تقديم

 

المرقيونية والمانوية

حين نقرأ قصائد افرام السرياني في التعاليم الضالّة أو ردوده »المدرسية« في نصيبين أو الرها، نرى دومًا المرقيونيّة مع المانويّة. تياران كبيران هدَّدا الكنيسة في وقت من الأوقات، بل المجتمع الروماني بأكمله ممّا حدا بالامبراطور ديوكليسان أن يأخذ قرارًا صارمًا بأن يلاحق المانويين في كل مملكته ويدمّر مؤلّفاتهم سنة 297. والكتّاب العرب تحدّثوا عن هاتين »الكنيستين« اللتين حاولتا أن تكون كل منهما »كنيسة« في وجه »الكنيسة الكبرى«، أي الكنيسة المسيحية. ولكن حين جاء الاسلام، صارت كل من المانوية والمرقيونيّة »ديانة« بين الديانات، تُذكَر من أجل التاريخ، أو في كلام عن الحرية، أو في البحث عن الدين القويم والفكر الصحيح.

أن يَردّ على مرقيون هذا العددُ من آباء الكنيسة وكتّابها، يدلّ على تأثير هذا الفكر في قلوب الناس. فلسنا هنا أمام هرطقة »كرستولوجيّة«، مثلاً، توقّفت عند الأساقفة الذين التأموا في مجمع »مسكوني« وحدّدوا العقيدة وأطلقوا قانون الايمان. فالأمور اللاهوتيّة لا تحرّك الناس كثيرًا، إلاّ إذا تعلّقت بحياتهم اليومية. والمثال على ذلك في المجمع المسكوني الرابع الذي انعقد في خلقيدونية سنة 451. فالكلام على طبيعتين لا ممتزجتين في أقنوم واحد، لبث فوق مفهوم الشعب. فما همَّه هو أن تكون مريم »تيوتوكس« أي »والدة الله«. هذا ما جعل المؤمنين يهتفون، وكيرلس، أسقف الاسكندرية، يبدو »بطلاً« في المسيحيّة.

كان لمرقيون»إنجيل« استخرجه من الأناجيل الأربعة. ورسائل انطلق بها من رسائل بولس الرسول، فجاءت أكثر جذريّة ممّا تركه لنا رسول الأمم: يجب تنقية المسيحية من كل أمورٍ تلفيقية. فلماذا الابقاء على العهد القديم في العهد الجديد؟ إذًا نُلغي كلَّ »إشارة« توراتيّة في العهد الجديد.

وماني جاء يؤسّس ديانة. شأنه شأن بودا وموسى ويسوع، واعتبر نفسه آخر من يحمل وحيًا: هو خاتمة الأنبياء. وكتبُهُ التي دوّنها في حياته، تكون بعيدة عن التحريف الذي عرفته الكتب البوذية واليهودية والمسيحية. ونظّم كنيسته في تراتبيّة تشبه تراتبيّة الكنيسة الكبرى، بل تتفوّق عليها حين قسم »المؤمنين به« إلى مؤمنين عاديين وإلى نخبة، يتمنّى كل واحد أن يرتفع لكي يصعد إليها.

وبدت المرقيونية والمانويّة في خط »ثورات« على الحكم القائم، سواء الدينيّ منه أو المدني. فسار وراءهما المهمّشون أو الرافضون للوضع الذي يعيش فيه المجتمع. كما لعبت السياسة لعبتها، على ما سوف يحصل بعد المجامع المسكونية في الكنيسة: في أفسس انفصل العالم الفارسي عن العالم البيزنطيّ. في خلقيدونية، انفصل العالم المصري والعالم السرياني ومعه الارمني، عن العالم البيزنطي. وحتى في حركة الاصلاح، انفصل الشمال عن الجنوب، فكانت البروتستانتية في الشمال والكثلكة في الجنوب.

ذاك هو التاريخ البشري، وفي داخله الديانات وسائر التيارات الفكرية. وإذا كان للمرقيونيّة أن تقوى في الغرب بشكل خاص، فالمانويّة وصلت إلى الصين وإلى مونغوليا، في الشرق. من أجل هذا، أحببنا أن نقدّم هذين الفكرين معًا، حيث المراجع ترافق الدراسات، فيقدرُ كلُّ باحث أن يجد انطلاقة لأبحاث لاحقة تضع غنى البشرية، ولاسيّما الشرقية منها، في متناول القرّاء. فالمسيرة إلى الأمام تفترض نقطة رجوع إلى الوراء، والفكر الحديث يجد جذوره في عالم قديم هو عالمنا الشرقيّ، كان في أصل حضارات العالم. فمتى العودة إليه؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM