الفصل السابع :في الإنسان

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

الفصل السابع

في الإنسان

اخترنا ثلاثة نصوص من كتاب نميسيوس أسقف حمص، من كتابه في طبيعة الانسان، وجعلنا عنوانًا لكل نصّ: جسد الانسان، في النفس، إجتماع النفس والجسد.

1- جسد الانسان

ومن أجل أنَّ جسد الإنسان مركَّبٌ من الطبائع، يُصيبه ما يُصيب الطبائع الأربع من التغيير والهراقة والقَطع. فإنَّ هذا التهيُّج الذي سمَّينا، هو للجسد لأنَّ الجسد يتغيَّر من اختلاف(1) الطبائع ويُفرَّغ، وإنَّ الحيَّ لا يزال يهراق من نحو القوَّة الدافعة، وعامَّة القوَّة الدافعة هي بيِّنة، ومنها ما يخفى من الرَّشْح، وسنقول في تفصيل ذلك حتّى نُبيِّنه ونُفصِّله بعدما قلنا فيه.

فإنَّ كلَّ شيء يُفرَّغ من الجسد، فلا بُدَّ له من أن يُسدَّ مكانُه وإلاَّ هلك الحيّ من هراقة التفريغ. فمن أجل أنَّ الذي يفرَّغ إنَّما هو يابس ورطبٌ ولطيف، يحتاج إلى أطعمة(2) يابسة ورطبة وإلى لطيف للنَفَس. فإنَّما الطعام للطبائع التي رُكِّبت منها الأجساد، وإنَّ كلَّ شيء من الأشياء إنَّما يُطعم شبهَه ويتداوى بما يخالفه(3). ولأنَّا نُطعَم أحيانًا بعضَ الطبائع الأربع كما هي مِثل الماء وأحيانًا مخلوطةَ الشرابِ والزيت وسائر الأطعمة المختلفة. وكذلك أيضًا ننالُ الهواءَ حتّى نستنشقه وأحيانًا يُخالِط طعامَنا وشرابَنا؛ وكذلك ننال من النار ما نستدفئ به، وأحيانًا تُخالِط طعامَنا وشرابَنا، وإنَّ طبيعة النار تدخُل في كلِّ قليل وكثير؛ وأمّا الأرض فلا ينالُها جسدُنا ولكن ينال ما يخالطها وتختلط به وما يكون منها فإنَّه يكون منها الطعام؛ وكثير من الحيوان ينالها كماهية أحيانًا وحدها كالعصافير والحمام والحجل(4) والأفاعي.

وكذلك أقول(5): إنَه لم يتكوَّن للإنسان جِلد غليظ كجُلود البقر وما أشبهها من الحيوان، ولا شعرٌ طويل على جلده كشعر المعَز وأمثال ذلك، ولا صوف كالضأن، ولا وبَرٌ كوبر الجمال، ولا قُشور كالحيّات والحيتان، ولا أصداف كبعض ما يكون لدواب البحر، ولا ريش كالطير؛ فاعتزل ذلك كلَّه عنه لاعتداله ولصُورة الحُسن والجمال، ولأنَّ الإنسان أفضل في الحسِّ من سائر الحيوان، فلذلك يحتاج الإنسان إلى اللباس لتمام ما نقصت طبيعتُه من طبيعة سائر الحيوان؛ فجعل له بحيلته الكِنّ ليسكُنَ فيه ويتحرَّز به ممّا يُؤذي طبائعه، وعلِم الطبَّ بفطنته ليشفي ما اعترض جسده من داءٍ من نُقصان الطبائع أو زيادتها؛ ومن أجل ذلك احتاج الإنسان إلى الطعام والشراب ليسدَّ ما فُرِّغ منه، ويحتاج إلى غطاء لأنَّه ليس من طبيعته ما يُغطِّيه، ويحتاج إلى الكنّ من أجل الأمطار والحرِّ والبرد، ويحتاج إلى الطبّ لِما يحسُّ به من الأوجاع؛ فإنّا لو لم نحسّ لم نألَم، ولو لم نألم لم نحتج إلى الشفاء وبلينا قبل أن نعلمَ ما الذي يُصيبنا(6).

وأقول: إنَّ الإنسان متفكِّر بموت يقبل العِلم، وإنَّه حرّ لأنَّه صميم، ذو نفس محسَّة. وإنَّما قلتُ إنَّه متفكِّر، لتمييزه، من البهائم التي لا تتفكَّر؛ وقلتُ إنَّه يموت، لتمييزه ممّا يخلد؛ وقلتُ إنَّه يقبل العِلم، من أجل أنَّ علمه بالتعليم ولأنَّه يقبل التعليم، ولأميِّزه من الجنّ الذين علمهم بغير تعليم.

والخلق كلُّه مختلف، منه ما تكوَّن لنفسه ومنه ما تكوَّن لغيره. فأمّا الذي تكوَّن لنفسه، فهو الإنسان المتفكِّر الحيّ العالِم؛ وأمّا الذي تكوَّن لغيره، فالذي لا يتفكَّر وما لا نفس له. ومن أجل أنَّ الإنسان هو أعلى الطبائع كلِّها جوهرًا، إنَّما تكوَّن لنفسه ولم يتعبَّد لشيء من الخَلق لكمال طبائعه، وتعبُّد الأشياء لنُقصانها. فينبغي ألاَّ يخدُمها إذ صار أتمَّ منها وصار مسلَّطًا عليها لا يعجزه ولا يغلِبه ولكن يقصد ويترك الشهوات ويبرأ من أعمال الجسد الغليظ.

فكما قلتُ: إنَّ جميع الخلق إنَّما تكون للإنسان، كذلك أقول: إنَّ الأشياء أيضًا تكوَّنت بعضها لبعض، فكان بعضُها لبعض سببًا، وذلك أنَّها لم تتكوَّن من أجل أنفسها، إنَّما تكوَّنت بعضها لبعض. فالأرض، إنَّما تكوَّنت للنبات؛ وكذلك أقول: إنَّ أسباب النبات لم تتكوَّن لطبائعها، إنَّما تكوَّنت من أجل النبات ولأنَّ أسباب النبات الأمطار والرياح اللوافح. وكذلك أقول: إنَّ سبب الأمطار هي حركة الرياح وسبب حركة الرياح حركة الفلك والشمس والقمر، فالشمس والقمر والكواكب إنَّما تكوَّنوا من أجل النبات، والنبات إنَّما تكوَّن من أجل الإنسان والبهائم.

وإنَّ البهائم التي لا أحلام لها والتي إنَّما غلبتها حركةُ اشتهاء الطبيعة ونظرها تحت الأرض والتي خلْقُها وشكلُها للتعبُّد إنَّما تكوَّنت من أجل الإنسان ومن أجل أنَّ الإنسان فيه شبه كلِّ شيء، فلذلك يعرف كلَّ شيء. وأقول: إنَّ في الإنسان القوَّة المتفكِّرة والتي لا تفكُّر لها، وكذلك أقول: إنَّ التي لا تفكُّر لها هي متعبِّدة للمتفكِّر.

فأمّا التفكُّر فهو الآمِر، والاشتهاء والغضب مأمور للحاجات التي يأمر بها المتفكِّر إذا كانت طبيعة الإنسان صافية؛ فأمّا إذا كان الذي لا يتفكَّر يأمر المتفكِّر، حينئذٍ تغيَّرت المراتِب وانقلبت الطبائعُ وأبتْ البهائمُ أن تتعبَّد لنا؛ وإنَّما يكون الذي لا يتفكَّر متعبِّدًا للمتفكِّر، وبيانُ ذلك أنَّ كثيرًا من الحيوان هي لخدمة الإنسان من الحوامِل والعوامِل والطير ودوابّ الماء ما يأكل الناس منه ويتلذَّذ الناس به.

ولعلَّ قائلاً يقول: إنَّ بعض هذه الأشياء لم تتكوَّن للإنسان لأنَّها تضرُّه، وإنَّما جاءت المضرَّةُ للإنسان باجتراء الأشياء عليه وإنَّما اجترأت عليه حين يعبُد الذي لا يتفكَّر المتفكِّر، وهو الاشتهاء والغضب، وتسلَّط ذلك على التفكُّر اجترأت الأشياءُ عليه لأنَّه صار في طبائعها وهو ضدُّها. فلذلك ضرَّ به.

فأمّا إذا كان المتفكِّر قاهِرًا للذي لا يتفكَّر لم تضرَّه الأشياء ولم تجترئ عليه، ورجع إلى الجوهر الأوَّل الذي ابتدأ له أنَّ الذي لا يتفكَّر متعبِّدًا للمتفكِّر.

فمن يُطيق أن يحصي فضائل الإنسان وقد صار وصلاً بينما يموت وبينما يخلُد وبين المتفكِّر والذي لا يتفكَّر، فإن عمل بعمَل المتفكِّرة عُدَّ في المتفكِّرة، وإن عمل بالشهوات عُدَّ فيمَن لا يتفكَّر، وإن عمل في إبطان الموت وإظهار الحياة صار خالدًا، فمن عمل بعمل المتفكِّرة وأبطن أعمال من لا يتفكَّر، عُدَّ في المتفكِّرة وهو أتمُّ الخلائق طبعًا. يقطع البُحور ويصعد في السماء ويهبط في الأرض، ويبلغ الأطراف ويعلم حركة النجوم ومسافة ما بينها ويتعاهد ما يغيب عنه بأمره درايةً وكتابةً، ويبلغُ ما كان غائبًا. فمن يستطيع أن يُحصي فضائلَ الإنسان!

2- في النفس

قد أُخبرت بعلَّة العالم الأكبر وما يكون فيه من الحيوان والنبات والمعادن، اختلفوا وأنا قائلٌ في النفس وواصفٌ اختلاف الحكماء فيها لأن الحكماء اختلفوا في النفس اختلافًا شديدًا وذلك من لطافتها ودقَّة كيانها.

قد قال إبقورس(7) وديموقريطوس(8): إنَّ النفس جسد. فتوافقوا في هذه الكلمة، ثمَّ اختلفوا في صميم النفس.

وأمّا أصحاب الأسطوان(9) فقالوا: إنَّما النفس ريح كهيئة النار.

وأمّا قرطياس(10) فقال: إنَّما النفس دم.

وأمّا إيبُن(11) فقال: إنَّما هي ماء.

وأمّا ديموقريطوس فقال: إنَّما هي نار. وقال: إنَّما هذا الذي نرى من شعاع الشمس إذا دخلنا في البيوت نار يعرج بعضها في بعض فتكون أنفسًا.

وأمّا إيراقليطوس(12) فزعم أنَّ النفس عامَّة وأفراد؛ فأمّا النفس العامَّة فبخارٌ من رطوبة؛ وأمّا أنفس الحيوان فمن بُخار النفس العامَّة الخارج ومن بخار الأجساد الباطن.

فاختلف أيضًا هؤلاء الذين زعموا أنَّ النفس جسدٌ. فقال بعضهم: إنَّما النفس صميمٌ (= أصلٌ وخالصٌ)، خالدة، وقال آخرون: إنَّ النفس ليست بجسد ولا صميم ولا خالدة.

وقال ثالِس(13): إنَّ النفس تتحرَّك من نحو طبيعتها ولا يُحرِّكها شيء. حركتُها دائمة.

وأمّا فيثغور(14) فقال: إنَّما هي عددٌ يتحرَّك من نحوها.

وقال أفلاطون(15): هي صميم (= قائمة في ذاتها) معقولة تتحرَّك بتوفيق من طبيعتها.

وأمّا أرسطوطاليس(16) فقال: هي ابتداء حركة جسد ذي طبيعة ذات إناء فيه قوَّة الحياة.

وأمّا دينركوس(17) فقال: هي توفيق امتزاج الأربع طبائع السخونة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

والآن نُبيِّن أنَّ عامَّة هؤلاء الذين اختلفوا في النفس يزعمون أنَها صميم؛ وأمّا أرسطوطاليس ودينركوس فكانا يقولان: إنَّ النفس ليست بصميم. وكانا يقولان: إنَّ أنفس كلِّ شيء واحدة غير أنَّها تُقسَّم في الأجرام بالزيادة والنقصان، وقال قطرنوس(18): بل الأنفس كثيرة شتّى لكلِّ شرحٍ نحوه.

فمن أجل أنَّهم اختلفوا كما قصصنا في هذا الكتاب، ينبغي لي أن أبيِّنه وأفصِّله وأبدأ بنقض قول كلِّ الذين قالوا: إنَّما هي جسد، وسيكفيني في كلِّ شيء ما قالوا هؤلاء الذين اختلفوا قولَ أمونيوس(19) معلِّم بلُطينوس(20) وقول نومينيوس(21)، فإنَّهما قالا: إنَّ الأجساد من سوس (= مطلق) طبيعتها أن تتغيَّر وتتفرَّق وتتفصَّل إلى أجزاء لا عدد لها، فمن أجل ذلك تحتاج إلى ما يجمعها ويضمُّها ويملكها وليس شيء يملكها إلاَّ النفس لأنَّها تحييها وتجمعها. فإن كانت النفس كما يقولون جسدًا لطيفًا، فإنَّ النفس إذا كانت جسدًا تحتاج إلى كلِّ ما يجمعها ويضمُّها، ولأنَّ كلَّ ذي جسد ذي طبيعة يحتاج إلى ذلك؛ فإن كانت جسدًا فإنَّها تحتاج لا تزال، كما يقولون، إلى ما يجمع أجزاءها ويؤلّف بين المتباين كالذي ذكرنا حتّى ننتهي إلى نفسٍ ليست بجسد، فتلك هي التي تجمع بين أجزاء الجسد كما قلنا(22).

وإن كانت كما يزعم أهل الأُسطوان لها حركتان، إحداهما خارجة من داخل فهي التي تعظِّم والأخرى تدخل من خارج، فأمّا ما كان خارجًا من داخل فهي التي تُعظِّم الجسد، وأمّا ما كان داخلاً من خارج فهي تضُمُّه(23)، فقلنا لهم: أخبرونا ما هذه الحركة التي تذكرون وأيُّ شيء يُحرِّكها؟ فإن كانت من قوَّة شيء فما هذه القوَّة وما صميمُها؟ وإن كانت القوَّة من عنصر فإنَّها تعود إلى ما قلنا من شأن الأجساد، وإن لم تكن عنصرًا وكانت شيئًا يُرى في العنصر فإنَّه إذًا شيء ويكون ذلك الشيء إمَّا جسدًا وإمّا عنصرًا. فإن كان أحدهما فقد احتاج إلى ما يُحرِّكه وإمّا ألاّ يكون عنصرًا أو لا جسدًا فقد بطل قولُهم.

وإن قالوا: إنَّ كلَّ جسد ذو ثلاث مساوف (= أبعاد) من أجل أنَّ النفس متداخلة في الجسد، وإنَّ النفس إذا كانت ذات ثلاث مساوف فهي إذًا جسد. وإنّا نرجع إليهم في ذلك فنقول: ليس كلُّ ذي ثلاث مساوف متداخلة جسدًا، فإنَّ المكان والصورةَ(24) كلّ واحد منهما على حدته ليس واحد منهما الجسد ولكن يكونان في الإجساد من الأحداث. فكذلك النفس إذا كانت على حدتها، فليست لها مسافة من أجل أنَّ الجسد ذو ثلاث مساوف.

وأقول أيضًا في جواب ما قالوا: إنَّ كلَّ جسد تحرّكُه من داخل ومن خارج. فما كانت حركته من خارج، فهو جسد ليس له نفس؛ وما كانت حركته من داخل فهو جسد ذو نفس. فإن كانت النفس كما يزعمون جسدًا وكانت حركتها من خارج فإنَّها جسد لا نفس لها(25). وإن كانت حركتها من داخل فإنَّها ذات نفس. ولم يُصِب هؤلاء الذين قالوا: إنَّ للنفس نفس أخرى أو النفس غير النفس. فقد تبيَّن بهذا القول أنَّ النفس ليست بجسد.

وقال إكسانوقراط فيما قال أصحاب الأسُطوان: إن كانت النفس تأكل، فإنَّما طعامها شيء، ليس بجسد(26)، وإنَّما طعام النفس العِلمُ وليس بشيء من الأجساد طعامُه إلاَّ الجسد، فلذلك لا تكون النفس جسدًا. فإن كانت النفس لا تأكل جسدًا، فكلُّ أجساد الحيوان تأكل الجسد. فهذا قولنا للذين زعموا: إنَّما النفس جسد(27).

وأمّا الذين قالوا: إنَّما النفس دم أو بُخار لأنَّه إذا فارق الجسد الدم أو البخور كان ميِّتًا، فإنَّ ناسًا أجابوهم في ذلك بغير صواب فقالوا: كان ينبغي في قولكم إذا هُريقَ يعضُ الدم أن تروا أنَّ بعض النفس قد هُريقت! ولم يُصيبوا. فإنَّ اشتباه الأجزاء القليل منها والكثير سواء. فإنَّ الماء قد قلَّ منه أو كثُر يُقال له ماء، وكذلك الورق والذهب وكلّ شيء لا تختلف أجزاؤه، وكذلك ما بقي من الدم على مثل ذلك، فإن كان الدم نفسًا، فقد بقيت نفس في الجسد وإن كان قد هُريق بعضها.

ولكنَّا لا نقول ذلك ولا نرُدّ عليهم هذا الردّ ولا نراه، ولكنّا نقول لهم: إن كان كما تقولون أنَّ الدم إذا فارق الجسد كان ميِّتًا. فلذلك تزعمون أنَّها نفس؛ فنحن حقيقون إذًا أن نقول: إنَّ كلَّ شيء فارق الحيَّ فمات فهو نفس؛ فإنَّ البلغَم والمِرَّتَين والكبد والدماغ والقلب والمعدة والكليتَين والأمعاء إذا فارق شيء منها الحيَّ مات؛ فقد كان حقُّهم أن يجعلوا كلَّ واحد ممّا عددنا نفسًا على حدته. ونقول في نحو آخر: إنَّ كثيرًا مِمَّا لا دمَ له ذوات أنفس من ذوات البحر مثل الصدف والسراطين وأشباه ذلك من حشرات الأرض فإن كانت أشياء تكون ذوات أنفس لا دم لها، فقد تبيَّن لنا أنَّ النفس ليست بدم.

وأمّا الذين قالوا: إنَّ النفسَ ماء لأنَّه لا حياة لشيء إلاَّ به، فإنّ نقول في ذلك: إنَّه يخالف ما قالوا أشياء كثيرة. فأوَّل ذلك أنَّهم لا يستطيعون العيش بغير طعام. فإن كانوا صادقين فإنّا حقيقون أن نعُدَّ كلَّ طعام على حدته نفسًا. ونقول في ذلك أيضًا: إنَّ كثيرًا من الحيوان لا يشرب الزمن الطويل، فإنَّها إذًا لا تبقى حيَّةً لا أنفُس لها مِثل العقبان والحجل وكثير من الطير. والهواء إذًا أحقُّ أن يقال هو نفس من الماء وسائر ما عددنا لأنَّا نعيش إن شئنا حينًا بغير ماء؛ وأمّا الهواء فلا حياة لنا إلاَّ به ولا ساعة. ولسنا نقول هو نفس ولكنَّ كثيرًا من الحيوان هو لا يستنشي الهواء مثل النحل والذَّرّ والنمل وكلّ شيء ليست له رئة وكثير من دوابّ البحر وكثير بما لا يستنشق الهواء ويعيش بغير الهواء(28).

وأمّا قلينثس(29) من أصحاب الأُسطوان وكرُسيبوس(30) قالا قولاً لسنا نصمُت عليه حتّى نقول فيه. فأمّا قلينثس فزعم إنَّما النفس جسدٌ لأنَّ الولد لا يُشبه الوالد في الجسد فقط ولكنَّه يشبهه في التهيُّج والسِّمت (= والحركة) والعلم؛ فإنَّ الشبه وغيرَ الشبه إنَّما هو للأجساد وليس لشيء سواها. فلذلك يقول قلينثس: إنَّ النفس جسدٌ: وهذا وهم في قوله أنَّ الشبه لا يكون في شيء ليس بجسد؛ فإنَّ الشبه يكون في العدد. وإنَّ العدد يُشبه بعضه بعضًا. فإنَّ الستَّة تُشبه الأربعة والعشرين لأنَّ الستَّة تزيدهنَّ الاثنين والثلاثة والأربعة والعشرين تزيدهنَّ الأربعة والستَّة؛ فكما يوافق الأربعة للاثنين من الضعف فكذلك توافق الستَّة للثلاثة؛ وإنَّ العدد ليس بأجساد. وكذلك أشكال مقادير الأرض يُشبه بعضها بعضًا إذا كانت زواياها متَّفقة؛ وهم يوافقونا في هذا.

وقال أيضًا قلينثس: لا نجد شيئًا ليس بجسد يُصيبه ما يُصيب الجسد ولا جسدًا يُصيبه ما يصيب ما ليس بجسد. فإنّا نجد النفس يصيبها ما يصيب الجسد في الأمراض وفي الجراح ويصيب الجسد أيضًا ما يصيب النفس، فإنَّ النفس إذا فرحت احمرَّ الوجه، هو جسد. وإذا ماتت أو حزِنت اصفرَّ الوجه. فلذلك يقول: إنَّ النفس جسد.

وأيضًا نقول فيما قال قلينثس من الذي ذكر أنَّه ليس غير ذي جسد يُصيبه ما يصيب الجسد في الاشتهاء والغضب حين تتغيَّر الأجساد.

وأمّا كرُسيبوس فقال: إنَّما الموت فراق ما بين النفس والجسد ولا يُفارق الجسد ما ليس بجسد، فإنَّه لا يُلابس الجسد ما ليس بجسد؛ فإن كانت النفس تلابس الجسد وتُفارقه فهي إذًا جسد.

فأمّا قول كرسيبوس: إنَّ الموت فراق بين الجسد والنفس، فقد صدق. وأمّا قوله: إنَّ الذي ليس بجسد لا يلابس الجسد، فقد أخطأ حين جعلها عامَّة، فأمّا في خاصَّة النفس فقد صدق؛ ولأنّا نجد أشياء تلابس الجسد وليست بجسد كالحُمرة والبياض. وقد صدق في أنَّ النفس ليس تلابس جسدًا؛ فإنَّها لو لابست الجسد لصقت به لأنَّه لا يستطيع كلّ الجسد يلتصق في كلِّ الجسد، فلذلك لا يستطيع أن يكون كلُّ الجسد ذا نفس. ولو كانت النفس تلابس الجسد كانت جسدًا فلا تستطيع أن تكون في كلِّ الجسد. ولكنّا نرى أنَّ النفس تكون في الجسد الذي تكون فيه كلّه، فقد تبيَّن لنا أنَّ النفس لا تلابس الجسد وأنَّها ليست بجسد(31).

وأمّا من قال: إنَّ النفس ليست بصميم، (= كيان واقعيّ) فسنجيبُهم إلى ذلك. فإنَّ دينركوس كان يقول: إنَّما النفس كتوفيق الألحان والأوتار؛ وقال سيمياس(32) وهو يُنازع سقراط مثل ذلك أيضًا سواء. وقال دينركوس وسيمياس: النفس شبه توفيق الألحان وشبه الجسد بالمعزَف فيستعين بعضها ببعض. فنحن ننقض قول هؤلاء كما نقضه أفلاطون في مُصحَف فيدون(33)، وأوَّل ما نقول في ذلك: إنَّ العلم إنَّما هو التذكير. فمن أجل أنَّ العِلم تذكير، كانت الأنفس قبل أن تُخلَق الأجساد. فإن كانت النفس كما يقولون مثل توفيق الألحان، فلم تُخلَق إذًا قبل الجسد ولكن كانت بعد ما خُلق؛ فإنَّ توفيق الألحان تكون الأوتار قبلها، ثمَّ تكوّن التركيب بعد ذلك فإنَّما يكون كلُّ تركيب بعدما يكون الذي في تُركَّب.

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تخالف الجسدَ وتملكه وإنَّ التوفيق لا يملُك الأوتارَ ولا يخالفها؛ فلذلك ليست النفس كتوفيق الأوتار.

ونقول أيضًا: يكون التوفيق بالزيادة والنقصان في رفع الوصت وخفضه؛ فأمّا النفس فلا تزيد ولا تنقُص من صميم أجزاء النفس ليست النفس كتوفيق الأوتار.

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تقبل الفضيلة وخلافَها، وأمّا التوفيق فلا يستطيع أن يكون توفيقًا وخلافًا للتوفيق؛ فلذلك ليست النفس كتوفيق الأوتار(34).

ونقول أيضًا: إنَّ النفس تقبل الفضيلة كلّ واحد ممّا يُخالف على حدته ؛ وأمّا توفيق الأوتار فإنَّما هو شيء يُرى في الصميم؛ وذلك الشيء فهو شيء على حدته، وأمّا الصميم فهو شيء آخر، فلذلك الصميم ليس كتوفيق الأوتار.

وأمّا أن نقول: إنَّ النفس تقبل التوفيق، فليس ذلك بالذي يجعلها توفيقًا، لأنّا نذكر فضيلة النفس إذا عملت الفضائل ولا تُسمّى النفسُ فضيلة.

وأمّا جالينوس فلم يقُل في شأن النفس شيئًا، وتبرَّأ ممّا كان تُرجِم من كتاب البيان(35) ولكنَّه قال: إنَّ النفس تمزيج يتَّبع في ذلك قول بقراط(36). فإن كانت النفس تمزيجًا (= مركّبات الجسد) كما يقول، فقد تبيَّن أنَّ النفس ميِّتة ولكن لم يكن يقول: إنَّ كلَّ نفس تمزيج غير أنَّه كان يقول: ما كان من أجزائها غير متفكِّر فإنَّه تمزيج. وأمّا في المتفكِّر، فكان يقول (...): لا يستطيع التمزيج أن يكون نفسًا. فبيان ذلك أنَّ كلَّ جسد ذي نفس أو غير وإن كانت النفس تمزيج الأجساد كما يقولون، فإنه لا يكون من الأجساد ذي نفس إنَّما هو من امتزاج الأربع الطبائع، فإنَّ من تمزيجهنَّ تكون الأجساد شيء ليست له نفس لا الحجارة ولا الخشب ولا الحديد، إن كانت النفس تمزيجًا.

فإن قالوا: ما نقول: كلُّ تمزيج الأجساد نفس، ولكنَّ بعضها، فلتخبرونا أيُّ التمزيج هو الذي يجعل للحيوان أنفسًا، فإنَّه لا يذكر من التمزيج شيئًا إلاَّ نجده في الأجساد التي لا أنفس لها. فإنَّه قد قال فيما ذكر من التمزيج: إنَّ التمزيج تسعة أنحاء، فأمّا أحدهنَّ فهو التمزيج الموفّق، وأمّا الثمانية فهو التمزيج الذي لا يكون موفَّقًا في زيادة الطبائع ونقصانها، ومن ذلك يكون السقم. وكان يقول لاطس(37): إنَّ تمزيج الإنسان إنَّما هو من الموافقة؛ فأمّا سائر الحيوان فإنَّ امتزاجها على غير الاتِّفاق في الزيادة والنقصان في استرخائها وشدَّتها وكان يقول جالينوس: إنَّا نجد فيما لا أنفُس لها التمزيج التسعة. وكان يقول أرجانس(38): إن كانت النفس تمزيجًا فإنّا نجد التمزيج يتغيَّر في كلِّ صنف من السنة وفيما يأكل، فتتغيَّر النفس إذًا وليست النفس إذًا واحدةً، وإن كانت تتغيَّر في كلِّ حين تكون أحيانًا نفسَ أسد وأحيانًا نفس شاةٍ وأحيانًا نفس شيء آخر.

وكان يقول موطوس(39): إن كانت النفس تمزيجًا والتمزيج إنَّما هو ائتلاف على صورة، فإنَّ الصورة تكون في الشيء فتُفارقه ولا يبلى الصميم إذا فارقته الصورة. فكان حقُّ الجسد إن كانت النفس صورةً ألاَّ يبلى إذا فارقته النفس، فلذلك يُعلَم أنَّ النفس ليست بتمزيج ولا صورة. فإنَّهم لا يستطيعون أن يقولوا: إنَّه لا بدَّ من أن يكون في الحيّ بعضُ ما يخالف كما نرى في النار أنَّه لا بُدَّ من أن تكون في الدفاءة. فأمّا التمزيج فيغيِّره دواءُ الأطبّاء.

وقال أيضًا: كلُّ الجسد يُحسّ، فأمّا النفس فلا تُحَسّ؛ فلذلك النفس ليست بجسد.

وأقول: إنَّ تركيبَ الجسد من لحمٍ وعصب وعظمٍ بامتزاج الطبائع الأربع، الحرارة والبرودة واليبس والرطوبة، إنَّما هي الصحَّة وهي توفيق الطبائع، وحُسن الجسد مع حسن اللون. فإن كان تمزيج الصحَّة والقوَّة والحسن هي الأنفس، فقد كان حقّ الإنسان ألاَّ يمرض ولا يضعُف ولا يكون غير حسن ما دام حيٌّا. ولكنَّ الإنسان لا يكون حسنًا ولا صحيحًا ولا قويٌّا وهو حيّ؛ فلذلك ليست النفس تمزيجًا.

وقد سأل قوم في زمن قسطنطين: كيف تكون في الإنسان الفضائل والشرّ؟ من نحو تمزيج الجسد، كما يكونون ناسٌ من تمزيجهم صحاحًا ومراضًا؛ فكذلك يكون من الناس خبثاء من كثرة المرّة السوداء، ويكون أناس آخرون لهم فخر وجُرأة من نحو كثرة الدم، ويكون ناس آخرون حلماء من نحو كثرة البلغم. وإن كان ناس يحجزون أنفسهم من هذه الشرور بحسن التأديب، فإنَّهم يملكون بتأديبهم التمزيج، وقد تبيَّن لنا أنَّ المالك والمملوك شيء فكذلك النفس والتمزيج شتّى، ولكنَّ الجسد إناءُ النفس لأنَّ الجسد، إذا اعتدل باعتدال التمزيج، أعان النفسَ على الخير إلاَّ أن يُفسِد النفسَ بأدب السوء. وإن لم يكن تمزيج الجسد باتِّفاق فإنَّه يمنع فضائل النفس وحينئذٍ يغالب النفس بالتضاد لِما لم يتَّفق. فينبغي أن يتعاهد المحتجز التمزيج بالاتِّفاق لئلاّ تغلب عليه الأضداد. ومثل ذلك المعزَف والذي يُضرَب به، فإنَّ الذي يضرب بالمعزف إذا لم يتعاهد توفيق أوتار المعزف وتقويمها فينبغي للنفس أن تتعاهد الجسدَ في التفكُّر وحسن التأديب، لأنَّه كما لا تُقوَّم المعزفة فلا يستقيم لصاحبها الذي يُريد منها إذا اختلف أوتارُها، كذلك النفس وتمزيج الجسد إذا لم تتعاهد النفس الجسد.

وأمّا أرسطوطاليس فكان يقول: إنَّما النفس في الجسد كهيئة البصر للحيّ أو لتمام الحيّ. وكان يقول: إنَّ النفس لا تستطيع أن تكون بغير جسد وليست بجسد؛ ولكنَّها للجسد وفي الجسد وينبغي لها ولا تستطيع أن تكون وحدها.

فقيل له: إنَّما سمِّيتَ النفسَ وميَّزتَ منها التفكُّر وكنتَ حقيقًا أن تسمّي النفسَ كلَّها جميعًا ولا تأخذ أضعفَ أجزائها، فإنَّك سمِّيتَ النفسَ كلها من أضعف أجزائها.

وكان يقول أيضًا: إنَّ النفس قوَّة الحياة، وإن لم يكن في الجسد النفس. فإن كان كما يقول، فقد كان حقُّ الذي يقول فيه قوَّة الحياة أن يكونَ جسدًا قبل أن يكون فيه الحياة. فلا يستطيع أن يكون جسدًا قبل أن يكون فيه قوَّة الصورة؛ فإنَّ العنصر ليس بجسد مصوَّر، وإنَّه لا يستطيع ما لم يكن مصنوعًا أن يكون له قوَّة يصنع بها شيئًا. فإن كان إنَّما قوَّة الجسد مبتدعة، فكيف تكون قوَّة الجسد حياة وهي في أشياء أخرى؟ فإنَّ الشيء يكون في الشيء، يكون قوَّة ولا يعمل به كهيئة البصر؛ فإنَّ البصير إذا نام لم يعمل ببصره وفيه البصر. وأمّا النفس فلا يستطيع من كانت فيه إلاَّ أن يعمل؛ فإنَّ النائم لا يُعدَم عملَ النفس، لأنَّه يُطعَم وهو نائم من قبل القوَّة الطاعمة ويتغذّى ويتنفَّس ويحلُم؛ وذلك بيان الحياة. فمن هنالك نعلم أنَّه لا يستطيع أن يكون في شيء قوَّةُ الحياة وليس بحيّ. فإنَّ عمل الحياة هو الذي يُبيِّن النفس، وليس يُبيِّن النفسَ شيءٌ سوى ذلك لأنَّ الحياة في النفس، والجسد ميِّتٌ لا حياة فيه وإنَّما حياته من النفس؛ فلذلك قول من قال: إنَّ الصحَّة في الجسد كهيئة الحياة في النفس. فهو كذب، لأنَّ الذي يقول ذلك ليس يعني حياة النفس ولكن يعني حياة الجسد، ولكنَّه لا يدري ما يقول لأنَّ صميم الجسد يقبل ما تخالف من الصحَّة والمرض؛ فأمّا صميم النفس ولا يقبل ذلك لأنَّ صميم النفس لا يقبل الحياةَ والموت، كما يقبل الجسد الصحَّة والمرض، ولكن إنَّما يقبل الموتَ والحياة صميمُ الجسد. فلذلك لا تستطيع النفس أن تكونَ صنعًا ولكنَّها روحًا غير جسد ولكنَّها تقبل الفضيلة والشرّ.

وكان يقول أرسطوطاليس: إنَّما النفس صنعٌ لا تتحرَّك من نحو طبيعتها ولكن إنَّما الحركة تحدث فيها من قبَل الجسد. فكيف أمكنه القولُ أن يقول: إنَّ النفس لا تتحرَّك وتُحرِّك الجسد لأنَّ الحسن يحرِّك ولا يتحرَّك؟ وإنّا نقول في ذلك: إنَّ الحسن لا يتحرَّك وهو يُحرِّكنا؛ فإنَّه لا يحرِّك شيئًا لا حركة له، ولكنَّه يحرِّك ما كان من طبيعته الحركةُ. فإن كان الجسد يتحرَّك على حدته من دون النفس لم يقل: إن شيئًا يحرِّكه ما لا يتحرَّك، ولكن لا يستطيع الذي لا يتحرَّك من طبيعته أن يُحرِّكه ما لا يتحرَّك، فمن أين يكون للجسد الحركة إلاَّ من قبل النفس، لأنَّ الجسد لا يتحرَّك من نحوه، ولكنَّ النفس هي حركة وإنّما الحركة بدءٌ وثني (= يُعاد مرتين)؛ فأمّا بدء الحركة فهو حركة لما يتحرَّك. وأمّا الثني فحركة ما كانت له طبيعة الحركة. فإن كانت النفس كما يقول أرسطوطاليس لا تتحرَّك وتُحرِّك الجسد كهيئة فإنَّه شبيهها، وقال: إنَّ الحسن لا يتحرَّك وهو يُحرِّك، فكذلك النفس(40).

فإن كان كما يقول، فهي إذًا حركةٌ بالطبيعة، فمن أين للأجساد بدء الحركة؟ فإن قالوا: إنَّما حركة الأجساد من الطبائع لأنَّ بعضَها خفيف وبعضها ثقيل، فقد أخطئوا لأنَّ الخفَّة والثقل لو كانا حركة لم يزالا عاملَين أبدًا لا يبطُلان لأنَّه ليس شيء من الخفاف ولا الثقال إلاَّ يَسكن إذا صار إلى آخِر طبيعته فلا يتحرَّك. فلذلك لا تكون الخفَّة ولا الثقَل سبب بدء حركة، ولكنَّها الخِفَّة والثقَل يلي الطبائع. فإن كانت الطبائع كما يقولون، فإنَّ الخفَّة والثقَل لا يتفكَّران ولا يحسّان. وإن كانت الخِفَّة والثقل لا يحسّ ولا يُفكِّر، فإنَّ الأجساد كذلك. وإن كانت النفس كما يقولون، إنَّما تحدُث فيها حركة من أجل الأجساد، وإنَّما تحرُّك الأجساد من نحو طبائعها، فقد كان ينبغي للجسد أن يتحرَّك وإن فارقته النفس؛ وإنَّه لو كان كذلك كان الجسد حيٌّا بغير نفس، وهذا هو الكذِب والباطل.

ونقول لمن لم يُصِب منهم، أنَّ كلَّ شيء يتحرَّك من طبيعته يتحرَّك مجشَّمًا، وما تحرَّك مجشَّمًا فإنَّ له طبيعة حركة. وقد أبطل من قال ذلك، (= احتمالاً) لأنّا نرى السماء تتحرَّك من طبيعتها ولا تُجشِّمها الحركة. وقالوا: إنَّ كلَّ شيء يتحرَّك من طبيعته يعود إلى أن يسكنَ من طبيعته كهيئة النار والتراب. وقد أبطلوا، لأنَّ السماء والشمس والقمر وسائر الكواكب بتحرُّك من طبائعها وليس تعود إلى أن تسكنَ من طبيعتها، لأنَّها لو سكنت كان ذلك بلاها (= بلاءها) وكلُّ شيء دائم الحركة لو عاد إلى أن يسكن بلي. فكفانا ما قد تبيَّن لنا من شأ النفس وما ذكرنا أنَّها لست بصنع ولا شيء ممّا لا يتحرَّك وإنَّ سببَ قوَّاتها ليس بجسد.

وأمّا فيثغوراس فإنَّه كان يُشبِّه كلَّ شيء بالعدد؛ فكان يجعل حدَّ النفس عددًا يتحرَّك من نحوه، واتَّبع في ذلك قول إكسينوقراط؛ ولم يكونا يقولان: إنَّ النفس عدد، لكنَّهما كانا يقولان: هي مّمّا يُعدّ، ويقولان: إنَّ النفس هي التي تُعدِّل الأشياء بعضها ببعض ويكون كلُّ شيء بعدد؛ فلذلك النفس من العدد(41). وقد قالوا مع ذلك: إنَّ النفس تتحرَّك من نحو طبعها.

فأمّا الذين قالوا: إنَّ النفس تتحرَّك من نحوها، فقد صدَّقوا. وأمّا الذين قالوا: إنَّها من العدد، فلم يُصيبوا لأنَّ العدد كم والنفس صميمٌ؛ فلذلك لا تكون النفس عددًا.

ونقول أيضًا: إنَّ النفس صلة؛ وأمّا العدد فليس بمتواصل، فليست النفس عددًا. ونقول أيضًا: إنَّ العدد شفعٌ أو وتر(42)؛ وأمّا النفس، فليست بشفع ولا وتر. ونقول: إنَّ العدد(43) يزيد وينقُص في الزيادة والنقصان؛ وأمّا صميم(44) النفس فليس يزيد ولا ينقص. ونقول أيضًا: إنَّ النفس تتحرَّك من نحوها؛ وإنَّ العدد لا يتحرَّك من نحوه.

وأقول: إنَّ العدد ما دام واحدًا لا يستطيع أن يتغيَّر؛ فأمّا النفس، فإنَّها واحدة وإنَّ لها قوَّة متغيِّرة، تكون عالِمة بعد الجهالة، وتكون صالحة بعد أن كانت طالحة؛ فليست إذًا النفسُ عددًا.

وأمّا أنوميوس(45) فحدَّ النفس صميمًا (كائنًا) غير جسدٍ وجعل سبب عملها كهيئة سبب الجسد؛ فجمع في قوله حقٌّا وباطلاً. فأمّا قوله: إنَّ النفس صميم غير جسد، فقد صدق؛ وأمّا قوله: إنَّ سبب خلق النفس كهيئة سبب الجسد، فإنَّما أخذ ذلك من قول أرسطوطاليس؛ فقد اختلف قوله أنوميوس (...) وأنا أقول: إنَّ كلَّ شيء يُشبه الجسد يبلى ويموت؛ وإنَّما هو أحد أمرين، إمّا أن يقول كما قال أصحاب الأُسطوان: إنَّ قوَّةَ النفس كهيئة الجسد، وإمّا أن يقول: هي صميم غير جسد. فإن قلنا: هي صميم غير جسد، فلا نقول: إنَّ قوَّة النفس كهيئة قوَّة الجسد؛ فإنَّا نجعلها جسدًا كهيئة أنفس البهائم، ثمَّ ليس لها معقول.

3- اجتماع النفس والجسد

قد أخبرنا بعلل النفس وما تكلَّمتْ فيها الحكماء، والآن أقول كيف يجتمع النفس والجسد الذي لا نفس له. فإنَّ في الْتماس ذلك مؤونة وشدَّة على العلماء. فكيف بالجهّال! قد قال رجال من الحكماء أنَّ العقلَ شيء سوى النفس: فذلك من أغلق أمر لأنَّ كلَّ شيء يجتمع في تقويم صميم واحد يختلط، وكلُّ شيء يختلط يتغيَّر ولا يبقى على ما كان قبل ذلك. وسيستبين لنا في أمر الطبائع الأربع أنَّ الأشياء إذا اجتمعت تكوَّن منها شيء سواهنَّ. فكيف تجتمع النفس التي لا جسد لها، وهي صميم على حدتها، في جسد، وتكون جزءًا من الحيّ وتحفظ صميمَها غير مغيَّرة ولا بُدَّ من أحد أمرين: إمّا أن تجتمع النفس والجسد ويُعين بعضها بعضًا كهيئة الطبائع؛ فإن كان كذلك فإنَّ الأجساد التي هي فيها من الأربع المبتدعات لا تكون أجسادًا حتّى يتغيَّر الجسد بالمبتدعات، وإمّا اللواتي تَلصَق كما يلصق الشيءُ بعضه في بعض أو يمتزجنَ كالطلاء والماء.

فإن قلنا: إنَّ النفس تلصق بالجسد، فقد أخطأنا لأنَّه قد تبيَّن فيما قد ذكرنا قبل ذلك من قولنا، إنَّ النفس لو التصقت بالجسد كما يلصق الشيء بعضه في بعض، لم يكن الجسدُ كلُّه ذا نفس إلاَّ الذي تلصق به مع أنّا لا نستطيع أن نقول: إنَّ الذي يلصق بعضه ببعض شيء واحد.

وإن قلنا: إنَّ النفس تمتزج بالجسد كما يمتزج الطلاء بالماء، لم نُصِبْ أيضًا؛ فإنَّ امتزاج الطلاء بالماء بعد أن يختلطا لا يكون ماءً خالصًا ولا طِلاءً مع أنَّه يكاد يكون شيئان امتزاجهما كهيئة الالتصاق، وإذ كنّا لا نستطيع أن نبلغَ عِلم ذلك من أجل دِقَّة اختلاطهما، فإنَّك إن صبغتَ الإسفنجة في الزيت، ثمَّ جعلتَها في الطلاء والماء الممزوجين، نشفت الماء وحده وبقي الطلاء. فأمّا الشيء الذي يتَّحد كهيئة النفس والجسد فلا يُستطاع أن يُفرَّق كلُّ واحد منهما على حدته ما داما متوحِّدَين. وإن كانت النفس والجسد لا يتوحَّدان ولا يمتزجان ولا يلتصقان، فأيُّ شيء هذا الذي يجعل النفسَ والجسدَ حيٌّا واحدًا؟

وأمّا أفلاطون فمن أجل هذا السبب الذي ذكرنا، لم يكن يُسمّي الجسد والنفس حيٌّا ولكنَّه كان يقول: إنَّما النفس تعلو الجسدَ كهيئة اللباس واللابس؛ وفي هذا القول قلتُ: إنَّه لا يستطيع أن يكونَ كاللباس ولا يُشبِه شيئًا واحدًا؛ وأمّا النفس والجسد فيُقال لهما حيٌّا واحدًا.

قد فسَّر هذا القول وبيَّنه أمّونيوس معلِّم أفلوطين فقال: إنَّ المعقولة طبيعة تستطيع أن تتوحَّد معها يقبَلها من الأجساد كهيئة امتزاج الأجساد التي يغيِّر بعضهنَّ بعضًا وتبقى بعدما تتوحَّد طبيعتها لا تتغيَّر كهيئة الذي يلتصق بعضه ببعض.

فأمّا اتِّحاد الأجساد التي تكون من طبائع شتّى، فلا بُدَّ أن تتغيَّر الطبائع من أجل أنَّها تغيَّرت إلى جسد سوى الذي كانت قبل ذلك. ويكون من الطبائع الأطعمة ومن الأطعمة يكون الدم ومن الدم يكون اللحم وسائر أجزاء الجسد.

ويكون في المعقولة اتِّحادٌ ولا يتَّبعه تغيُّر؛ فإنَّ طبيعة صميم المعقولة لا تتغيَّر ولا تهلك من أجل أنَّها خالدة والنفس هي حياة؛ فلو أنَّها تتغيَّر حين تكون في الجسد لم تكن ولما كانت النفس، إذًا انتفع الجسد إن لم يكن جسدًا ينال منها الحياة. فلذلك وصفتُ في كتابي هذا ما وصفتُ من أمر النفس وقلتُ: إنَّ النفس لا تتغيَّر وإن اتَّحدت مع الجسد، لأنَّ صميم المعقولة لا يتغيَّر ولا يُصيبها بلى مع الجسد الذي تتَّحد فيه.

فمن هنالك تبيّن لنا أنَّ النفس تتَّحد مع الجسد ولا يُغيِّرها الجسد، وبيان ذلك أنَّ النفس توجَد في الجسد لأنَّها يُهيِّجها ما يُهيِّج الجسد من الأوجاع. فبيان ذلك أنَّ النفس لا تتغيَّر في الجسد عند النوم، لأنَّ النفس كأنَّها تفارق الجسد في النوم وتتركه كالميِّت إلاَّ ما يبقى في الجسد من الحياة، وهي كمِّيَّةُ البخار لئلاّ يهلك الجسد. فأمّا النفس فإنَّها تبقى وتعمل عملها في النوم وهو الرؤيا؛ فإنَّها تكاد تعلَم ما هو كائن.

وإنَّ النفس تتفكَّر وحدها فتعلم عِلم طبائع الأجساد من غير أن يشاركها الجسد. ولو أنَّها كانت جسدًا لم تدخُل في الأجساد وتعلم طبائعهنَّ. ومن أجل أنَّ طبيعة النفس لا تتغيَّر بالجسد الذي اتَّحدت فيه من نحو كيانها، وإنَّما النفس كشبه الشمس والجسد كشبه الهواء، فكُلَّما دنت الشمس من الهواء ازداد الهواء استنارة وتغيَّر ويُوجَد في الهواء نورها، ولا تتغيَّر الشمس. فمن أجل هذا الذي قلتُ اتَّحدت الأنفس في الأجساد ولا تتغيَّر.

أقول: إنَّ شكل النفس يُخالف شكلَ الشمس، لأنَّ الشمس جسد وهي محدودة تحتاج إلى مكان ويمُنح ضوء الشمس أن يكون في مكان أجساد أُخَر. وكما أنَّ نورَ الشمس يُحَدّ، كذلك نور النار يكون في الحطب أو فيما كانت فيه يمتنع نورُها أن يكون في مكان آخر.

وليس كذلك النفس لأنَّها ليست بجسد ولا تُحدّ في مكان، ولكنَّها تدخل في كلِّ شيء من الجسد فتُنوِّر الجسد كلَّه وأجزاءه لأنَّ الجسد لا يملك النفس، ولكنَّ الجسد فيها من أجل أنَّها معقولة. ولا تمنع الأجساد النفسَ أن تدخل في كلِّها وتكونَ فيها، ولا يستطيع مكانٌ أن يحدَّها أو يمنعها أن تدخل فيه أو تخرج منه.

فإنَّها في كلِّ مكان معقولة، فبيان ذلك حين تُفكِّر النفس وتعقل لأنَّها ليست لها جثَّة ولا أجزاء متجسِّدة، فلذلك لم تحتج إلى مكان يحصُرها ويحبِسها، وكيف تستطيع أن تُحاطَ بالذي لا أجزاء له. وهو ألطف اللطيف، أو تحبَسَ في مكان، لأنَّ المكان هو للأجساد ذوات الجثَّة، فإنَّ حدَّ المكان هو المنتهى الذي يُحيط بما يحاط به.

فلو أنَّ رجلاً قال: إنَّ النفس إذا تفكَّرت الإسكندريَّة كانت بها، أو أرمينية أو الصين كان لا يحدُّها في مكان، ولكن كان يُقال ذلك، ولا يكون. فإنَّ ذلك لو كان حقٌّا لم تستطع أن تكون النفس حين يتفكَّر ذلك المتفكَّر في المشرِق أو في المغرِب في حفظه. ولكنّا نقول: إنَّما تذكر المكان الذي تفكَّرت فيه ولا تكون فيه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM