الفصل الثالث عشر: أثينة عاصمة الفن والفلسفة

 

الفصل الثالث عشر

أثينة عاصمة الفن والفلسفة

ودخل بولس إلى أوروبّا آتيًا من آسية الصغرى بعاصمتها أفسس. في البداية، تردَّد. هل يمضي إلى فريجية وغلاطية، أي إلى الشرق حيث الفريجيّون يعبدون إله الرعد، والغلاطيّون الآتون من غالية، أي فرنسا القديمة، وأقاموا حول ما هي اليوم أنقرة؟ منعه قائد «الجيوش» الأعلى، الروح القدس. هل يمضي إلى ميسية، أي إلى الغرب، إلى جهة طروادة تلك المدينة الشهيرة في الملاحم اليونانيَّة ولا سيَّما مع هومير Homère؟ لم يسمح له «روح يسوع« (أع 16: 7). وكان صوت من البعيد يقول له: تعال وأغثنا. نحن بحاجة إليك، فالأصنام ملأت مدننا وشوارعنا. صرنا عبيدًا لآلهة رومة. ويُطلَب منّا أن نعبد الإمبراطور وهو بعدُ حيّ، وأيَّ إمبراطور! يكفي أن نَذكُرَ نيرون الذي أحرق عاصمة الكون في ذلك الزمان، ليرى النار مشتعلة فتتحرَّك فيه العاطفة الموسيقيَّة. أعبُرْ. هو عبور شبيه بعبور البحر الأحمر مع موسى. وعبور نهر الأردنِّ مع يشوع. فالبحر موضع الخوف «والغرق». هل يتجاسر بولس ويجتازه؟ صوت بشريّ ناداه. ولكنَّ الرسول تيقَّن أنَّ الله يدعوه إلى التبشير في اليونان، هو والفريق الرسوليّ الذي معه. فمضى، في ما مضى، إلى أثينة، عاصمة اليونان، عاصمة الفنِّ والفلسفة والخطابة والشعر.

1- يا أهل أثينة

هكذا بدأ بولس خطبته (أع 17: 22). فكلام الله هو السلاح الوحيد بين يديه، الذي يُخفِض كلَّ علوٍّ يرتفع ليحجب معرفة الله (2 كو 10: 4). مثل هذا السلاح «قادر على هدم الحصون». به نأسر القلوب للمسيح فندعوها إلى الخضوع والطاعة (آ5). ترسُنا هو الإيمان، به نطفئ سهام الشرّير (أف 6: 16). وكلام الله سيف ذو حدَّين يدخل إلى مفرق النفس والجسد (عب 4: 12).

يقول سفر الأعمال: «وقف في وسط المجلس». على تلَّة اسمها أريوباغوس Aréopage أو تلَّة الإله Arès الذي هو ابن زوش، كبير الآلهة. هو يجسِّم العاصفة الآتية من تراقية. يُصوَّر حاملاً سيفًا، لأنَّه «إله» الدمِّ وكلِّ المذابح وكلِّ الحروب. يرافقه ثلاثة آلهة: الخصومة والدمار والرعب.

على هذه التلَّة يجلس أعضاء المجلس الأثينيّ لمناقشة الأمور، وقد وصل عددُهم في وقت من الأوقات مئتي شخص من الأشراف والذين قدَّموا التضحيات لأجل عاصمتهم. تجاههم تقع القلعة التي تؤمِّن الحماية للمدينة.

وقف بولس في الساحة العامة، في .Agora يعود اللفظ إلى فعل «جمع، اجتمع». فالأغورا في المدن اليونانيَّة هي المدى العامّ الذي يُحفَظ للنشاطات الاجتماعيَّة، سواء السياسيَّة أو الدينيَّة أو التجاريَّة أو الثقافيَّة. ووجود بولس هنا جاء في إطار الجدالات الدينيَّة. أراد أعضاء المجلس أن يعرفوا ما الذي يعلِّم هذا «الثرثار».

نتذكَّر هنا أنَّ الأغورا (أو: الساحة العامَّة) تشكِّل قطبًا هامٌّا مع المعابد، حيث تأتي الجماعة لكي تسمع «شيئًا جديدًا» (أع 17: 21). فالمدينة بدون أغورا لا تُعتبَر مدينة. وفي أثينة، بيَّنت الحفريات عظمة هذه الساحة وموقعها المميَّز. هناك المباني الإداريَّة والقضائيَّة والسياسيَّة. وفي وسطها الآلهة. وأوَّلهم أبولّون، إله الجمال والنور والفنون. يمكن أن نقابل الأغورا مع ساحة الهيكل، في الكتاب المقدَّس. أما الساحة الأخرى فتكون عند باب المدينة. فالمكان ضيِّق والاجتماعات تتمُّ عند الباب، بحيث يهرب الناس حين يُطلُّ الخطر.

على الأغورا وقف بولس. «يا أهل أثينة». هو الخطيب في مدينة الخطابة بانتظار أن يكون الفيلسوفَ في عاصمة الفلسفة. في هذه الساحة وقف ديموستين (384-322 ق.م.)، الذي اعتُبر أكبر خطيب في العالم القديم. قيل فيه: ما اهتمَّ بالكلام من أجل الكلام لكي ينال بعض المجد، بل كانت الخطابة في نظره وسيلة من أجل العمل السياسيّ.

أمّا بولس فجاءت الخطابة عنده في سبيل الإنجيل. فالمقدِّمة الطويلة التي تلاها، تهدف إلى الذروة مع كلام «حول قيامة الأموات» (أع 17: 32). قال الرسول وما خاف. وهو العالِم أنَّ أهل اليونان يؤمنون بالأشباح لا بالقيامة: «لأنَّه (= الله) وقَّت يومًا يدين فيه العالم كلَّه بالعدل على يد رجل اختاره، وبرهن لجميع الناس عن اختياره بأن أقامه من بين الأموات» (آ31).

فالخطابة في نظر بولس أمرٌ ثانويّ تجاه النداء إلى الإيمان. لهذا قال في الرسالة إلى كورنتوس: «وأنا عندما جئتكم، أيُّها الإخوة، ما جئتُ ببليغ الكلام لأبشِّركم بسرِّ الله» (1كو 2: 1). فهذا الرسول ما اعتمد يومًا على الحكمة البشريَّة من أجل إقناع السامعين (آ4)، بل «على روح الله وقوَّته». فجميع المواهب البشريَّة يعتبرها بولس «نفاية« لكي يربح المسيح ويُوجَد فيه (فل 2: 8). وقال: «أعرفُ المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته. وأشاركه في آلامه، وأتشبَّه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الأموات».

استعمل ديموستين كلَّ بلاغته لكي يربح أهل أثينة إلى ما يعلِّم، ولكي ينتزعهم من أوهام السهولة التي يغذِّيها خطباء يهتمّون بشعبيَّتهم، لا ببلدهم، ولكي يحرِّك اللامبالاة والنعاس لدى شعب بكامله يفضِّل العبوديَّة والتخاذل بدل القتال من أجل كرامة أثينة.

وأعلن بولس أنَّه ما أراد أن يُرضي يومًا أحدًا من الناس. فلو شاء «لما كان عبدًا ليسوع المسيح» (غل 1: 10). ما أراد أن يُرضي اليهود بالآيات. ولو فعل لكان ابتعد عن يسوع المسيح الذي رفض أن يلبّي طلب الملك هيرودس. فهذا كان «يرجو أن يشهد آية تتمُّ على يده» (لو 23: 8). سأل يسوع، ولكنَّ يسوع «ما أجابه عن شيء» (آ9). وما أراد بولس أن يرضي أهل اليونان بالحكمة. قال الرسول: «وإذا كان اليهود يطلبون المعجزات، واليونانيّون يبحثون عن الحكمة، فنحن ننادي بالمسيح مصلوبًا وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين» (1كو 1: 22-23).

2- إلى الإله المجهول

وتتواصل خطبة بولس الذي انطلق من واقع رآه بعينيه: «أراكم أكثر الناس تديُّنًا في كلِّ وجه. لأنّي وأنا أطوف في مدينتكم، وأنظر إلى معابدكم، وجدتُ مذبحًا مكتوبًا عليه: إلى الإله المجهول» (أع 17: 22-23).

وكيف بدا هذا التديُّن عند أهل أثينة؟ كثرة المعابد في المدينة بحيث اشمأزَّ الرسول، كما كان اليهود يشمئزّون من عبادة الأصنام. قال عنه سفر الأعمال: «ثار غضبُه عندما رأى المدينة مملوءة بالأصنام» (أع 17: 16).

أوَّل صنم «أثينا» Athéna، ابنة زوش وإحدى الإلاهات اليونانيَّة التي تحامي عن الجماعات السياسيَّة. اسمها مُدوَّن منذ القديم على اللوحات على أنَّها إلاهة القلاع والحصون كما يدعوها هومير في طروادة. في الحقبة التاريخيَّة، هي المحامية عن مدينة أثينة. لهذا تصوَّر بشكل محاربة.

«وأثينا» هي إلاهة العمل والمحامية من أصحاب الصناعات في رفقة Héphaistos إله النار والحدادة. هيكلها يُشرف على الأغورا. هي تسهر على العاملين بالنار من الفخّاريّ إلى الحدَّاد، كما تسهر على النساء اللواتي يغزلن الصوف. وأثينا تتدخَّل في عالم البحر، فتساعد الملاّحين على اقتياد سفنهم بالرغم من تعسُّف الرياح وكثرة الطرق. كما تعلِّم كيف يُقطَّع الخشب لبناء السفن. وأخيرًا أثينا قدَّمت هديَّة للأثينيّين شجرة الزيتون، التي تحمل الغذاء: تُولَد من ذاتها وتبقى حيَّة إلى الأبد مثل المدينة، تحت نظر أثينا الساهرة. إكرامًا لهذه الإلاهة، هناك أعياد يحتفلون بها مرَّة كلَّ خمس سنوات تُنشد الطقوس للإلاهة التي تنتصر على الجبابرة بمساعدة الآلهة، فترتِّب الكون بحيث يكون للآلهة مكانتها وللبشر مكانتهم. في هذا المجال، هي تشبه مردوك، إله بابل، الذي انتصر على عالم الشرِّ ورتَّب المدينة ونظَّمها.

أمّا أبولُّون «فهو الإله صاحب الجمال الدائم، والشباب الدائم، فما كان على وجهه الناعم شعرة واحدة ولا وبرة»، كما قالت الأناشيد. في يده القوس التي تقتل ولكنَّها في الوقت عينه تجعل العدوَّ بعيدًا بحيث لا يجسر أن يقترب. بل لا يقترب المرض ولا الوباء ولا الموت. وهكذا كان أبولّون والد أسكليبيوس، إله الطبّ الذي اشتهر معبده في Epidaure قبل أن ينتقل إلى العاصمة أثينة.

وأفروديت إلاهة الحبّ أقامت في Olympe موطن زوش، أبي الآلهة وسيِّدهم. كان لها خمسة أولاد: الوفاق، الخوف، الرعدة، المحبَّة، الحبّ المتبادل.

ما نلاحظ هو أنَّ كلَّ شيء له إلهه. أو هو إله يُعبَد. أمّا سفر الحكمة فيشجب مثل هذه العبادات. قال: «وما من شكٍّ أنَّ جميع الذين يجهلون الله هم حمقى من طبعهم، ولم يقدروا أن يعرفوا (أن يميِّزوا) الخالق من الروائع التي صنعها. فظنُّوا أنَّ النار أو الهواء أو الريح العاصفة أو مدار النجوم، ظنُّوا أنَّ هذه آلهة تسيطر عليهم» (حك 13: 1-2). هي جميلة، ولكنَّ الربَّ الذي صنعها هو مصدر جمالها. هي قويَّة، والربُّ الذي صنعها هو مصدر قوَّتها. أمّا الإله الحقيقيّ فهو «الإله المجهول». أنتم لا تعرفونه.

غير أنَّ فكرة بولس لم تكن فكرة الأثينيّين. هم بنوا هيكلاً لإله يمكن أن يأتي فجأة فيضرب المدينة التي لم تهيِّئ له المعبدَ الذي يقيم فيه. أمّا بولس فتطلَّع إلى الإله الواحد الحقيقيّ. قال في خطبته على الأغورا: «فهذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه هو الذي أبشرِّكم به» (أع 17: 23). هي بشارة وخبر مفرح. هو إنجيل يحمله الرسول إلى هذا العالم الوثنيّ.

وواصل كلامه: »إنَّه الله«. لا إله بين الآلهة. ولا رئيس الآلهة كما كان زوش. هو الإله الوحيد ولا إله سواه. ذاك ما نقرأ بشكل خاصّ في أشعيا: »أنا الأوَّل والآخر، ولا إله غيري. مَن مثلي؟ فليعلن هذا وليتقدَّم به ويعرضه لي« (أش 44: 6). وفي 45: 6: »أنا الربّ ولا آخر، وسواي لا يوجد إله (أو: عدم).... ليعلم البشر من مشرق الشمس إلى مغربها أنَّ لا إله غيري. أنا الربُّ ولا آخر. أنا مبدع النور وخالق الظلمة... أنا صانع هذا كلَّه« (أش 45: 5-7).

وتابع الرسول فعل إيمانه: هذا الإله هو »خالق الكون وكلِّ ما فيه. فهو ربُّ السماء والأرض«. كانوا يعتبرون الكون أزليٌّا، شأنه شأن الله. لا بداية له ولا نهاية، على مثال الله، بحيث صار الكونُ الله. أو امتداد الله. كلاّ ثمَّ كلاّ. فبداية الكتاب المقدَّس تعلن: »في البدء خلق الله السماوات والأرض« (تك 1: 1). خلق كلَّ شيء من لا شيء. قبل أن يُوجَد الكون، لم يكن شيء. بل »العدم«. لا وجود، لا حياة، لا نور. لهذا قال الله: »ليكن نور«، فكان نور. وهكذا نقول بالنسبة إلى جميع الخلائق.

وبما أنَّ الله هو الخالق فهو سيِّد السماء والأرض. كما يلعب الفخّاريّ بطينه، كذلك يفعل الله بخلائقه. غير أنَّ هذا الإله لا ينحصر في مكان محدَّد: »لا يسكن في معابد بَنتْها أيدي البشر« (أع 17: 24). ذاك كلام يقع في خطِّ ما قاله إسطفانس، هذا اليهوديّ المتحضِّر بالحضارة اليونانيَّة، عائدًا إلى سفر الملوك ونبوءة أشعيا: »لكنَّ الله العليّ لا يسكنُ بيوتًا صنعتها الأيدي، كما قال النبيّ: »يقول الربّ: »السماء عرشي. والأرض موطئ قدميّ. أيَّ بيت تبنون لي؟ بل أين مكان راحتي؟ أما صنعتْ يداي هذا كلَّه؟« (أع 7: 48-50).

إذًا، لماذا كلُّ هذه المعابد؟ ولماذا هذا المعبد »للإله المجهول«؟ وبما أنَّ الله لا يحتاج إلى معبد، فهو لا يحتاج إلى خِدمة. وقال بولس في خطبته: »لا تخدمه أيدٍ بشريَّة، كما لو كان يحتاج إلى شيء« (أع 17: 25). كان الوثنيّون، ومثلهم بعض العبرانيّين، يعتبرون أنَّ الله يحتاج إلى الذبائح لكي يأكل من لحمها، كما يحتاج إلى خمر يشربها، فتُسكب على مذبحه. قال المزمور 50: »لا آخذُ من بيوتكم عجولاً. ولا من حظائركم تيوسًا. لي جميع وحش الوعر، وألوف البهائم التي في الجبال. في يدي كلُّ طيور الجبال، ولي كلُّ حيوان في البرِّيَّة. إن جُعت فلا أخبركم، لي العالم كلُّه وما فيه. لا آكلُ لحم الثيران، ولا أشرب دمَ التيوس« (آ9-13). الذبيحة الحقيقيَّة هي ذبيحة الحمد (آ14)، والقلب المنكسر المنسحق لا يحتقره الله (مز 51: 19). والله لا يُعبَد على هذا الجبل ولا على ذاك. فالعابدون الصادقون يعبدون »الآب بالروح والحقّ« (يو 4: 23).

3- الله ربُّ البشر أجمعين

انتقل الخطيب من الفكر اليهوديّ الذي أخذت به المسيحيَّة في الكلام عن الله الخالق، كما تعلنه في قانون إيمانها، فوصل إلى ما يقوله الفكر اليونانيّ. قال سفر الأعمال: »وكان جماعة من الفلاسفة الإبيقوريّين والرواقيّين يجادلونه« (أع 17: 18).

أ- من هم الإبيقوريّون؟

هم ينتمون إلى إبيقور، الذي وُلد في جزيرة ساموس أو في أثينة سنة 341 ق.م. وتوفِّي في أثينة سنة 270 ق.م. هذا الفيلسوف اليونانيّ أسَّس في أثينة مدرسة دعاها البستان. طلب هدوء النفس، فأنشأ واحدًا من التيّارات الرئيسيَّة في الفكر القديم.

جاءت الإبيقوريَّة جماعة حياة وتعليم، مع سلسلة من السمات لا مثيل لها في تاريخ الفلسفة القديم. فهناك الآتون الجدد، والتلامذة، وأخيرًا القوّاد الذين يوجِّهون الجماعة. وهذا التيّار يضمُّ في منظور مادّيّ فيزياء ديموكريت (460-370 ق.م.) في بحثه عن الاعتدال والسكينة وسط فراغٍ لا حدود له. كما يضمُّ خُلقيَّة تجعل اللّذة مبدأ الحياة وغايتها. محورُ هذه الخلقيَّة بحثٌ عن الملذّات الطبيعيَّة والضروريَّة في إبعاد كلِّ بلبلة عن النفس التي تطلب الهدوء المطلَق.

مثل هذه الفلسفة التي تحدَّث عنها الشاعر اللاتينيّ لوكراتيوس (98-55 ق.م.) Lucrèce تقدِّم طبيعة الأشياء De natura rerum في معارضة لمخافة الآلهة والموت، وهي مخافة تعطِّل السعادة. هنا نفهم الاتِّهام الذي وصل إلى الإبيقوريَّة بأنَّها تدعو إلى اللاأخلاقيَّة والفلتان، مع عبارة »خنازير إبيقور«. في هذا التيّار نجد زينون الصيدونيّ.

نجد عند القدّيس بولس بعض الردِّ على هذه الحركة. ففي معرض كلامه عن القيامة، يقول: »إن كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين: تعالوا نأكل ونشرب لأنَّ غدًا نموت« (1 كو 15: 32).

ذاك قول مأثور أورده أشعيا النبيّ (22: 13) وهو يعود إلى ملحمة غلغامش وبعض الأسفار الحكميَّة (جا 2: 24: »فما للإنسان خير من أن يأكل ويشرب«). هو الخوف من الموت يدفع الإنسان إلى مثل هذا القول. وأضاف الرسول كلام الشاعر مناندر الذي عاش في القرن الثالث ق.م.: »لا تضلُّوا: المعاشرة السيِّئة تُفسد الأخلاق الحسنة« (1 كو 15: 33). وفي هذا الشاعر أنشد أوفيد (43 ق.م.- 17 ق.م.): »ما دام هنا عبد محتال وأبٌ قاسٍ وساحرة شرّيرة ومومس ملاطفة، يعيش مناندر«.

وفي الرسالة إلى الكورنثيّين أعلن بعضهم: »كلُّ شيء يحلُّ لي« (1 كو 6: 12). إذًا، أستطيع أن أفعل ما أشاء: على مستوى الطعام والشراب. بل على مستوى الفجور. ردَّ بولس ردٌّا سريعًا: إذا كان كلُّ شيء محللاٌّ، فكلُّ شيء لا يكون لائقًا. وفي أيِّ حال، لا يكون نافعًا. مثل هذا »التحليل« لا يتوافق مع حياة المسيحيِّ الجديدة. والمبدأ الأساسيّ: »أجسادكم أعضاء المسيح« (آ15). »أجسادكم هيكل الروح القدس« (آ19).

ب- من هم الرواقيّون؟

كان الرواقيّون تجاه الإبيقوريّين في طلب حكمة تنسَّكت فخرجت من أوهامها. يعود اسمهم إلى »الرواق« Stoa الأثينيّ حيث كان يجتمع الفلاسفة. هي مدرسة تأسَّست في القرنين الثالث - الثاني ق.م.، في أثينة، على يد زينون الفينيقيّ (322-262 ق.م.)، المولود في كيتيون، من أعمال قبرص. فزينون هذا كان تاجر أرجوان قبل أن يهتدي إلى الفلسفة. تحطَّمت السفينة فخسر كلَّ شيء. وسمع صوتًا من العلى يدعوه فتحوَّلت حياته. ففتح مدرسة أدارها مدَّة ثمانية وخمسين عامًا، فمات بعمر 98 سنة كما قال أبولونيوس الصوريّ. قيل عنه: »كسر إصبعه حين الخروج من المدرسة، فرأى في هذا الوضع علامة من القدر، فترك نفسه يموت من الجوع، أو هو رفض أن يتنفَّس«.

صور عديدة تحدَّثت عن فكر زينون، وها نحن نأخذ واحدة منها: الفلسفة حقل مليء بالثمار. المنطق هو السياج. الخلقيَّة هي الثمار. الفيزياء هي الأرض والأشجار. أمّا المنطق فلا يكون مجرَّد أداة، بل جزء من المعرفة. ينفتح المنطق على نظريَّة المعرفة، المركَّزة على التمثُّل (أو: الفانتاسيّا التي تصوِّر الأمور في المخيِّلة). وقال شيشرون (106-43 ق.م.) خطيب رومة الشهير عن زينون الذي قابل العبور من التمثُّل إلى العلم، مع تضييق تدريجيّ لكفِّ اليد. قال زينون: »ما من أحد سوى الفيلسوف يعرف هذا«. وبيَّن فكره بالحركات. بيَّن يده مفتوحة وأصابعه ممدودة. قال: »هذا هو التمثُّل«. ثمَّ قلَّص الأصابع قليلاً. فقال: »ها هو التصوُّر المصحوب بحكم«. ثمَّ أغلق يده وشدَّ قبضته، فقال: »ها هو الإدراك«. ثمَّ مع اليد اليسرى التي قرَّبها، شدَّ بقوَّة على القبضة اليُمنى فقال: »ها هو العلم الذي لا يمتلكه سوى الحكيم«.

أمّا الفيزياء عند زينون فهي مادِّيَّة في نمط خاصّ: نظرة متواصلة، ديناميكيَّة، عضويَّة، إلى الطبيعة. كان زينون تلميذ هيراكليت (550-480 ق.م.) فقال: الطبيعة هي »نار فنّان تتقدَّم بشكل منهجيّ من أجل الإيلاد. هي تسهر وتعمل من أجل المفيد والنافع. والطبيعة هي القدر«. وفي ما يتعلَّق بالخلقيَّة، قال زينون: ينبغي على الحكيم أن يعيش في توافق مع الطبيعة. ممّا يعني العيش بحسب الفضيلة التي تتماهى مع الخير السامي. كما ينبغي عليه أن يقتلع الأهواء التي هي أحكام خاطئة، ويبحث عن اللاألم، ويطلب أن يكفي نفسه بنفسه، بحيث يبقى سيِّد نفسه ويتحكَّم بها.

في هذا الجوِّ الفلسفيّ دخل بولس الرسول، حين وقف على الأغورا يخطب في أهل أثينة. فأورد في هذا الخطِّ بعض ما تعلَّمه في جامعة طرسوس. عاد أوَّلاً إلى سينيكا (+65 ب.م.) هذا الفيلسوف الرواقيّ الذي وُلد في قرطبا من أعمال إسبانيا. بما أنَّ الله هو سيِّد الكون، فلا يمكن أن يُحصَر في معبد من المعابد. وكذلك تُعلِن الرواقيَّةُ أنَّ لا مجال للبشر بأن يخدموا الإله.

وورد في سفر الأعمال هذه العبارة: »لأنَّه هو الذي يعطي البشر كلَّهم الحياة ونسمة الحياة وكلَّ شيء« (أع 17: 25). نحن هنا في إطار رواقيّ تطعَّم بالفكر الكتابيّ. أمّا البحث عن الله فيعيدنا إلى الرسالة البولسيَّة إلى رومة: »لأنَّ ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله جعله الله واضحًا جليٌّا لهم. فمنذ خلق الله العالم، وصفات الله الخفيَّة، أي قدرته الأزليَّة وألوهيَّته، واضحة، جليَّة، تدركُها العقول في مخلوقاته« (رو 1: 19-20). هنا يلتقي الرسول مع الرواقيّين الذين يتحدَّثون عن نظام في الكون يجب أن يكتشفه الحكيم.

انطلقت الرواقيَّة من البوليتاويَّة، أو تعدُّد الآلهة، فوصلت إلى المونوتاويَّة، أو الإله الواحد، وتلك طريقة لتصوير الوحدة العميقة في الكون، التي يشرف عليها ويرتِّبها مبدأ مادّيّ وفاهِمٌ، حاضرٌ في كلِّ مكان، فاعل في كلِّ زمان. هل نستطيع القول إنَّه »الله«؟ عندئذٍ، أما يمتزج الإله بالكون؟ فالكوسموس (= العالم) هو الله نفسه، على أنَّه صانع الكون ومولِّده منذ الأزل، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يتميَّز الكوسموس عن الله على أنَّه هذا الجهاز، على أنَّه السماوات والأرض وما تحتوي. وهو يخضع، بحسب ناموس العودة الأبديَّة، إلى إيقاع تناوبيّ من امتصاص في نار البدء إلى ولادة جديدة من هذه النار.

كلُّ هذا يساعدنا لنكتشف خلفيَّة كلام القدّيس بولس: »خلق البشر كلَّهم من أصل واحد، وأسكنهم على وجه الأرض كلِّها، ووقَّت لهم الأزمنة وجدَّد لسكناهم الأماكن، حتّى يطلبوه لعلَّهم يتلمَّسونه فيجدوه، وهو غير بعيد عن كلِّ واحد منّا« (أع 17: 26-27).

يقول الرواقيّون إنَّ ما يكوِّن هيكليَّة الكون هو شريعة عقليَّة، تتلخَّص في القدَر، الذي هو تسلسل العلل. إنَّه يُشرف على مسيرة الأحداث ويؤسِّس تقابُلها، بحيث يكون كلُّ شيء في طريق التألُّه. ففي تواصل الأجسام التي يجول فيها الروح الإلهيّ، تتجلّى إرادةُ إله عاقل وصالح. وعنايته تُنعش العالم، ذلك الحيوان العاقل الذي هو مدينة يقيم فيها الحيوان العاقل والآلهة، وحيث كلُّ شيء صُنع لأجلهم.

ما يميِّز النظرة البولسيَّة عن النظرة الرواقيَّة، هو أنَّ الإله الذي ينادي به بولس، هو إله شخصيّ، حيّ، منظور، لا يعيش في عالم التجريد والأفكار التي تأخذ بالخيال في الهواء كما الدخان. فالإله الذي ينادي به بولس، هو إنسان اختاره الله. هذا الإنسان مات معنا لكي يقيمنا معه. والتاريخ لا يكون رجوعًا مستمرٌّا كما في حلقة مفرغة، فيعود كلُّ شيء إلى ما كان من قبل فينطلق من جديد وكأنَّه خارج الزمان. أمّا الإيمان الذي ينادي به بولس، فيتوزَّع في التاريخ: انطلق من »آدم« فوصل إلى »المسيح«، وهو يدعونا إلى أن ننخرط في هذه المسيرة لكي نصل إلى هذا الإله الذي يجهله الوثنيّون في أثينة ويعرفه تلاميذ المسيح.

وفي خطِّ آ25 (يعطي البشر) ترد عبارة من إليخميد، الشاعر الكريتيّ، العائشِ في القرن السادس ق.م.، الذي حُسب بين الحكماء السبعة، والذي لبث نموذج الإنسان الدينيّ، وسيِّد الحقيقة في اليونان القديمة. جاء كلامه هنا، في فم بولس، حيث يجب أن يكون: »فنحن فيه نحيا ونتحرَّك ونُوجَد« (أع 17: 28). هكذا يدلُّ الأثينيّون أنَّهم أناس متديِّنون، يطلبون الحقيقة أينما وُجدت، ولا »يصرفون أوقات فراغهم كلَّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا« (آ21).

جاء كلام إليخميد في خطِّ الفكر الأفلاطونيّ الذي يتحدَّث عن مثلَّث فيه الحياة والحركة والوجود. وأورد بولس عبارة أخرى من الشاعر الإسكندرانيّ، أراتُس (315-245 ق.م.)، الذي ترك لنا كتاب الظواهر حيث يقول: »ونحن أيضًا أبناؤه«. أو: من نسله. قال أراتس: »أصلُنا منه«. كيَّف بولس الشعر من أجل التقارب مع »صورة الله« كما في سفر التكوين (1: 26) الذي امتدَّ في الرسالة الثانية إلى بطرس: »تصيرون شركاء في الطبيعة الإلهيَّة« (1: 4).

الخاتمة

وانتصر بولس، مع أنَّ الأثينيّين استهزأوا به. قبْلَه كان سقراط. كلاهما اعتُبرا يتحدَّثان عن آلهة غريبة. كلاهما اتُّهما بأنَّهما يُدخلان إلى المدينة عبادة جديدة. بل يقدِّمان تعليمًا مشكوكًا فيه، ويمكن أن يُفسد الشبيبة. ذاك كان وضع سقراط. أمّا بولس فيقدِّم تعليمًا لم يعتادوا عليه، تعليمًا غريبًا وكأنَّه آتٍ من قارَّة أخرى. رُفض سقراط، ولكنَّ تلاميذه واصلوا عمله ولا يزالون بدءًا بأفلاطون. وكذلك نقول عن بولس. زرع في قلب أثينة، عاصمة العالم اليونانيّ، وعاصمة الفنِّ والفلسفة، بذارَ الإيمان المسيحيّ الذي سيُعطي الثمار الكثيرة. أمّا الآن، فالحصاد قليل للوهلة الأولى، إذا قرأنا النصَّ بشكل حرفيّ. ولكنَّ المعنى الرمزيّ يأخذنا إلى البعيد. فهناك رجل وامرأة. هي جماعة تُولَد كما في بداية الكون، مع آدم وحوّاء، حيث قيل لهما: »انموا واكثروا واملأوا الأرض«. والرجل هو واحد من أعضاء المجلس وكنيتُه »الأريوباغيّ«. أجل دخل بولس في قلب المجلس على ما فعل يسوع حين ترك تلميذًا في أرض الجراسيّين »ينادي في المدن العشر (الوثنيَّة) بما عمل يسوع له« (مر 5: 20). أمّا اسم المرأة »داماريس« فيعني في اليونانيَّة: العروس والمرأة المتزوِّجة.

أجل، دخل بولس إلى أوروبّا. وراح في قلب الأرض اليونانيَّة. وتحدَّى الفلسفة في عقر دارها. وبيَّن لهؤلاء الوثنيّين أنَّهم يخطئون حين يحسبون »الألوهيَّة شكلاً صنعه الإنسان بفنِّه ومهارته من ذهب أو فضَّة أو حجر« (أع 17: 29). ودعاهم إلى التوبة تجنُّبًا للدينونة. والحمد لله أنَّهم سمعوا لبولس: »بعضهم انضموا إليه وآمنوا« (آ33).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM