (يقولون بطبيعة واحدة للمسيح بعد أن ذابت الطبيعة البشريّة في الطبيعة الإلهيّة) ولا سيّما السريان. لا ليس الغياب عن المجمع هو السبب الأساسيّ. مع أنّه أثّر بعض الشيء للإبقاء على الكرستولوجيّا الأرمنيّة في مناخ أفسس الذي تعلّقت به أرمينيا سنة 431. هذا التجذّر في التقليد الإسكندرانيّ (كان كيرلّس أسقف الإسكندريّة بطل أفسس) والأفسسيّ، شكّل التوطئة اللاهوتيّة الأولى، فقدّم حجّة كبيرة من أجل رفض خلقيدونية فيما بعد.

وخيانة بيزنطية السياسيّة التي عقدت، ساعة الحرب العصيبة، اتفاقًا سلام مع الساسانيّين، فتركت الأرمن عرضة لهجمات الفرس، هذه الخيانة لم تشكلّ باعثًا حاسمًا جعل الأرمن يرفضون خلقيدونية. ففي بداية القرن السادس، أعلنوا باحتفال كبير توافقهم التامّ في المسائل الإيمانيّة مع اليونان ومع »إمبراطور الرومان المطوَّب«، مع إيمان القسطنطينيّة التي وقفت في ذلك الوقت موقف السلام مع الهينوتيكون أو بحث عن الوحدة رفضها المونوفيسيّون والديوفيسيّون (طبيعتان في المسيح) معًا.

أمّا التحوّل الحاسم فظهر على أثر تدبير سياسيّ قام به الإمبراطور يوستنيانس، الذي أفصح عن رأيه بكلّ وضوح: أن يجعل من أرمينيا مقاطعة في الإمبراطوريّة، فهدم البنية الاقطاعيّة الفريدة المرتكزة على وظيفة تقليديّة تشكّل العمود الفقريّ في النظام السياسيّ الأرمنيّ.

في هذا الإطار المعقّد، لا ننسى التأثير السلبيّ الذي تركه القانون 28 من مجمع خلقيدونية، الذي جاءت صياغته ضعيفة فتحفّظ عليه البابا لاون الأوّل فأخّر موافقته النهائيّة على مجمل المجمع. ومع أنّ قداسة البابا وافق فيما بعد على ذاك القانون، إلاّ أنّ رومة لم توافق عليه. هذا ما يفسّر كلامًا لحنانيا سناحين في ردّ على الديوفيسيّين. توجّه إلى البيزنطيّين فقال لهم: »هناك المعارضون جهلاً فيقولون إنّ الأرمن وحدهم لم يقبلوا مجمع خلقيدونية... ولكن من الواضح أنّ أممًا أخرى لم تخضع لذات السلطان (= بيزنطية) لم تقبل إيمان خلقيدونية... وحتّى الآن يخضعون لذاك السلطان كثيرون، هم الذين يأخذون بإيماننا لا بإيمانهم. وها أنا أبيّن بوضوح من هم الذين يؤمنون إيمان خلقيدونية: أوّلاً رومة المدينة الملكيّة التي حرّمت مجمع مرقيون والذين يمزجون في السرّ (=الإفخارستيّا) الماء وما هو مخمَّر، وجميع الذين في إيطاليا وغالية الكبرى وجزيرة سردينيا وصقلّية وإسبانيا في الغرب، وأوروبّا الكبرى وألمانيا«.

وتبقى نقطة هامّة لا بدّ من التشديد عليها في هذه الجدالات اللاهوتيّة والصراعات التي انطلقت من يقين وسارت بشراسة، هي أنّ الإيمان الذي نادت به الكنيسة الأرمنيّة، بالرغم من ظواهر مرتبطة بتقليد لاهوتيّ وفلسفيّ مختلف، وثقافة وحضارة مختلفة، هذا الإيمان لا يتعارض تعارضًا جوهريٌّا مع إيمان خلقيدونية في ما يشكّل النواة التعليميّة الأولى: فالمسيح الوحيد الواحد، هو الإله الحقّ والإنسان الحقّ، الذي هو أزليّ مع الآب وشبيه بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. هذه النقطة تلقي الضوء بشكل لا يقبل الجدال، على تاريخ العقائد المسيحيّة، ونشير هنا إلى أن كريكين الأوّل (1995-1999) كاثوليكوس جميع الأرمن، وقّع في 13 كانون الأوّل مع البابا يوحنّا بولس الثاني، إعلانًا مشتركًا يؤكّد التوازي الجوهريّ بين التقليدين اللاهوتيّين في ما يخصّ الاعتراف الإيمانيّ الجوهريّ بالمسيح.

والمسألة الأخيرة حول معارضة أرمينيا لخلقيدونية، هو أنّه رغم سيطرة هذا الاتّجاه كموقف رسميّ في الكنيسة الأرمنيّة، ظلّت شخصيّات رفيعة متعلّقة بمجمع خلقيدونية، عاشت في أرمينيا، بل في قلب الكنيسة ولم يتعرّض لها أحد. فالكنيسة الأرمنيّة تميّزت، على مرّ العصور، باتجاهات كنسيّة وتيّارات لاهوتيّة مختلفة دون أن يحرم الواحد الآخر، كما عرفت كنيسة بيزنطية.

3- المعطيات التاريخيّة في قلب الهويّة

سبق وأشرنا إلى سمة أساسيّة تميِّز المسيحيّة الأرمنيّة: الاستشهاد الجماعيّ. وكانت سمة ثانية تميِّز هذه الكنيسة القديمة: وجودها على الحدود بين عالمين: بيزنطية وفارس. أفسس وخلقيدونية. وهذه السمة الثانية ترتبط ارتباطًا مباشرًا وحميمًا بالدعوة إلى الشهادة حتّى الموت، وهذا ما يفسّر ديناميّتها. وأشرنا أخيرًا إلى مضمون يحمل إيديولوجيّة أرمينيا المسيحيّة: »عادات الأجداد«. فاللفظ الأرمني (أورنك) يحمل أكثر من مدلول. والمدلول الأوّل: شريعة، ناموس. لا في المعنى الذي نعرفه في الفكر اليهوديّ والمسيحيّ كقانون وقاعدة حياة في ممارسة قانونيّة وسياسيّة، بل في معنى أوائليّ عميق لشرعة تقاليد وعادات، انتقلت بطريقة شفهيّة، واعتُبرت أوامر تفرض نفسها على الجماعة. »فعادات الأجداد«، لا يستطيع الأرمنيّ أن يتخلّى عنها مهما كان الثمن. فهو يضحّي بحياته من أجلها. فعشيّة الحرب مع الفرس، انحصرت هذه العادات في نواة جوهريّة، معرّاة، في اختيار بين الموت والحياة. بدت لا غنى عنها لكي تعرف الجماعة نفسها في هويّتها الخاصّة وفي كرامتها. هذه النواة الجوهريّة هي الإيمان بيسوع المسيح، هي الهويّة المسيحيّة للشعب. ذاك هو الشرط الأساسيّ الذي لا رجوع عنه، الذي جعله الأساقفة والأمراء في رسائلهم إلى ملوك إيران قبل بداية الحرب. قبلوا بالسيادة الفارسيّة شرط أن يُراعى هذا الشرط.

وفي أيّ حال، عبارة »عادات الأجداد«، لا نجدها لدى منشد ملحمة »وردانانك« بل بقلم شاهد آخر لهذه الحرب، أكبر مؤرّخ في نهاية القرن الخامس، لازاردي بربي. ومعه اقتنى هذا اللفظ مفهومًا جديدًا، واسعًا. وذلك غداة الانتصار الساطع بعد المقاومة الأرمنيّة الطويلة التابعة لحرب وردانانك. حينئذٍ عُبِّر عن »عادات الأجداد« في ثلاثة مبادئ أو شروط لا يمكن لأرمنيّ أن يتراجع عنها: استعداد لحمل السلاح للدفاع ولو كلّفتهم الحياة. الشرط الأوّل جاء في قلب حرب وردانانك في لغة قانونيّة، شخصيّة، مباشرة: لا يُفرض على شخص أن يجحد إيمانه. كلّ إنسان يكون حرٌّا لممارسة الديانة التي وُلد فيها وأن يثابر. ويعود الشرطان الثاني والثالث إلى تنظيم المجتمع تنظيمًا قانونيٌّا.

ما قلناه هنا يوضح ما شكّل النواة والبنية اللتين تحملان وعيَ الأرمن لنفوسهم، وإدراكَهم لذواتهم أبعد من مجرّد جماعة ثقافيّة أو دينيّة، في هذا التماسك النموذجيّ الذي يدلّ على »الأمّة«. لا نعني بالأمّة ما قاله الغرب بعد إيديولوجيّة عصر الأنوار، والثورة الفرنسيّة، ولا ما يقابل »ملّة« في الفكر العثمانيّ، بل نعطي لهذا اللفظ معناه النموذجيّ والأصيل الذي يميِّز الكيان والصيرورة، والإيديولوجيّا والنظرة إلى العالم، لدى الشعب الأرمنيّ عبر تقلّبات تاريخ عمره ألفي سنة ونيّف، تاريخ غنيّ وخلاّق وفي الوقت عينه مليء بالآلام والأحزان. هذه الإيديولوجيّا تكوّنت في الزمن السابق للمسيح، فوجدت قاعدتها النهائيّة في ما تركه مسروب ماستوك، والتعبير النظريّ عنها في »تاريخ« موسيس دي طورين الذي يعتبر »أبا التاريخ« الأرمنيّ والعبقريّ الذي فسّر هذه النفسيّة.

أمّا استنباط مسروب فوجد سياقه التاريخيّ الوافي في الوسط المسيحيّ السريانيّ، في القرن الرابع. فتوسّع هنا اهتمامٌ خاصّ باستعمال اللغة المتداولة في الاحتفال الليتورجيّ. وهو اهتمام يتضمّن في الوقت عينه وعيًا متناميًا للطابع »القدّيس« للغة، كأداةٍ لإنشاد الربّ. ونستطيع أن نعتبر هذا التطوّر نقطة انطلاق لمسروب في طريق إنضاجه لنظرته الإتنيّة (على مستوى العرق والأصل) والدينيّة التي ستقوده إلى هذا الاختراع الكبير. رأى الثقافة الإتنيّة في هذا المنظار على أنّها وسيلة نقل الإيمان المسيحيّ والتعبير عنه في لغة أصيلة تنطلق من خبرة بشريّة. هذا التقارب الإجماليّ من الإيمان الدينيّ، الذي تجسَّد في واقع إثنيّ وسياسيّ لدى جماعة بشريّة، هو الذي يفسِّر غيرة مسروب ليعلّم الأبجديّة حتّى للأرمن الخاضعين للحكم العثمانيّ. هؤلاء الأرمن المتكلّمون اليونانيّة، لم تلامسهم صعوبات مسروب في كرازته عبر أرمينيا الشرقيّة العليا، بعد أن جهل سكّانُها اليونانيّة والسريانيّة.

ولكن أبعد من هذه الرؤية اللاهوتيّة للهويّة الإثنيّة والثقافيّة، وتجسيد الإيمان المسيحيّ في هذه الهويّة، كما ينبع من هذه الرؤية، تضمّن عملُ مسروب أيضًا رؤية جديدة لهذه الهويّة في مركّباتها وفي أبعادها التاريخيّة والبشريّة. ويكمن هذا الجديد في أنّ مسروب ما أدخل فقط تمييزًا واضحًا بين هذه الهويّة، ووحدة الشعب وتماسكه السياسيّ« في كلّ مرحلة من تطوّر السياسيّ كما يُفهَم (أو يطبَّق)، بل أعطى الهويّة تحديدًا خاصّة بحيث تستقلّ عن الوحدة. فمسألة بقاء الشعب (بحيث لا يموت) لم تعد تُطرَح على المستوى النظريّ ولا على المستوى العمليّ، في إطار السلطة والبقاء السياسيّ، بل في إطار جوهريّ، إطار الوجدان الجماعيّ والثقافة.

من هذه النواة انطلق موسيس فتوسّع في »مسكونيّة« متوسّطيّة، في إيديولوجيّة »أمّة« تضمّ في نظرة شاملة، جديدة وأصيلة، عناصرَ أخذها من الإيديولوجيا اليونانيّة (المدنيّة، ما يتعلّق بالمدينة)، ومن الإيديولوجيّا اليهوديّة الإسكندرانيّة كما عبّر عنها فيلون الفيلسوف، والمؤرّخ فلافيوس يوسيفُس. فالصراع من أجل البقاء الذي مارسه الشعب الأرمنيّ على مرِّ تاريخه، يجد في هذه الرؤية وفي الوجدان الأمّيّ، ينبوعَ إلهامه الأوّل. ولكن هذه الرؤية (وهذا الوجدان) يشرح أيضًا تمازج الإيمان المسيحيّ والالتزام المطلق به في الروح وفي العادات، في قاعدة الحياة اليوميّة لدى شعب انطبع تاريخه بشهادة الجماعة حتّى الموت.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM