الفصل 2: تيامات، المياه الجامحة

تيامات، المياه الجامحة

حين نقرأ الكتاب المقدّس في ما يخصّ تنظيم الخلق، نرى تداخل الحضارات بين نصوص بابل وسومر وأوغاريت وفينيقية والعهد القديم، ولا سيّما عند أيوب واشعيا وبداية سفر التكوين. فبعد فعل الإيمان الذي يُطلق الكتاب، في البدء خلق الله السماوات والأرض، يستفيد الكاتب الملهم من أمور عديدة وصلت إليه حين أقام في بابل أو في سائر المناطق الرافدينيّة. كيف خلق الانسان رجلاً وامرأة؟ كيف بحث الانسان عن »شجرة الحياة«؟ ما معنى الطوفان الذي عمّ الأرض؟ كل هذه الأسئلة وجدت عناصر تفكير أولى في حضارات الشرق القديم، ولكنها تنقّت شيئاً فشيئاً لكي تعلن أن الله واحد وهو سيّد الكون كلّه. وما عداه خلائق تأتمرُ بأمره. ولكن الأمر لم يكن كذلك في بابل، مثلاً، ونظرتها إلى ترتيب الكون. فالصراع واضح في شكل ميتولوجيّ ولا سيّما في ما يتعلّق بأسطورة تيامات. وكل هذا صورة عن الحياة اليوميّة الاجتماعيّة في بلاد الرافدين. فمن هي تيامات، وما علاقتها بالكتاب المقدّس، مع ألفاظ مثل »تهو وبهو«، و»تهوم«؟

1 - ملحمة الخلق

ملحمة الخلق قصيدة طويلة تمتدّ على 1100 بيت من الشعر، قصيدة بابلونيّة تروي خلق الآلهة والكون والبشر، كا تروي مآثر مردوك، الاله الرئيسيّ في بابل. اسمها »إنوما إليش«: »لما في العلاء«. هكذا اعتاد الأقدمون أن يُعطوا عنواناً لمؤلفاتهم: الكلمة الأولى: »برشيت«، »في البدء«، هو سفر التكوين؛ »شموت«، »الأسماء«، هو سفر الخروج. وكذا نقول عن »إنوما إليش«: هما اللفظان الأولان في ملحمة الخلق هذه، أي: »لما في العلاء«. وتبدأ هذه الملحمة كما يلي، متحدّثة عن الشواش[1]، عن اختلاط عناصر المادة قبل خلق العالم:

لما في العلاء

لم يكن بعد للسماء اسم،

وفي الأسفل، اليابسة

ما تسمَّت باسم،

وحدهما أب زو الأول

والدهما

والأم تيامات

والدتهما جميعاً

مزجتا معاً مياههما:

ما تجمّعت بعدُ أسراب الرمال

ولا برز القصب في موضعه[2].

نلاحظ في البدء اثنين: أب - زو وتيامات. عملهما واحد: الايلاد. أب - زو[3] هو الأب، هو الأول. هو تجمّع لجج المياه الحلوة الموجودة تحت الأرض. منه تُولد الأنهار التي تسقي بلاد الرافدين، وأولها دجلة والفرات. »أبزو« هو أيضاً مركز إقامة »إيا« أو »إنكي«. في السومري، إله المياه السفلى. وهيكله في بيت ابزو، في اريدو[4]. أبزو كمياه سفلى، يقابل السماوات والمياه العليا. هو زوج تيامات، ولا يتماهى أبداً مع أسافل الأرض. فيه تنغرز أسس الهياكل. إنكي هو السيد (إن) والملك (لوجال) والأمير (إنسي). في ابزو يتحرّر مصير الآلهة والبشر.

أبزو هو الأب. وتيامات الأم. هي »م و م و« في النـص. أمـا الأصـل فهـو »أ و م و«[5]. هي مياه البحر (تياماتو). كيف تمّت ولادة الالهة؟ هنا نعود إلى أنوما إليش:

حين ما كان من الآلهة،

ظهر واحدٌ بعد،

ما كانوا تسمّوا بأسماء

ولا فُرزت مصائر

آنُ (ابزو، تيامات) الآلهة

أُحدثا

ظهر لحمو ولاحامو

وتسمّيا بأسمين.

ويرد اسم الآلهة الواحد بعد الآخر. أرادوا أن يقفوا بوجه أبزو وتيامات. فبدأت الأزمة الأولى:

تنظّموا في زمرة،

هؤلاء الآلهةُ الإخوان

وأزعجوا تيامات

فقلبوا كل شيء

بلبلوا خدر تيامات

أقلقوا في مرحهم

داخل مقام الإله

ما توصّل أبزو

أن يُهدئ ضجيجهم.

أما تيامات

فلبثت هادئة الأعصاب أمامهم.

أعمالهم

لم ترضَ عنها

وندّدت بسلوكهم

ولكنها راعت وضعهم.

ومضى ابزو إلى تيامات وتناقشا. رفع ابزو صوته: أريد أن أعدمهم الحياة، وألغي نشاطهم لكي أصلَ إلى الصمت. رفضت تيامات: لماذا ندمّر نحن ما »خلقنا«؟ نصبر بعض الشيء. ذاك هو تصرّف »الأم« التي ترحم الذين »ولدتهم«[6].

2 - تيامات

فمن هي تيامات؟ هي كائن أصلويّ[7]. وُجد في أصل الكون وبدايته. في البدء أحبّت تيامات أولئك الذين ولدتهم، فحاولت أن تهدّئ أبزو الذي انزعج من تحركات »الآلهة«. ولكن حين قُبض على ابزو بيدِ إيا (أو: إنكي) وحيَله، وأعدِم الحياة، أخذ الغضب من تيامات كل مأخذ. فعزمت على إفناء جميع الآلهة، وطلبت لذلك مساعدة كنغو زوجها الجديد. فخلقت عدداً من الوحوش الهائلة: حيّات سامّة وكبيرة جداً، تنانين كلبة، أسوداً ثائرة، كلاباً يخرج الزبد من أفواهها، شياطين، عواصف هوجاء.

والأمُّ الغمر

التي كوّنت الكلّ

كدَّست أسلحة لا تقاوَم

ولدت التنانين الهائلة

بأسنانها الحادّة

وأنيابها التي لا تشفق،

وملأت جسمها بالسمّ

بدلاً من الدم.

(وولدت) لاويتان (الحيّة الملتوية) الشرس

وألبسته الرعب[8].

انطلق هؤلاء كلهم إلى الحرب بقيادة كنغو الذي أعطته تيامات لويحة المصائر كعلامة السلطة التي سلّمته إياها.

خاف الآلهة من هذه الاستعدادات الحربيّة، فسلّموا القيادة العليا إلى مردوك، ابن إيا، شرط أن يقبل بمواجهة تيامات.

نتذكر هنا القرابة بين تيامات ومردوك. ونستشفّ من هذه الميتولوجيا والصراع بين الاثنين موضوع الانسان الذي يقتل أباه أو أمّه، وهو موضوع نجده مثلاً في الأدب اليونانيّ واللاتينيّ[9]؛ فانتقال السلطة من جيل إلى آخر، هو ينبوع صراع.

والحرب بين مردوك، إله بابل الذي يرتّب الخليقة، تجاه تيامات التي تحاول أن تدمّرها، يعكس ما فعله الملوك الكاسيون في بابل، في الألف الثاني ق.م. حين جفّفوا المستنقعات وبنوا جنوب العراق. ومع ذلك، ظلّت تيامات تهدّد، وأكبر شرّ عملته كان حين أتت بالطوفان لتعيد الأرض إلى العدم[10].

3 - مردوك

مردوك هو الاله الوطني في بابل، ولكن أصله سومريّ منذ الألف الثالث قبل المسيح. هو »ابن الشمس« وربّما »عجل الشمس«[11]. تحدّثت إنوما إليش عن ولادة هذا الاله:

في معبد المصائر،

في مصلّى الأقدار،

وُلد أعقل

وآخر الآلهة، السيّد

في وسط أبزو

مردوك وُلد في العالم

وسط قدس أبزو

مردوك وُلد في العالم.

وضعه في العالم

إيا أبوه

ووضعته

أمُّه دمكينا.

ما رضع أبداً

سوى أثداء الآلهة

والمرضع التي ربّته

مَلأته حيويّة حيّة[12].

قبِلَ مردوك، ابنُ إيا، أن يحارب تيامات. فاستعان بالرياح التي سيطر عليها بأسلحة إلهيّة، وانتصر عليها. في الواقع، ما من إله أراد أن يتقدّم، أو يخرج من مخبأه ليواجه تيامات. أما مردوك البطل، فما كان يستطيع الانتظار. أراد أن يعجّل في القتال. ولكنه قبل ذلك، فعل كما يفعل القوّاد العظام. طلب ملء السلطات، فقيل له: وحدك تسود وسط الآلهة العظام. منذ الآن لا يُردّ لك أمر. ترفع من تشاء وتحطّ من تشاء، وما من إله يتجاوز حدودك.

واستعدّ مردوك للحربّ

هيّأ قوساً سماها سلاحه،

وضع فيها سهماً وشدّ الحبل

رتّب البروق على وجهه

وامتشق السلاح وأمسكه بيمينه...

صنع شركاً به يأخذ تيامات،

وجرح الرياح الأربعة فلا يُفلت منها شيء.

وبدأت المعركة. اقترب مردوك، السيّد. درس نوايا تيامات وزوجها كنغو وهجم بشركه. فتحت تيامات فمها لكي تبتلع الشرك، فملأ مردوك فمها برياح الشرّ، فما استطاعت أن تُطبق فَمها. ثم أرسل سهماً فمزّق البطن. ثم انقسم الجسم قسمين.

وحين انتصر عليها وأعدمها الحياة،

رمى جثّتها أرضاً ووقف فوقها.

وحين قتل القائدُ تيامات،

تفكّكت جيوشها وتفرّق قوّادها،

والآلهة حلفاؤها الذين تشيّعوا لها،

خافوا، ارتعبوا وعادوا أدراجهم،

وفرّوا هاربين لينجوا بحياتهم .

ولما ماتت تيامات بسهام مردوك وأسلحته، بعد مواجهة صاخبة، قُسم جسمُها قسمين مثل سمك مجفّف. جزء من جسمها ثبّت قبّة السماء، والجزء الآخر استُعمل لتكوين أرض يابسة تطفو على سطح المياه فتكون مسكن البشر بعاصمتهم بابل. على صدر تيامات ورأسها جُعلت الجبال. ومن عينَيها (العين في وجه الانسان، وعين المياه) خرج الفرات ودجلة. ومن زَبَد فمها وُلد الثلج والمطر. وفي النهاية، صارت تيامات الموضع (ش ب ت و) الذي عليه يجلس مردوك في اساجيل، في هيكله[13].

4 - تيامات والكتاب المقدّس

يبدو أن تيامات والشواش الأصلويّ قد أثّرَا على نشيد الخلق في الفصل الأول من سفر التكوين[14]. يبدأ النصّ مع لفظين: ت هـ و، ب هـ و: نستطيع أن نقول كانت الأرض تائهة لا تستقرّ على موضع محدّد، مثل إناء فارغ فوق موج البحر. والبهو في أحد معانيه، يدلّ على الرجل الأحمق والفاسد الرأي. إذن، لا بدّ من شخص يرتّب الكون وينظّمه ويجعل كل عنصر في موضعه المحدّد له. هذا ما فعله مردوك. وهذا ما فعله الله حين فصل النور عن الظلمة، والمياه عن اليابسة، والمياه العليا عن المياه السفلى.

واللفظ الثاني »ت هـ و م«. الماء الذي يُحدث ضجّة فيتحرّك. هو يرتبط بلفظ »هـ و م« العبريّ. »تهوم« هو الموج، فنقرأ في مز 42:8:

»الغمر يدعو الغمر، سقوط أمطارك،

أمواجك كلها وتياراتك عبرت عليّ«.

»تهوم« يعني كمية المياه الكثيرة، »الغمر«، »اللجّة«[15]. في الحضارة البابليّة، كانت تيامات قوّة مقاتلة. فصارت في سفر التكوين مياهاً تَخرج منها كلّ الخلائق. وما الذي حوّل الماء من قوّة موت إلى قوّة حياة؟ الروح الذي رفّ عليه. لهذا، فاضت المياه خلائق حيّة، وطارت طيور فوق الأرض على وجه السماء (تك 1:20).

بقيت آثار قتال الله مع قوى الموت في كلام عن الحيوانات الكبيرة مثل لاويتان، الحيّة الملتوية والخادعة، وبهيموت، أو البهيمة في كل عنفها ووحشيّتها. نقرأ في أي 40:15:

ها بهيموت الذي صنعته معك،

يأكل الأعشاب مثل البقر.

خافه الأقدمون. ألّهوه بسبب قدرته، كما يصفه أيوب، ولكنه صنعة الله، شأنه شأن جميع الخلائق. ونقول الشيء عينه عن لاويتان الذي أُلِهّ أيضاً بعد أن تماهى مع التمساح. لا يستطيع الانسان أن يصطاده بالصنّارة. هو مخيف، هائل، ويدلّ على قوّة البحر والمياه. ولكن الربّ يلاعبه كأنه عصفور، ويجعله لعبة بين يديه (أي 40:29).

وما يقابل تيامات هو رهب المشهور بوحشيّته. إنه يرتبط بالبحر وبالتنين. ولكن الربّ قطعه قطعتين، كما فعل مردوك بتيامات، وسحق حلفاءه. في أي 26، تحدّث أيوب عن قدرة الله على الخلائق كلها، بما فيها تلك التي تَعبَّد لها الانسان، وأضاف:

بقوّته شقّ البحر،

وبدهائه حطّم رهب (آ 12).

وقال إش 51:9 عن ذراع الربّ:

»أنت التي قطعتِ رهب.

وطعنت التنين طعناً«.

ونقرأ في مز 89:11:

»بطعنة واحدة قتلتَ رهب،

وبقوّة ذراعك فرّقت أعداءك«.

وفي النهاية، عرف أعوان رهب ضعفهم وفشلهم، فجاؤوا وسجدوا للربّ خاضعين (أي 9:13)[16].

الخاتمــــة

انطلقنا من نشوء الكون في الحضارة البابليّة، فوصلنا إلى الكتاب المقدّس. هنا صراع بين الآلهة، على مثال صراع البشر من أجل السلطة. وفي النهاية، سيكون مردوك السيّد، على مثال بعض ملوك بابل، ولا سيّما حمورابي، الذين قهروا الملوك الصغار ووحّدوا بلاد الرافدين. هنا نفهم لماذا يُدعى الأمراء والقضاة في معنى الذين يقضون للناس، آلهة، أكثر من مرّة في المزامير. يجب أن يخضع الآلهة للاله الواحد، الذي هو ربّ الأرباب وإله الآلهة. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى مردوك. ولن نجد كلاماً عن الاله الواحد، حيث الآلهة »الآخرون« هم حجر وخشب، إلاّ بعد العودة من المنفى. نحن نرى أن صفات بعل انتقلت إلى الربّ، الذي يعطي المطر والخصب. ونستطيع أن نرى كيف أن صفات مردوك مكوّن العالم ومثبِّتة، بعد أن قهر مياه الطوفان، قد انتقلت أيضاً إلى الربّ. لهذا أنشده المزمور الثامن مشدّداً على موقعه في السماء:

»أيها الربّ سيّدنا،

ما أعظم اسمك في كل الأرض.

تعزّزت في وجه خصومك،

وأخرستَ العدو والمنتقم«.



[1] Le chaos

[2] J. BOTTERO et S. N. KRAMER, Lorsque les dieux faisaient l’homme, Mythologie mésopotamienne, Paris nrf, éd. Gallimard, 1989, p.604 (cité: Lorsque les dieux).

UZBA [3] الإله إيا يقيم في  UZBA.E بيت ابزو. اعتاد الشراح أن يقولو "أفسو" uospA. ويبدو أن أبزو يبرز المعنى الأصلي للفظ

udirE,[4] مدينة تقع في بلاد الرافدين السفلى. عرف موقعها في تل شهرين، على الضفة اليمنى للفرات. تبعد ۱٤ كلم الى الجنوب الغربي من أور، هي في أقصى الجنوب السومري.  (DCM, p. 303)

[5] DCM, p. 604, n. 2.

[6] Lorsque les dieux, p. 605 - 607.

Laidromirp [7] من اللاتيني،  primordium مبدأ، أي ما هو في الأصل.

[8] Lorsque les dieux, p. 610

[9] أودوبس (EpideO)في الميتولوجية اليونانية، أبعد عن قصر أبيه. وفي النهاية قتل والده، وتزوج والدته. هي مواضيع نجدها عند كتاب التراجيدية اليونانية.

[10] DCM, p. 848 - 849; T. JACOBSEN, The Treasures of Darkness, New Heaven, 1978, p. 167 - 191; La création et le déluge d’après les  textes du Proche - Orient ancien, Cahiers Evangile Supplément, no. 64, p. 12 - 14; J. NOUCAYROL, «La religion babylounienne», in Histoire des Religions, t 1, p. 218 - 222

[11] DR, p. 1245; E. DHORME, Les religions de Babylonie et d’Assyrie, Paris,(11) 1945, p. 135 - 156; DCM, p. 493 - 496.

[12] Lorsque les dieux, p. 608.

[13] بناه مردوك بعد انتصاره على تيامات، فكان مرتفعاً جداً.

DCM, p. 304 - 305; A. R. GEORGE, Babylonian Topographical Texts, Louvain, 1992; J.J. GLASSNER, Chroniques babyloniennes, Paris, 1993.

[14] Anchor Bible Dictionary, Doubleday, 1992, t. VI p. 546 - 547; G. SMITH, The Chaldean Account of Genesis, London 1876; I. RAPPAPORT, The Babylonian Poem Enuma Elish and Genesis Chapter One, Melbourne 1979.

[15] بولس الفغالي، سفر التكوين، المكتبة البولسية، ۱۹۸۸، ص ٢٦ – ٢۹.

[16] DEB, p. 1091

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM