الفصل 6: مجالات الحكمة في بلاد الرافدين

مجالات الحكمة في بلاد الرافدين

هذه البلاد التي هي على ملتقى الحضارات العديدة، وملتقى ثلاث قارّات، من مصر في أفريقيا إلى الهند في آسية إلى أوروبّا بما يأتي عن طريق تركيا الحاليّة، التي هي أرض إيونية حيث انطلقت الفلسفة اليونانيّة. هذه البلاد التي عرفت السومريّين الذين وصلوا إلى الجنوب الشرقيّ في الألف الرابع. وعرفت البابليّين مع حمورابي (1792-1750) والأكاديّين مع سرجون الأكاديّ، والأشوريّين قبل نهضة البابليّين الجديدة بانتظار مجيء الغرب في القرن السادس ق.م. تركت لنا الكثير من حكمة هذه الأرض التي مرّت عليها شعوب وشعوب فحافظت على تقليدها الذي اغتنى واغتنى. ولبث مخفيٌّا تحت الأرض، وكُشف منذ القرن التاسع عشر في مكتبة نبوخذ نصّر وفي أماكن عديدة. إلى هذا التراث نودّ أن نتعرّف. ونقسم كلامنا إلى أربعة أقسام.

1- الأخبار القصيرة

مثل هذه الأخبار تحمل الألغاز والأمثال والأقوال المأثورة، على ما نقرأ في بداية سفر الأمثال: »هذه أمثال سليمان... وغايتها أن تعرّفك الحكمة وحسن الرأي... يسمعها الحكيم فيزداد علمًا، والفهيم فيكتسب هداية، ويتبيّن الأمثال وسرّ معانيها، وأقوال الحكماء وأحاجيّهم« (1: 1-6). وها نحن نورد بعضًا منه، فنرى قرابته من عالم الهند مثلاً الذي وصل منه مثلاً كتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع، عبر بلاد فارس والحضارة السريانيّة.

- الأسد والعنزة: »أمسك أسد عنزة. فقالت له: »افلتْني فأعطيك نعجة. هي رفيقة لي، سمينة جدٌّا«. فقال الأسد: »سأقتلك. ولكن قولي لي ما اسمك؟« فأجابت العنزة الأسد: »أما تعرف اسمي؟ اسمي هو أوم-مو إ-دا. أك.!« وبعد ذلك، وصل الأسد إلى الحظيرة فزأر: »أفلتُك«. فأجابت وقالت له: »افلتَّني فدلّلت على فطنتك. فكّرت بالخراف ولكنّها لا تسكن هنا«.

الاسم الذي أوردته العنزة يحمل معنيين: تبدو فطنًا تجاهي. ثمّ: أبدو فطنة تجاهك. أمّا الجواب الأخير، فالعنزة دلّت على فطنة غابت عن الأسد وإن ارتفع صوته زائرًا.

- الكلب في الوليمة: أتى الكلب إلى الوليمة. فلمّا رأى العظام الباقية، تابع طريقه، وهو يقول: »حيث أنا ماضٍ أكثر من هذه لكي آكل«.

وحذّرت كلبة صغارها: »لا تأكلوا خبزًا مقدّمًا للموتى. فالرجل الذي حمله سيأكله بنفسه«.

- الثعلب وامرأته: قال الثعلب للثعلبة: تعالي نطحن بأسناننا »أونوج« (مدينة الورق، اليوم) كالثوم، ونجعل كولاب (أحد أحيائها) عند أقدامنا كنعلين«. وما إن اقترب من المدينة حتّى بدأ الكلب يجعر. فنادى الثعلب زوجته: نمضي معًا إلى حيث تقيمين. فلا نجد في المدينة سوى الشرّ الذي يجعر«.

ونذكر أحجيّة تعود إلى الزمن البابليّ القديم:

بيتٌ مُسنَد كالسماء على أساساته

بيت يغطّيه الكتّان كغلاف نظيف يضمّ لويحة

بيت ينضَّب على منصّة كالبطّ

تدخله بعينين مغمضتين وتخرج منه بعينين مفتوحتين

الجواب: بيت الكتبة.

والحوار بين الأشجار معروف. بين النخلة الطويلة والأثلة بأغصانها النحيلة. تفتخر النخلة بقامتها وما يمكن أن يستفيد منها الفلاّح: الأغصان للبيت، العود ليفلح أرضه. ثمّ المذراة. وشجرة الأثل أبانت حكمتها: »إلى مائدتي يأكل الملك وفي كأسي يشرب. في قصعتي يأكل الجنود. من سلّتي يجمع الخبّاز الحنطة. وأنا الحائك أمزج الخيطان لكي ألبس الجيش. للإله أنا خادمة في معبده. أنظّف هيكله. مهما بدوتِ أميرة، فأنا أزاحمك«.

وتركت لنا لويحة من أشور جدالاً بين الثعلب والذئب والكلب. هبّت عاصفة، فلجأ الثلاثة إلى مخابئهم. ما خاف الكلب من الذئب. أمّا الثعلب فدخل إلى أعمق وكره. نقرأ كلام الذئب للكلب: »ما تركتني في سلام. يخاف منك صغار بيتي، والخوف منك يدركني أمامي وورائي«. فأجاب الثعلب وهو يبكي بكاءً مرٌّا، بعد أن احترق قلبه تأثّرًا وغرقت عيناه بالدموع. قال: »أنت أيّها الذئب، عنوان العنف، يا من تسيء، يا من تذبح رفيقك. لماذا ترمي مشاعل فتنتك على القصب...« ولكن ضاع جواب الكلب.

وهذه بعض الأقوال:

*     هربت الفأرة من وجه ابن عرس فدخلت إلى جحر أفعى. فقالت: »الحاوي (الذي يرقي الحيّاة ويجمعها) أرسلني إليك. سلام«!

*     تبع ثعلب خطى أسد، وبحث على الأرض على آثار ذئب. وحين اقترب من باب المدينة، طاردته الكلاب. فانطلق مسرعًا كالسهم لينجو بحياته. فمن لا يعرف ذاك الناظر إليه يقع على من يلاحقه.

*     الفأرة التي تجمع الحبّ في الحقول، تهزأ من النحلة التي تحطّ على زهور الحديقة.

*     حطّ عصفور الدوريّ على فيل، وقال له: »أيّها الصديق، لتكن أيا، رفيقة شمش، في عونك. فهي تمنحك الماء لتشرب. فأجاب الفيلُ الدوريّ: »ما شعرتُ أنّك على ظهري. بماذا تتدخّل. وما شعرت أيضًا حين طرتَ عن ظهري.

وننهي هذا القسم »بالرجل المسكين في نيفور«. هو نصّ يدلّ على صراع الطبقات في بلاد الرافدين: هناك الملك الذي يبدو حليمًا، وشيخ البلد المليء من ذاته والعديم الذمّة. أمّا المسكين المهان في كرامته فيستعمل جميع الحيل ليعاقب ذاك الذي أذلّه. هو لا يلين ولا يرحم حين ينتقم، ويفرح حين يرى شيخ البلد يتعذّب، ويبدأ الخبر كما يلي: »كان رجل من نيفور، بائس ومسكين، اسمه جيميل نينورتا، رجل حزين جدٌّا. جلس في مدينته، في نيفور متألّمًا. لا فضّة معه كما هي العادة عند أمثاله. لا ذهب عنده كما لأمثاله. استغنى محلّه عن الحنطة. رغب في الخبز فاحترقت أمعاؤه، وتعذّب وجهه رغبة في اللحم والجعة. نقصَه الطعامُ كلَّ يوم فلبث في سريره جائعًا، وهو يلبس ثوبًا لا يبدّله«.

2- الأمثال السومريّة

اعتدنا أن نقرأ »أمثال سليمان« في شطرين متوازيين، إمّا في معنيين مترادفين أو في معنيين متعارضين. ألفي سنة قبل المسيح، ترك لنا السومريّون المجموعات التي تُعرّفنا بالإنسان ووعيه واندفاعه وبما يحرّكه في أقواله وتصرّفاته. هي سبع مجموعات.

* المجموعة الأولى

- ليبقَ ملكي سالمًا، فاستنفد ملكك.

هذا ما يجعل الرفيق يقدّر رفيقه في بيته

- لا تقول لي ما وجدتَ،

بل تقول لي ما خسرتَ.

- ليس للفقير سوى الموت، لا البقاء حيٌّا

حين يكون له خبز لا يكون له ملح.

حين يكون له الطيب، لا يكون له اللحم

حين يكون له اللحم، لا يكون له الطيب.

- الذي يجري مع الريح في الصدق

يطلب له أوتو (إله الشمس) دومًا مرفأ أمينًا.

الذي يجري مع الريح لأهداف شرّيرة

يقوده إلى الغرق دومًا، بعيدًا عن الشاطئ

- خذ المرأة التي تختار،

فيا ليت لك ابنًا بحسب رغبة قلبك!

- الزواج هو عمل الرجل،

والأولاد، هذا ما يرتبط بالإله.

بالنسبة إلى القولين الأخيرين، نستطيع أن نذكر سفر الأمثال:

- من وجد زوجة وجد خيرًا،

ونال رضى من الربّ (18: 22).

- البيت والمال ميراث من الآباء،

والمرأة العاقلة من عند الربّ.

* المجموعة الثانية

- وُلدتُ في يوم القدر...

فالقدر عاصفة هوجاء تهبّ في أرض سومر.

- الفقير لا يرفع يده على ولده

بل يعامله دومًا مثل كنز

- كاتب تتبع يده سرعة الإملاء،

ذاك هو الكاتب الذي تحتاج.

- بوّلَ الثعلب في البحر فقال: البحر كلّه بولي.

بوَّل في نهر دجلة فقال: جعلت موج السمك يصعد

في القنوات وفي الحفر.

- ما اصطاد الثعلبُ بعد،

وهيّأ له منذ الآن عقدًا من خشب.

- قرب البيت تكون لك أرضٌ لم تبنِ فيها

قرب الحقل يكون لك بيدر تدرس القمح عليه.

* المجموعة الثالثة

- قال الراعي: أمضي اليوم.

وقال الراعي الصغير: سأمضي غدًا.

وقال: غدًا، غدًا، وراح الوقت وما مضى.

في سفر الأمثال (6: 9-11)

- إلى متى تنام يا بطّال

ومتى تقوم من نومك؟

بين قليل من النعاس

وطيّ اليدين قليلاً للنوم

يداهمك الفقر والخسارة.

وقال سفر الأمثال أيضًا (16: 24):

الكلام الجميل شهدُ عسل.

يحلو للنفس ويشفي العظام.

وفي سومر: الكلمة الحلوة رفيق عذب للناس الكثيرين.

وفي المجموعة الرابعة، تشديد على دور كلّ واحد في العمل: الفلاّح يفلح الحقل، والحاصد يحصد الشعير. وفي المجموعة الخامسة، يرمي الجواد راكبه عن ظهره لئلاّ يضعفه. والحمار يرمي الكيس الذي على ظهره ويقول: وداعًا يا تعب الأيّام الماضية. ونقرأ أخيرًا في المجموعة السابعة تنبيهًا من العجلة والتسرّع:

- قد تغرق السفينة فأقفز منها

- انتهى نهار لك. فما الذي حصل لك؟

- ما زالت السفينة عائمة، وما غرقت.

وفي النهاية، قول بشكل أحجيّة:

أركض هنا وهناك ولا أتعب،

أركض هنا وهناك ولا أعطي عينيّ وسنًا.

3- تعليم وإرشاد

أ- تعليم شوروفاك

نمتلك من هذا النصّ السومريّ العائد إلى منتصف الألف الثالث نسختين. الأولى واسعة، ونُسخت في القرن 19. ثمّ ترجمة أكاديّة مجزّأة وُجدت في مكتبة تغلت فلاسر (1116-1078). هذا »التعليم« يبدو بشكل مرافعة عن طريقة الحياة السومريّة، تجاه عادات الغرباء، من برابرة وبدوٍ وجبليّين. شوروفاك والدُ زيوسودرا الذي هو»نوح« في الأدب السومريّ.

في ذلك اليوم، في ذلك اليوم البعيد،

في تلك الليلة، في تلك الليلة المتأخّرة،

في تلك السنة، في تلك السنة البعيدة،

في ذلك الزمان عاش مالك الحكمة

ورجلُ كلام الفطنة

وعارف الكلام في أرض سومر.

عاش شوروفاك، مالك الحكمة،

رجلُ كلام الفطنة

عارف الكلام في أرض سومر.

لابنه أعطى شوروفاك نصائحه

شوروفاك بان أوبورتوتو

أعطى نصائحه لابنه زيوسودرا:

»أعطيك نصيحة، يا ابني،

يا ليتك تسمع نصيحتي

يا زيوسودرا أقول لك كلمة،

يا ليتك تُصغي إليّ

لا تهمل نصيحة من عندي،

ولا تبدّل كلامًا قلتُه

نصيحة الأب شيء ثمين

يا ليت رقبتك تخضع لها!

لا تشترِ جحش حمار ناهق،

فهو سيتبعك وهو ينهق

لا تجعل حقلك في طريق

فلك يكون الخراب

لا تزرع حقلاً تمرّ فيه الحمير

...

لا تبنِ بئرًا في حقلك،

يكون لك الماء ومعه ضرر كبير

فتكون لك الضوضاء.

...

يا ابني، لا تقترف جريمة!

لا تقطع بفأس يدك!

لا تسلّم لرجل طلب زواجك

لا تداعب صبيّة متزوّجة،

فالأخبار تكون بلا حدود.

يا ابنتي، لا تجلسي قرب متزوّج،

ولا تكوني سبب خصام فتُحتقَري.

لا ترافق الرجل المستبدّ،

فيهيّء لك مصير العبيد

لن تعبر قرب بيت الناس

إلاّ ويقولون لك: أسرع، أسرع.

لا تحلّ قصب سياج حديقة

فيقولون لك: أصلح، أصلح.

لا تدفع خصمي إلى القتال،

ولا تسهّل الطريق لكلّ شجار.

يا ابني، لا تعتدّ وتُفرط في اعتدادك،

بهذه الوسيلة لا تلقي أحدًا على الأرض.

لا تكن عنيفًا مع ابنة رجل،

ففي البلاط الملكيّ يعرفون دومًا.

ب- نصائح الحكمة

جُمعت هذه النصائح في وحدات داخل موضوع واحد، وحُفظت في الأكاديّة في نسخ تعود إلى الألف الأوّل، إلاّ أنّها ألّفت خلال الألف الثاني، وانتشرت انتشارًا كبيرًا. هي نصائح تدلّ على العقل السليم والرشاد والتفكير الحسن: أنتَ الرابح إن حافظت على لسانك وامتنعت عن العنف، وأنت تختار أصدقاءك، وتبتعد عن البغايا، ولا تسرق الملك الذي تخدم.

ليكن فمك ملجمًا وخطابُك مراقبًا.

تلك كرامة الإنسان. فشفتاك ثمينتان.

إكره الوقاحة والإساءة،

ولا تهزأ ولا تسئ لأنّ الثرثار يُحتقَر.

لا تمضِ إلى المحكمة لتقيم هناك،

ولا تتأخّر حيث الناس يتخاصمون.

فقد يضرّونك في خصامهم،

وتُدعى كشاهد من أجلهم

في قضيّة لا تعنيك،

تُدعى لتكون شاهدًا.

أمام خصومة، امضِ ولا تهتمّ

فإن كنت معنيٌّا بها أطفئ نارها

فالخصومة هوّة كبيرة تفتح فاها

وجدار مزعزع يدفن عدوّه.

يذكرون ما نسي الرجل

ويتّهمونه لأنّه نسي.

في بيتك، لا تكرم الخادمة،

فتُدبّر مخدعك كأنّها زوجتك

فتسمع بفم عمّالك:

بيت تدبّره عبدةٌ سائرٌ إلى الخراب

لا تتزوّج بغيٌّا فأزواجُها عديدون

ولا ابنة عشتار التي تكرّست للإله

ولا خادمة الهيكل، يقترب منها العديدون

فإن ساءت حالك، فهي لا تسندك

وإن خاصموك تهزأ منك

لا تعرف الاحترام ولا الخضوع،

وإن سيطرت على بيتك فاطردْها

لأنّها تنتظر خطى الرجل الغريب

يا ابني إن رغب الملك وكنتَ في خدمته،

اجعل ختمَهُ في رقبتك واحفظه

افتح غرفة كنوزه وادخل

بما أنّ لا أحد يقدر سواك

تجد في الداخل الغنى الكثير

ولكن لا تلقي عليه نظرك

لا تدفعُك رغبتك للسرقة في الخفاء

فالقضيّة ستُرفع إلى المحكمة

وسرّ سرقتك يُعلَن على الملأ.

بالنسبة إلى الفم، يقول سفر الأمثال:

من يضبط فمه يحفظ حياته،

ومن تُثرثر شفتاه يهلك (13: 3)

صاحب المعرفة يضبط كلامه.

وصاحب الفهم وقور الروح.

يصمت البليد فتحسبه حكيمًا،

ومن ضمّ شفتيه تحسبه فهيمًا (17: 27-28).

وفي ما تعلّق بالحكمة والخصومات، نقرأ أيضًا في سفر الأمثال:

من جازى عن الخير شرٌّا،

فلن يخرج الشرّ من بيته

يبتدئ النزاع كمياه تنفجر،

فانظر في أمره قبل أن يحتدم (17: 13-14).

لا تتسرّع بتوجيه التهم،

لئلاّ فيما بعد يهزمك خصمك.

ناقش التهمة أوّلاً مع خصمك (25: 8-9).

بالنسبة إلى البغيّ، قلنا إنّ أزواجها عديدون. حرفيٌّا: 3600. أي عشرة في كلّ سنة، والسنة تتألّف أصلاً من 360 يومًا، لأنّها تألّفت من 12 شهرًا، وتألّف كلّ شهر من 30 يومًا. قال أيضًا سفر الأمثال:

تنجو من المرأة العاهرة،

من الفاجرة المعسولة الكلام،

التي تركت رفيق صباها،

ونسيَت عهدها لله

فهوى بيتُها إلى الموت،

وطريقُها إلى الظلمات

الداخلون إليها لا يعودون،

ولا يسيرون في سبل الحياة (2: 16-19).

شفتا العاهرة تقطران العسل،

وكلامها أليَن من الزيت

أمّا عاقبتها فمرّة كالعلقم،

ومسنونة كسيف له حدّان (5: 3-4).

ويتحدّث هذا النصّ عن التقوى وشعائر العبادة، فنحسّ نفوسنا قريبين من حكمة أحيقار:

كلّ يوم، في صلاتك، أدعُ إلهك

فالذبيحة والطلبة جزءٌ من العطور

قرِّبْ لإلهك قربانًا طوعيٌّا

ذاك هو واجبك تجاه الإله.

تصغي، تدعو ويدُك على أنفك.

تعطيه حبّة فتنال ربوات الحبّات

وتجد نفسك متوافقًا مع إلهك

ما زلتَ تتمرّن، فاقرأ في اللوحة:

إكرامُ الإله يجلب رضاه

والذبيحة ينبوع حياة تتعدّى كلّ انتظار

والصلاة تنال غفران الخطايا

من يهاب الله لا يحتقرُه أحد

ومن يخاف أنوناكي (الإله) تمتدّ أيّامه.

لا حاجة إلى التذكير بسفر الأمثال (3: 9-10) حيث يكرم المؤمن الربّ من ماله ومن بواكير غلاله. ولا بسفر المزامير حيث يطلب المصلّي عودة الله إليه وإبعاد غيظه (85: 5)، كما يطلب غفران خطاياه وتجديد قلبه (مز 51: 3-11).

4- البارّ المتألّم

موضوع هامّ جدٌّا. انتشر في حضارات الشرق كلّها من مصر إلى بلاد الرافدين، بل إلى الهند وربّما أبعد من ذلك. فالمبدأ معروف: إن خطئ الإنسان نال عقابه على هذه الأرض. وإن كان بارٌّا نال جزاءه على هذه الأرض: المال الوفير، الأبناء العديدين، الصحّة والعمر الطويل. فعدالة الله لا يمكن أن يشكّ بها أحد. وبما أنّها لا تتعدّى هذه الأرض، فيجب أن يراها الناس جميعًا. لهذا نرى إبراهيم مثلاً »يموت في شيبة صالحة، شيخًا شبع من الحياة« (تك 25: 8). فاضت روحه بسلام، ونعم بدفنة لائقة »مع آبائه«، وابناه يحيطان به. وعن موسى الذي عاش ثلاثة أجيال (120 سنة أي 40+40+40) قيل: »لم يكلّ بصرُه ولم تذهب نضرتُه« (تث 34: 7). وقيل عنه: »دُفن في الوادي«. وقال التقليد: »دفنه الربّ بيديه« (آ 6).

لا مشكلة إن صحّت المعادلة. ولكن إن نال الشرّير أفضل جزاء، يثور المؤمن. ذاك كان موقف إرميا: »لماذا تنجح طريقُ الأشرار، ويسعد الغادرون جميعًا« (12: 1). من أين جاءهم هذا النجاح؟ من الله الذي هو السبب الأوّل لكلّ ما يحدث في العالم. »أنت غرستَهم فتأصّلوا ونموا وأثمروا« (آ2) لهذا »ناحت الأرض« (آ4) على مثل هذا الوضع. أترى النبيّ يتّهم الربّ؟ حاشا وكلاّ! فقد بدأ كلامه بفعل إيمان: »عادل (بارّ) أنت يا ربّ«. ولكن أريد أن أحاججك. وكاد النبيّ يقول: الحقّ بجانبي. ما أكلّمك هو الحقّ. ونشيد البارّ المتألّم يبدأ: »أريد أن أمتدح ربّ الحكمة إله الفطنة«. أريد أن أمدح مردوك. وهل أعطى الربّ الجواب؟ كلاّ. بل طلب من إرميا أن يستعدّ لما هو أصعب: »تجري مع المشاة فتتعب، فكيف تسابق الفرسان« (آ5)؟ أنت لا تقدر. فلماذا تُتعب قلبك؟ إذا كان إخوتك أنكروك، قال له الربّ، فأنا أيضًا »تركتُ بيتي، وهجرت أرضي« (آ7). أو بالأحرى، هُجِّر الربّ من أرضه حين مضى شعبه إلى السبي.

ذاك هو موضوع »لودلول بال نمقي«. فهو لا يحتجّ لنجاح الأشرار، بل يتألّم لألم الأبرار على ما قال مز 73: »طهّرتُ قلبي، غسلتُ بالنقاوة يديّ، ومع ذلك، تؤدّبني كلّ يوم وتعذّبني« (آ 13-14). حسبَ هذا المصلّي أنّه يعرف، فرأى الأمور عسيرة، صعبة، فاحتاج الدخول إلى الهيكل وسماع صوت الله (آ 16-17).

نصّ »لودلول« يتألّف من 480 شعرًا. رجل عرف المحنة، اسمه: سوبسي- مسري- سكان: يا سكّان، يا إله القطعان، إجعلني غنيٌّا. هذا النصّ الذي هو أطول نصّ بابليّ وصل إلينا، كُتب بعد سنة 800 ووُجدت منه أجزاء في أشور وبابل وسيفار ونينوى (مكتبة أشوربانيبال)، ولدى الحثّيّين والحوريّين. بل سيشرحه الكتّاب في نينوى.

ونقرأ المقدّمة في اللويحة الأولى:

أريد أن أمدح ربّ الحكمة، إله الفطنة،

يغضب في الليل ويسامح في النهار

أريد أن أمدح مردوك ربّ الحكمة وإله الفطنة

يغضب في الليل ويسامح في النهار.

غضبه كالعاصفة قفار

ونفَسُه طيّب كنسيم الصباح

غيظه لا يُقاوَم وسخطه عاصف

ولكنّ ميله إلى العون، وقلبه إلى الغفران

لا تحمل السماواتُ ثقل يديه

ويمسك المائتين بيده الخفيفة...

بيده فُتحت القبور،

برحمته يقيم الساقط من الهاوية.

يغضب فيتراجع الإله والإلاهة

ويُعين من يرذله إلهُه

مهما كان العقاب حالاً يزيله،

يغفر، تُمسك الأوجاع من على الفراش،

فيسرع ويعتني بمعونته

ويحيط بالعناية كما البقرة عجلها

وتبدأ الشكوى. هنا نستطيع أن نعود إلى سفر أيّوب: رذله إلهه، تخلّى عنه الجميع. فانطلقت الصرخة:

رذلني إلهي ومضى إلى البعيد،

تراجعت إلاهتي ومضت بعيدًا

غضب عليّ الإله المحامي

وارتعبت الآلاهة المحامية وطلبت آخر.

راحت قوّتي، أكمدّت هيبتي

طارت كرامتي وتلاشت حياتي...

طُردتُ من بيتي فتهتُ ولا هدف...

الناس في الساحات تكلّموا شرٌّا

إن نمتُ في الليل أرعبتني أحلامي

الملك، لحمُ الآلهة وشمس الشعوب،

انعقد قلبه فسخط وما غفر

أهل البلاط تآمروا على دماري

قعدوا معًا وتبادلوا القباحات

حياة ذاك البارّ حدادٌ ووجع، والشقاء يلاحقه:

في النهار أتأوّه وفي الليل أنوح

الشهر كلّه في الشكوى، والسنة في الحزن

أنوح، أيّامي كلّها كالحمامة

ولا نشيد لي سوى صوت النواح

بكت عيناي وبكتا،

واشتعل وجهي فغسلته الدموع

ويا ليت هذا البارّ يقدر أن يصلّي. فكلام شفتيه رمحٌ جارح. ومضت سنة وبدأت سنة أخرى. وهكذا وصلنا إلى اللويحة الثانية، بحيث نتذكّر أيّوب الذي يقول:

طرحني الله في الوحل،

فمثل التراب أنا والرماد.

إليك أصرخ فلا تجيب،

وأقف أمامك فلا تنتبه.

عدوٌّا قاسيًا صرتَ معي،

وبقوّة يدك حملتَ عليّ (30: 19-21).

ويطلق البارّ كلامه:

من سنة إلى سنة، عبرتُ العتبة

كيفما التفتُّ، شقاء على شقاء

العنف يكبر ولا من يُنصف

دعوتُ إلهي فما بيّن وجهه

توسّلتُ إلى إلاهتي، فما رفعت رأسها

تضرّعت إلى إله الأحلام، فما فتح أذني

والمقسّم بتقسيمه لم يهدئ غضب الله عنّي

في كلّ مكان، غريبةٌ مسيرة الأشياء

أنظر إلى الوراء: اضطهاد وضيق،

فكأنّي ما حملتُ كلّ يوم

القربان لإلهي

أو ما دعوتً إلاهتي وأنا في راحتي

وما حنيتُ وجهي وتجاهلتُ السجدات

وما كان في فمي دعاء ولا صلاة

وتركتُ الأيّام المقدّسة وألغيتُ عيد الشهر

ما تهاملتُ فاحتقرتُ عبادة الآلهة

ما علّمت الناس إلاّ احترام الآلهة وعبادتهم.

ذاك كان موقف أيّوب الذي أراد أن يبرّئ نفسه. وتابع هذا البارّ:

كنتُ أمينًا للدعاء والصلاة

كانت الصلاة حكمتي والذبيحة شريعتي

كان يومُ العبادة فرحَ قلبي

والتطواف بالإلاهة خيرًا لي وفائدة.

صلاتي من أجل الملك كانت سعادتي،

والنشيد له فرح فوق فرح

علّمتُ أرضي احترام أوامر الإله

ودعوتُ رجالي لإكرام اسم الإلاهة

أنشدت إلى الملك كما إلى إله

وعلّمت الشعب المهابة أمام القصر الملكيّ...

من يعرف إرادة الآلهة في السماء؟

من يُدرك إله الأعماق؟

أين تعلّم المائتون طريق الإله؟

من كان أمسِ حيٌّا مات في الحزن،

منذ فترة أنشد نشيد الفرح،

وخطا خطوة فأخذ ينوح باكيًا.

ويصف هذا البارّ عذابه: وجع الرأس، القشعريرة والبرد، عيون دامعة، ألم في الرقبة وفي الصدر، بل هي »نار في معدته«. سقط على الأرض كالجدار، سقط على وجهه مثل قصبة في الحقل. تجمّد جسمُه، يبست يداه:

كمّامة وُضعت على فمي

ومغلاق أغلق شفتيّ

أغلِق بابي وسُدَّ ينبوعي (أي فمي)

واشتدّ جوعي وضاق حلقي

ابتلع الحنطة كعَشب نتن

والجعة، حياة البشر، أكرهها

طال مرضي وطال

عفتُ الطعام فتبدّلتْ قسماتي

ذاب لحمي وجفّ دمي،

وظهرت عظامي يُغطّيها جلدي

اشتعلت أعصابي واصفرَّ جسمي

وكنتُ كما في سجن على فراشي.

في اللويحة الثالث، أحسّ البارّ بثقل يد الإله التي ما عاد يحتملها، وبغضب وجهه وبصوته العاصف، فغاب عن الوعي. ولكنّ ساعة النجاة صارت قريبة:

حين هدأ قلبُ سيّدي،

حين سكنت نفسُ مردوك راحمي،

حين تقبّل دعائي

ومنحني غفرانه ولاطَفني

وقال لي: هذا يكفي

فأخذت الريحُ كلَّ ذنوبي...

إلى أقاصي الأرض حمل وجعَ رأسي

وأنزل إلى اللجج الروح الشرّير.

وبعد هذا الشفاء التامّ الذي ناله البارّ: ارتاحت أذناه فسمع، وعيناه فرأى، وأنفه ما عاد يخنقه، بل تنفّس بسهولة. شفتاه كانتا يابستين، وفمُه مغلقًا، وأسنانه مصطكّة... كلُّ هذا الوضع تبدّل. فجاءت اللويحة الرابعة تنشد الشكر إلى مردوك:

قوّى جبلي ونصبَه كعمود

ساواني برجل في ملء قواه...

كدت أنزل إلى القبر

فصرتُ إلى باب الشمس الشارقة

على باب الوفر، أعطيَ الوفر لي

على باب الملاك الحارس، إقترب منّي ملاكي

على باب الراحة وجدت الراحة

على باب الحياة فُتحت لي الحياة

على باب الشمس الشارقة حُسبتُ بين الأحياء...

على باب غفران الخطيئة، أعفيتُ من ذنبي

على باب العبادة طرح فمي الأسئلة

على باب الهدوء هدأت أنّاتي

على باب المياه الطاهرة، رُشَّت عليّ المياهُ المطهّرة.

رأى أهل بابل كيف يعيد مردوك القريب من الموت إلى الحياة، فأنشدت عظمتَه كلُّ مناطق الأرض.

من ظنّ يومًا أنّه يرى الشمس؟

من تخيّل أنّه يصل إلى نهاية الشارع؟

من غير مردوك يحوّل الموت إلى حياة؟

أيّة إلاهة تحيي غير زارفانيتو

مردوك يعيد الإنسان من القبر إلى الحياة

وزارفانيتو تعرف كيف تنجّي من الدمار.

في كلّ مكان تمتدّ الأرض وتنتشر السماوات

في كلّ مكان تُشرق الشمس وتشتعلُ النار

في كلّ مكان تسيل المياه وتهبّ الريح،

أنتم يا من جبلتكم من الطين أرورو (الالاهة الأم)

أنتم الأحياء السائرون بخطى واسعة

أنتم المائتون ما دمتم في هذه الحياة،

هبوا المجد لمردوك.

وهكذا تنتهي هذه القصيدة نهاية الأمل والرجاء. فالإله هو من يعيد الحياة إلى من اقترب من الموت، فيدلّ على عدالته وإن تأخّر. ذاك ما قيل عن أيّوب الذي أرجع الله إليه كلّ ما خسره من مال وأولاد وصحّة. قال الكتاب: »وردّ الربّ أيّوب إلى ما كان عليه... وزاد الله أيّوب ضعف ما كان له من قبل... وبارك الربّ أيّوب في آخر أيّامه وأكثر من أوّلها... وعاش أيّوب بعد هذا مئة وأربعين سنة، فرأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ومات أيّوب شيخًا شبع من الأيّام« (أي 42: 10-16). كان الربّ تركه فعاد إليه. وإخوته وأخواته زاروه بعد أن تنحّوا عنه. وبدأ حياته من جديد، فتعدّت حياة موسى. ففاقت ثلاثة أجيال. وصلت إلى أربعة أجيال بحيث يزول كلُّ أثر عقاب في نسله (خر 20: 5).

الخاتمة

تلك كانت نظرة سريعة إلى عالم الحكمة في بلاد الرافدين، بدءًا بالألف الرابع ق.م. ما استنفدنا كلّ شيء، ولكنّنا قدّمنا لمحة تنتظر من ينشر جميع هذه النصوص، وينقلها إلى العربيّة ويدرسها. نستطيع أن نشير هنا مثلاً إلى رثاء أورنامو وتشكّيه الذي جاء في 230 شعرًا. أسّس أورنامو سلالة أور الثالثة (2100-2000) ومات قتلاً وهو بعدُ شاب. حاول أن يرمَّم الهياكل ويُصلح شعائر العبادة بعد عصور من الانحطاط. كيف يموت رجل تقيّ مثل هذه الميتة؟ نجد هنا صورة بعيدة عمّا يحدث للملك يوشيا الذي مات سنة 609 ق.م. وهو بعمر 39 سنة. حين أراد أن يصدّ الجيش المصريّ الصاعد لمساعدة الأشوريّين. بكى الناس على أورنامو كما على يوشيّا: »ضرب الشقاء سومر، وأُخذ الراعي البارّ، أخذ أورنامو الراعي البارّ«. كتابات حكميّة وصلت إلى العالم الأراميّ، وتعدّته فوصلت إلى العالم اليونانيّ واللاتينيّ. وترك أثره في سفر طوبيّا ونبوءة دانيال وتلمود بابل. غنى كبير نستطيع أن نستلهمه لقراءة النصوص القديمة والتعبير عن حكمة تتوجّه إلى عصرنا، رغم بُعد المسافة التي تفصلنا عن شعوب عاشت في تلك الأزمنة الغابرة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM