الفصل الرابع عشر: كورنتوس وكنيسة بولس المحبوبة

 

الفصل الرابع عشر

كورنتوس

وكنيسة بولس المحبوبة

قالوا: فشل بولس في أثنية، فمضى إلى كورنتوس لكي »يعوِّض« عن هزيمته، ولكنَّهم ما فهموا شيئًا. ففي هذه المدينة، بدا بولس سقراطًا آخر وقف في وجه الفلاسفة ووحَّد فكرهم الذي كان مشتَّتًا بين مدرسة ومدرسة: »البشر كلُّهم من أصل واحد« (أع 17: 26). »يتلمَّسونه ويجدونه« إذا فتحوا له قلوبهم. ومن هؤلاء داماريس ثمَّ ديونيسيوس الأريوباجيّ الذي لبث ذكرُه حاضرًا حتّى القرن الخامس. وفي أيِّ حال، لا بدَّ من تبديل الخطَّة على ما قال الرسول لأهل كولوسّي: »لئلاّ يسلب أحدٌ عقولكم بالكلام الفلسفيّ والغرور القائم على تقاليد البشر وقوى الكون الأوَّليَّة، لا على المسيح. ففي المسيح يحلُّ ملءُ الألوهيَّة كلُّه حلولاً جسديٌّا، وفيه تبلغون الكمال« (كو 3: 8-10). لهذا كان الانتصار في كورنتوس من نوع آخر، وهو يمتدُّ على ثلاثة مجالات: انتصار على الكورنثيّين، انتصار على الفلسفة، انتصار على العالم الذي يعيش فيه الكورنثيّون. ولكن قبل ذلك نتحدَّث عن كورنتوس، تلك المدينة التي كانت في زمن بولس أكبر مدن اليونان. بل من أكبر المدن المعروفة في القرن الأوَّل المسيحيّ.

1- كورنتوس، مدينة الثلاث آلاف سنة

كورنتوس هي من أقدم الحواضر اليونانيَّة وأقواها. وقعت في سهلٍ حجريّ ضيِّق، بين مضيق يُشرف على مدخل البيلوبونيز (شبه جزيرة في جنوب اليونان) والقلعة الصخريَّة، قلعة كورنتوس أو أكروكورنتوس.

تمَّت الحفريّات فلم تقدِّم لنا أيَّ أثر يعود إلى بدايات التاريخ، سوى ما يقوله التقليد عن ملك أسطوريّ اسمه سيزيف.

كانت بدايات كورنتوس بسيطة، وتوزَّع السكنُ في قرى ومزارع هي موجات عديدة من السكّان، اجتذبتها أرض غنيَّة بينابيع المياه وبالطين، منذ الحقبة النيوليتيَّة (العهد الحجريّ الجديد) التي تميَّزت بتحوُّلات عميقة في المجتمعات البشريَّة. فدُجِّن النبات والحيوان، وأخذ الإنسان يركِّز سكنه في أرض محدَّدة، تاركًا حياة الصيد والرعاية المتنقِّلة. كما بدأت صناعة الفخّار والنسيج وصقل الأدوات المصنوعة من الحجارة. وهكذا سُمِّيت هذه الفترة »حقبة الحجر المصقول«.

في الحقبة النيوليتيَّة، عرفت كورنتوس، ولا سيَّما قرية كوراكو الصناعة، ومنذ سنة 3000 ق.م. تقريبًا: السلاح، أدوات من البرونز. في الألف الثاني، فرغت المدينة من السكّان لتعود حوالي سنة ألف ق.م. وتتحدَّث الروايةُ عن ثلاث سلالات حكمَت المدينة وكانت خاضعة لملك أرغوس (حاكم أرغوليس، شماليَ البيلوبونيز). وما عتَّمت المدينة أن اتَّخذت استقلالها بعد أن قَلبَتْ الملكيَّة سنة 747 ق.م. وأسَّست مستوطنات سيراقوسا في صقلِّية، وكورفو (إحدى الجزر الإيّونيَّة)، وفوتيدايا (في مكدونية).

وهكذا امتدَّت كورنتوس من هذه الجهة من المضيق ومن الجهة الأخرى، على حساب الجماعات القريبة، ولا سيَّما ميغارا مع معبد هيرا (إلاهة الزواج وزوجة زوش، رئيس الآلهة). كما سيطرت على المضيق وأقامت هناك معبدًا لبوسايدون، إله البحر. عندئذٍ عرفت المدينة ازدهارًا عظيمًا مع توسُّع في شغل الفخّار، وصناعة العطور الرفيعة التي تُوضَع في آنية صغيرة محكمة الغلق، وفنّ العمارة الذي امتدَّ إلى اليونان كلِّها وصولاً إلى إيطاليا في منطقة أتروريا (تقابل تقريبًا توسكانة الحاليَّة).

سنة 657 ق.م.، أقام قيبسيلُس حكمًا استبداديٌّا، امتدَّ قرابة مئة سنة. ومن أولاده بيرياندريس الذي ترك وراءه تقليدين. الأوَّل، يقدِّم وجه الطاغية (القساوة، الحكم الاعتباطيّ). والثاني، يحدِّثنا عنه أنَّه أحد الحكماء السبعة في اليونان.

قُلب حكم الطغاة سنة 583-582، فكان نظام أوليغارشي، أو حكم الأقلِّيَّة المهيمنة. عندئذٍ دخلت كورنتوس في حلف البيلوبونيز ولعبت دورًا كبيرًا بفضل أسطولها الذي يجوب البحار. وبعد فترات من القلاقل، أسَّس فيلبُّس الثاني المقدونيّ (والد الإسكندر) حلف كورنتوس.

كلُّ هذا نقرأه في وصف اليونان الذي دوَّنه باوسانياس العائش في القرن الثاني ب.م. قال في الكتاب الثاني حول كورنتوس وأرغوليس ما يلي:

»منطقة كورنتوس جزء من أرغوليس، واتَّخذت اسمها من »كورنتوس« والقول المأثور »كورنتوس ابن زوش«، لم يأخذه أحد على محمل الجدّ، بحسب علمي، سوى شعب كورنتوس. إنَّ أوميلُس ابن أمفيليتُس، من أسرة باكيس، الذي يُعتبَر واحدًا مع الشاعر الملحميّ، يقول في تاريخ كورنتوس (هذا إذا كان أوميلس هو كاتب النصّ): إن إيفيرا، ابنة أوتيان (إله الأوقيانوس أو المحيط الواسع)، سكن أوَّلاً هذه المنطقة. ثمَّ إنَّ ماراتون، حفيد الشمس (هيليوس) هرب من شرِّ والده وعنْفه، فهاجر إلى شواطئ أتيكي (عاصمتها أثينة). ولمّا مات والده، مضى إلى البيلوبونيز، ووزَّع السلطة بين أبنائه قبل أن يعتزل من جديد في أتيكي«.

نلاحظ كيف أنَّ الكورنثيّون يحاولون أن يربطوا مدينتهم بآلهة اليونان، ممّا يجعلنا في إطار الأساطير والروايات الخياليَّة. ويواصل باوسانياس كلامه:

»لا نجد بين سكّان كورنتوس شخصًا واحدًا من الذين سكنوها، في الماضي، بل هم مستوطنون أرسلتهم رومة. والمسؤول عن ذلك هو حلف آخائية (عاصمتها كورنتوس): كان الكورنثيّون هم أيضًا أعضاء فيه. وشاركوا في الحرب ضدَّ رومة، التي أعدَّها كريتولاووس، الذي عيَّن قائد الآخائيّين فدعا إلى الثورة الآخائيّين، ومجمل اليونان العائشين خارج البيلوبونيز. وحين ربح الرومان الحرب، عملوا على نزع السلاح من اليونانيّين عامَّة، ودكُّوا أسوار جميع المدن المحصَّنة. أمّا كورنتوس فقد دمَّرها تدميرًا تامٌّا، موميوس قائد الجيوش الرومانيَّة. ثمَّ أعيد بناؤها كمستوطنة (كما يقال) بيد قيصر مؤسِّس النظام السياسيّ الحاليّ في رومة. وأعيد بناء قرطاجة كمستوطنة أيضًا حين كان (يوليوس) في السلطة«.

وتحدَّث باوسانياس عن المضيق بجانبيه اللذين يصبّان في خليج كنَّخريَّة وخليج ليخايون. فالمضيق يربط شبه الجزيرة بالقارَّة، والذي سعى إلى تحويل البيلوبونيز إلى جزيرة، لم يتوصَّل في محاولته إلى حفر المضيق. فنقطة انطلاق الحفريّات ظاهرة، وهي لم تصل يومًا إلى الكتلة الصخريَّة. ولبث البيلوبونيز إلى أيّامنا في القارَّة، كما هو بشكل طبيعيّ. وعزم الإسكندر بن فيلبُّس أن يحفر القنال، فكان ذلك فشله الوحيد. فالإلاهة أوقفت الحفر، لأنَّه يصعب على البشريَّة أن تتحدَّى النظام الذي وضعه الآلهة.

»وإليك تقليدًا لا يرويه الكورنثيّون فقط بالنسبة إلى بلادهم. فالأثينيّون، كما يبدو لي، كانوا أوَّل من تخيَّل خبرًا مماثلاً لمجد أتيكي. إذًا، قال الكورنثيّون من جهتهم إنَّ بوسايدون خاصم الشمس لأنَّها تمتلك المنطقة، فاختير برياري كحَكَم. فمنح المضيق وما حوله لبوسايدون، وللشمس أعطى المرتفعات التي تشرف على المدينة. لهذا قيل منذ ذلك الوقت إنَّ المضيق يخصُّ بوسايدون«.

لا مجال للكلام عن معبد بوسايدون مع المسرح القريب منه، ولا عن الألعاب المضيقيَّة (نسبة إلى المضيق) الشبيهة بالألعاب الأولمبيَّة في أثينة، ولا عن الساحة العامَّة (أغورا)، ولا عن الحمّامات. وفي الكتاب الخامس من وصف اليونان، يروي لنا باوسانياس ما فعله موميوس سنة 146 ق.م. بمدينة كورنتوس:

»ما إن حلَّ الليل وانتهى القتال، حتّى هرب الآخائيّون الذين لجأوا إلى كورنتوس، هربوا من المدينة مع معظم الكورنثيّين. في البداية، تردَّد موميوس وما دخل إلى كورنتوس مع أنَّ الأبواب كانت مفتوحة: خاف أن يُنصَب له كمين داخل الأسوار. ولكن في اليوم الثالث من القتال، عزم أن يهاجم كورنتوس ويحرقها.

»ومعظم السكّان الذين وجدهم الرومان في المدينة، قتلوهم بحدِّ السيف. أمّا موميوس فباع النساء والأولاد عبيدًا. كما باع أيضًا جميع العبيد الذين تحرَّروا من قبل، وحاربوا مع الآخائيّين وما سقطوا في ساعة الوغى. وحمل موميوس بنفسه الأعمال الفنِّيَّة اللافتة، والتي كانت قيمتها متدنِّية، وهبها للقائد الذي أرسله أتاكُس. وفي أيّامي، كان في برغام بعض السلب الذي أُخذ من كورنتوس.

»دكَّ موميوس أسوار جميع المدن التي قاتلت رومة، وانتزع السلاح من السكّان، وذلك قبل أن ترسل إليه رومة المعاونين. ولمّا وصل هؤلاء، ألغى الديموقراطيَّة وأسَّس حكمًا مؤسَّسًا على ضريبة الانتخابات (أي لا ينتخب إلاّ الذي يدفع المال كضريبة، ممّا يعني أنَّ الفقراء يُبعَدون). وفُرضت ضريبة على اليونان، والذين امتلكوا أملاكًا مُنعوا أن يقتنوا في الخارج...

»ومع أنَّ الرومان أعفوا اليونانيّين من هذه الضرائب المفروضة، يُرسل حتّى اليوم إلى البلاد حاكم رومانيّ. ويدعوه الرومان حاكمًا، لا على كورنتوس بل على آخائية، لأنَّ الآخائيّين الذين كانوا على رأس الأمَّة اليونانيَّة، كانوا مسوؤلين عن خضوع اليونان«.

أمام هذا الدمار التامّ، أطلق الشاعر أنتيباتر الصيدونيّ (حوالي 130 ق.م.) هذا الرثاء: »أين جمالك الذي أدهش جميع العيون، يا كورنتوس؟ أين هي الأبراج التي كانت تكلِّلك؟ أين غناك السالف؟ أين هياكل آلهتك وقصورك؟ أين هنَّ عرائسك الخارجات من سيزيف، وسكّانك الذين كانوا ربوات وربوات؟ أيَّتها التعيسة لم يبقَ منك أثر، ولا واحد! قبضت الحربُ على كلِّ شيء والتهمت كلَّ شيء وما نجا من السلب سوى بنات أوقيان فلبثنا نبكي على شقاواتك«.

ذكر باوسانياسُ الحاكمَ الذي عيَّنته رومة. يوم كان بولس في كورنتوس، كان الحاكم غاليون (آع 18: 12-17) اسمه الكامل لوقيوس يونيوس غاليو أنايوس. هو بكر سينيكا البليغ، وشقيق سينيكا الفيلسوف الذي تبنّاه يونيوس غاليو، العضو في مجلس الشيوخ على ما روى تاقيت في الحوليّات (6/3: 1؛ 16/17: 3) وديون كاسيوس (60/53: 3). هو بروقنصل آخائية، والبروقنصل هو قنصل انتهت مهمَّته، فكُلِّف بمهمَّة فوق العادة. ذُكر اسمه في رسالة أرسلها الإمبراطور كلاوديوس إلى دلفوي، فحُفظت في أجزاء من مدوَّنة. تذكر هذه الوثيقة التحيَّة الإمبراطوريَّة السادسة والعشرين، والتي تقع بين سنة 51 وسنة 52 ب.م. هذا يعني أنَّ بروقنصليَّة غاليون تقع تقريبًا بين ربيع 51 وصيف 52. وفي أيِّ حال، عاد إلى رومة سنة 53، وعُيِّن في تلك السنة قنصلاً قاضيًا.

سنة 146 ق.م. دُمِّرت كورنتوس. وسنة 46 ق.م. أعاد يوليوس قيصر بناءها، ودعاها كولونيا لاوس يوليا كورنثية (المستوطنة المرتبطة بيوليوس)، وأسكن فيها قدماء الجيش. فقال بلوتارك (القرن الأوَّل ب.م.) في حياة قيصر (57: 8): »اقتنع (يوليوس قيصر) أنَّ محبَّة الشعب له هي أكرم حرس وأوثق، يمكن أن يحيط نفسه به، فاهتمَّ بأن يربح ودَّ الشعب بغداوات وبتوزيع القمح، والجيش بإقامة المستوطنات، وأشهرها قرطاجة وكورنتوس. فهاتان المدينتان اللتان سقطتا في الماضي، في الوقت عينه، رُفِعَتْ أسوارهما معًا«.

وما إن جاء عهد الإمبراطوريَّة بدءًا بأوغسطس قيصر في نهاية القرن الأوَّل ق.م.، حتّى صارت كورنتوس عاصمة مقاطعة آخائية. وفيها يقيم البروقنصل، ويؤمُّها السكّان من كلِّ أقطار المسكونة. هنا نتذكَّر أنَّها كانت ملتقى طريقين: الأولى، تنطلق من البيلوبونيز عبر المضيق باتِّجاه أتيكي وبيوتيا. والثانية، بين بحر إيجه وغربيّ البحر المتوسِّط، ليتجنَّب البحّارةُ الدوران حول البيلوبونيز. نشير هنا إلى أنَّ الخطر كان يواجه البحّارة، فتنظَّمت طريق بين المرفأين، بين كنَّخريَّة وليخايون، فينقل العبيد البضائع من مرفأ إلى مرفأ، قبل أن تنطلق إلى البعيد.

في هذا المجال نقرأ مقالاً قدَّمه سترابون ابن القرن الأوَّل ق.م. وصاحب الجغرافية المعروفة (الكتاب الثامن): »وُصفت كورنتوس بأنَّها الغنيَّة بفضل موقعها التجاريّ على البحر. وقعت في مضيق بين مرفأين: واحد قريب من آسية (تركيّا الحاليَّة) وآخر من إيطالية... فسهلت التبادلات التجاريَّة بين هاتين المنطقتين البعيدتين جدٌّا الواحدة عن الأخرى.

»كانت الملاحة في الماضي تشكِّل صعوبات كثيرة سواء في مضيق صقلِّية أم في عرض البحر، خصوصًا في ما وراء رأس مالايا، بسبب الرياح المضادَّة، من هنا جاء القول المأثور: »إذا مررت قرب رأس مالايا، فلا تفكِّر بعد في العودة إلى البيت«. فالتجّار الآتون في البحر، بعضهم من آسية والآخرون من إيطالية، يهنّئون بعضهم بعضًا إن هم تخلُّوا عن المرور عند رأس مالايا، فيفرغون بضائعهم في كورنتوس. ففي كورنتوس أيضًا، الضرائب على واردات البيلوبونيز والصادرات التي تتمُّ عن طريق البرّ، تمنح مدخولاً كبيرًا للذين يُمسكون بمفاتيح المضيق. مع أنَّ هذا الوضع لم يتبدَّل فيما بعد، فالكورنثيّون استفادوا أيضًا من امتيازات أخرى. فالألعاب المضيقيَّة التي يحتفلون بها، كانت تجلب الجموع الكثيرة«.

2- انتصار على الكورنثيّين

إلى هذه المدينة وصل بولس حوالي سنة 50 ب.م. مدينة كبيرة جدٌّا. تعدُّ ستّ مئة ألف نسمة، بينهم أربع مئة من العبيد، بسبب أعمال النقل بين المرفأين، كنَّخريَّة وليخايون. سكّانٌ آتون من كلِّ أصقاع الدنيا، فصارت كورنتوس كوسموبوليتيَّة أي عالم في مدينة. عُرفت بأنَّها مدينة الفساد والملذّات وخصوصًا مع معبد أفروديت إلاهة الحبّ، المقام على أكروكورنتوس أو قلعة كورنتوس، مع ألف من العبيد والجواري المكرَّسين الذين يستسلمون لأعمال الزنى، كما تحدَّث عنهم بولس الرسول في بداية الرسالة إلى رومة: »أسلمهم الله بشهوات قلوبهم إلى الفجور، يهينون بها أجسادهم... أسلمهم الله إلى الشهوات الدنيئة، فاستبدلت نساؤهم بالوصال الطبيعيّ الوصالَ غير الطبيعيّ، وكذلك ترك الرجال الوصال الطبيعيّ للنساء والتهب بعضهم شهوة لبعض. وفعلَ الرجالُ الفحشاء بالرجال ونالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم« (رو 1: 24-27). ذاك ما كتبه بولس حين كان في كورنتوس، فالتقى مع سترابون (الجغرافية 8/6: 20): »امتلأ معبد أفروديت بالغنى الكثير فامتلك ألف مومس (ذكورًا وإناثًا) قدَّمها الهادون للإلاهة. وهي تستجلب، بدون شكّ، جمعًا كبيرًا في كورنتوس وتعمل على إغنائها، وأصحاب السفن يخسرون كلَّ أموالهم في وقت قصير. من هنا جاء القول المأثور: »السفر إلى كورنتوس لا يمكن أن يكون قسمة الآتي للمرَّة الأولى«. ويُروَى عن مومس أنَّ امرأة وبَّختها لأنَّها لا تحبُّ أن تشتغل ولا أن تلمس الصوف، يُروَى عنها أنَّها قالت: »أنا كما ترينني الآن قد أنهيتُ في وقت قليل ثلاث تقميشات«.

على مثل هذه المدينة انتصر بولس: بدأ فعاش مع الفقراء وأصحاب الصنعة. مع أكيلا وبرسكلَّة، لأنَّه كان من أصحاب صنعتهما. ولكنَّه ما عتَّم أن ترك العمل لكي يتفرَّغ للرسالة بعد أن وصل الفريق الرسوليّ إلى كورنتوس.

هؤلاء الكورنثيّون حسبوا نفوسهم فوق الآخرين. فنبَّههم بولس: »تذكَّروا، أيُّها الإخوة، كيف كنتم حين دعاكم الله، فما كان فيكم كثيرٌ من الحكماء بحكمة البشر، ولا من الأقوياء والوجهاء. إلاَّ أنَّ الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليخزيَ الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليُخزي الأقوياء. واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنُّه لا شيء، ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا، حتّى لا يفتخر بشرٌ أمام الله« (1 كو 1: 26-29).

اعتبر هؤلاء الكورنثيّون أنَّهم أقوى من بولس! مساكين. فالضعف في نظر الناس قوَّة لدى الله. اعتبروا الحكمة البشريَّة تفوُّقًا، فإذا هي جهالة ما بعدها جهالة، ومداها قصير. ومن هو هذا الرسول الذي قبل عنه إنَّه قصير القامة، أصلع، لا شعر في رأسه؟ يشبه داود، لا شاول الذي كان كبير القامة. قال سفر صموئيل الأوَّل: »فلمّا وقف (شاول) بين الشعب، زادهم طولاً من كتفه فما فوق. فقال لهم صموئيل: »أرأيتم أنَّ الذي اختاره الربُّ لا مثيل له فيكم جميعًا؟« (1 صم 10: 23-24). أخطأ الكورنثيّون حين ألقوا على بولس مثل هذه النظرة كما أخطأ صموئيل حين رأى أليآب، شقيق داود الأكبر، واعتبره الملك الذي اختاره الربّ (1 صم 16: 6). حينئذٍ قال الربُّ لصموئيل: »لا تلتفت إلى منظره وطول قامته. فأنا رفضتُه، لأنَّ الربَّ لا ينظر كما ينظر الإنسان. فالإنسان ينظر إلى المظهر، وأمّا الربّ فينظر إلى القلب« (آ7).

هذا الذي اعتبروه ضعيفًا، كان أقوى منهم كلِّهم، فقال لهم في يوم من الأيّام: »أيَّما تفضِّلون؟ أن أجيئكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 4: 21). لا شكَّ في أنَّ لهم معلِّمين عديدين، ولكنَّ بولس يختلف عن هؤلاء المعلِّمين. هو الأب والأم لجماعة كورنتوس. قال الرسول: »أنصحكم نصيحتي كما لأبنائي الأحبّاء، فلو كان لكم في المسيح عشرة آلاف مرشد، فما لكم آباء كثيرون، لأنّي أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتُها إليكم« (آ14-15). وقال في 2 كو 11: 2: »خطبتكم لرجل واحد وهو المسيح، لأقدِّمكم إليه عذراء طاهرة«. هكذا كان الرجل يزوِّج ابنته، وها هو بولس يأخذ هذه العروس، جماعة كورنتوس، إلى عريسها يسوع المسيح. لا مجال للبحث عن عريس آخر، وما من أحد يحلُّ محلّ المسيح. ويمكن أن نقرأ بالنسبة إلى الكورنثيّين ما قال بولس لأهل غلاطية، فدلَّ على نفسه أنَّه الأم التي ولدت أولادًا للمسيح: »فيا أبنائي الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مثل وجع الولادة حتّى تتكوَّن فيكم صورة المسيح« (غل 4: 19).

تلك هي قوَّة بولس تجاه الكورنثيّين: المحبَّة، الرحمة. ونذكر الدموع تجاه جماعة رفضت أن تستقبل رسولها أو من أرسله باسمه. »كتبتُ إليكم وقلبي يفيض بالكآبة والضيق، وعيني تسيل منها الدموع، لا لتحزنوا بل لتعرفوا كم أنا أحبُّكم« (2 كو 2: 4). ويواصل بولس كلامه في الفصل عينه: »كتبتُ إليكم لأختبركم وأرى هل تطيعونني في كلِّ شيء« (آ9).

وما تألَّم منه الرسول، ما قاله فيه بعض الكورنثيّين. لا يمكن أن يكون بولس رسولاً مثل سائر الرسل. فهو ما رافق يسوع خلال حياته العلنيَّة على الأرض، شأنه شأن بطرس ويعقوب ويوحنّا. ولا هو رآه بعد قيامته. أين هو من هؤلاء الرسل المميَّزين؟ فكتب يقول: »فلو جاءكم أحد يبشِّركم بيسوع آخر غير الذي بشَّرناكم به، أو يعرض عليكم روحًا غير الذي نلتموه، وبشارة غير التي تلقَّيتموها، لكنتم احتملتموه أحسن احتمال، ولا أظنُّ أنّي أقلّ شأنًا من أولئك الرسل العظام (السوبر رسل، كما في الأصل). فإن أعوزتني الفصاحة، فلا تعوزني المعرفة« (2 كو 11: 4-6).

وتألَّم لأنَّ البعض أراد للرسول أن يحمل رسالة توصية. وممَّن؟ تلك عادة كانت في القديم، وما زالت إلى اليوم. قال الرسول: »هل عدنا إلى تعظيم شأننا أم أنَّنا نحتاج، مثل بعض الناس، إلى رسائل توصية منكم أو إليكم؟« (2 كو 3: 1).

ها هي رسالة نُشرت في المراجع القديمة: »أطلب منكم بأن تُدخلوا لديكم أخبليس الذي يحمل هذه الرسالة منّي، وأن تمدُّوا له يد المساعدة الناشطة في كلِّ ما يطلب منكم، بحيث يؤدّي شهادة على حماستكم واندفاعكم«.

مثل هذه الرسالة تلقّى أبلُّوس الذي »عزم على السفر إلى آخائية، فشجَّعه الإخوة وكتبوا إلى التلاميذ هناك أن يرحِّبوا به« (أع 18: 28).

ورسالة التوصية لدى بولس؟ قال لأهل كورنتوس: »أنتم أنفسكم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا، يعرفها ويقرأها جميع الناس. نعم، تبيَّن أنَّكم رسالة المسيح جاءت على يدنا، وما كتبناها بحبر، بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح من حجر، بل في ألواح من لحم ودم، أي في قلوبكم« (2 كو 3: 2-3).

ونعطي مثلين عن سلطة بولس وهو بعيد. الأوَّل، حادثة الزنى في كورنتوس: رجل يعاشر زوجة أبيه (1 كو 5: 1). فمع أنَّ بولس غائب، إلاّ أنَّه حكم على »الذي فعلَ هذا الفعل« (آ3). قال: »سلِّموا هذا الرجل إلى الشيطان« (آ14)، أي اقطعوه من الجماعة المسيحيَّة. وهكذا كان. والمثل الثاني، دعاوى الإخوة لدى القضاة الوثنيّين: »إذا كان لأحدكم دعوى على أحد الإخوة، فكيف يجرؤ أن يقاضيه إلى الظالمين، لا إلى الإخوة القدّيسين؟« (1 كو 6: 1). من بعيد أخجلهم الرسول، وذكَّرهم: »أما فيكم حكيم واحد يقدر أن يقضي بين إخوته؟« (آ5).

وما هو السلاح الذي بيد الرسول؟ سلاح من نوع آخر. سلاح لا نحمله في أيدينا على مثال الذاهبين إلى الحرب. قال: »فما سلاحُ جهادنا جسديّ، بل إلهيّ، قادرعلى هدم الحصون. نهدم الجدل الباطل وكلَّ عقبة ترتفع لتحجب معرفة الله، ونأسر كلَّ فكر ونخضعه لطاعة المسيح. ونحن مستعدُّون أن نعاقب كلَّ معصية متى أصبحت طاعتكم كاملة« (2 كو 10: 4).

نلاحظ هذه العبارات الحربيَّة: السلاح. هدم الحصون. الأسرى الذين نأخذ. إخضاع »الخصوم« لا لنا، بل للمسيح. ثمَّ الطاعة. وأخيرًا، العقاب للعاصين. هكذا انتصر بولس على كورنتوس، وخصوصًا لمّا رأى الخلافات داخل الجماعة المسيحيَّة.

واحد من حزب بولس. آخر من حزب بطرس. ثالث من حزب أبلُّوس. أيَّة شهادة للمسيح تكون شهادتنا؟ لا شكّ، عقيمة. أراد البعض أن يختبئوا وراء بولس. أنا ما عمَّدتُ الكثيرين بينكم. أنا اكتفيتُ بإعلان البشارة. وجاءت »الضربة القاضية« حين قال لهم: باسم من اعتمدتم؟ باسم إنسان أم باسم يسوع المسيح؟ ومن صُلب من أجلكم؟ بطرس أم بولس أم أبلُّوس؟ هذا يعني أنَّكم بعدُ أطفال حين يكون »فيكم حسدٌ وخلاف« (1 كو 3: 3). أما تعرفون »أنَّ كلَّ شيء لكم، أبولس أم أبلُّوس أم بطرس أم العالم أم الحياة أم الحاضر أم المستقبل؟ كلُّ شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله« (1 كو 3: 21-23).

3- انتصار على الفلسفة

الانتصار في الموقف المسيحيّ هو »حماقة« في نظرة العالم. الانتصار لا يعني السيطرة والتسلُّط، بل الخدمة. قال الرسول عن نفسه وعن أبلُّوس: نحن »خادمان بهما اهتديتم إلى الإيمان« (1 كو 3: 5). ففي منطق الإنجيل، الأوَّل يكون الآخر، والسيِّد يأخذ محلَّ العبد. على مثال المسيح الذي ما جاء »ليُخدَم، بل ليخدم ويبذل حياته من أجل الآخرين« (مر 10: 45).

وكما انتصر بولس على كورنتوس، انتصر على الفلاسفة. هناك حكمة العالم، وتجاهها حكمةُ الله التي يحمل لواءها الرسول. أين ظهرت حكمة العالم؟ في النظر إلى المخلوقات والتأمُّل في جمالاتها: »ظنُّوا أنَّ النار والهواء والريح العاصفة ومدار النجوم والسيول المتدفِّقة والكواكب النيِّرة في السماء، ظنُّوا أنَّ هذه آلهة تسيطر على العالم« (حك 13: 2). يا للحماقة! »لم يقدروا أن يعرفوا الكائن (الأزليّ، يهوه) من الروائع المنظورة التي صنعها« (آ1). أهذا هو التمييز الفلسفيّ؟ »فعندما ظنُّوا أنَّ هذه (المخلوقات) آلهة، فلأنَّهم فُتنوا بجمالها، غير عالمين أنَّ لها سيِّدًا أعظم منها، لأنَّه هو الذي خلقها وهو مصدر كلِّ ما فيها من الجمال. أو عندما اندهشوا من قوَّتها ومحاسنها، كان عليهم أن يفهموا بها كم صانعها أعظم منها!« (آ3-4).

ما هذه الحكمة القصيرة النظر، ومتى الإنسان الذي يسيطر على الكون بعقله، يخضع لهذا الكون ويجعله إلهه؟ وما قرأناه في سفر الحكمة، نستطيع أيضًا أن نقرأه في الرسالة إلى رومة، وقد أُرسلت من كورنتوس. قال بولس: »فغضبُ الله معلَنٌ من السماء على كفر البشر وشرِّهم، يحجبون الحقّ بمفاسدهم ، لأنَّ ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله، جعله الله واضحًا جليٌّا لهم. فمنذ خلق العالم، وصفات الله الخفيَّة، أي قدرتُه الأزليَّة وألوهيَّته، واضحة جليَّة تُدركها العقل في مخلوقاته. فلا عُذرَ لهم إذًا. عرفوا الله، فما مجَّدوه ولا شكروه كإله، بل زاغت عقولُهم وملأ الظلامُ قلوبهم الغبيَّة. زعموا أنَّهم حكماء. فصاروا حمقى« (رو 1: 18-22).

مثل هذه الحكمة ضلال لصاحبها وللذين يأخذون بها. لهذا لا بدَّ من الردِّ عليها. لا بحكمة بشريَّة أخرى. حينئذٍ تبرز الجدالات العقيمة التي لا يمكن أن تصل بالإنسان إلى موقف حياة. الردُّ يكون »بحكمة الله«. في هذه الحكمة، الخسرانُ ربح، والموت حياة وقيامة. وذروة هذه الحكمة الصليب الذي هو »حماقة عند الذين يسلكون طريق الهلاك« (1 كو 1: 18). هنا يعود بولس إلى ما قاله أشعيا النبيّ. حسبَ أهلُ أورشليم إنَّهم لا يحتاجون إلى نور من عند الله. فالحكمة التي عندهم كافية لكي تخلِّص المدينة. ولكنَّ المدينة سقطت. وماذا كانت النتيجة؟ »بادت حكمة الحكماء، وانكسف عقل العقلاء« (أش 29: 14). وتوسَّع بولس في خطِّ الترجمة السبعينيَّة: »فأين الحكيم؟ وأين العلاّمة؟ وأين المجادل في هذا الزمان؟ أما جعل الله حكمة العالم حماقة؟« (1 كو 1: 20). ويأتي كلام أشعيا في هذا الخطِّ عينه فيقول: »أبطلتُ أقوال الكذّابين، وأظهرتُ حماقة العرّافين. دحضتُ حجج الحكماء، وجعلتُ معرفتهم جهالة« (أش 44: 25).

وبانت جهالة الفلاسفة في الكلام عن قيامة الموتى. آمنت الشعوب القديمة، ومنها الشعوب اليونانيَّة بحياة بعد هذه الحياة، ولكنَّها شبيهة بهذه الحياة. ولكن أن يقوم إنسان من الموت، فأمرٌ غير مقبول. هي خيالات وأرواح تجول في الجوِّ إلى أن ترتاح. وهذا ما جعل أهل أثينة يقلبون شفاههم ويمضون حين سمعوا بولس »يذكر قيامة الأموات« (أع 17: 32).

وفي كورنتوس طُرح السؤال على بولس، وهو في الواقع سؤالان. الأوَّل، هل من قيامة للأموات؟ والثاني، إذا كان هناك من قيامة، فكيف تكون قيامة الأجساد؟ هنا نتذكَّر أن الفلاسفة تحدَّثوا عن الخلود بالنسبة إلى النفوس.

كلام بولس يتوجَّه إلى المؤمنين الذين آمنوا بقيامة المسيح. لهذا، بدأ فذكر أولئك الذي ظهر لهم الربُّ بعد قيامته. ثمَّ ربط المؤمنين بيسوع المسيح. إن كان هو قام فنحن نقوم أيضًا. وإن كنّا لا نقوم، فهذا يعني أنَّ المسيح ما قام. والنتيجة، نحن شهود كذبة. ولكن يأتي التأكيد الإيمانيّ: »المسيح قام وهو بكر الراقدين« (1 كو 15: 20).

بعد ذلك، جاءت براهين من حياة الكنيسة. الأوَّل، »ماذا ينفع الذين يقبلون المعموديَّة من أجل الأموات، إذا كان الأموات لا يقومون؟« (آ29). والبرهان الثاني: لماذا نتعرَّض للخطر؟ (آ30) إذا كان الموت هو النهاية، فلماذا المخاطرة بالحياة؟ والبرهان الثالث: »وإذا كان الأموات لا يقومون، فلنقُل مع القائلين: »تعالوا نأكل ونشرب فإنّا غدًا نموت« (آ32).

هي أسئلة تجعل المجادل أمام حائط مسدود، أو هو يعترف بقيامة الأموات. والبراهين »الفلسفيَّة« أرادت أن »تُفهم« المجادلين: »كيف يقوم الأموات، وفي أيِّ جسم يعودون؟« أي إلى الحياة. يلبسون الجسد الذي كان لهم. لا شكَّ في أنَّ هذا مستحيل. وجاء التشبيه الأوَّل: حبَّة الحنطة التي تموت: »الله يجعل لها جسمًا كما يشاء« (آ38). والتشبيه الثاني: تنوُّع الأجسام في الطبيعة (آ40-41). والنتيجة الأخيرة، يكون جسم المؤمن ممجَّدًا مثل جسم المسيح بعد القيامة. »يُدفَن الجسمُ مائتًا ويقوم خالدًا، يُدفَن بلا كرامة ويقوم بمجد، يُدفَن بضعف ويقوم بقوَّة« (آ42-43).

3- انتصار على العالم الوثنيّ

ماذا كانت تشكِّل الجماعات المسيحيَّة المتفرِّقة في مدينة كبيرة مثل كورنتوس؟ نقطة في بحر. ربَّما ثلاثمئة أو أربعمئة مؤمن في مدينة يتجاوز عددُ سكّانها النصف مليون. ومع ذلك، فالإنجيل سوف ينتصر شيئًا فشيئًا. تحدَّثنا عن الزنى بين الأقارب (1 كو 5: 1ي)، وهو أمر مقبول في مجتمع كورنتوس، لا في المسيحيَّة. فنحن نعرف المستوى اللاأخلاقيّ في هذه المدينة، بحيث اخترع الناس فعل »كرنتَسَ« من مدينة كورنتوس للدلالة على الفلتان والزنى والفجور المسيطر في هذه المدينة. قال بلوتارك:

»سمعتم بدون شكّ عن لائيس، تلك التي أنشدها جميع الشعراء وأحبَّها الناس حبٌّا كبيرًا. وتعرفون أنَّها ألهبت اليونان بالشهوة، أو بالأحرى تناتشوها من بحر إلى آخر. وحين لامسها حبُّ هيبولوخس التساليّ (من تسالية) تركت أكروكورنتوس والأمواج الزرقاء التي تغسلها، في الخفية، تركت (مجموعة) عشّاقها وجيش (مومساتها) الكبير، واعتزلت بدون أن تُفضَح. أمّا في تسالية، فنساء البلاد حسدن جمالها وغرن، فجذبنها إلى معبد أفروديت ورجموها حتّى ماتت«.

وتحدَّث الرسول عن التعامل مع القضاة »الوثنيّين«، وذكَّر المؤمنين أنَّهم »يدينون العالم« (1 كو 6: 2). ولكنَّ الموضوع الذي نتوقَّف عنده هو مسألة اللحوم المقدَّمة للآلهة. الموضوع موضوعان. الأوَّل، حين يحتفلون بأعياد الآلهة، تُذبَح الذبائح فيصبح اللحم في متناول الفقراء. كيف يتصرَّف المؤمن؟ يقول الرسول: »بعضهم تعوَّدوا على الأوثان إلى هذا اليوم، حتّى إنَّهم يأكلون الذبائح كأنَّها بالفعل ذبائح للأوثان، فيشعرون بضمائرهم أنَّهم تدنَّسوا« (1 كو 8: 7). والموضوع الثاني، حين يُدعى المؤمنون إلى احتفال صنعة من الصناعات داخل »النقابة«، ويُقام العيد في ظلِّ أحد الآلهة، ديونيسيوس أو غيره. وقد وُجدَت دعوات لمثل هذه الولائم في حفريّات كورنتوس.

»من أجل الهياكل، ينبغي أن يختاروا الموقع الصحّيّ مع ينابيع مؤاتية وهناك تُبنى المعابد وبشكل خاصّ لإكرام اسكليبيوس (إله الطبّ) وسالوس (إله الصحَّة والعافية)، وبشكل عامّ من أجل الآلهة الذين يفعل سلطان الشفاء عندهم في الناس، بشكل جليّ. فالمرضى الذي يُحملون من مكان لا صحّيّ إلى مكان صحّيّ حيث المياه تجرى من عيون صافية، يستعيدون بسرعة صحَّتهم. وتنتج (من طبيعة الموقع) شهرةٌ للإله وسلطانٌ متزايد«.

هناك حوض للسباحة تحدَّث عنه باوسانياس، وأشجار وارفة يستريح تحتها التعِبُ أو المريض. في معبد أسكليبيوس، وُجدت ثلاث قاعات من أجل الولائم، والأسرَّة المرتَّبة بجانب الحائط تستقبل أحد عشر مدعوٌّا. وها نحن نقرأ دعوة إلى مثل هذه الولائم:

»مارائيس يدعوك إلى العشاء في قاعة سيرابيون (أو معبد أسكليبيوس) إلى وليمة الربّ (كيريوس) سيرابيس (الإله المصريّ)، غدًا في الحادي عشر (من الشهر) ابتداء من الساعة التاسعة (أو: الثالثة بعد الظهر).«

فماذا يفعل المؤمن »الضعيف« حين يتلقّى مثل هذه الدعوة ليحتفل بزواج أخٍ من إخوته؟ هو لا يستطيع أن يتهرَّب منها. وكيف يُفهِم الأقاربَ موقفَه؟ أما يكون رفضُه إهانة للأهل والأقارب؟

مثل هذه الدعوات تكون في ظلِّ المعابد في كورنتوس، كما في البيوت الخاصَّة. فماذا يفعل المؤمن؟ قال الرسول: »إن دعاكم وثنيّ وقبلتم دعوته، فكلوا ما يقدِّمه لكم ولا تسألوا عن شيء بدافع الضمير« (1 كو 10: 27).

ونعود إلى النصوص القديمة. »هنّأ المدعوُّون طبّاخ أرستيون، لأنَّه أعدَّ غداء فاخرًا، ولا سيَّما حين قدَّم الديك الذي ذُبح للإله هرقل، وكان لحمه طريئًا وكأنَّه ذُبح البارحة، مع أنَّه كان من اليوم عينه، طازجًا. فقال لنا أرستيون: »ومن السهل الحصول على ذلك. يكفي أن نعلِّق الحيوان بالتينة حالَ ذبحه »فبحثنا عن السبب«.

وفي مقطع آخر من بلوتارك: »ما أعدَّ بيرياندريس استقبالاً في كورنتوس، بل في قاعة الولائم في ليخايون، قرب معبد أفروديت، حيث كان العيد عيدها«.

ماذا كان جواب بولس على هذه الولائم المرتبطة بآلهة كورنتوس؟

لا بأس أن تأكلوا من هذه الذبائح. »فنحن نعرف أنَّ الوثن لا كيان له، وأنَّ لا إله إلاّ الله الأحد. وإذا كان في السماء أو في الأرض ما يزعم الناس أنَّهم آلهة... فلنا نحن إله واحد هو الآب الذي منه كلُّ شيء وإليه نرجع، وربٌّ واحد هو يسوع المسيح الذي به كلُّ شيء وبه نحيا« (1 كو 8: 4-6). إذًا، سواء جاء اللحم من عند اللحّام في المدينة، أو من ذبائح نُحرت في عيد من الأعياد، فلا يخاف المؤمن ولا يحسُّ بثقل في ضميره. ولكن تبقى وصيَّة المحبَّة: »لا تكون حرِّيَّتُكم هذه حجر عثرة للضعفاء. فإذا رآك أحد، أنت يا صاحب المعرفة، تأكلُ في هيكل الأوثان، ألا يتشجَّع إذا كان ضعيف الضمير، فيأكل من ذبائح الأوثان؟ فتكون معرفتُك أنت سببًا لهلاك هذا الضعيف، وهو أخ لك مات المسيح من أجله« (آ9-11).

وماذا بالنسبة إلى الولائم التي يُدعى إليها المؤمنون؟ أما يجعلون مشاريعهم في حماية هذا الإله أو ذاك؟ لا شكَّ في أنَّ هنا عملاً اجتماعيًا، تضامنيٌّا مع أصحاب المهنة الواحدة. ولكنَّ الرسول بدا قاسيًا في هذا المجال: »فلذلك اهربوا، يا أحبّائي، من عبادة الأوثان« (1 كو 10: 14). أجل، مثل هذه الولائم تجعل المؤمن مع الوثنيّ في شرب كأس واحدة. قال بولس: »لا تقدرون أن تشربوا كأس الربِّ وكأس الشياطين، ولا أن تشتركوا في مائدة الربّ ومائدة الشياطين« (آ21). وهكذا يتميَّز المؤمنون عن اللامؤمنين.

الخاتمة

من مدينة إلى مدينة تواصلت فتوحات بولس الرسول. بعد أفسس وأثينة، ها هي كورنتوس. عرفت هذه الحاضرة الكثيرَ من الأحداث على مرِّ تاريخها، من حروب مع الجيران، والصراعات في البرّ وفي البحار، وكان آخرها ما حصل لها حين جاء القائد الرومانيّ موميوس فدكَّ أسوارها ودمَّرها تدميرًا تامٌّا، كما قال المؤرِّخون. ولكن يوليوس قيصر أعاد بناءها بعد قرن من الزمن. ذاك هو تاريخ الحروب الذي يتوزَّع بين الانتصارت والهزائم. أمّا بولس الرسول، فزرع بذار الانتصار في هذه المدينة الكوسموبوليتيَّة، سواء في حياة الشعب أو في عالم الفلسفة أو في المناخ الوثنيّ بما فيه من بحث عن الملذّات من زنى وفجور. وما عتَّمت أن صارت كورنتوس مسيحيَّة كلُّها مع مطران خاصّ بها. ولكن دمَّرها زلزال سنة 365 وآخر سنة 375، وأكمل دمارها ألاريك الأوَّل، ملك الويزيغو البرابرة سنة 395، فما قامت من دمارها. وهي اليوم في اليونان مدينة صغيرة لا يمكن أن تضاهي في أيِّ حال أثينة وتسالونيكي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM