الفصل 1: سومر والسومريون

سومر والسومريون

حين نتحدّث عن حضارة بلاد الرافدين، لا يمكن إلاّ أن نبدأ بالسومريّين، الذين خطوا خطوة واسعة في مجال التقنيّات فكانوا أول من اخترع الدولاب الذي لا نستغني عنه إلى الآن، حتى في صنع مركبة صاعدة إلى القمر أو سائر الكواكب. ويبدو أنهم هم من استنبط زراعة الحنطة وعددٍ من النباتات. هذا الشعب الذي لم نعرفه في ذاته، بل من خلال أدب سومريّ أكاديّ وُجد في لغتين، في مكتبة اشور بانيبال، في نينوى، في القرن التاسع عشر، ما لبث مجهولاً في عدد من جوانبه، بحيث لا نعرف ما هو منه، فأورثه للأكاديّين الذين جاؤوا بعده، وما هو خاص بأكاد التي بدأت مع سرجون في وسط الألف الثالث ق م.

نتوقّف هنا عند ثلاثة أمور: اسم سومر وأصل السومريّين. جغرافية سومر وتاريخها. ديانة سومر وحضارتها.

1 - اسم سومر وأصل السومريّين

منذ القديم طُرح السؤال: هل كانت السومريّة لغة مثل سائر اللغات، أم لغة خاصة بكهنة بابل وأشور[1]؟ والجواب جاء في العقود الأخيرة من القرن العشرين حين اكتُشفت نصوص في اللغة السومريّة وحدها، خلال التنقيبات الفرنسيّة في غرسو (تلو) والأميركيّة في نيفور.

أ - اسم سومر

اللفظ السومري لسومر هو »كي - إن - جي (ر)«. واللغة: »إما - جي (ر)«. في الماضي، رُبط الاسم بالأمّة والأرض. ولكن هذه النظريّة رُفضت، فعادوا إلى مدينة نيفور العاصمة الدينيّة لبابلونية القديمة. فالصفة »جي (ر)« تعني النبيل كما في الاسم الملكي »شود - ج ي (ر)«'' الشاب النبيل. أما »ا ما« فتعني اللسان. إذن »إما - جي (ر)« تعني اللسان النبيل. وبما أن »أكي« تعني »الموقع« نقول: الموقع النبيل.

كاسم جغرافيّ، »كي - إن - جي« أو »سومر« قد استعمل في معنى ضيّق للكلام عن بابلونية، جنوبي نيفور. وهو يقابل في هذا المعنى »كي - أوري« أي أكاد، أو بابلونية الواقعة شمالي نيفور. وفي المعنى الواسع، يُستعمل اللفظ للكلام عن بابلونية كلّها كأرض (ما - دا) أو أمّة (كالام) أو شعب مولود في الأرض تجاه الأرض الغريبة أو أسماء أماكن خارج بابلونية.

واستعملت »كي - إن - جي« و »اما - جي« لوصف حيوانات داجنة، في حقبة أور[2] الثالثة. وعنى اللفظ الأخير ربع كيلة. وما عنى في زمن سرجون »الانسان«. وهناك نصّ من الادارة السرجونيّة يذكر السومريّين مع الأكاديّين. وقيل عن شولفي، ملك أور (حوالي 2050 ق م) أن السومريّين ارتبطوا بالأكاديّين والغوطيّين. وحين تحدّث آخر ملك في أور، إبيسين (2000 ق م تقريباً) عن خصمه ايشبيارا أنه ليس من زرع سومري (نومون. كي - إن - جي. نو - مي - ا)، عنى أنه جاء من »ماري«[3]. سوف نعرف على لسان كاتب في بداية الألف الثاني، أن السومريّة صارت لغة ميّتة يجب أن يتعلّمها »الكاهن« سنوات طويلة في »أكادميّة الكتّاب«.

ب - أصل السومريّين

حين الكلام عن أصل السومريّين، نقف أمام سؤالين: الأول، متى وصل السومريّون إلى بلاد الرافدين؟ والثاني، من أين جاء السومريّون؟

أولاً: متى وصل السومريّون؟

يرى كثير من الباحثين أن عدداً كبيراً من المدن القديمة في بابلونية، لا تحمل اسماً سومرياً[4]. وبالتالي، فالسكّان الأوّلون الذين دعوا هذه الأمكنة باسم، ما تكلّموا السومريّة[5]. استند لاندسبرغر[6] إلى تشابهات صوتيّة فربط ما وراء أسماء هذه الأمكنة القديمة ببعض الكلمات السومريّة التي ترتبط بالزراعة والصناعة فوصل إلى لغة قبل فراتيّة. أي لغة السكّان الأصليّين في بابلونية، على أنها مميّزة عن اللغة قبل دجليّة في شمال بلاد الرافدين. وأضاف لاندسبرغر أن لغَتي الجنوب والشمال كانتا في الأصل لغة واحدة قبل أن تتفرّقا. وفي أي حال، هذا يعني أن السومريّين لم يكونوا السكّان الأصليّين في بلاد الرافدين، لأنّ أسماء الأمكنة القديمة ليست سومريّة.

متى وُجد السومريّون في بابلونية؟ مع أول نصوص في اللغة السومريّة شكّ باحثون قليلون أن للسومريّين طريقة كتابة تحمل اسمهم[7]. ولكن تأكّدت هذه الكتابة في نصوص وُجدت في أوروك (تلول الورقاء، الشطر الأيمن للفرات. اليوم شطّ الكار. تبعد 65 كلم إلى الشمال الغربي من أور). مثلاً، التبدّل بين »تاب« و»داب« يعني أننا أمام قراءة سومريّة في زمن النصوص القديمة. واستعمال »إن« في »مان« (التاج). ووجود »جي« للكلام عن العودة. والأمثلة عديدة لتصل إلى يقين يتحدّث عن كتابة سومريّة قديمة. والعلماء ينتظرون أن تُنشر جميع النصوص القديمة. كل هذا يدلّ على أن السومريّين كانوا في بابلونية حوالي سنة 3100 - 3000 ق م.

كانت محاولات للبحث عن أول حضور للسومريّين في حقبة بابلونية القبل تاريخيّة. عاد العلماء إلى التنقيبات فوجدوا انقطاعاً يدلّ على أن مجموعة سكّانيّة جديدة وصلت إلى الأرض. هي محاولة تثير الجدل، والأجوبة متضاربة. بعضهم قال: وصل السومريّون إلى بابلونية في الألف الخامس، فما وجدوا انقطاعاً بين ماضٍ عرفه السكان الأصليّون، وحاضر قدّمه السومريّون. أما الذين رأوا انقطاعاً، فجعلوا وصول السومريّين في بداية حقبة اوروك، في منتصف الألف الرابع أو بعد ذلك. لا نستطيع أن نجد اختلافاً على المستوى الاثني اللغوي، ولكن يبدو أن السومريّين كانوا موجودين في حقبة تل العُبيد (الألف الخامس) مع السكّان الأصليّين.

ثانياً: من أين جاء السومريّون

إن لم يكن السومريّون السكان الأصليّين في بابلونية فمن أين جاؤوا؟ فإن كانوا جزءاً من السكّان الأصليّين، أين أقام أجدادُهم قبل أن تمتدّ الأرض بالطمى الذي جاء به نهرا الفرات ودجلة؟ إن اللغة السومريّة لغة منعزلة عن سائر اللغات، وكل المحاولات لربطها بلغة أخرى باءت بالفشل. بما أن العالم القديم في غرب بلاد الرافدين معروف بعض الشيء، وبما أن لا يقين نمتلكه في ما يخصّ أسماء الأمكنة وأسماء الأشخاص في المدوّنات من أجل كلام عن حضور سومريّ قديم، فيجب أن نبحث عن وطن السومريّين الأصيل في الشمال أو في الشرق. وقد يكون وادي هندوس موضع انطلاقتهم. بما أن النصوص السومريّة اعتادت أن تذكر منطقة الهندوس (ملوحا) مع »مفان« و»المدن« في منطقة الخليج الفارسيّ، وبما أن التقليد البابليّ الذي حفظه بيروسيوس في اللغة اليونانيّة، قال إن اوانس الحكيم طلع من الخليج الفارسيّ ليحمل الفنون والحضارة إلى بابلونية، هذا قد يعني أن السومريّين وصلوا بالبحر أو بمحاذاة الشاطئ، إلى الخليج الفارسيّ[8] وقد يكونون أقاموا في منطقة غمرَها الماء في الخليج الفارسي.

ومع ذلك، تبقى أفضل مقاربة لأصل السومريّين في التخلّي عمّا تحمله التنقيبات، وعن البحث عن الأرض التي منها جاؤوا. لهذا، كان جواب يعلن أن السومريّين أقاموا بجانب الأكاديّين منذ زمن بعيد. هذا ما قاله عدد من الباحثين. ولكن تبقى نظريّة العلاقة بالهند مفيدة بسبب الارتباط بين جانبَي الخليج الفارسيّ: من الهند إلى بلاد الرافدين. ومن بلاد الرافدين إلى الهند، مع تراث سرياني حاضر بكثافة، اليوم، في جنوب الهند[9].

2 - جغرافية سومر وتاريخها

سومر منطقة في بلاد الرافدين السفلى، بين نيفور وإريدو. كان أكثر سكانها من السومريّين بين سنة 3300 وسنة 1900 ق م. الاسم الأكادي: شومرو. في السومري: كنجر. من هنا شنعار أي بابلونية حسب استعمال غربي بلاد الرافدين (تك 10:10؛ 1:2؛ 14:1، 29). وردَ »كنجر« للمرة الأولى في مدوّنة لملك أوروك »إنشاكوشنّا« (2350 ق م تقريباً). في الأصل، هي منطقة نيفور (اليوم نيفار). ثم امتدّت فضمّت كل الأرض التي أقام فيها السومريّون.[10]

أما أصول أوروك، حسب الحفريات، فتعود إلى النصف الأول من الألف الرابع. وفي الطبقة 14، وجد المنقّبون فخّاريّات تعود إلى سنة 3300. والطبقات التي جاءت بعد هذه الطبقة، دلّت على ولادة حضارة جديدة، من النمط المدينيّ. وحوالي سنة 2900 (مستوى 4 - 3) برزت لوحات الطين الأولى مع كتابة رمزيّة (تكتب الفكرة). تلك كانت الكتابة السومريّة مع أولى الوثائق في السومريّة.

ماذا عن تاريخ السومريّين؟ هم شعبٌ غير ساميّ. يبدو أنه وصل إلى بلاد الرافدين السفلى أقلّه سنة 3300، أي في بداية حقبة أوروك 14، التي دلّت، على ما يبدو، على ولادة حضارة جديدة، حضارة المدينة. ما هو نسلهم؟ من أين جاؤوا؟ أوردنا فرضيّة تقول إنهم جاؤوا من الهند. وتبرز فرضيّة ثانية تتحدّث عن بحر قزوين، على حدود إيران.

حين يصبح التاريخُ واضحاً، نراهم يقيمون في المدن، وكل مدينة هي دولة مع ملكها. مارسوا تربية المواشي، وصيْدَ السمك. كما نظّموا الريَّ من أجل أعمال الزراعة. هو اقتصاد مركّز، أغلب الأحيان، حول المعابد الكبرى، التي تُوزّع خيرات الأرض والغلال. احتاجت الإدارةُ عندهم، فاستنبطوا الكتابة التي ظهرت في اوروك، كما قلنا، حوالي سنة 2900. ثم امتدّ استعمالها إلى كتّاب العدل والكهنة وناقلي الأخبار والأساطير. في تلك الحقبة، كان الأدب من أخبار وروايات وقصائد، ابن التقليد الشفهيّ، وثُبِّت كتابة في زمن سلالة أور الثالثة، حوالي سنة 2000 ق م. لهذا، لا ندهش أن يكون الأشخاص العظام في عهد البطولة، مثل إنانا في كيش، وغلغامش في أوروك، الذين شيّدوا أسوار المدن. إذ كان هؤلاء قد بدوا فوق سائر البشر، تكلّلوا بهالة إلهيّة.

ومع ذلك، نحن نمتلك مدوّنات صريحة عن ملوك حكموا في منتصف الألف الثالث، مباراجاسي في كوش، ماساليم وماسانافادا في أور، انخنجال وأورنافشي في لجش. واكتُشفت مدوّنات عديدة فدلّت على ملَكيّة سومريّة تصارع فيها »الملوك« الصغار، فتفجّرت البنى القديمة، وتوسّع تيّاران سياسيّان سيتواصلان إلى الحقبة الأكاديّة: خضع الكهنة لسلطة الملك، وتصارعت المدن من أجل مركز الصدارة. وما اتّحدت أرضُ سومر إلاّ مع الأكاديين الساميّين (2235 - 2094) مع لوجال زاجاسي أوما، الذي وصلت جيوشه إلى البحر المتوسّط.

بعد الهزائم التي مُنيَ بها آخر ملوك أكاد، وبعد اجتياح الأرض على يد الغوطيّين (2095 - 2040)، استردّ السومريّون، بعض الوقت، السلطة، خصوصاً مع سلالة أور الثالثة (2036 - 1929)، فعرفت الحضارة السومريّة ازدهاراً كبيراً، فدُعيَتْ تلك الحقبة »النهضة السومريّة«. حينئذ دُوّنت التقاليد القديمة. ولكن الأموريّين (= رجال الغرب، مار - تو في السومريّة) بدأوا يسيطرون[11]. دُعوا البابليّين مع عاصمتهم بابل. وحافظوا على الارث السومريّ، بل لبثوا يدوّنون وثائقهم في اللغة المسماريّة بأصلها السومريّ حتى القرن الأول ب م[12].

3 - ديانة سومر وحضارتها

أ - الديانة السومريّة: المثال والنموذج

تتأسّس معرفتنا للديانة السومريّة على الأساطير والمدائح والأناشيد، التي حفظها لنا الكهنة بين سنة 2100 وسنة 1900. كلّها ألّفت في ما مضى، بحيث لا نعرف تاريخ تأليفها، كما  المدوّنات التاريخيّة والوثائق الاقتصاديّة التي نعرف بدقّة متى كُتبت. ولكن يبقى السؤال الرئيسيّ عن هويّة هذه الديانة. والطرح الذي يسيطر الآن، هو أننا لا نستطيع أن نميّز بين الديانة السومريّة والديانة الأكاديّة، بعد أن تداخلت الديانتان منذ زمن سحيق. وما الذي يدعونا إلى هذا القول؟

أولاً: أقام السومريّون والأكاديّون معاً، في بلاد الرافدين، قروناً وقروناً من الزمن، وتوسّعت الحضارتان وتداخلتا بحيث لا نستطيع أن نكتشف خاصيّة كل ديانة. ثم إن شعوب البلاد الأصليّين امتلكوا هم أيضاً نظرات دينيّة تداخلت مع نظرات الواصلين من خارج البلاد.

ثانياً: النصوص السومريّة هي مراجع متأخّرة بالنسبة إلى قِدم الحضارة. جُمعت ودُوّنت في نهاية الألف الثالث. هذا يعني حقبة من الزمن يمكن فيها أن تتشوّه النصوص وتتحوّر، بحيث لا نستطيع اكتشاف الديانة السومريّة في نقاوتها.

ثالثاً: قد لا تشير لغة النصّ إلى كاتب النص. فقد يستعيد نصّ أكاديّ أفكاراً سومريّة، والعكس بالعكس حيث يحمل مديحٌ سومريّ أفكاراً ساميّة.

ومع ذلك، لا نقدّر تأثير الشعب السامي، في بلاد الرافدين السفلى، أكثر ممّا يستحقّ. فهذا الشعب من الرعاة لبث على هامش المدن والمزارع، فما استطاع أن يحوّل في العمق الحياة الدينيّة. واكتشافات حقبة فاره (2600 - 2500 ق م) قدّمت نتاجاً أدبياً كبيراً، يعود في الواقع إلى زمن سحيق.

أما إحدى النظريّات الأساسيّة في الديانة السومريّة فهي لفظ »مي« التي هي دوماً في صيغة الجمع. »مي« تشمل كل النشاط البشري على مستوى شعائر العبادة وممارسة الملكيّة والصناعات. تشمل العقل والمعرفة والحياة في المجتمع (قتال، حقوق، زنى وبغاء)، والموسيقى. »مي« تجعل الانسان (أو الغرض، أو الوظيفة) موافقاً لنموذج، لنمط، لما يجب أن يكون. فالمَلك فردٌ مثل سائر الأفراد ما لم تُعطَ له »مي« الملكيّة. ومدينة تنعم بـ »مي«، تتجاوب مع ما يجب أن تكون المدينة. إن احتلّها العدوّ، تختفي »مي« وتتحوّل الحياة فيها إلى أن يأتي ملك صالح يعيد الأمور إلى نصابها. ليست طبيعة »مي« طبيعة إلهيّة، ولكنها تخصّ الآلهة. هم يمسكون بها. وهم يهبونها. قد نشبّهها بالحكمة التي يمنحها الله، في الكتاب المقدس. طلبها سليمان فنالها (1 مل 3:9 - 14؛ حك 7:7 - 12).

ب - الديانة السومريّة: القدس وشعائر العبادة

أولاً: القدس

ما هو مقدّس، ما هو مكرّس، يرتبط بفكرة الوضوح واللمعان (كو)، أو بمقولة الطاهر والنجس (سيكيل: لا نجس. ونقى. داداج: غسل من كل نجاسة). إن العاطفة القدسيّة تحرّك شعوراً من الافتتان والارتعاب. فإذا أردنا أن ندركها، نعود إلى الاستعارات، أو نرافقها بالرموز المأخوذة من عالم الحيوان (الأسد، الحيّة، التنين). فالهيكل مثلاً يمتلك »مي«. اختار الإله هذا الموضع لكي يقيم فيه بشكل دائم أو موقّت. تُصوّر الزينة الخارجيّة باللازورد والفضة. هي تشعّ. يخرج منها نور يحرّك الرعدة. أما داخل الهيكل فيسبح في ظلال سريّة ترافقها البرَارة. ولا يدخله العوام. تُمنع رؤية الأغراض المقدّسة. وبالأحرى يُمنَع القتلُ في المعبد. هو لا يُسرَق، لا تُشعَل فيه النار، لا تدمّر التماثيل.

الهيكل يضمّ السماء إلى الأرض. هو كالسارية (في سفينة) أو قوس قزح. والالهي يتأسّس على الشكل البشريّ (الانتروبومورفيّة). وتروي أحدُ الأساطير أن الآلهة وُلدوا في يوم من الأيام، بعد أن تحدَّدت المصائر. حبلت الالاهات وولدن. نين جرسو هو زوج بأو. إنليل الاله الرئيسي في مجمع الآلهة هو ابن آن. الآلهة يأكلون، يشربون، يتنعّمون، يتذمّرون. القداسة وامتلاك »مي« والخلود خاصة بهم. يصدر عنهم لمعان مرعب، وهم يقرّرون مصير كل واحد، مصير الملك، ومصير البلاد. ثم هم يتميّزون عن البشر بصفاتهم المتسامية: فهم، حكمة، قوّة جسديّة. كلامهم أكيد، نظرهم ثاقب يرى كلّ شيء ويحرّك كل شيء.

ثانياً: شعائر العبادة

تتمّ العبادة بشكل رئيسيّ في الهياكل. فالهيكل هو »بيت الله«. في السومريّ: إي. في الأكادي: بيتوم. وهو المعبد. أما النظرة التي تعود إلى القدم فتقول إن البناء يشيّد على السطح أو على الشرفة: رواق مع مذبح، والغرف من حول. بُنيَتْ الهياكل إجمالاً في الموضع نفسه. ثم توسّعت مع الأيّام وأُضيفت القاعات. في أي حال، يجب أن تُحجب القاعاتُ الرئيسيّة عن أنظار العوالم. من المدخل ننتقل إلى قاعة الانتظار ثم إلى المسكن وأخيراً إلى قلب الهيكل حيث يوضع تمثال الاله على قاعدة.

تحدّثت النصوص عن الهياكل المليئة بالغنى. حجارة المرمر والرخام. عوارض من خشب الأرز تُسند السقف. وهنا النحاس والذهب واللازورد والعقيق، مع عدد كبير من التماثيل موضوعة على قواعد أو مقاعد مع المذابح والموائد والآنية المقدّسة والكؤوس والشعارات والرايات.

والهيكل أيضاً مركز حياة اقتصاديّة ناشطة، وكل ربح هو من أجل خدّامه. أما الإدارة فبيد موظّفين يعملون على المستوى الاقتصاديّ كما على المستوى الدينيّ. ويأتمر بأمرهم مسّاحو الأرض والمراقبون والكتبة. في زمن سلالة أور الثالثة، سيطرت الهياكل على النتاج الزراعيّ، ساعة ارتبطت رعاية الماشية وصناعات النسيج بالسلطة المدنيّة[13].

ج - الحضارة السومريّة

بعد نظرة عامّة، نتوقّف عند الأدب السومريّ. فهذا ما يهمّنا ولا سيّما ارتباطه بالأدب البيبليّ.

أولاً: نظرة عامة

إذا كانت وحدة سومر السياسيّة قد تأخّرت، إلاّ أن نمطاً من الحضارة تكوّن منذ القديم، وشعّ أبعد من سومر فوصل إلى الخليج الفارسيّ وإلى سورية الشماليّة. بانت المدن في سمات مشابهة: مجموعة بيوت صغيرة، تفصل بينها شوارع ملتوية أو أراضٍ بور. كل هذا يُشرف عليه خيال قصر أو هيكل مع زقورة، بطوابق تصل إلى سبعة. وفي السابع ينزل الاله على الأرض. ووُجدت الفخاريات وغيرها في القصور الملكية في أور، فكانت لها فائدة تاريخيّة ودينيّة أكثر منها فنيّة. ولكن حين توسّعت صناعة المعادن في الاستعمال البيتي، تراجع صنعُ الفخار.

وتحوّل الوضعُ في القرنين 21 - 20 ق م. بحيث يندهش الباحثُ حين يرى نوعيّة النحت في تلك الحقبة. وفي الوقت عينه، برز نتاجٌ أدبيّ كبير جداً وذلك قبل حقبة أور الثالثة، فكانت الأساطير والأخبار والمدائح والمراثي والأمثال والمجموعات الحكميّة. وهكذا لم تعد الكتابة محصورة في عمل الادارة والحسابات، في تدوين كتابات على القبور، بل استُعملت لتأليف القواميس وإنشاء الآثار الأدبيّة. فقد وُجد في فاره وأداد وأبو صلابيخ وايبلا (ارتبطت بتقاليد كيش) نصوص دينيّة وحكميّة ولغويّة أعدّت الطريق لما سوف يتمّ في مدارس الكتبة ولا سيّما على مستوى المناهج اللاهوتيّة.

ونحن لا ننسى ما يرافق شعائر العبادة في الهياكل. فأصحاب الموسيقى والغناء عديدون، على مثال ما كان في هيكل أورشليم على الأقلّ. واكتُشفت في مدافن أور المزامير والقيثارات فدلّت على ممارسة الغناء الدينيّ والدنيويّ، ترافقه الموسيقى. ضاعت المدائح، ضاعت الألحان، وستبقى ضائعة في قسمها الاكبر لكن تأثيرها تواصل في الحضارات التي تلت الحقبة الأشوريّة، فوصلت إلى العالم المسيحيّ السريانيّ بشقّيه الشرقيّ والغربيّ. وصلت هذه الألحان إلى انطاكية، ومنها إلى أوروبا، فكان لها الأثر الكبير في النشيد الغريغوريّ في الكنيسة اللاتينيّة[14].

ب - الأدب السومريّ

يمكن أن نشبّه الأدب السومريّ، في اتساعه، بالأدب البيبلي، بل هو يتعدّاه. فهناك 40000 سطر من الكتابة، بينما عدد الآيات البيبليّة كما أحصاها الماسوريّون 23097[15]. معظم الأدب السومريّ ألّف في اللهجة الرئيسيّة. أما الأناشيد (خطب النساء والإلاهات في الملاحم وأناشيد الغرام) فجاءت في لهجة ثانية سوف تسيطر شيئاً فشيئاً في التآليف الدينيّة في الحقبة البعد سومريّة.

واكتشاف الأدب السومريّ مرّ في مراحل. سنة 1873، نصوص سومريّة وأكاديّة. سنة 1937 - 1939، نُشرت نصوص سومريّة تعود إلى بداية الألف الثاني. سنة 1974، بدأ نشر نصوص تل أبو صلابيخ وإيبلا، وهكذا توسّع الأفق الكرونولوجيّ في الأدب السومريّ.

* في مرحلة السومريّ القديمة (2500 - 2200) وُجدت في شوروباك (فارة) وفي إيبلا تعزيمات ضدّ الأرواح الشريرة[16]. لا نجد مثل هذه التعويذات في البيبليا بل في الأدب البعد بيبليّ. كما وُجدت أناشيد للآلهة ولهياكلها. نُسب بعضها إلى انحادوانة، ابنة سرجون الأكاديّ، والمدائح في هيكل غوديا في لجش. هي تشبه إلى حدّ بعيد المزامير. والأساطير تذكر إنليل، إنكي، نينحورساج، إنانة. وخصوصاً تلك المعبودة في نيفور. والكلام الحكميّ نُسب إلى الالاهة نينورتا[17]. نجد هنا عدداً من النصائح ولا سيّما على مستوى الزراعة. تأثّر سفر الأمثال البيبلي بما في مصر من حكمة. ولكن التقارب مع سور واضح خصوصاً مع أم 6:16 - 19. ويبدو أنه كان للحداء مكانته في لجش[18].

* المرحلة النيو سومريّة (2200 - 1900)

ألِّه الملك السومريّ في تلك الحقبة، فظهر الأدب الملوكيّ مع عدد من الفنون الأدبيّة تتوافق مع الايديولوجيا الجديدة. صار الملك قريباً من الإله، بل ممثّلاً له: دوموزي، إنانة (تموز، عشتار، حز 8:14). وأنشِد الزواجُ المقدّس مع عدد من الطقوس، كما أرسلت رسائل بشكل صلاة، بدت كأنها رثاء[19].

* المرحلة البابلونيّة القديمة (1900 - 1600)

إن انهيار المملكة النيو سومريّة في أور (حوالي سنة 2000) وانحطاط سلالة إيسين فيما بعد (حوالي سنة 1900)، ألهم عدداً من الفنون الأدبيّة الجديدة: رثاء الجماعة (كما في مراثي إرميا وعدد من المزامير): بكاء على دمار المدن والهياكل على يد القوى المعادية: أين هم الآلهة لا يفعلون شيئاً. هذا الرثاء جُعل في الطقوس، ولا سيّما في إعادة بناء الهيكل (أور، اريدو، نيفور، أوروك) وكان بعض الرثاء بشكل طلبات يجيب الشعب على كل واحدة منها[20].

وإذ كان الكهنة يدوّنون هذه المرائي (أو المدائح)، كان المؤرّخون يكتبون التاريخ: لائحة الملوك. وثائق عن تلاحق السلالات (أو المدن) التي حكمت البلاد من الطوفان إلى حمورابي[21]: بل راحت الأخبار إلى ما قبل الطوفان.

* المرحلة البعد سومريّة (1600 - 100)

إن سقوط بابل (حوالي سنة 1600) قاد إلى اقفال مدارس الكتبة في بابلونية، فانحصرت اللغة السومريّة في العالم الليتورجيّ. فانتقل هؤلاء النسّاخ إلى أشور ونينوى وظلوا يرتّبون النصوص، ينسخونها، يتلونها غيباً، ينقلونها غيباً أو يؤلّفون ما يشبهها. وبعد العظمة التي نالها التعليم البابلونيّ، خرج هذا الأدب من بلاد الرافدين إلى المدن المجاورة، فوصل إلى حتوسة، عاصمة الحثيين (في تركيا) وإلى أوغاريت (راس شمرا، شمالي اللاذقيّة في سوريّة). وهكذا وصل تأثير هذا الأدب إلى عالم الكتاب المقدّس، الذي أخذ الكثير من مفاهيم بلاد الرافدين، ولا سيما على مستوى ربط العقاب بالخطيئة، والتشاؤم الذي يجعل الطبيعة عدوّة الانسان لا صديقته كما في مصر. فنهرُ النيل في مصر يحمل معه الخير (الطمى). أما دجلة، فيحمل الخراب والدمار والموت. أعيدت قراءة عددٌ من النصوص البيبليّة في هذا الإطار، وعلى مستوى المجازاة في هذا العالم، فجعلت البركة مرتبطة بحياة فاضلة، والكارثة نتيجة حياة من الخطيئة.

خاتمة

وهكذا حاولنا أن نتعرف إلى أرض سومر وإلى الشعب السومريّ. عُرفت الأرض بموقعها في جنوب العراق. وتفاعل الشعب مع السكّان الأصليّين ثم مع الأكاديّين. فاغتنى وأغنى. ولكن يبقى الباب مفتوحاً من أجل تساؤلات عديدة، ليس آخرها الموضع الذي منه جاء السومريّون. أمن الهند أم من موضع آخر؟ وفي أي حال، نترك للعلماء أن يتابعوا الأبحاث، وللغويّين أن يقرأوا النصوص. كل هذا يساعدنا على فهم الإطار الذي فيه دُوّنت أقلّه أسفار التوراة الخمسة في صيغتها النهائيّة. فالذين سباهم الحاكم البابلي إلى أور، إلى الجنوب، حملوا معهم حضارة تلك المنطقة. كما جعلوا ابراهيم المثال لهم. قال له الرب: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك. بدت مسيرته خروجاً يقابل خروج موسى من مصر. لهذا كانت عودة المنفيّين من بابل إلى أورشليم بشكل خروج ثان، قال فيها الله بلسان النبي اشعيا (49:9 - 12):

فتقول للأسرى: أخرجوا!

وللذين في الظلام: إظهروا!

فيأكلون في طريق عودتهم،

ويكون في كل الروابي طعامهم...

يجيئون من أقطار بعيدة،

بعضهم من الشمال والغرب،

وبعضهم من أرض أسوان.

رنِّمي يا سماء وابتهجي يا أرضُ.

لأن الرب يعزّي شعبه

ويرحمه مشفقًا على بؤسه.



[1] T.B. JONES, The Sumerian Problem, New - York, 1969.

[2] يرد الإسم في تك ۱۱: ۲۸ (أور الكلدانيين)، ۳۱؛ ۱٥: ٧؛ نح ٩: ۱٧ في علاقة مع ابرام (ابراهيم). هي اليوم تل المقير، وتبعد ٩ كلم عن الفرات. تعود الى الألف السادس.

Dict. Enc de la Bible (DEB) Brepols, 1987, p. 1293 - 1294; L. WOOLEY, Ur of the Chaldees, London, 1950.

 

[3]مدينة على الضفة الشمالية للفرات، لم تذكرها البيبليا، بل النصوص البابلونية (حمورابي) اكتشفت في تل الحريري (سوريا) سنة ۱۹٣٣.

DEB p. 790 DBS, I, col 883 - 950; A. PARROT, Mari, capitale faluleuse, Paris, 1974.

[4] T. JACOBSON, The Sumerian Problem, New-York, 1969     ولكن راجع

[5] I. GELB, “Sumerian and Akhadian in their Ethno-Linguistic Relationship”, Genova n.s. 8 (1960) 258 - 271

[6] B. LANDSBERGER, Three Essays on the Sumerians, Transl. M. Ellis, MANE 1/2, Los Angeles, 1974.

[7] حاشية ٥، ص ۲٦۲   ۲٦۳

W. HALLO & W. SIMPSON, The Ancient Near East, New-York, 1971; A. L. OPPENHEIM, Ancient Mesopotamia, Chicago 1964, Rev. E. Reines, 1977, p. 49.

[8] W. von SODEN, Einführung in die Altorietalistik, Darmstadt, 1985.  هناك رأي مختلف

[9] J.S. COOPER, Anchor Bible Dict. col 6 (Doubleday, 1992). p. 231 - 234; Voir S.N. KRAMER, The Sumerians, Chicago, 1963 . H. NISSEN, The Early History of the Ancient Near East, 9000 - 2000 BC, Chicago, 1988; G. ROUX. "Les Sumériens, sortaient-ils de la mer", L’Histoire 45:46 - 59.

[10]DEB, p. 1296 - 1297; A. T. CLAY, Neo-Babylonian Letters from Erech, New-Haven, 1923 - 1933; E. DHORME, Recueil Edmond Dhorme, Paris, 1951, p. 35 - 55.

[11] M. ANBAR, The Amorite Tribes in Mari and the Settlement of the Israelites in Canaan, Tel Avriv, 1985; DEB, p. 49.

[12] E. LIPINSKI, "Sumer" in DEB p. 1222 - 1223; P. GARELLI, Le Proche - Orient asiatique des origines aux invasions des Peuples de la Mer, Paris, 1969; E. SOLLBERGER et J.R. KUPPER, Inscriptions royales sumériennes et akkadiennes Paris, 1971; A. PARROT, Sumer, Un Formes, 1981.

[13] H. LIMET, Sumer in Dict. des Religions (ed - P. Poupard) (Puf. Paris, 1984), p. 1928 - 1931; Ch. F. JEAN, La religion sumérienne, Paris, 1931; R. JESTIN, La religion sumérienne dans Histoire des Religions, Pleiade I, Paris, 1970, p. 154 - 202; Y. ROSENGARTEN et A. BAER, Sumer et le sacré, paris, 1977.

[14] DEB p. 1223; J.B. PRITCHARD, The Ancient Near East-Pictures Princeton, 1969; Id, Ancient Near East Easten Textes, Princeton, 1969.

[15] W.W. HALLO, "Sumerian Literature, Background to the Bible", Bible Review 4/3 (1988) p. 28 - 38.

[16] P. MICHALOWSKI, "On Some Early Sumerian Magical Texts", Orientalia 54 (1985) p. 216 - 225.

[17] B. ALSTER, Studies in Sumerian Proverbs, Mesopotamica 2, Copenhage 1975. Id, "Sumerian Proverbs Collection Seven", Revue d’Assyriologie et d’Archéologie Orientale 72 (1978) p. 97 - 112

[18] R. D. BIGGS, "Pre-Sargomic Riddles from Lagash" in Journal of Near Eastern Studies 32 (1973) p. 26 - 33.

[19] M. CIVIL, "The Message of Lu-dingin - ra to His Mother" JNES 23 (1964) p. 1 - 11.

[20] M.E. COHEN, The Canonical Lamentations of Ancient Mesopotamia Potomac, MD 1988.

[21] M. CIVIL, The Sumerian Flood Story in Athrahasis: The Babylonian Story of the Flood, by W.C. LAMBERT and A.R. MILLARD, Oxford, 1969. p. 138 - 145; 167 - 172.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM