الفصل الثاني عشر: أفسس عاصمة آسية الصغرى

الفصل الثاني عشر

أفسس

عاصمة آسية الصغرى


سنة 333 ق.م. انطلق الإسكندر المقدونيّ الذي دُعيَ الكبير، نحو آسية فمرَّ في تركيّا ثمَّ في شواطئ سورية ولبنان وصولاً إلى مصر. وما زالت جيوشه زاحفة حتّى امتدَّت إلى إيران الحاليَّة وإلى الهند. بقي اسمه في التاريخ على أنَّه من أكبر القوّاد، بعد أن حطَّم بجيش محدود أكبر جيش في ذلك الزمان، جيش داريوس الثالث الفارسيّ.

ومن الشرق، انطلق بطلٌ آخر فوصل إلى رومة، سجينًا، قبل أن يموت شهيدًا، على طريق أوستيا، القريبة من رومة. قال عن نفسه: »أمّا أنا فذبيحة يراقُ دمُها، وساعة رحيلي اقتربت. جاهدت الجهاد الحسن وأتممتُ شوطي وحافظت على الإيمان، والآن ينتظرني إكليل البرِّ الذي سيكافئني به الربّ« (2تم 4: 6-8).

إلى هذا البطل الذي يفترق عن أبطال هؤلاء الدنيا نتعرَّف: المدن التي زارها، أقام فيها، والتعليم الذي تركه هناك. ونبدأ بمدينة أفسس.

1- من الحاضرة اليونانيَّة إلى المدينة الرومانيَّة

نبدأ فننظر إلى خارطة آسية الصغرى، التي تقابل اليوم تركيّا الغربيَّة، لنكشف الموقع المميِّز لهذه المدينة. فأفسس تقع على السفح الغربيّ لأناتولية، في نصف الطريق بين مضيق الدردانيل ولوقية الجنوبيَّة. ثمَّ هي تتَّصل بسهولة، ببلاد اليونان عبر طريق ترسمها جزرُ بحر إيجه. ونستطيع أن نعتبر هذه الحاضرة مقيمة حيث يصبُّ واديَ كايستري ووادي مناندري. كما أنَّ طريق الفرس الملكيَّة، كان تغادر ميناندري على مستوى مغنيزية لتلاقي أفسس الواقعة إلى الشمال بعدها.

أ- من البداية حتّى سيطرة رومة

إنَّ أساس أفسس كمركز دينيّ، قديم جدٌّا. فقالت الأساطير إنَّ الأمازونيّات تلك النساء المحاربات هي التي كوَّنتها. وحملت إلينا النصوص الحثِّيَّة رواية الإله الشمس (نتذكَّر أنَّ الشمس إله مذكَّر) الذي اختبأ في مغارة. فأرسلت الآلاهة الكبيرة نحلة لكي تبحث عنه، فصارت هذه النحلة رمز النقود في المدينة. وإذ رأته نائمًا، لسعته في شفته، فاستيقظ مثل الطبيعة في الربيع. ويشرق على مصير هذه الطبيعة أرطاميس الأفسسيَّة. ولبثت هذه الصورة حاضرة في الرواية المسيحيَّة، رواية النيام السبعة، هؤلاء الشبّان الذين اضطهدوا لأجل إيمانهم المسيحيّ، في عهد الإمبراطور ديقيوس (249-250): التجأوا إلى مغارة في المنطقة، فسدَّ مضطهدوهم الفتحات. فنام الشبّان ليستيقظوا بعد مئتي سنة، ساعة صارت المسيحيَّة ديانة الدولة في عهد تيودوز الكبير (345-395).

في هذه المنطقة التي »تنعم بأجمل سماء وبأجمل مناخ«، كما قال المؤرِّخ اليونانيّ هيرودوت، أُسِّست أفسس. وقال التقليد إنَّها كانت مستوطنة الأيّونيّين الذين جاؤوا من أثينة بقيادة أندروكلي ابن كودروس ملكها. كان الحكم ملكيٌّا قبل أن يصير أرستوقراطيٌّا ثمَّ استبداديٌّا. فجاء القيمريّون من الشمال واحتلُّوا أفسس في بداية القرن السابع، وهذا ما يُفسِّر انطلاقتها التي جاءت متأخِّرة.

أقيمت المدينة في زمن أوَّل على جبل كورسوس، لكي تحمي نفسها. ولمّا سيطرت مملكة ليدية القريبة، نزلت إلى السهل بقرب الأرطاميسيون أو معبد أرطاميس. نالت أفسس ما نالته المدن اليونانيَّة في آسية الصغرى من احتلال الفرس لتثور سنة 412 ق.م. وتكون في حمى اسبرطة المدينة اليونانيَّة الكبيرة. علاقات طيِّبة مع فيليب الثاني، ملك مكدونية، ثمَّ ساءت هذه العلاقات في زمن ابنه اسكندر المقدونيّ. وبعد موت الإسكندر، عادت أفسس إلى الجبل، وانضمَّت إليها مدينتان قريبتان كولوفون وليبيدوس، بحيث صارت أكبر مدن آسية الصغرى في زمن السلوقيّين. وفي سنة 133 ق.م. صارت مدينة رومانيَّة ذات أهمِّيَّة اقتصاديَّة كبيرة، ولكنَّها لبثت تلك الحاضرة اليونانيَّة التي لا تخون أصولها.

ب- الحاضرة اليونانيَّة

لبثت أفسس تفتخر بتاريخها وبُنُظمها، كما حافظت عليها رومة، ولكن لم تكن لها سلطة ولا استقلاليَّة، ولا حرِّيَّة. ففي زمن أوغسطس، أوَّل إمبراطور في رومة، لم تحسَب بين المدن الحرَّة التي عدَّدها المؤرِّخ بلين الأكبر. غير أنَّ الواجهة لبثت هي هي: فنسل الأسرة الملكيَّة، نسل أندروكلي ابن كودروس، حافظ على لقب ملك، ونعم بإكرام المكان الأوَّل في المباريات الرياضيَّة، كما كان له دوره في تنظيم بعض الذبائح.

وانقسم المواطنون قبائل، كما في الفترة الكلاسيكيَّة (القرن 5-4 ق.م.)، وتوزَّعت المدينة في ستِّ قبائل على أيّام أوغسطس وفي سبعٍ على أيّام أدريان في بداية القرن الثاني. وهذا التوزيع يحدِّد مكانة المواطنين في جماعة الشعب، وتكوين المجلس حيث يكون لكلِّ قبيلة 75 عضوًا. ولكنَّ هذين المجلسين، بما لهما من سحر، إن عدنا إلى الحضارة اليونانيَّة، تجرَّدا الآن من كلِّ سلطة حقيقيَّة فما بقي لهما من مهمَّة سوى تنظيم التطوافات.

ووُجد أيضًا في أفسس مجلس الشيوخ، الذي نعم بسلطة نسبيَّة في زمن الإمبراطوريَّة، في تدبير معبد أرطاميس، الغنيّ جدٌّا، ومراقبة »مصرف الودائع« المقام فيه. وكلِّف هذا المجلس أيضًا بتغطية الديون، بما في ذلك من صعوبة كبيرة، كما كان المسؤول عن تشييد بعض الأبنية في المدينة.

ج- السلطة الرومانيَّة

إذا كان مجلس الشيوخ في أفسس الأكثر نشاطًا بين مدن آسية الصغرى، فالسبب يعود إلى أنَّها كانت تحت سلطة بروقنصل، أو القنصل الأوَّل والرئيسيّ في المقاطعة. هو يستطيع أن يتدخَّل في كلِّ وقت، فيسهم مثلاً بإضراب الخبّازين، ويحلُّ نقابتهم، ويفرض عليهم أن ينتجوا الخبز الضروريّ لإعالة السكّان.

وفوق البروقنصل، يستطيع الإمبراطور نفسه أن يكشف عن سلطانه المباشر. ففي القرن الثاني، تدخَّل أدريان ليعيد النظام إلى الأموال التي يديرها مجلس الشيوخ. وكتب خلفُه أنطونين رسالة شهيرة إلى الأفسسيّين يدعوهم فيها إلى أن لا يبدِّدوا سخاء أحدهم (فيديوس أنطونينوس)، بل يستعملوا ما تركه من مال لتشييد المباني العامَّة التي يستفيد منها السكّان زمنًا طويلاً. ينبغي القول إنَّ الإجراءات الإمبراطوريَّة من أجل بعض الحواضر، مثل أفسس، وإن كان تدخُّلاً في أمور المدينة، عوَّض منذ الآن خسارة الأراضي الواسعة لإفادة الأباطرة. في الماضي، كان مدخول الأراضي يتيح للمواطنين الأغنياء لكي يتبرَّعوا بسخاء من أجل مواطنيهم. فراحت هذه الممارسة إلى الزوال منذ منتصف القرن الثاني ب.م. وهكذا شهدنا الانتفاضات الأخيرة في الحاضرة اليونانيَّة، ويومًا بعد يوم، أحسسنا بثقل السلطة الرومانيَّة على المدينة.

تزاحمت مدن آسية الصغرى لتأخذ مركز »«المطروبوليَّة« أو أمّ المدن، حيث سيقيم المطران بعد قرار ميلانو ونهاية الاضطهادات على الكنيسة (313 ب.م.) انطلاقًا من الأسرة الفلافيانيَّة (69-96) كان في الساحة إزمير، برغام، تجاه أفسس، فانتصرت أفسس، التي جعلت تدوِّن على نقودها منذ أيّام أنطونين التقيّ (138-161) أنَّها »أولى المطروبوليّات وأكبرها في آسية«. وحين أسَّس الرومان مقاطعة آسية، كانت أفسس عاصمتها (بعد سنة 133 ب.م.) فيها يُقيم حاكم المقاطعة، أو البروقنصل، وفيها الإدارة الماليَّة والأرشيف الذي يضمُّ سجلَّ المساحة وتدوين الضرائب. أمّا القضاء فتوسَّع ليصل إلى المناطق المجاورة بحيث يفرض على كلِّ حاكم أن يمرَّ في أفسس حين يعيَّن على رأس المقاطعة.

منذ زمن أوغسطس، تميَّزت أفسس بأن يكون داخل أسوارها معبد »رومة ويوليوس قيصر المؤلَّه«، فسبقت إزمير التي سيكون فيها معبد لطيباريوس قيصر الذي في زمنه صُلب المسيح. ونالت أيضًا أفسس أن تنظِّم احتفالات العيد إكرامًا للأباطرة أربع مرّات على التوالي. ومع المرفأ الذي كان قاعدة هامَّة لأساطيل الجيش الرومانيّ، ازدهرت أفسس ازدهارًا اقتصاديٌّا كبيرًا. فكانت أكبر مستودع للبضائع الآتية من إيطالية ومن اليونان، كما قال سترابون العالِم في الجغرافية. وهكذا صارت أفسس مزاحمة كبيرة للإسكندريَّة وللعواصم السلوقيَّة في الجزء اليونانيّ من الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. كانت »رأس جسر« للشرق تجاه الغرب، وللغرب تجاه الشرق. فيها امتزجت التأثيرات الآتية من آسية والآتية من الغرب، فلعبت دورًا كبيرًا جدٌّا في مقاطعة آسية الرومانيَّة. لهذا، جاء بولس الرسول إليها.

2- بولس الرسول في أفسس

سنة 52، وصل بولس إلى أفسس، ولبث فيها ثلاث سنوات. وعمل في ثلاثة وجوه: مع تلاميذ المعمدان، مع اليهود، وأخيرًا مع الوثنيّين والخطر الذي أحسَّ به كهنة الإلاهة أرطاميس، بمعبدها الذي اعتُبر إحدى عجائب العالم السبع. ونقرأ سفر الأعمال (ف 19):

أ- مع تلاميذ يوحنّا

1 وبينما أبلُّوس في كورنتوس، وصل بولس إلى أفسس، بعدما قطع أواسط البلاد، فوجد فيها بعض التلاميذ.

2 فقال لهم: »هل نلتم الروح القدس عندما آمنتم؟« فقالوا: »لا. ولا سمعنا بوجود الروح القدس«.

3 فقال: »وأيَّ معموديَّة تعمَّدتم؟« فقالوا: »معموديَّة يوحنّا«.

4 فقال بولس: »عمَّد يوحنّا معموديَّة التوبة، داعيًا الناس إلى الإيمان بالذي يجيء بعده، أي يسوع«.

5 فلمّا سمعوا هذا الكلام، تعمَّدوا باسم الربِّ يسوع.

6 ووضع بولس يديه عليهم، فنزل عليهم الروح القدس وأخذوا يتكلَّمون بلغة غير لغتهم ويتنبَّأون.

7 وكانوا نحو اثني عشر رجلاً.

نحن هنا في الرحلة الرسوليَّة الثالثة، التي انطلقت من أنطاكية (أع 18: 22) مرورًا في غلاطية وفريجية. في الرحلة الرسوليَّة الثانية، حاول بولس أن يأتي إلى »آسية« وعاصمتها أفسس، فمنعه الروح (أع 16: 6-10) ودفعه إلى أوروبّا حين سمع صوت الاستغاثة من مكدونية: »اعبر إلى مكدونية وساعدنا«.

في أفسس كان أبلُّوس، ذاك اليهوديّ الآتي من الإسكندريَّة (أع 18: 24)، فعلَّمه »طريقَ الرب« برسكلَّة وأكيلا (آ26). ولكنَّنا لا ننسى أنَّ بولس مرَّ في أفسس في عودته من الرحلة الرسوليَّة الثانية. وترك هناك برسكلَّة وأكيلا. لا يمكن لهذا الرسول أن يسبقه أحد، وهو الذي لا يبني على أساس غيره. وضع المدماك الأوَّل، وقال لأهل المجمع: »سأعود إليكم إن شاء الله« (أع 18: 21). وها هو يعود الآن.

ما نلاحظ هو أنَّ بناء كنيسة أفسس يجمع بين بداية الإنجيل وبداية سفر الأعمال. في الإنجيل الرابع، كانت البداية مع تلاميذ يوحنّا وعلى رأسهم أندراوس والتلميذ الآخر. وكذا البداية في أفسس. وما نلاحظ أيضًا هو الرقم 12. مع العلم أنَّنا بعيدون عن الجليل واليهوديَّة حيث أقامت القبائل. ثمَّ ما حصل للذين بشَّرهم بطرس في أورشليم بعد العنصرة (أع 2: 11) وفي السامرة (أع 8: 17-18) وفي بيت كورنيليوس (أع 10: 24)، حصل لهؤلاء الاثني عشر الذين »أخذوا يتكلَّمون بلغة غير لغتهم ويتنبَّأون«. أتُرى هؤلاء الاثني عشر انطلقوا في الرسالة، على مثال الذين أرسلهم يسوع بعد أن اختارهم (مر 3: 7-8)؟ الأمر ممكن.

ب- في المجمع اليهوديّ

ونواصل قراءة أع 19 وانتقال بولس إلى العالم اليهوديّ

8 ودخل بولس المجمع فأخذ يتحدَّث بجرأة عن ملكوت الله مدَّة ثلاثة أشهر، يجادل الحاضرين ويحاول إقناعهم.

9 فعاند بعضهم ورفضوا أن يؤمنوا. بل تكلَّموا بالسوء على مذهب الربِّ عند الجماعة كلِّها، فتركهم بولس وانفرد بالتلاميذ يجادلهم كلَّ يوم، في مدرسة تيرانوس.

10 ودامت هذه الحال سنتين، حتّى سمع جميع سكّان آسية من يهود ويونانيّين كلام الربّ.

وسار بولس أيضًا في خطِّ يسوع. في الناصرة، »دخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ« (لو 4: 16). وأورد الإنجيل نصَّ أشعيا الذي قال فيه يسوع: »اليوم تمَّت هذه الكلمات التي تلوتُها على مسامعكم« (آ21). ومنذ انطلاق بولس الأوَّل، يروي سفر الأعمال ما فعله بولس ورفيقه برنابا الآتيان من قبرص، وذلك في أنطاكيَّة بسيدية، التي هي غير أنطاكيَّة سورية. »دخلا المجمع يوم السبت وجلسا. وبعد تلاوة فصل من الشريعة وكُتب الأنبياء، أرسل إليهما رؤساء المجمع يقولون: »أيُّها الأخوان، إن كان عندكما ما تعظان به الشعب، فتكلَّما« (أع 13: 14-15). فاليهود يؤمُّون المجمع يوم السبت ويقرأون من أسفار موسى والأنبياء وسائر الكتب. ويتلون المزامير وصلوات أخرى. وكما اعتاد يسوع أن يعظ في المجامع (لو 4: 44) هكذا فعل بولس: في إيقونية (أع 14: 1)، في تسالونيكي (أع 17: 1)، في بيرية (آ10)... أمّا طريقة الوعظ، فانطلاق من العهد القديم وصولاً إلى يسوع المسيح. والمثال على ذلك عظة أنطاكيَّة بسيدية: انطلق الرسول من خبرة الخروج من مصر، فوصل إلى زمن القضاة وصولاً إلى شاول، أوَّل ملك لدى العبرانيّين، ثمَّ إلى داود، وواصل بولس: »وأخرج الله من نسل داود حسب الوعد، يسوع مخلِّصًا لشعب إسرائيل« (أع 13: 23).

ماذا كانت النتيجة في أنطاكيَّة بسيدية؟ طلب اليهود من بولس وبرنابا أن يكلِّماهم في السبت المقبل. ولمّا رأوا عدد »التلاميذ« الذين تبعاهم، عارضوهم. فكان الجواب الجريء: »نتوجَّه الآن إلى اليونانيّين«. أما هكذا قال الربّ: »انفضوا الغبار عن أقدامكم« (مت 10: 4).

وكما في أنطاكيَّة بسيدية، كذلك في أفسس، وكذلك سيكون حتّى النهاية (أع 28: 24: اقتنع بعضهم وأنكر البعض الآخر). بل أخذ هؤلاء اليهود يتكلَّمون بالسوء على »مذهب الربّ« أو »الطريق« (أع 9: 2) التي يسلكها المسيحيّون ويدلُّ عليها الآخرون بعد أن دعا يسوع نفسه »الطريق« (يو 14: 6) التي تقود إلى الحقِّ والحياة.

ج- في العالم اليونانيّ

طال الكلام في المجمع »ثلاثة أشهر«. وظهر »تلاميذ« سوف ينفرد بهم بولس، كما سبق ليسوع وفعل في أكثر من مناسبة (مر 9: 2). ولكنَّ المكان صار ضيِّقًا حيث يجتمعون. ربَّما في أحد البيوت. لهذا احتاج بولس »إلى مدرسة« رجل اسمه »تيرانوس«. وأضاف النصُّ الغربيّ: »كان يعلِّم من الساعة 11 قبل الظهر حتّى الساعة 4 بعد الظهر«، أي في وقت الحرّ، وحين يكون تلاميذ هذا »الفيلسوف« في طعام الغداء والقيلولة. فبولس يستفيد من كلِّ الظروف والأماكن والآونات. يعظ في المجمع كما في السجن، في الساحة العامَّة (في أثينة) كما في البيوت (فيلمون). وطالت إقامة الرسول في أفسس: »مدَّة سنتين«. نتخيَّل هنا العمل الذي قام به مع الفريق الرسوليّ. لا في المدينة فقط، بل في الجوار، فإلى أفسس جاء أبفراس وحمل البشارة إلى كولوسّي (كو 1: 7). وجاء هو أو غيره، فوصل الإنجيل إلى لاودكيَّة (كو 4: 16). وفي آ17، يُذكر أرخبُّس الذي يتحدَّث عنه بولس في الرسالة إلى فيلمون (آ2) فيقول: هو »رفيقنا في الجهاد«.

وماذا كانت النتيجة؟ كنيسة مؤلَّفة من اليهود واليونانيّين، كما في البداية (آع 6: 1). هكذا اجتمع القريبون (اليهود) مع البعيدين (اليونان)، كما قالت الرسالة إلى أفسس (2: 17). زال الحاجز الذي يفصل بين الفئتين (آ14) الذي هو »شريعة موسى بأحكامها« (آ15). وإلاّ أصاب أفسس ما أصاب أنطاكية حيث المؤمنون »لا يسيرون سيرة مستقيمة مع حقيقة البشارة« (غل 2: 14). فابتعد اليهود عن اليونانيّين وما شاركوهم في الطعام المشترك، وربَّما في الإفخارستيّا.

ويقول سفر الأعمال الذي دُوِّن حوالي سنة 85: »سمع جميع سكّان آسية... كلام الربّ« (أع 19: 10). وما قيل في شكل عامّ، قيل في شكل خاصّ بمناسبة إحدى معجزات بولس: »فسمع أهل أفسس كلُّهم، من يهود ويونانيّين، بهذه الحادثة، فملأهم الخوف، وتعظَّم اسم الربِّ يسوع«. ونقرأ النصَّ في أع 19:

11 وكان الله يُجري على يد بولس معجزات عجيبة

12 حتّى صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر فتزول الأمراض عنهم، وتخرجُ الأرواحُ الشرّيرة.

13 وحاول بعض اليهود المتجوِّلين، الذين يطردون الأرواح الشرّيرة، أن يستخدموا اسم الربِّ يسوع. فكانوا يقولون للأرواح الشرّيرة: »آمرُك باسم الربِّ يسوع الذي يُبشِّر به بولس«.

14 وكان لأحد رؤساء كهنة اليهود، واسمه سكاوا، سبعة أبناء يحترفون هذه الحرفة.

15 فأجابهم الروح الشرِّير: »أنا أعرف يسوع، وأعلم من هو بولس. أمّا أنتم فمن تكونون؟«

16 فهجم عليهم الرجلُ الذي فيه الروح الشرّير وتمكَّن منهم كلِّهم وغلبهم. فهربوا من البيت عراة، مجرَّحين.

هذا النجاح الكبير تسانده أعمال قدرة بيد الرسول الذي شابه بطرس: بالنسبة إلى بطرس، يكفي أن يمرَّ ظلُّه على مريض ليُشفى (أع 5: 15). وبولس يشفي بما يلمس جسمه من »مناديل ومآزر«. وكما تمنّى سمعان الساحر أن يكون له سلطان بطرس (أع 8: 18)، كذلك فعل أبناء سكاوا، فكان لهم ما استحقّوا. أمّا ما يعمله بولس من طرد الشياطين، فهو إطاعة لأمر الربِّ الذي قال لتلاميذه: »اشفوا المرضى. اطردوا الشياطين« (مت 10: 8).

»فملأهم الخوف« (آ17). هو الخوف المقدَّس أمام حضرة الله، الذي جعلهم يعظِّمون »اسم الربِّ يسوع«. ويتواصل الكلام:

18 فجاء كثير من المؤمنين يعترفون ويقرُّون بما يمارسون من أعمال السحر.

19 وجمعَ كثيرٌ من المشعوذين كتبهم وأحرقوها أمام أنظار الناس كلِّهم. وحسبوا ثمن هذه الكتب، فبلغ خمسين ألف قطعة من الفضَّة.

20 وهكذا كان كلام الربِّ ينتشر (أو: ينمو) ويقوى في النفوس.

انقلاب كبير في أفسس، لا بالسلاح الذي يعرفه مقاتلو هذا العالم، بل بسلاح من نوع آخر، تحدَّثت عنه الرسالة إلى أفسس (ف 6):

10 وختامًا أقول: تقوَّوا في الربِّ وفي قدرته العظيمة

11 تسلَّحوا بسلاح الله الكامل لتقدروا أن تقاوموا مكايد إبليس

12 فنحن لا نحارب أعداء من لحم ودم، بل أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلام والأرواح الشرّيرة في الأجواء السماويَّة.

13 لذلك، احملوا سلاح الله الكامل.

وفصَّل الرسول: ترس الإيمان تجاه سهام الشرّير (آ16). خوذة الخلاص (آ17أ). سيف الروح (آ17ب). تلك كانت الحرب التي دعا إليها بولس، بل مارسها في أفسس، كما في مقاطعة آسية كلِّها. وما اكتفى بالكلام في هذه المدينة العامرة، بل أرسل الرسائل. الأولى إلى كورنتوس. قال: »أبقى هنا في أفسس إلى عيد يوم الخمسين (العنصرة)، لأنَّ الله فتح لخدمتي فيها بابًا واسعًا فعّالاً« (1كو 16: 8). وقال في الفصل عينه: »تسلِّم عليكم كنائس آسية. ويسلِّم عليكم كثيرًا في الربِّ أكيلا وبرسكلَّة، والكنيسةُ التي تجتمع في بيتهما« (آ19). هذا عدا رسائل أخرى إلى كورنتوس لم تصل إلينا. وفي أفسس، تلقّى بولس معلومات حول انحرافات الغلاطيّين، الذين دعاهم »الأغبياء« (غل 3: 1). ومن هناك كتب لهم عن الحرِّيَّة المسيحيَّة والخلاص في المسيح. ومن أفسس أيضًا، أرسل على ما يبدو، الرسالة إلى أهل فيلبّي.

3- في مواجهة الإلاهة أرطاميس

سنة 263ب.م.، اجتاح الغوط الآتون من شمالي أوروبّا، أفسس، ودمَّروا هيكل أرطاميس. وفي القرن الرابع، شرعت بيزنطية تسرق عناصر البناء في الهيكل لكي تحمل الجمال إلى عماراتها، كلّ هذا بعد أن عرفت عبادة أرطاميس الذورة في شعائر العبادة خلال القرون 1-3 ب.م.

عن الأرطاميسيون أو هيكل أرطاميس، كتب المؤرِّخ بلين الأكبر: »إنَّ هيكل أرطاميس في أفسس يثير الإعجاب بروعة العبقريَّة اليونانيَّة. امتدَّ عملُ البناء 120 سنة، وشاركت في تشييده آسية كلُّها. جُعل على أرض المستنقعات لئلاّ تؤثِّر فيه الهزّات الأرضيَّة المتواترة في تلك المنطقة. وإذا أرادوا أن يتجنَّبوا تعرُّض الأساسات إلى انزلاقات أو ضياع التوازن، بسطوا سريرًا من الفحم وغطّوه بجزّات الصوف. طول الهيكل 425 قدمًا. عرضه 225 قدمًا. ضمَّ 127 عمودًا ترتفع 60 قدًما، بعد أن قدَّم كلُّ ملك عمودًا. كانت النقوش على 36 عمودًا، وقد نقش سكوباس أحد هذه العواميد. أمّا المهندس الرئيسيّ فهو: كارسيفرون. الخشب في الهيكل من شجر الأرز. وتمثال الآلاهة من الأبنوس، مع العلم أنَّ موقيانس قال: نُحت التمثال في جذع الكرمة. وهذا هو الصحيح«.

كانوا يرون في أرطاميس، شفيعة المنطقة كلِّها، فيأتون لعبادتها من كلِّ مكان. من الريف ينطلق التطواف على الطريق المقدَّسة من المعبد إلى باب مغنيزية، حيث يدخلون إلى المدينة. ويلتقي التطواف بالشبّان المجنَّدين والقضاة والحكّام. فتمتلئ الساحة، وتسير الجموع نحو المسرح الذي هو في قلب المعبد.

هذا العيد يتمُّ مرَّة كلَّ سنة. في نهاية شهر أيّار، يمسح الكهنة التمثال بالزيت المقدَّس ويزيِّنونه. ويتحرَّك التطواف عند بداية العتمة. في المقدِّمة، حاملو الصور التي تلمع على ضوء المشاعل. يرافقهم حرّاس المعبد والعاملون فيه. ثمَّ المغنّون والكهنة، وبعد ذلك يظهر تمثال الإلاهة المعبودة، والمنحوتة في جذع كرمة.

يُوضَع التمثال على عرش رفيع. ويتبارى الشعراء (اللاهوتيّون) لينشدوا الإسطورة. فالإلاهة هي بنت زوش، رئيس الآلهة، وليتو ابنة تيتان الجبّار. وُلدت في غابة أورتيجيا فوق أفسس، ولادة عجائبيَّة حين نجَّت الريح ليتو من ملاحقة التنّين السماويّ الذي أطلقته في إثرها الإلاهة هيرا في حسدها. هذه الإلاهة حمت دومًا المدينة والمنطقة، فأعطت الخصب والوفر. لهذا يطلق الشعب هتافه: »عظيمة أرطاميس الأفسسيّين«.

تلك هي الصيحة التي أطلقها الصاغة في أفسس. وقال رئيسهم ديمتريوس:

25 تعرفون أيُّها الإخوان، أنَّ رخاءنا يقوم على هذه الصناعة،

26 فأنتم رأيتم وسمعتم كيف أقنع هذا المدعوُّ بولس، وأغوى كثيرًا من الناس، هنا في أفسس وفي معظم أنحاء آسية قوله: إنَّ الآلهة التي تصنعها الأيدي ما هي آلهة.

27 وهذا خطر يؤدِّي إلى الاستهانة بصناعتنا، لا بل يعرِّض معبد الإلاهة أرطاميس للازدراء، ويهدِّد عظمتها بالانهيار، وهي التي يعبدها جميع الناس في آسية وفي العالم كلِّه«.

هو الخطر يهدِّد معبد أرطاميس قبل أن يسقط بقرنين من الزمن. وما هذا الإنسان الأعزل، الذي لا سلاح بيده، يقف بوجه المدينة كلِّها. ولو لم يمنعه التلاميذ كان واجه الجموع (آ30). فالعبادات الوثنيَّة عميقة الجذور في أفسس وفي غيرها من المدن، والناس اعتادوا عليها. فكيف نبدِّل لهم عاداتهم، ولا سيَّما إذا كان هذا المعبد الأفسسيّ بشكل خاصّ، مورد رزق للعديد من الناس.

وحصل هياج في المدينة أوقفه الحاكم (آ35)، ممّا دعا بولس إلى أن يودِّع التلاميذ ويمضي إلى مكدونية. هل كانت الأمور بأحسن حال؟ كلاّ. فيبدو أنَّ الرسول ناله الاضطهاد، فأشار في 1كو 15: 32 عن خطر إلقائه »أمام الوحوش في الحلبة«. »فإذا كنت صارعتُ الوحوش في أفسس، لغرض بشريّ، فما الفائدة لي؟« قال الرسول هذا الكلام بشكل عابر، وكأنَّه من الماضي، لكي يقدِّم إعلانه حول القيامة من بين الأموات، إلى كنيسة كورنتوس. وفي 2كو 1: 8-9، أورد الرسول خبرة ليست ببعيدة، عمّا قاساه في آسية بعاصمتها أفسس: »لا نريد أيُّها الإخوة أن تجهلوا الشدائد التي نزلت بنا في آسية، فكانت ثقيلة جدٌّا وفوق قدرتنا على الاحتمال حتّى يئسنا من الحياة. بل شعرنا أنَّه محكوم علينا بالموت«. وهكذا يكون بولس سُجن مرَّتين في أفسس، وفي إحدى المرَّتين كتب الرسالة إلى أهل قيلبّي، كما سبق وقلنا، وأفسس قريبة من فيلبّي إذ لا تستغرق الرحلة البحريَّة بين المدينتين أكثر من أسبوعين من الزمن.

تلك هي أفسس الوثنيَّة. فيها معبدٌ سحر الناس كما لم يسحرهم معبدٌ في العالم القديم. وفيها وُجدت أقدم النقود في العالم. وذلك في القرن السابع، قبل أن يُدمِّر القيمريّون المدينة سنة 640 ق.م. وأخيرًا كان المعبد، والخزنة التي فيه، مصرف الدولة بسبب المال الكثير الذي فيه، والتقدمات الرائعة الآتية من كلِّ أقطار المسكونة. وتذكرُ الحوليّات أحد الخيّالة الرومان، كايوس فيبيوس سالوتاريس، الذي قدَّم سنة 104 ب.م. مالاً كثيرًا ليوزَّع على موظَّفي المدينة والمعبد. كما قدَّم 29 تمثالاً لتُحمل في التطوافات. تمثال أرطاميس من ذهب. وسائر التماثيل من فضَّة ومنها تمثال الإمبراطور ترايان وزوجته بلوتينة. وهكذا اندمج معبد أرطاميس مع مدينة أفسس، بل مع الإمبراطوريَّة كلِّها.

4- الرسالة إلى أفسس

ذُكرت أفسس في سفر الأعمال. وأرسلت إليها رسالة نقرأها في سفر الرؤيا: »أكتب إلى ملاك كنيسة أفسس« (رؤ 2: 1). هي أولى الرسائل السبع التي أرسلت إلى الكنائس (رؤ 2-7) وأفسس أهمُّها. أمّا »الملاك« فهو أسقف المدينة. ولماذا لا يكون خلف تيموتاوس الذي ذكرته 1تم 1: 3؟

أمّا رسالة بولس إلى أهل أفسس، فتطرح أكثر من سؤال من الناحية العلميَّة. ولكنَّ قيمتها تبقى هي هي. وكذلك موقعها في قانون (لائحة) العهد الجديد.

أوَّل سؤال: هل أُرسلت هذه الرسالة إلى الأفسسيّين؟ في أفضل المخطوطات وأقدمها نقرأ 1: 1: »من بولس، رسول المسيح يسوع بمشيئة الله، إلى الإخوة القدّيسين، المؤمنين في المسيح يسوع«. هذا يعني أنَّ لا وجود لاسم »أفسس« كما في النصوص العاديَّة. ثمَّ في 1: 15 نقرأ: »لذلك، ما إن سمعت بإيمانكم بالربِّ يسوع وبمحبَّتكم لجميع الإخوة القدّيسين«. قال: »سمعت«؟ ومن أخبر بولس وهو الذي حمل الإنجيل إلى أفسس خلال ثلاث سنوات؟ وأخيرًا، يبدو أنَّ الجماعة التي تسلَّمت الرسالة، تألَّفت كلُّها من الوثنيّين. غير أنَّ سفر الأعمال ذكر »اليهود واليونانيّين« معًا.

وطُرحت فرضيّات. الأولى، أرسلت أف إلى كنيسة أخرى، مثل لاودكيَّة، وبعد ذلك وصلت إلى أفسس. والثانية: أُرسلت أف إلى عدَّة كنائس، فبدت بشكل رسالة دوّارة. فإن كان بولس عاش في أفسس، فالأمر يختلف بالنسبة إلى كولوسّي وهيرابوليس وغيرهما من المدن. الثالثة: قد لا يكون بولس كتب أف، بل تلميذ من تلاميذه، وبعد موته بسنوات عديدة. استوحى الرسالة إلى كولوسّي، وتوسَّع فيها، محاولاً الإجابة على ما يعترض كنائس آسية من مشاكل. لهذا، لا نجد في نهاية الرسالة سلامات إلى أشخاص يعرفهم الرسول، كما هو الأمر مثلاً في 1كو، روم، كو...

ماذا في هذه الرسالة؟

أوَّلاً، كلام عن السرّ، أي الإنجيل. نقرأ في 3: 4-6:

4 كيف كشف لي (يسوع) سرَّ تدبيره بوحيٍ كما كتبتُ لكم بإيجاز من قبل

5 وبإمكانكم إذا قرأتم أن تعرفوا كيف أفهم سرَّ المسيح، هذا السرّ الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية وكشفه الآن في الروح لرسله وأنبيائه القدّيسين،

6 وهو أنَّ غير اليهود هم في المسيح يسوع شركاء اليهود، في ميراث الله وأعضاء في جسد واحد، ولهم نصيب في الوعد الذي وعده الله بفضل الإنجيل.

أجل، أنتم أيُّها الوثنيّون، شركاء في الميراث. ذاك هو الجديد الجديد في أف. في الماضي، كنتم ظلمة (5: 8) فتحوَّلت حياتكم الاجتماعيَّة والعائليَّة تحوُّلاً جذريٌّا. فأنتم أعضاء في جسد المسيح الواحد. ليس هناك جسدان. وبالتالي لا تمييز بين يهوديّ ولا يهوديّ. ذاك ما سبق وقرأناه في كو 1:

21 وفيما مضى كنتم غرباء عن الله وأعداء له بأفكاركم وأعمالكم السيّئة،

22 وأمّا الآن، فصالحكم في جسد المسيح البشريّ.

ذاك هو السرُّ الذي كتمه الله طوال الدهور والأجيال، فكشفه الآن لقدّيسيه (آ23)

24 الذين أراد الله لهم أن يعرفوا كم أنَّ هذا السرَّ غنيٌّ ومجيد عند الوثنيّين.

ثانيًا: الكائنات السماويَّة. نقرأ في أف 1: 21-23 عن يسوع الذي هو:

21 فوق كلِّ رئاسة وسلطان وقوَّة وسيادة، وفوق كلِّ اسم يُسمّى، لا في الدهر فقط، بل في الدهر الآتي أيضًا.

22 وجعل (الله) كلَّ شيء تحت قدميه، ورفعه فوق كلِّ شيء رأسًا للكنيسة،

23 التي هي جسده وهو الذي يملأ كلَّ شيء في كلِّ شيء.

ما هو الوضع هنا؟ بما أنَّ الابن اتَّخذ جسدًا وصار إنسانًا مثلنا، صار أدنى من الكائنات السماويَّة، لأنَّ الفلسفة كانت تعتبر المادَّة وبالتالي الجسد، انحطاطًا إن لم يكن شرٌّا. فجاء جواب الرسالة: هؤلاء كلُّهم خاضعون له. »تحت قدميه«. فالكون، في السماوات وفي الأرض، مملوء من عمل الابن »الذي به« خُلق كلُّ »شيء« (كو 1: 17). إذًا، ما في السماء وما في الأرض »بالابن وللابن خُلق«.

وبما أنَّ هذه »الرئاسات« هي في السماء، والخلاص حلَّ على الأرض، فهم لا يحتاجون إلى عمل الابن من أجلهم. فالبشر وحدهم يخلصون. والجواب البولسيّ: »إذا كانوا خُلقوا بواسطة الابن، فبواسطة الابن يَخلصون. فهم في معيَّة الابن: »كلُّ ما في السماوات والأرض، ما يُرى وما لا يُرى«.

ثالثًا: مشروع الخلاص

في بداية المسيحيَّة، انتظر المؤمنون عودة الربِّ القريبة ليكونوا في موكبه الظافر. ولمّا مات بعضهم، ظنَّ الآخرون أنَّ الموتى لا يرافقون المسيح في مجيئه. فكان جواب الرسول: يقوم الموتى أوَّلاً وينضمُّ إليهم الأحياء ويكونون كلُّهم مع الربّ. وهذا في نهاية الأزمنة. فقالت الرسالة إلى رومة: يموت المؤمنون مع المسيح ويقومون مع المسيح: »فإذا كنّا اتَّحدنا به في موت يشبه موته، فكذلك نتَّحد به في قيامته« (روم 6: 5). أمّا أف ومعها كو فظهرتا وكأنَّ ما قيل في الإسكاتولوجيّا، في الآخرة، يتحقَّق الآن. مُتنا مع المسيح يوم مات. وقمنا مع المسيح يوم قام. فنحن منذ الآن نعيش القيامة، نعيش في السماء. ممّا يفرض علينا سلوكًا يناسب حالتنا الجديدة. نقرأ في أف 2

4 ولكنَّ الله بواسع رحمته وفائق محبَّته لنا،

5 أحيانا مع المسيح بعدما كنّا أمواتًا بزلاّتنا. فبنعمة الله نلتم الخلاص

6 وفي المسيح يسوع أقامنا معه وأجلسنا في السماوات.

الخاتمة

أفسس، المدينة المتجذِّرة في التاريخ، التي عرفت العزَّ والجاه خصوصًا في الحقبة الرومانيَّة، التي أمَّ الناسُ هيكلها الذي هو إحدى عجائب العالم السبع، هي اليوم مدينة مدمَّرة وما بقي لأرطاميس من أثر. فهي ما استطاعت أن تحمي مدينتها ولا معبدها. جاءها بولس الرسول فاحتلَّها لا بالسلاح البشريّ، بل بإنجيل المسيح. إليها حمل البشارة، بل إلى منطقة آسية كلِّها. ومنها أرسل الرسائل إلى كنائس كورنتوس وغلاطية وفيلبّي. ويقول التقليد إنَّ أفسس صارت مكان المدرسة البولسيَّة، وفيها تجمَّع التلاميذ وواصلوا عمل المعلِّم، ويبدو أنَّهم هم الذين جمعوا الرسائل في مجموعة على ما نعرف في 2بط 3: 16 (في جميع رسائله). وهكذا صارت أفسس خالدة لأنَّها مدينة بولس بامتياز، ومدينة يوحنّا الرسول حيث آثار موضع الشهداء منذ القرن الثاني المسيحيّ والبازيليك التي تعود إلى زمن قسطنطين. وفي النهاية، أفسس هي مدينة العذراء، فيقول التقليد إنَّ رقادها كان في تلك المدينة التي بنت أوَّل بازيليك لمريم العذراء في العالم. وبحسب رسالة كيرلُّس أسقف الإسكندريَّة (الرسالة 34)، انعقد المجمع المسكونيّ الثالث في تلك البازيليك وأعلن الآباء أنَّ مريم هي والدة الإله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM