القسم الرابع عشر:سر الحياة
 

 سر الحياة 4: 26- 34

أصغر الحبوب صارت شجرة كبيرة.
زرع رجل وحصد. وبين هذين النشاطين، بين الزرع والحصاد، نام هادئاً مطمئناً. الأرض تعمل بصورة آلية. فهناك أمور لا تتعلّق بمجهوداتنا. قد نعزق وننزع الحجارة ونضع الأسمدة، فلا يتبدّل شيء. الحياة تعمل وحدها. كم هذا عظيم! ولكن ما يلفت النظر هو أن الرجل "لا يعرف كيف كان ذلك". جهلُ الإنسان لسر الحياة. لماذا تسير الأشياء هكذا؟ قد نستطيع أن نقدّم اعتبارات حول سر الحياة الذي لا يستطيع العلماء أن يوضحوه. ولكن النصّ يبقى على المستوى البسيط. وهو يدعونا إلى التواضع وإلى معرفة نفوسنا. الأرض هي العامل الرئيسي في هذا النص. وفيها وحدها تجري الأمور كلها.
لا يُذكر الله. فيتحدّث النص عن ملكوت الله الذي ينمو فلا يستطيع أحد أن يوقف نموّه أو يقف بوجهه. من الذي يحمل المنجل؟ قد يكون الله نفسه، أو يكون الإنسان الذي بذر الزرع.
ننظر أولاً إلى هذا الرجل الذي زرع وأحاط بعمله شيئاً ليست من عنده. كل شيء هو نعمة في الزمن المتوسط الذي هو المجال الذي تتم فيه الأمور. ويسوع نفسه لا يسيطر على نتائج نشاطه، على نتائج كلمته. هو لا يعرف ما يحدث حقاً على الأرض، في قلب سامعيه. عليه أن ينتظر ليرى ويصحّح ستراتيجيته. هو يقرّ إقراراً هادئاً بجهله.
والخبر الذي يلي يدعونا إلى الأمل والتفاؤل. فكلمة يسوع لا توازي الخطب "الرسمية". غير أن هذا لا يمنعه من أن يزرع ويزمن بالنتائج.
رغم حماس الجموع، لم يكن النجاح باهراً. لماذا رفضته السلطات؟ وما كان مصير هذه الكلمة في عاصمة جبّارة مثل رومة حيث دوّن مرقس إنجيله؟ حين نظن أنه لا يحدث شيء، يجب أن نحسب حساب الزمن ومسيرته الخاصة. لسنا أمام نصر لا يقف شيء في وجهه، وكأن يسوع يعرف مسبقاً ما سوف يحدث! نحن أمام الإيمان الذي يعرف أن ينتظر.
سيأتي يوم تصبح فيه الكنيسة شجرة. وطيور السماء التي تعرف أن تحسب حساب عناية الله، تقيم في هذه الشجرة وتتغذّى منها. تقيم حيث نقيم نحن. نقيم في الإستسلام لله ونلقي علينا همّه. فالذين يعملون بصورة خفيّة ويزرعون زرعاً متواضعاً، يعرفون أن النجاح لا يقاس بما نعرف أو لا نعرف. فلا نسبة بين البدايات والنتيجة الأخيرة.
فالحياة تفتح طريقها في صحراء الغموض الذي نعيش فيه: نحن لا نحسّ بها، لا ندركها، لا نراها. فحبّة الخردل تتطلّع إلى الحرية. تصبح كبيرة جداً مثل تواضع يرتفع. وخصبُ حبة صغيرة يبدو لنا لغزاً فيدهشنا ويتجاوزنا.
الأمور تسير مسيرة فصول العالم. والحياة تستطيع أن تكوّن أمّة من شعب تشتّت وكاد يزول. إنها تعطي مستقبلاً بجسد ضعيف وهزيل. إنها تستطيع كل شيء. وهذا لا يرتبط بعملي ولا بمعرفتي. لهذا كلّمنا يسوع بالأمثال، لا ليجعلنا ندرك الأمور بسرعة، بل ليترك الأشياء تنضج على مهل. المساكين هم المميزون في مخطّطه الذي يخلق السّر حين يكشفه. يبقى علينا أن ندخل فيه.
يرسم النص الزرع، يرسم الحصاد، ولكنه لا يرسم الفلاّح الذي ينتظر نموّ زرعه. ومع ذلك، هذا من أهم الأوقات في حياته. هناك حرارة البدايات وحماس النصر الأخير، وهناك أيضاً الصبر الذي يرتبط بالإنتظار. هذا المثل يحدّثنا عن فضيلة الصبر.
ولكن أي صبر هو هذا الصبر؟ لا صبر الذي يكشف يده ولا يعمل شيئاً، ولا صبر العائش على أعصابه. لقد أقام هذا الفلاح بهدوء في زمن الثقة والأمل. بعد أن زرع، إستعاد حياته العادية، دون أن يعرف ما الذي يحدث. ولكنه كان متأكداً من الصرخة الأخيرة: "حلّ وقت الحصاد".
لقد وثق بالأشياء. الأرض تنبت، الحب ينمو، والمنجل ترقص. ووراء هذه كلها هناك الله. فالله هو في كل إنتظار من انتظاراتنا. والسؤال الذي طرحه يسوع يشير إلى القوة التي بها نؤمن أن الله يعمل ليتحوّل زرعنا حصاداً.
مرات لا نرى، ولهذا نيأس. نحن لا نحب الإنتظارات السرية. نعجلّ فنظنّ أنه لم يحدث شيء وأن الله غائب، وأنه لا يقيم محلّنا الآن ليعمل العمل عنا.
ولكن هذا ليس محلنا، هو محلّه هو. نحن لا ندرك عمله لأنه عملٌ إلهي. نحن نقرأ عمله نادراً في الحال. غير أننا نستشفّ بعض الشيء حين نقرأ تاريخ الكنيسة، بل حين نقرأ تاريخ حياتنا.
قراءتان مهمتان لتغذية الثقة فينا. نحن نقول بسرعة: نثق بالله، نتكلّ على الله. هل تحقّقنا من ذلك على الأرض؟ هذا أمر صعب، لأن وسائل الإعلام تمنعنا من القراءة الصحيحة. حين نرى التلفزيون أو نقرأ الجرائد نتأوّه: "أين الله؟ ماذا يعمل الله"؟
الله موجود حيث تنتصر العدالة، حيث يُولد الحب. نعلن له: أنت تعمل دائماً. أنت في أساس مجهودنا من أجل السلام. روحك يعمل في قلب البشر. حين يتغلّب الحب على البغض فالفعل فعلك يا رب.
هذا الإعلان هو أفضل تفسير لمثل الزرع الذي ينمو وحده. هو ينمو وحده في الظاهر، ولكن في الواقع، الله يعمل، والإنجيل يحتوي في ذاته قوّة نموّ عظيمة. يبقى علينا أن نصبر ولا نشكّ. فالذي يشكّ لا يعرف العالم ولا حياته الخاصة.
مثلان. لدى الفلاحين. زرع ينمو ولا نعرف كيف نما، وحبة خردل تصير شجرة كبيرة. كل هذا يدهشنا. دعتنا أقوال يسوع لكي نشمرّ عن سواعدنا، لكي نمشي، لكي نبدّل حياتنا. أما هذان المثلان فيدعواننا إلى الصبر والأمل. هل نعرف أن الله صبور وهو قوي؟ إن الملكوت الذي يظهره الله في يسوع ليس أرضاً نحتلها. إنه قوة لا يقف شيء بوجهها. فأين ثقتنا بالله وبعمله؟

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM