الفصل الخامس عشر: الوصول إلى رومة، إلى أقاصي الأرض

 

الفصل الخامس عشر

الوصول إلى رومة،

إلى أقاصي الأرض

أُرسل بومبيوس (106-48 ق.م.) القائد الرومانيّ إلى البحر المتوسِّط مع سلطات شبه مطلقة فقمع القراصنة الذين كانوا يرجِّفون السفن الماخرة في البحر المتوسِّط. وفي النهاية، عاد إلى رومة على رأس جيشه مظفَّرًا، ويوليوس قيصر (100-44 ق.م.) احتلَّ ما يُدعى اليوم فرنسا وبلجيكا، ودخل رومة ظافرًا. وتيطس بعد أن احتلَّ أورشليم، عاد مع جنوده يرافقه الأسرى العديدون. وبولس الرسول أيضًا ما كان أقلَّ من هؤلاء القوّاد حيث يقول لنا القدّيس لوقا: »ولمّا دخلنا رومة« (أع 28: 16) دخول الفاتحين، أتى إلى لقائنا الإخوة. مشى بولس »في المقدِّمة« كأنَّه قائد »والإخوة الذين في رومة« (آ15) يرافقونه. هؤلاء القوّاد انتصروا، ولكنَّ انتصارهم لم يدُم طويلاً بعد أن طلبوا المراكز العالية. مات بومبيّوس بعد أن لاحقه قيصر. وقيصر مات بيد أصحابه، بل ابنه بروتس، والإمبراطوريَّة الرومانيَّة تلاشت. أمّا ذاك الذي قُتل على طريق أوستيا شهيد المسيح، فما زال حيٌّا. لأنَّ انتصاره لم يكن موقَّتًا بل دام ما دامت كلمة الله تفعل فعلها في المؤمنين حتّى مجيء المسيح الثاني. احتلَّ بولس المدن البرِّيَّة قبل أن يجوب البحر ويمرَّ في المدن الساحليَّة وصولاً إلى »ريغيون«، ثمَّ إلى »بوطيولي« قبل اللقاء بالإخوة في »ساحة مدينة أبيّوس والحوانيت الثلاثة« (أع 28: 13-15).

1. أسفاري المتعدِّدة

ذاك ما قال الرسول في معرض تعداد الأمور التي قام بها من أجل الرسالة:»في أسفاري المتعدِّدة تعرَّضتُ لأخطار الأنهار واللصوص... وواجهتُ أخطارًا في المدن، وأخطارًا في البراري...« (2 كو 11: 26). كيف كان الناس يسافرون في أيّام بولس؟

أوَّلاً كانت الطرق الرومانيَّة التي بقيت آثار منها حتّى اليوم. مثلاً، من حلب باتّجاه تركيّا، في القورشيَّة، نجد طريقًا مبلَّطة بالحجارة الكبيرة وثابتة حتّى اليوم. ويمكن أن نشير إلى أنَّ الحجارة الكثيرة أخذت من هذه الطرق من أجل بناء البيوت. فمدينة تسالونيكي مثلاً، تمرُّ فيها الطرق الرومانيَّة من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال: الطريق الأغناطيَّة التي هي امتداد طريق أبيَّا المنطلقة من رومة باتِّجاه البنطس، والطريق التي تنطلق من آخائية (عاصمتها كورنتوس) نحو الشمال فتصل إلى نهار الدانوب. وبالنسبة إلى فيلبّي، نعرف أنَّها اتَّصلت ببحر إيجه بطريق تعبر جبل سنبولون فتصل إلى مرفأ نيابوليس الذي هو اليوم كافالا، بعد ثلاث أو أربع ساعات من السير على الأقدام. تلك هي الطريق التي قطعها بولس مع رفاقه حين جاء من آسية الصغرى (بعاصمتها أفسس) إلى مكدونية (أع 16: 12). وما يلفت نظرنا في سفر الأعمال، هو أنَّ كاتبه القدّيس لوقا يذكر سفَرًا لبولس في عبارة قصيرة، وكأنَّه يشير إلى طيّارة نزلت في المطار، ثمَّ أقلعت. مثلاً في 16: 6: »مرُّوا في نواحي فريجية وغلاطية«، وهما منطقتان واسعتان في الجبال التركيَّة المحيطة بأنقرة الحالية. وهكذا يحسب القرّاء أنَّنا أمام »قريتين متلاصقتين«، ويواصل سفر الأعمال: »ولمّا اقتربوا من ميسية، وهي منطقة واقعة على حدود خليج البوسفور، حاولوا أن يدخلوا بثينية« (آ7)، الواقعة على الضفَّة الشماليَّة من آسية الصغرى. طرق وعرة، جبال قاسية جعلت مرقس رفيق برنابا وشاول يتراجع »ويرجع إلى أورشليم« (أع 13: 13).

لا نحسب يومًا أنَّ الرسل، ومعهم بولس، كانوا يسافرون كما الإدارة الرومانيَّة التي كانت لها المركبات ثمَّ المحطّات حيث تُبدَّل الخيول، فيُسرع »البريد«. ولا كانوا يسافرون مثل وزير ملكة الحبشة في راحة تامَّة. يقول لوقا: »كان راجعًا وهو جالس في مركبته« (أع 8: 28). فطريقة السير على الأقدام لبثت إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. أما كان الناس يذهبون من جبل لبنان إلى حوران ليجلبوا القمح ولاسيَّما خلال الحرب العالميَّة الأولى؟ وأتذكَّر جدّي الذي كان يمضي من كفرعبيدا في قضاء البترون إلى طرابلس وهو حامل كيس القمح وعائد إلى القرية. والذين تحدَّثوا عن »الحصان« الذي وقع عنه شاول (بولس) وهو في طريقه إلى دمشق، أخطأوا. فهذه الصورة جاءت من أوروبّا في القرن الثالث عشر، في أحد الرسوم، ساعة كان الفرسان كثُرًا في البلاد الغربيَّة. أمّا بولس فسقط أرضًا، ساجدًا للربِّ الذي أشرق عليه وناداه باسمه (أع 9: 4). فالسفر عادة يكون على الأقدام، إلاَّ في بعض الحالات مثل ذاك السامريّ المارّ في الطريق بين أورشليم وأريحا (لو 10: 30ي). رأى الجريح في الطريق »فحمله على دابَّته وجاء به إلى الفندق« (آ34).

الفندق هو للأغنياء. أمّا بولس ورفاقه فكانوا يكتفون بخان القوافل حيث يبيت المسافر مع مطيَّته، بما في ذلك من انزعاج يمنع الراحة الحقَّة. ولماذا لا ينام الرسول في العراء، ولاسيَّما في أيّام الصيف المحرقة؟ فهو لا يحمل معه سوى »عباءة« ينام فيها (خر 22: 26) وبعض »الكتب وخصوصًا مصاحف الجلد« (2 تم 4: 13).

أسفار طويلة قام بها بولس من أجل نشر الإنجيل. وهو ما أراد أن يبني على أساس غيره. لهذا كان ينطلق من مدينة إلى مدينة. بنى يوليوس قيصر مدينة كورنتوس، سنة 44، بعد أن هدمها القنصل موميّوس، أمّا بولس فبنى فيها كنيسة شعَّت في أنحاء آخائية. وكذا نقول عن أفسس وتسالونيكي. لا شيء يوقف مسيرته. لا يتعب ولا يكلّ. وإذا تحدَّثنا عن الجبال ولا سيَّما جبال طورس في تركيّا، لماذا لا نتذكَّر هنيبعل الذي اجتاز جبال الألب مع أفياله هاجمًا على رومة. هو فتح البلدان لمجده. أمّا بولس فلمجد الربِّ يسوع، »من أورشليم إلى الليريكون« (رو 15: 19) التي هي مقاطعة في ما دُعي اليوم يوغوسلافيا. كم من الكيلومترات اجتاز هذا الرسول الذي ما كان يملك شيئًا، لكي يغني كثيرين؟ يكفي أن نعرف مثلاً أنَّه زار كورنتوس ثلاث مرّات (2 كو 13: 1). والشرّاح يتحدَّثون عن ثلاث رحلات رسوليَّة انطلقت كلُّها من أنطاكية، »القيادة العامَّة« للرسالة. فانطلاقته الأولى كانت من هناك حين وُضعت عليه الأيدي (أع 13: 3) فانطلق هو وبرنابا.

مملكة واسعة »افتتحها« بولس، وها هو يسير إلى رومة حاملاً معه علامة انتصاره: »سمات يسوع« (غل 6: 17). كانت محطَّة أولى في أورشليم وقيصريَّة البحريَّة، بانتظار المحطَّة الثانية والأخيرة. أمّا البداية ففي أفسس، أو بالأحرى في مرفأ ميليتس حيث ودَّع شيوخ المدينة: »لن تروا وجهي بعد اليوم« (أع 20: 25). ففي أورشليم شهد بولس ليسوع حين اعتُقل كما اعتُقل معلِّمه، لأنَّ لا تلميذ أفضل من معلِّمه، ولا عبد أفضل من سيِّده (يو 13: 16). ولكنَّه دافع عن نفسه، لا من أجل نفسه، بل شهادة لمعلِّمه، كما قيل له بفم حنانيا الذي عمَّده: »اخترته (= بولس) رسولاً لي يحمل اسمي إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل، وسأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (أع 9: 15-16). ذاك ما قاله الربُّ بفم حنانيا. وذاك ما اختبره بولس فدوَّنه لوقا عشرين سنة بعد موت الرسول.

شهد بولس أمام قائد الألف، وأمام شعب أورشليم برؤسائه. وهو سوف يشهد لدى الحاكم فيلكس، في قيصريَّة، فيصل بكلامه إلى الإيمان »بقيامة الأموات« (أع 24: 21). ولكنَّ فيلكس لا يستطيع أن يقبل بهذه الكلمة. فمن جهة فعل كما فعل بيلاطس بالنسبة إلى يسوع: »أراد أن يرضي اليهود، فترك بولس في السجن« (آ27). وتجاوز بيلاطس، من جهة ثانية، حين كان »يرجو أن يعطيه بولس شيئًا من المال« (آ26). وأخيرًا، شهد أمام الملك أغريبّاس، ملك خلقيس (عنجر الحاليَّة، في البقاع اللبنانيّ)، وشقيقته برنيكة، وأنهى كلامه: »المسيح يتألَّم ويكون أوَّل من يقوم من بين الأموات ويبشّر اليهود وسائر الشعوب بنور الخلاص« (أع 26: 23)، بل هو قال للملك: »أتؤمن بالأنبياء، أيُّها الملك أغريبّاس؟ أنا أعلمُ أنَّك تؤمن بهم« (آ27). تهرَّب أغريبّاس: »بقليل من الوقت تريد أن تجعل منّي مسيحيٌّا« (آ28). فكان جواب بولس: »رجائي من الله لك ولجميع الذين يسمعونني أن يصيروا إلى الحال التي أنا عليها، ما عدا هذه القيود« (آ29). شهد بولس أمام الحاكم الرومانيّ فتهرَّب، وأمام الملك. ويسوع أيضًا شهد أمام بيلاطس (1 تم 6: 13) الذي سأل »ما هو الحق« (يو 18: 38) ومضى خارجًا وكأنَّه لا يريد أن يسمع.

كان القوّاد العسكريّون يحتلُّون المدن، يسبون النساء والأطفال، يقتلون الرجال أو يأخذونهم أسرى لكي يبيعوهم عبيدًا. وهكذا فعل بولس. قال: »نأسر كلَّ فكرٍ ونخضعه لطاعة المسيحب (2 كو 10: 5ب). والحصون؟ نهدمها. لا بسلاح يشبه أسلحة البشر المستعملة للقتل والدمار، بل بسلاح آخر: »فما سلاح جهادنا سلاح بشريّ (ضعيف، من لحم ودم)، بل (سلاح) إلهيّ قادر على هدم الحصون« (آ4). وما هي هذه الحصون؟ الجدل الباطل، التكبُّر لدى الإنسان والانغلاق على الله والاعتبار أنَّه يكفي ذاته بذاته. في خطِّ إشعيا تحدَّث بولس. »يوم تكون قدرة الربِّ على كلِّ متكبِّر متعالٍ وكلِّ مترفِّع فينحطّ، على كلِّ أرز لبنان... على كلِّ الجبال العالية... على كلِّ برج شامخ، وكلِّ سور حصين« (إش 2: 12-15). وقال الرسول: »نهدم الجدل الباطل وكلَّ عقبة ترتفع لتحجب معرفة الله« (2 كو 10: 5أ). وهل هناك من تمرُّد؟ هو يُقمَع. وفي هذا الخطِّ قال بولس: »ونحن مستعدُّون أن نعاقب كلَّ معصية متى أصبحت طاعتكم كاملة« (آ6).

هي صورة الحرب، ولكنَّ السلاح تبدَّل. وما هو سلاح البشر؟ المنطقة على الخصر، الدرع على الصدر، نعلان للأرجل، الخوذة للرأس، هذا للدفاع. وللهجوم، السيف (أف 6: 14-17). أمَّا سلاح الله فهو مختلف كلَّ الاختلاف. هو لا يصيب الجسد، بل الروح. لا يصيب الإنسان من الخارج، بل من الداخل. وبولس أمام الحاكم أو الملك أغريبّاس، لم يكن يملك سوى الكلمة »يهاجم« بها. فقد قيل عنها: »هي أمضى من كلِّ سيف له حدَّان، وتنفذ في الأعماق إلى ما بين النفس والروح والمفاصل ومخاخ العظام، وتحكم على خواطر القلب وأفكاره« (عب 4: 12). وكيف يدافع المؤمن عن نفسه؟ لا حاجة إلى »المنطقة«. فيحلُّ محلَّها »الحقّ«. ونستغني عن الدرع فيحلُّ محلَّه »البرّ« أي استقامة الحياة، والعمل بمشيئة الله والدخول في مخطَّطه. هذا ما قاله إشعيا عن »ملك السلام«: »يكون البرُّ حزامًا (منطقة) لوسطه، والحقُّ مئزرًا حول خصره« (إش 11: 5). وقال أيضًا عن الربِّ الآتي ليحمل الخلاص: »شهر للنصر ذراعه، واتَّخذ البرَّ سنده. لبس الحقَّ درعًا والخلاص خوذة على رأسه« (إش 59: 16-17).

و»النعلان« اللذان يلبسهما المقاتل فيتلطَّخان بالدم (إش 9: 5)، صارا الحماسة والاندفاع لكي يعلن الرسول »إنجيل السلام«. ذاك ما سمعه الرسول: »ما أجمل على الجبال أقدام المبشِّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص« (إش 52: 7). وذاك ما فعله فما سافر قائدٌ حربيٌّ كما سافر هذا الإنسان الضعيف البنية الذي افتخر بضعفه، بأوهانه، الذي »أصيب بشوكة في جسده« (= لحمه) (2 كو 12: 7). وطلب أن ينجو منها ليكون أكثر حرِّيَّة، فقيل له: »كفيك نعمتي. في الضعف يظهر كمال قدرتي (آ9).

ونقرأ هنا ما قال سفر الحكمة الذي منه استلهمت الرسالة إلى أفسس. الربُّ يحمي أتقياءه بذراعه القويَّة. يقاتلُ معهم. تصير الخليقة كلُّها سلاحًا في يديه (حك 5: 16-17). صواعق البروق تكون مثل قوسٍ مشدودة (آ21). والبرَد حجارة في مقلاعه (آ22)، والرياح تذرِّيهم (23). ويوضح النص: (الله) »يلبس الحقَّ درعًا، والعدل خوذة. يتَّخذ القداسة ترسًا لا يُقهَر، وتكون شدَّةُ غضبه سيفه المصقول، والعالم جيشه في مقاتلة الجهّال« (آ18-20).

تلك هي حرب الله. على الجهّال، وحرب الإنجيل التي يحمل لواءها بولس الرسول. وهو ينتصر لا في شخصه الخاصِّ، بل بالكلمة التي يحمل. فهذه الكلمة التي انطلقت من أورشليم، وصلت إلى رومة »بكلِّ جرأة وحرِّيَّة« (أع 28: 31). احتلَّت عاصمة العالم الرومانيّ، وهكذا وصلت إلى »أقاصي الأرض« (أع 1: 8).

2. انكسرت بي السفينة ثلاث مرّات

حين حدَّثنا الرسول عن أتعابه في سبيل الرسالة، أشار مرَّة أولى إلى الأخطار في البحر (2 كو 11: 27). ومرَّة ثانية قال: »قضيتُ نهارًا وليلة في عرض البحر« (آ25). فالسفر كان سيرًا على الأقدام، ولكن بالأحرى في السفينة. ولكنَّ الخطر يتربَّص بالسفن. ويكفي أن نعرف الخطر الذي كان يتهدَّد السفن حين تدور حول رأس كورنتوس. لهذا فضَّل التجّار أن ينقلوا البضائع بحرًا بين مرفقين: واحد من الشرق وآخر من الغرب، كنَّخرية ولينمايون. ولهذا كان عدد العبيد في كورنتوس ضعف عدد الأحرار. وكانت محاولة لفتح قناة بين هذين المرفأين باءت بالفشل. وها نحن نتحدَّث عن السفر في البحر، قبل أن نرافق بولس إلى رومة ووراءه المسيحيّون الذين أتوا إلى لقائه.

أ- السفر في البحر

كان البحر موضع الشرِّ بالنسبة إلى العالم العبرانيّ، لهذا لم يُذكَر حيوانٌ مع الحيوانات الثلاثة التي ترافق الإنسان. النسر في الجوّ. والثور بين الحيوانات الداجنة، والأسد بين الحيوانات المفترسة. ولكن لا ذكر للسمك ورئيسه. فالبحر بحر الفلسطيّين (خر 25: 3). يكبحه الربُّ بقدرته (مر 4: 39). والحضارة الرافدينيَّة لم تُعرْ اهتمامًا كبيرًا بالبحر. فهو المياه السفلى التي يمكن أن تهدِّد الأرض كما في خبر الطوفان (تك 6-9). ومصر دعت البحر ذاك »الأخضر العظيم« قبل أن تأخذ اسم »يم« من العالم الساميّ.

نجد أنَّ هذا لم يكن موقف الفينيقيّين وبعدهم اليونان مرورًا بشعوب البحر الآتين من الجزر اليونانيَّة، المستعملين الحديد بدل البرونز في صنع السلاح. فهم جابوا البحر بحيث لم يَعُد بالنسبة إليهم حاجزًا وحدودًا، بل طريقًا غير عاديَّة. فعبروا البحر المتوسِّط أكثر من مرَّة ونظَّموا الملاحة فيه. وقبل المسيح بثماني مئة سنة أقلَّه، عرفوا أسرار هذا البحر وتكيَّفوا مع خصائصه.

وفي نظام أرصاديّ، مختصّ بالتغيُّرات الجويَّة، ميَّز اليونان، ثمَّ الرومان الطقس الجميل المؤاتي للملاحة، والطقس السيِّئ أو »البحر المغلق« حيث تتوقَّف كلُّ النشاطات البحريَّة. هذا نظرنا. وفي الممارسة كانت حدود البحر المغلق تتنوَّع بتنوُّع السماوات فيدخل فيه فصل الربيع أو فصل الخريف. ما كانوا هنا أمام منع لا رجوع عنه، بل أمام عادة يمكن أن يتجاوزها الملاّحون بحسب الظروف. ولكنَّ بعض المغامرين كانوا يدفعون الثمن غاليًا. ذاك ما حصل بالنسبة إلى السفينة. قال لوقا بصيغة المتكلِّم الجمع وكأنَّه كان رفيق بولس: »وهكذا مرَّ علينا وقت طويل حتّى مضى صوم الكفّارة (في بداية الخريف، يوم كيبور حيث تقدَّم الذبيحة عن خطايا الشعب خلال السنة الفائتة)، وصار السفرُ في البحر خطِرًا. فأخذ بولس ينذرهم. قال: »أيُّها الرفاق، أرى في السفر من هنا خطرًا وخسارة لا تقتصر على السفينة وحمولتها، بل على أرواحنا أيضًا« (أع 27: 9-11).

فبولس شخص عرف البحر وسافر فيه أكثر من مرَّة، سواء المسافات الطويلة أو المسافات القصيرة. مثلاً، في نهاية الرحلة الرسوليَّة الثانية أراد أن يعود مسرعًا من كورنتوس »فسافر في البحر إلى سورية، ومعه برسكلَّة« (أع 18: 18). ومرَّة أخرى استعدَّ للسفر في البحر إلى سورية« (أع 20: 3) من اليونان. وإذ عرف أن اليهود يطلبون قتله، فضَّل أن يُبحر من فيلبّي (آ6).

هي مواضع معروفة لدى بولس. أمّا فيلبّي، مدينة فيليب المقدونيّ، والد الإسكندر الكبير فكانت أوَّل مدينة في أوروبّا يصل إليها الإنجيل. خاف بولس والفريق الرسوليّ من عبور البحر، وحاولوا أن »يدوروا« في آسية الصغرى، في فريجية وغلاطية وميسية وبثينية (أع 16: 6-7). ولكنَّ الروح الذي منعهم من البقاء في آسية (آ6، آ7) دعاهم بواسطة »رجل مكدونيّ« (آ9): »اعبُر إلى مكدونية وساعدنا«. أغثنا. وهكذا كان السفر حيث اعتبر الفريق الرسوليّ أنَّ الله يدعوهم إلى التبشير فيها« أي في مكدونية (آ10).

ووصل بولس إلى ترواس التي هي طروادة الشهيرة التي أنشد الشاعر اليونانيّ هومير الحرب التي دارت فيها ضدَّ اليونان بقيادة أغاممنون. دُمِّرت طروادة في القرن العاشر ق.م. على ما يقال، فأعاد الإسكندر أو خليفته اليونانيّ أنطيغون بناءها في بداية القرن الرابع ق.م.

ومن ترواس انتقل بولس إلى أسوس (الواقعة في تركيّا الحاليَّة)، على خليج أوراميتيوم. هي مرفأ يقع على حدود مقاطعة طروادة، وصارت في مقاطعة آسية، في العهد الرومانيّ. ومرَّ بولس تجاه جزيرة خيّوس التي تقابل سميرنة أو إزمير الحاليَّة (المدينة التجاريَّة الكبرى في تركيّا). ثمَّ تجاه ساموس الواقعة في بحر إيجه وكلُّ هذا ليصل إلى ميليتس الواقعة في كارية (تركيّا الحاليَّة) والتي أقام فيها الكريتيّون منذ القرن السادس عشر.

نستطيع أن نقيم خريطة بالمواقع التي ذكرنا في رحلة بولس البحريَّة. هو ينتقل من موضع إلى آخر، لأنَّ السفر على البحر مفضَّل على السفر في البرِّ بسبب الأخطار التي ذكر بولس بعضها في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: خطر الأنهار وخطر اللصوص. أخطار في المدن وأخطار في البراري. الجوع والعطش والعري والبرْد (2 كو 11: 26-27).

ونعود إلى خطر البحر الذي عرفه بولس وهو ماضٍ أسيرًا إلى رومة. حذَّر القبطان وصاحب السفينة، فما اقتنعا بكلامه، بل أخذا بكلام الضابط الرومانيّ (أع 27: 11). واقتنعا خصوصًا لأنَّ الميناء لم يكن صالحًا 'لقضاء فصل الشتاءب (آ12). ولكنَّ الريح هجمت عليهم.

هنا نعرف أنَّ البحر المتوسِّط بشكله الخارجيّ، يسمح بالملاحة القريبة من الشاطئ، مع توقُّف في المرافئ التي تتوزَّع الشواطئ. هذا ما اكتشفناه في الرحلة التي قادت بولس إلى ميليتس. ونكتشفه أيضًا في طريق العودة إلى أورشليم. فيروي لنا لوقا الخبر ويطلب منّا أن نتتبَّع مسيرة بولس من موضع إلى موضع بعد أن ترك ميليتس متوجِّهًا إلى الشاطئ الفلسطينيّ ومنه إلى المدينة المقدَّسة. »وبعدما فارقناهم (شيوخ أفسس)، أبحرنا متوجِّهين إلى كوس، وفي اليوم الثاني إلى رودس، ومنها إلى باترة« (أع 21: 1).

كوس حافظت على اسمها إلى اليوم (= كو). هي في أرخبيل الاثنتي عشرة جزيرة في بحر إيجه. وبالقرب من آسية الصغرى، قبالة أليكرفس. ورودس هي جزيرة كبيرة نسبيٌّا (1404 كم مربَّع). ولبثت مزدهرة مدَّة طويلة إلى أن بنت رومة مرفًا ديلوس تجاهها، فخسرت أهمِّيتها. أمّا باترا فهي مرفأ لوقية. كانت مركز الموفد الإمبراطوريّ فنشطت التجارة فيها.

وتتواصل رحلة بولس بعد أن ترك مرفأ باترا صاعدًا 'في سفينة مسافرة إلى فينيقية، فركبناها وسافرنا« (أع 21: 2). سارت السفينة بمحاذاة قبرص قبل أن تتَّجه إلى صور. وأخذت السفينة تنتقل من مرفأ إلى مرفأ. في صور »أفرغت حمولتها« (آ3). ويتابع لوقا كلامه: »ومن صور وصلنا في نهاية الرحلة إلى بتوليمايس... وسرنا في الغد إلى فيصريَّة«.

بتوليمايس. نسبة إلى بطليمس (معنى الاسم: المحارب) الذي هو اسم الملوك الذين تعاقَبوا على مصر بعد موت الإسكندر المقدونيّ. أمّا اسمها القديم فهو عكّا. هي مدينة كنعانيَّة واقعة على البحر المتوسِّط، إلى الشمال الشرقيّ من حيفا. وقيصريَّة دُعيَت كذلك نسبة إلى أوغسطس قيصر، أوَّل إمبراطور رومانيّ: حسب فلافيوس يوسيفوس، ملكُ صيدون في القرن الرابع ق.م. ودعاها ستراتون أو برج ستراتون. هذه المدينة التي صارت عاصمة فلسطين الرومانيَّة. ثمَّ مركز الوالي (بيلاطس مثلاً، ثمَّ فستس. هذه المدينة صارت مركز تجمُّع الرسل وكانت فيها جماعة من المؤمنين (أع 21: 16). بشَّرها فيلبُّس بعد مقتل إسطفانس (أع 8: 40) ثمَّ أقام فيها (أع 21: 8). وفيها بطرس عمَّد أوَّل وثني، كورنيليوس (أع 10: 1ي).

وهكذا كلُّ سفر في البحر يتمُّ بشكل عامّ في ثلاثة أنواع: ملاحة بمحاذاة الشاطئ منذ مرفأ الانطلاق حتّى نقطة هامَّة على الشاطئ. ثمَّ ملاحة في عرض البحر. والنوع الثالث، ملاحة شاطئيَّة جديدة للوصول إلى الهدف الأخير. في مثل هذا النظام وفي غياب الخرائط ومختلف الآلات التي لم تستعمل في القديم، استند فنُّ الملاحة إلى معرفة عميقة بالشاطئ وبالنجوم وبالرياح.

فمعرفة الشاطئ والأماكن التي فيها تزوَّد السفن بالطعام والماء، والتي فيها ملجأ لها كما كان الأمر بالنسبة إلى بولس ورفاقه (أع 27: 12 موضع يقضون فيه فصل الشتاء)، والأخطار من صخور ناتئة أو رؤوس متقدِّمة في البحر أو أعماق غميقة، كلُّ هذا استند إلى الخبرة التي تنتقل من الفم إلى الآذان، بانتظار المجموعات المدعوَّة »رحلات التي يمكن أن نقابلها بما نعرفه اليوم من »تعليمات نوتيَّة أو ملاحيَّة«. أمّا أقوم كتب »الرحلات« فتعود إلى القرن الرابع ق.م.، مع افتراض أنَّها وُجدَت قبل ذلك الوقت.

إذا أجبر القبطان أن يترك الشواطئ ويسير في عرض البحر، كان يقدِّر الأمور ويحسب قدر المستطاع الاتِّجاه الذي يأخذ والمسافة التي قطعها. أمّا الاتِّجاه الذي يتبع، أي مقدَّم السفينة، فيتحدَّد بحسب النجوم والرياح. في النهار يستدلُّ بالشمس. وفي الليل حسب موقع المجرّات. نشير هنا إلى أنَّ السفر في البحر عُرف منذ هومير، منذ القرن العاشر ق.م. ولعبت الرياح دورًا هامٌّا بأهمِّيَّة الشمس والكواكب. كانت تُضمُّ إلى الجهات الأربع والجهات المتوسِّطة لتكوين دوّارة الرياح التي انتقلت من أربع رياح في زمن هومير، إلى أربع وعشرين في زمن أوغسطس. ولكن عمليٌّا، كانوا يكتفون »بدوّارة« بثماني رياح. أمّا تقدير المسافة التي تُقطع، فيعبَّر عنها بيوم ملاحة: ليل ونهار يمتدُّ سبع عشرة ساعة في المدار من أجل المسافات القصيرة، وأربعًا وعشرين ساعة للمسافات الطويلة التي تتضمَّن الملاحة خلال الليل. أمّا علماء الجغرافيا فاعتبروا هذه المسافات بحسب هيرودوت (4: 85-86) المؤرِّخ اليونانيّ، سبع مئة غلوة (والغلوة حوالي 150 مترًا) ليوم من الملاحة يمتدُّ على سبع عشرة ساعة، إذا كانت الريح مؤاتية، وإلى ألف غلوة إذا امتدَّت الملاحة أربعًا وعشرين ساعة.

أمّا الأقدمون فوعوا أنَّ مثل هذا النظام يرتبط بنوعيَّة السفينة وبخصائصها وبنوعيَّة القبطان. وحين لا تكون الملاحة دقيقة، بل تقديريَّة، فالعبور ينتهي بمسيرة تحاذي الشاطئ مع المخافة حين الوصول إلى الأرض. من هنا استعمال المسبار أو تلك الآلة التي تَعرف عمق المكان الذي تكون فيه السفينة.

هذا ما نكتشفه في سفرة بولس وقبل الوصول إلى جزيرة مالطة. قال لوقا »رفيق« بولس في هذه الرحلة: »وبينما كنّا في الليلة الرابعة تائهين في بحر أدريا (يفصل اليونان عن صقلِّيَّة)، ظنَّ البحّارة عند منتصف الليل أنَّهم يقتربون من البرّ. فلمّا قاسوا عمق البحر وجدوه مئة وعشرين قدمًا. ثمَّ قاسوه بعد مسافة قصيرة، فوجدوه نحو تسعين قدمًا. فخافوا أن تصطدم السفينة بأماكن صخريَّة« (أع 27: 27-29). نتذكَّر أنَّ القدم تساوي تقريبًا ثلاثين سنتمترًا.

إذا كان البحر هادئًا كانت الملاحة سهلة. وإلاَّ فالخطر يتربَّص بالسفينة كما حصل لسفينة بولس الماضية إلى رومة. اصطدمت بتلة من الرمل في المياه فغرز فيها مقدِّمها، وعاد لا يتحرَّك، أمّا مؤخِّرها فتحطَّم من شدَّة الأمواج« (آ41). ولكن الحمد لله أنَّ الجميع نجوا بحياتهم (أع 27: 44).

ب - بولس من قيصريَّة إلى رومة

رفع بولس دعواه إلى قيصر فوجب عليه أن يسافر إلى إيطالية. فأُرسل مع بعض المسجونين (أع 27: 1). كلام لوقا هنا يأتي في صيغة المتكلِّم الجمع، وكأنَّه كان في رفقة بولس، إنَّما هو أسلوب أدبيّ يدفع القارئ لأن يرافق بولس أيضًا، لا سيَّما وأنَّ الأخطار تحيق به، لا لدى وصوله إلى رومة فقط حيث تنتظره المحاكمة، بل في البحر الذي هو عالم الشرّ. هو يريد أن يمنع بولس من الوصول إلى رومة ليشهد هناك أمام القيصر كما قال له الربُّ يسوع. أما هذا الذي حصل ليسوع حين كان منطلقًا من الأرض اليهوديَّة إلى الأرض الوثنيَّة، الهلِّنيَّة، شرقيّ نهر الأردنّ؟ يسوع والرسل هم في السفينة. »هبَّت عاصفة شديدة وأخذت الأمواج تضرب القارب حتّى كاد يمتلئ« (مر 4: 37). فالبحر بدا شخصًا حيٌّا. فكلَّمه يسوع: اصمت، اخرس (آ38). ونلاحظ أنَّ مرقس لا يتكلَّم عن البحيرة مع أنَّنا في بحيرة طبريَّة التي يصبّ فيها نهر الأردنّ، بل تكلَّم عن »البحر«. فنحن لسنا فقط أمام موقع جغرافيّ، بل أمام رمز كبير: يجب أن يكون حاجزًا في وجه يسوع الماضي إلى أرض الجراسيّين. ولكن لا شيء يقف في وجه الربِّ والرسالة. وكذا نقول بالنسبة إلى بولس.

»ركبنا سفينة« (أع 27: 2) أولى من أدراميت (هي مدينة قريبة من ترواس، على شاطئ آسية الصغرى)، »وكانت متَّجهة إلى شواطئ آسية«.

بولس سجين مع السجناء، مثل يسوع الذي جُعل »لصٌّا« بين لصَّين، على ما نقرأ في نبوءة إشعيا: »وُضع مع الأشرار قبره ومع الأغنياء لحده، مع أنَّه لم يمارس العنف ولا كان في فمه غشّ« (إش 53: 9). أمّا رفاقه فهم أوَّلاً الضابط الرومانيّ الذي انتمى إلى »الكتيبة الإمبراطوريَّة«. اسمه يوليوس. هو رجل سليم القلب، فعامل بولس أفضل معاملة. مرَّة أولى حين وصل المركب إلى صيدا، يقول لوقا: »فوصلنا في اليوم التالي إلى صيدا، وأظهر يوليوس عطفه على بولس، فسمح له أن يذهب إلى أصدقائه لينال معونتهم« (أع 27: 3). ما نلاحظ هنا هو أنَّ سِفرَ الأعمال يهمُّه الكلام عن الاستعدادات الإيجابيَّة من قبل الرومان تجاه المسيحيّين. وهذا ما ظهر في وقت حرج جدٌّا. حين تعرَّضت السفينة للخطر، »عزم الجنود على قتل المساجين لئلاّ يسبَحوا ويهربوا. ولكنَّ الضابط أراد أن يُنقذ بولس، فمنعهم من ذلك« (أع 27: 42-43).

ورافق الرسول أيضًا أرسترخس، ومعنى اسمه »المعلِّم المميَّز«. هو مسيحيّ من تسالونيكي. كان مع بولس خلال ثورة الصاغة في أفسس (أع 19: 29). كما رافق بولس مع عدد من المسيحيّين، حين كان الرسول عائدًا إلى سورية (أع 20: 3-4). وما اكتفى بمرافقة الرسول في وقت المجد، بل في وقت الضعف أيضًا. فهو هنا معه في السفينة (أع 27: 2)، بل رافقه إلى السجن على ما قالت الرسالة إلى كولوسّي: »يسلِّم عليكم أرسترخس رفيقي في السجن« (كو 4: 10؛ رج فلم 24).

منذ البداية بدت الريح تعاكس الماضين إلى رومة، وذلك لدى الانطلاق من صيدا: »ثمَّ أبحرنا من هناك بمحاذاة قبرص لأنَّ الريح كانت مخالفة لنا« (أع 27: 4). وذكر سفر الأعمال الأماكن التي مرُّوا بقربها: كيليكية. هي الجزء الجنوبيّ الغربيّ من آسية الصغرى، بين الكبادوك في الشمال وليكأونية إلى الغرب وسورية إلى الشرق والبحر إلى الجنوب. ثمَّ بمفيلية. هي منطقة واقعة بين ليكية وكيليكية. يحيطها جبل طورس في الشمال والبحر في الجنوب. وأخيرًا ليكية، مقاطعة من آسية الصغرى، على الشواطئ الجنوبيَّة. أمّا السفينة فوقفت في مرفإها المميَّز، في ميرة، الوقعة على نهر ميرو.

وانتقل بولس والسجناء من سفينة إلى سفينة. الأولى أتت »من أدراميت« والثانية »من الإسكندريَّة« (أع 27: 6). انتقل إليها يوليوس الضابط، لأنَّها كانت »مسافرة إلى إيطالية«. ولكنَّها لم تصل إلى إيطالية. بل جاءت سفينة أخرى من الإسكندريَّة ونقلت المجموعة إلى رومة (أع 28: 11).

هنا نتذكَّر ما كانت عليه السفن التي أمَّنت الاتِّصال بين مرافئ البحر المتوسِّط. هناك أوَّلاً السفن الصغيرة التي تحمل فقط من 15 إلى 20 طنًا. ووصلت بعض السفن إلى 300 طنّ. أمّا السفن التجاريَّة فحاولت أن تكون ضخمة. فإنَّ هيارون الثاني ملك سراكوسة بنى سفينة دعاها سراكوسية تصل حمولتها إلى 4000 طن. ويبقى أنَّه في الحقبة الرومانيَّة، كانت حمولة السفن بين 500 طن و1000 طن، وربَّما أكثر.

هنا نتذكَّر سفينة »بولس«. على متنها »مئتان وست وسبعون نفسًا« (أع 27: 37). هذا عدا الحمولة التي ألقيَت في البحر (أع 27: 18). وما نلاحظ هو عمل الريح الذي لم يفارق السفر حتّى الوصول إلى مالطة. مرَّة أولى حاول البحّارة النزول في مدينة كنيدس (في تركيّا الحاليَّة)، ولكن »منعتنا الريح من النزول فيها، فواصلنا سيرنا قرب جزيرة كريت عند رأس سلمونة« (آ7). هو اليوم رأس سيدارو في كريت. أمّا المرفأ الذي سيصل إليه بولس ورفاقه فهو »الموانئ الصالحة« بالقرب من مدينة لسائية، الواقعة في جنوب كريت.

ولكن بعد »الموانئ الصالحة« تبدَّل كلُّ شيء. »هي ريح شرقيَّة شماليَّة عاصفة يقال لها أوروكليون ثارت بعد قليل من الجزيرة وضربت السفينة. فلمّا تعذَّر على السفينة أن تقاومها، اندفعت السفينة إلى مهبِّ الريح« (آ14-15). وسوف تتواصل الريح وتفعل الأمواج فعلها حتّى تنكسر السفينة بالقرب من مالطة.

في كلِّ هذه المسيرة، بدا بولس هادئًا لا يتزعزع. هو ماضٍ إلى رومة وهو يصل إلى رومة. وبما أنَّ الربَّ يريده للشهادة لدى القيصر، فقد منحه حياة الركّاب الذين يرافقونه. قال بولس: »والآن أناشدكم أن تتشجَّعوا، فلن يفقُد أحدٌ منكم حياته، إلاَّ أنَّ السفينة وحدها تتحطَّم. ففي هذه الليلة جاءني ملاك من إلهي الذي أعبده وقال لي: »لا تخف، يا بولس، فلا بدَّ لك أن تحضر لدى القيصر، والله وهب لك حياة جميع المسافرين معك«. فتشجَّعوا أيُّها الرفاق لأنّي أثق بالله، وستجري الأمور كما قيل لي« (آ22-25).

هدوء وثقة بالله الحاضر في حياة بولس. فكما الملاك أتى وشجَّع يسوع وهو في بستان الزيتون (لو 22: 43)، كذلك فعل مع بولس. وأظهر الرسول ثقته حين دعا الجميع إلى الطعام. »واقترب طلوع النهار، فطلب إليهم بولس أن يتناولوا بعض الطعام« (أع 27: 33). هم صائمون منذ أربعة عشرة يومًا. وقال: »أناشدكم أن تأكلوا طعامًا لأنَّ فيه نجاتكم، ولن تسقط شعرة واحدة من رؤوسكم« (آ34).

وفي النهاية، هل فعل الرسول ما فعله يسوع ليلة العشاء السرّيّ؟ الأمر معقول جدٌّا. لا شكَّ في أنَّ البحّارة والأسرى لن يفهموا ما عمل، أمّا هو فاحتاج إلى زاد يرافقه في »السفر« على مثال الشهداء الذين كانوا ينتظرون الصباح لكي يُرمَوا للوحوش. ويواصل لوقا خبره: »ولمّا قال هذا، أخذ خبزًا وشكر الله أمام أنظارهم جميعًا، ثمَّ كسره وبدأ يأكل. فتشجَّعوا كلُّهم وأكلوا« (آ35-36).

بدا بولس وكأنَّه مات، وهو الآن قام مع المسيح القائم من الموت. فالقدّيس لوقا يروي ما حدث للرسول في مالطة. »وبينما بولس يجمع حزمة من الحطب ويرميها في النار، خرجت بدافع الحرارة حيَّة وتعلَّقت بيده« (أع 28: 3). لم يفهم الناس شيئًا، لأنَّهم نظروا من الخارج. »ولكنَّ بولس نفض الحيَّة في النار من غير أن يمسَّه أذى. وكانوا ينتظرون أن ينتفخ أو يقع ميتًا في الحال. فلمّا انتظروا طويلاً ورأوا أنَّه ما أُصيبَ بضرر تغيَّر رأيُهم فيه وقالوا: »هو إله« (آ5-6).

بل هو يشبه ابن الله الذي قال لرسله حين أرسلهم يحملون البشارة: »ويمسكون الحيّات بأيديهم، وإن شربوا السمَّ لا يصيبهم أذى، ويضعون أيديهم على المرضى فيشفَون« (مر 16: 18). وهذا في الواقع ما حصل لبولس. »فوالد بوبليوس، حاكم الجزيرة، كان طريح الفراش بالحمّى والإسهال، فدخل بولس إلى غرفته وصلّى ووضع يديه عليه فشفاه« (أع 28: 8).

وانتهت مسيرة بولس كما انتهت مسيرة بطرس. فقراءة القدّيس لوقا لسجن بطرس (أع 12: 1-17) تفهمنا أنَّه مات كما مات يسوع. وقام وظهر للتلاميذ، وفي النهاية »ذهب إلى مكان آخر« (آ17). وكذا نقول عن بولس. انكسرت الكنيسة التي تدلُّ على »الكنيسة«، حطَّمتها الأمواج، وبالتالي »مات« بولس وكأنَّه غُلب على مثال معلِّمه على الصليب. ولكن لا. ومع أنَّ الخبر الواقعيّ يوصلنا إلى رومة وإلى السجن، ومع أنَّنا نعرف أنَّ بولس مات شهيدًا على طريق أوستيا قبل أن يكتب لوقا أعمال الرسل، فالكلمة ما ماتت. فهي ما زالت حيَّة، فاعلة، ولا تقف قوَّة في وجهها. قد يموت حامل الكلمة، ولكنَّ الكلمة لا تموت لأنَّها في النهاية شخص يسوع الذي راح بولس يشهد له حتّى أقاصي الأرض.

الخاتمة

هكذا وصل بولس إلى رومة بعد أن »احتلَّ« البلدان ليسوع المسيح. في البرّ منطلقًا من أنطاكية عبورًا في مدن تركيّا الحاليَّة وقراها، أنطاكية بسيدية وإيقونية ولسترة ودربة، مرورًا في مناطق غلاطية الجبليَّة المحيطة بأنقيرة التي هي اليوم أنقرة. ووصل إلى أوروبّا: ساموتراكية، نيابوليس، فيلبّي، تسالونيكي، بيرية، أثينة، كورنتوس. هذا في البرّ، سيرًا على الأقدام. آلاف الكيلومترات. وفي البحر، بدأت انطلاقته في قبرص، وما ترك جزيرة إلاَّ ومرَّ فيها، سواء كان البحر هادئًا أو عاصفًا. همُّه أن لا يترك مكانًا إلاَّ ويفتتحه ليسوع المسيح. وفي النهاية، وصل إلى رومة مظفَّرًا. هناك تأسَّست المملكة التي لا تقوى عليها أبواب الجحيم، على بطرس وعلى بولس. زالت مملكة الإسكندر، ومملكة هنيبعل، والمملكة الفارسيَّة، أمّا المملكة التي عمل بولس لأجلها واستعدَّ أن يضحّي بنفسه من أجلها فهي قائمة وستبقى قائمة حتّى انقضاء الأجيال. وما كان كلام بولس في نهاية هذه المغامرة التي امتدَّت على ثلاثين سنة تقريبًا؟ نتركه يتكلَّم عنها إلى تلميذه تيموتاوس، وهو في سجن رومة: »أمّا أنا فذبيحة يراق دمها، وساعةُ رحيلي اقتربتْ. جاهدتُ الجهاد الحسن وأتممت شوطي وحافظت على الإيمان، والآن ينتظرني إكليل البرّ الذي سيكافئني به الربّ الديّان العادل في ذلك اليوم، لا وحدي، بل جميع الذين ينتظرون ظهوره« (2 تم 4: 6-8).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM