الفصل 4: الشريعة وشريعة المسيح في غلاطية

الشريعة وشريعة المسيح في غلاطية

في قراءتنا للفصل الثالث من الرسالة إلى غلاطية اكتشفنا وظائف الشريعة والظروف التي فيها أعطيت لإسرائيل: بيد الملائكة. في هذا الإطار، ما هو وضع الجماعة المسيحيّة التي وُجدت في زمن محدَّد من التاريخ. أمّا النظرة اللاهوتيّة فثلاث نظرات: وحدة الجماعة، عطيّة الروح، إرسال الابن. تجاوز الرسول إطار غلاطية  الضيّق، وأضيق منه إطار الصراع بين قائلين بالختان ومعتبرين أنّ الختان لا يفيد شيئًا. أدخلنا في تاريخ الله الخلاصيّ حيث لا يهوديّ ولا أمميّ (من الأمم الوثنيّة. أو يونانيّ). لا عبدٌ ولا حرّ. لا رجل ولا امرأة. زالت الفوارق الخارجيّة، فاجتمع المؤمنون بعد أن وحّدهم الروح للقاء يسوع بالإيمان، لا بأعمال الشريعة مهما سما مقامُها.

من أجل هذا نقرأ 3: 23-4: 7. يتكوّن هذا المقطع من وحدتين: 3: 23-29؛ 4: 1-7. وتسير الوحدة بمحاذاة الأخرى. مثلاً، نقرأ في 3: 23: "قبل أن يجيء الإيمان، كنّا محبوسين بحراسة الشريعة إلى أن ينكشف الإيمان المنتظر". ونقابله مع 4: 3: "وهكذا كانت حالنا: فحين كنّا قاصرين، كنّا عبيدًا لقوى الكون الأوّليّة". ويمكن أن نقرأ 3: 24 (الشريعة مؤدِّب إلى أن يجيء المسيح، مع 4: 2 (يبقى القاصر في حكم الأوصياء). و3: 26 (أبناء الله بالإيمان) مع 4: 5 (نصير أبناء الله). و3: 29ج، (نسل إبراهيم، لكم الميراث) مع 4: 7ج: "أنت وارث بفضل الله".

لقد نالت الجماعة هويّتها بوساطة المسيح (آ 23-29)، بوساطة الابن (4: 1-7). ويستخرج بولس من كلامه نتائج محدّدة بالنسبة إلى الغلاطيّين. حسب 3: 23-28، يكوّن الغلاطيّون نسل إبراهيم لأنّهم "أبناء الله". هم يخصّون المسيح. ينتمون إليه. هم وارثون "بحسب الوعد". وتبيّن الوحدة الثانية (4: 1-7) بدقّة هذه النتائج: بما أنّ كلّ مسيحيّ هو ابن، فهو وارث وينال روحَ الابن (في 3: 14 ذُكر المسيح في عمله والروح القدس، وما رُبط بينهما). والتبدّل الذي تحقّق في ملء الأزمنة يعني الوثنيّين. لهذا، وسّع بولس في 4: 1-7 الجدال فأخذ مثلاً من العالم اليونانيّ (4: 1-2)، وذكر "عناصر العالم" (4: 3)، لا عناصر الشريعة. فالغلاطيّون وارثون بالنظر إلى الوعد، لا إلى الشريعة. إذًا، لا فائدة من التعلّق بالشريعة.

*  *  *

الطرح

هنا نقرأ الوحدة الأولى: 3: 23-29. وهي تتألّف من جزئين (آ 23-25 ثمّ آ 26-29) يستعملان ضميرين مختلفين: "نحن" في آ 23-25: كنّا (نحن) محبوسين... الشريعة كانت مؤدّبًا لنا. "أنتم" في آ 26-29: فأنتم كلّكم... لأنّكم تعمّدتم (أنتم). ما يحدّد الجزء الأوّل تضمين واحتواء، فيه نقول في النهاية ما سبق وقلناه في البداية: "قبل أن يجيء الإيمان" (آ 23، بستيس). ثمّ في آ 26: "فلمّا جاء الإيمان". الجزء الثاني (آ 26-29) الذي نقرأه في صيغة المتكلّم الجمع. يشدّد على الانتماء للمسيح (نحن نخصّ المسيح) وعلى الوحدة التي تنتج من هذا الانتماء. صيغة "نحن" تعود إلى مسيحيّين أتوا من العالم اليهوديّ، وصيغة "أنتم" تدلّ على أعضاء في جماعات غلاطية. وما يربط بين الاثنين حرف العطف "غار" (لأنّ، أو حرف الفاء، "فأنتم"). إنّ وحدة الكنيسة الغلاطيّة دليلٌ على حقيقة كلام بولس. والمسيحيّون الذين من أصل يهوديّ لم يعودوا خاضعين "لمؤدِّب" (آ 25). لمربٍّ. فمنذ الآن، جميع المسيحيّين هم "واحد في المسيح يسوع" (آ 28) بمعزل عن أصلهم.

تحدّث بولس عن اليهود الذين ينتظرون الإيمان على أنّهم "محبوسون بحراسة الشريعة". هم في سجن، وهذا السجن يؤمّن الحماية. فقد يُحفَظ الواحد، يُسجَن، فتتأمّن حياته، أو هنا، ينجو من الخطيئة. وهكذا تحميه الشريعة. إرتبطت آ 12 مع آ 22أ: "ولكنّ الكتاب (التوراة في معنى واسع) حبس الجميع تحت الخطيئة... ولكن قبل أن يأتي الإيمان حسبنا تحت الشريعة من أجل الإيمان الذي سنكشف". حرفيًّا: "محبوسين". هو عمل يتواصل ويسبق ما يقول الفعل: لأنّنا كنّا محبوسين تحت الخطيئة". هي قراءة متماسكة مع التفسير السببيّ للأداة "خارين" (من أجل) في آ 19. ساعة كانت الخطيئة مسيطرة، ما تخلّى الله عن شعبه، بل حفظه في حراسة الشريعة الموسويّة فحماه. وهكذا شكّلت الشريعة حاجزًا يسجن، يفصل، يحمي من الخطيئة. ولكن منذ الآن، مبدأ التحرير والوحدة لمسيحيّي غلاطية هو سماع الإيمان (3: 2، 5). ومن هناك يلد الروح الذي يوجّه الجماعة.

يرى عددٌ من الشرّاح، حين يقرأون 3: 24-25، ويقابلون الشريعة مع العبد الذي يقود الولد إلى المعلّم، في المدرسة، يرون أنّ بولس يشدّد على الطابع العابر لوظيفته: ليست أساسيّة، بل تزول. ولكنّ دور المربّي، وإن قام به عبدٌ، فلا يمكن إهماله. حسب التحليل اليونانيّ، المؤدّب هو الذي يبيّن الطريق (هودوس) للولد (بايس). ويعلّمه كيف يتصرّف. المؤدّب يحمي الولد المكلّف به، من كلّ الأخطار التي تواجهه.

جاءت استعارة المؤدّب من سفر العدد (11: 11-12): فقال موسى للربّ: لماذا أسأت إلى عبدك، ولماذا لم أجد حنّة في عينيك... حتّى تقول لي: إحمل هذا الشعب في حضنك كما يحمل المربّي الرضيع" في العبريّة، المربّي هو "أ م ن" هو المؤتمن. المكلّف. إذن، ليس الأساسيّ، وهو لا يدوم. ويُقابَل مع المرضع التي لا تحتفظ بالولد إلى النهاية، بل تعيده إلى أمّه. هذا ما يبيّن أيضًا أنّ عمل الشريعة محدود في الزمان. وجاء الترجوم فترك لفظ "أ م ن" وأخذ "ف د ا غ و ن ا" الذي صار في اليونانيّة بايرادوغس. أجل، لعبت الشريعة دورًا، دور المرضع حتّى العظام. دور المرافق حتّى البلوغ. ولكن انتهى دورها، ولا سيّما بقدر ما تفصل بني إسرائيل عن الأمم. كانت الوظيفة الأصليّة للشريعة أن تفصل إسرائيل عن الخطيئة، فإذا هي تفصلها عن الأمم. وإذ ارتبط الأمم بالمسيح، صار اليهود خارج رعيّة المسيح. ونشر إلى أنّ دور المربّي لم يكن دومًا سلبيًّا. هو يرافق، يهذّب طبع الإنسان، يكون معلّمه ومدرّسه.

لا شكّ في أنّ هناك أدبًا كثيرًا يحذّر من المربّي المحتال (بلوترخس، في تربية الأولاد، 4 ب) الذي يلجأ إلى القساوة. غير أن فيلون جعل من القضيب رمز التربية (في الخلق، 97). في الواقع، يُشارك المربّي في نهج تربويّ، فيهتمّ بالطفل منذ نعومة أظفاره (أفلاطون، بروتاغوراس 325 ج د). ويتكفّل بكلّ التربية الخلقيّة. لهذا، يختارونه بعناية كبيرة (بلوترخس 4ب). وقارب فيلون بين المربّي والأستاذ والوالدين والشيوخ والرؤساء والشرائع (فيلون، الهجرة 116). والأولاد الذين ينعمون بدروس المربّي أفضل من الذين يسلّمون إلى نزواتهم (فيلون، ما هو شرّ 145). فوجود المربّي يجنّب اقتراف الذنوب (فيلون، في التحوّل). وما يميّز البلداء هو أنّهم يتخلّصون من معلّميهم ومن مربّيهم (فيلون، الذبائح 51). لهذا ترافق مرارًا ذكرى المربّي العاطفة والإكرام (كانت نصب مع كتابة القبر إكرامًا للمربّي).

كان المربّي العبد (قد يكون أمير حرب اشتراه الضابط أو اقتناه) يقود الولد إلى معلّم المدرسة لكي يربّه، والشريعة قادت إسرائيل إلى المسيح لكي يتبرّر اليهود بالإيمان (3: 24). هي أعطيت بسبب المعاصي (آ 19)، وجعلت الإنسان يحسّ بالحاجة إلى طريق خلاص أخرى (3: 22). الشريعة لا تزول، ولا تُلغى، ولكنّ وظيفتها تبدّلت، لأنّ المسيحيّين تحرّروا من الشريعة التي تأمر بالأعمال وتطالب بها. لم يعد المؤمنون خاضعين للشريعة التي تطالب وتفرض. غير أنّ الشريعة تحافظ على موقعها مع مبدأ إلهام جديد، هو الروح، ويكون المسيحُ المثال (5: 14؛ 6: 2). فظهرت الشريعة الموسويّة مرّة أخرى خيرًا خاصًّا باليهود. أعطيت لحماية إسرائيل من الخطيئة، فما أصابت هذا الهدف. بل هي فصلت إسرائيل عن الأمم. أمّا وحدة كنائس غلاطية فتتحقّق في المسيح (آ 29).

*  *  *

الشرح (4: 1-7).

ظهر تحوّل في حياة الغلاطيّين في ملء الأزمنة. هم يخصّون المسيح. في 4: 1-7، بيّن بولس كيف يصبح المؤمن وارثًا (كليرونوموس، 3: 29؛ 4: 17)، وما الذي يحمله الميراث معه. استعان بمثل أخذه من الحقّ الهلّينيّ فبيّن التواصل والانقطاع بين فترتين: فترة فيها يكون الوارثُ بعدُ ولدًا. وفترة ينعم بخيرات يتضمّنها وعد الآب. منذ البداية أعطي لنا كلُّ شيء. ولكنّ التنعّم بالخيرات غير ممكن قبل أن يأتي الوقت الذي يحدّده الآب. حينئذ يتحوّل دور المربّي والوصيّ تحوّلاً تامًّا. فالولد العبد يقابل البائع الحرّ الذي امتلك الخيرات المعدّة له. بهذه الألفاظ التي نقرأ في آ 3-5، يلمّح بولس إلى سفر الخروج (رج روم 8: 14-15: الذين يقودهم روح الله).

كما أنّ إسرائيل تحرّر من العبوديّة، لكي يتقبّل الشريعة، عرف المسيحيّون التحرّر حين أرسل الابن. صاروا مثل إسرائيل (خر 4: 22) أبناء بالتبنّي. ووازى بولس بين الوصيّ وبين الوكيل اللذين يمارسان سلطتهما تجاه الوارث القاصر، وبين عناصر العالم. هما يحميان مصالح شخص أو يهتمّان بماله. في بداية الإمبراطوريّة كان الوصيّ (أبيتروبّوس) يهتمّ بمصالح الإمبراطور ولا سيّما بمداخيله، ثمّ يتّخذ لقب حاكم محافظة في الإمبراطوريّة. والوكيل (أويكونوموس) هو العبد الأوّل، هو يمارس وظيفة رسميّة في المدينة (روم 16: 23). ترى بعض النصوص في الوكلاء موظّفين في الملاك العام، نصوص ترى فيهم مسؤولين عن شعائر العبادة، ولا سيّما في عبادة سيرابيس وهرمس. هذا الإطار العباديّ له أهميّة في سياق تتقارب فيه "العناصر" مع العبادة (4: 8-10). والقاصر الذي يخضع للوصيّ وللوكيل، لا يقدر أن يعمل شيئًا من نفسه، ولكنّ أمواله محفوظة.

وأوضحت آ 3-5 المقابلة (وهكذا، أوتوس)، لا مع الشريعة، بل مع "عناصر العالم" التي تخلّص منها الغلاطيّون (استعمل بولس كلمات العبوديّة وربطها بعناصر العالم، 4: 1، 3، 7، 8، 9)، ولكنّهم يتوقون للعودة إليها (مثل العبرانيّين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى، وظلّوا يحنّون إليها). إنّ "ستويخايا" تعني عناصر خطّ، ثمّ حروف كلمة، وعناصر تكوّن الأجسام المادّيّة كما تكوّن الكون... ولا سيّما العناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب، والنار). ثمّ الأجسام السماويّة والكائنات الروحيّة التي ظنّوها تشرف على الكواكب والقوى الكونيّة.

فعبارة "عناصر الكون" تضمّ أيضًا الشريعة، لأنّ 4: 3 يتلاقى مع 3: 23، وآ 4-5 تهتمّان بالشريعة. ولكنّ الغلاطيّين لم يكونوا في الماضي خاضعين للشريعة، لهذا لجأ الرسول إلى عبارة تضمّ في حقيقة واحدة الشريعة وممارسات دينيّة استُعبد لها الغلاطيّون حتّى إعلان الإنجيل. وحين استعمل الرسول لفظًا واحدًا ليدلّ على الشريعة والممارسات الوثنيّة، بدا جريئًا جدًّا. فالضلالة الغلاطيّة تشرف على الخلط، لأنّ الغلاطيّين مالوا إلى إعطاء موقع جوهريّ للشريعة كينبوع تحرّر. وإذ ملكوا هكذا، انضمّوا إلى المتهوّدين الذين لا يفكّرون إلاّ بالشريعة.

وإذ تحدّث الرسول عن الابن ووضعه في عبارتين متوازيتين: مولود من امرأة. مولود تحت الناموس. والناموس المذكور هنا هو الناموس الموسويّ الذي يرتّب حياة إسرائيل ويمنحها أصالتها. ولكنّ لإرسال الابن هدفًا شاملاً: "يفتدي الذين تحت الناموس". ويُتيح لجميع المسيحيّين أن ينالوا التبنّي. جاءت العبارة لاشخصيّة. فكلّ أعضاء الجماعة المسيحيّة لم يكونوا تحت الناموس. ومن كان تحت الناموس حدّدته خاصّانيّة تكوِّن إسرائيل. وإذ يشير بولس إلى التبنّي، يلجأ إلى عبارة شخصيّة (نحن)، لأنّ كلّ أعضاء الجماعة المسيحيّة نعموا بهذا التبنّي (آ 6-7). وإرسال الابن لا يتجاهل وضع إسرائيل الأصيل، ولكنّه يجعل جميع المؤمنين على المستوى عينه.

وكما سبق بولس فتلاعب على الضمائر في 3: 26-29 و4: 6-7، ها هو يحدّق بنظره إلى وضع الغلاطيّين. فإرسال الروح لا ينفصل عن إرسال الابن. لهذا يقول الرسول إنّ الروح (بنفما) هو روح الابن. هذا الروح الذي أعطي حين سماع الإيمان، يقنع المؤمن بوضعه الجديد (آ 6ب). وهو يتجلّى في شكل صراخ بنويّ هو قوّة يقين باطنيّ، ويربط بولس بين البنوّة وعطيّة الروح. هو لا يذكر علاقة بينهما في ألفاظ زمنيّة (قليل، بعد)، بل في شكل علاقة منطقيّة. فالروح يحكّم فكرة علاقة بين الله والإنسان، علاقة يتحدّد موقعها في شكل قانونيّ محض، كما يمكن أن نفهم التبنّي. فالتبنّي يأخذ بعين الاعتبار الخلاص الذي حمله المسيح (آ 5) والتماهي مع ابن الله. أمّا الروح فيشدّد على الخبرة التي تحقّقت. منذ الآن، يستطيع الغلاطيّون أن يدعو الله "أبّا". وهذا الصراخ لا يُحفَظ لهم وحدهم. هو يخصّ كلّ مسيحيّ. كما تعني العبارة "في قلوبنا" فروح الابن يمسك بالإنسان كلّه. وإرسال الابن يحرّر من الشريعة المُكرهة ومن قوى تمارس سلطتها من الخارج، مثل الأوصياء والوكلاء. فالمسيح يحرّر "الذين تحت الناموس": هي عبارة تدلّ على خاصّانيّة وهي ينبوع لعنة. فالأبناء المتبنّون هم أعضاء الجماعة المسيحيّة، وبخاصّة الغلاطيّون إذا ثبتوا في خطّ ندائهم الأوّل.

*  *  *

من هو نسل إبراهيم الحقيقيّ؟ في 3: 1-5، وجّه بولس كلامه إلى الغلاطيّين أن يعلنوا موقفهم من ينبوع الروح في جماعتهم. في نهاية القسم الثاني من الرسالة، يسألهم أيضًا (4: 21): "قولوا لي، أنتم الذين يريدون أن يكونوا في حكم الشريعة، تحت الشريعة، خاضعين للشريعة: أما تسمعون الشريعة"؟

واستعاد الرسول فكره حول نسل إبراهيم الحقيقيّ الذي ينعم بالوعد والبركة. فاستند أيضًا إلى الكتاب المقدّس (4: 21-31) في استعارة (أليغوريا) هاجر (إسماعيل) وسارة (إسحق). هنا استعمل ألفاظًا تمثّل دورًا خاصًّا في 3: 1-4: 7: ورث، وارث (4: 30؛ رج 3: 29). ميراث (3: 18). الوعد (4: 23، 28؛ 3: 14، 16). الروح (4: 29؛ 3: 2، 3) الناموس (4: 21؛ 3: 2، 5). العهد والوصيّة (دياتيقي. 4:: 24؛ 3: 15، 17). وهناك ألفاظ عن البنوّة (التبنّي) الصادقة (الحقيقيّة) والبنوّة الكاذبة. ثمّ العبد، استُعبد.. العبوديّة التي تُبقي الإنسان ولدًا (بايويسكي، بايس). وهكذا يتداخل عالم العبوديّة في عالم الحرّيّة كما في عالم البنوّة.

إستعمل هذا المقطع (4: 21-31) لفظ "نوموس" في معنيّين اثنين وماهى واحدًا من هذين المعنين مع "الكتاب" (4: 21، 22، 30). ضغط خصوم بولس على الغلاطيّين، فبحثوا عن شريعة تفرض فرائض، تُلزم بممارسات خاصّة أعطيتْ لإسرائيل من أجل خلاصه، ولكنّها في الواقع قادته إلى الفشل. فأبرز الرسول من جهته الشريعة التي تكشف، التي هي كتاب مقدّس، ولا تزال حاضرة، فاعلة. فبالشريعة التي تكشف، مات بولس عن الشريعة التي تفرض (2: 19): بالشريعة التي توحى متّ عن الشريعة التي تفرض، انقلبت من الكتاب المقدّس لكي أستغني عن الشريعة الموسويّة. فالشريعة التي يجب أن نسمع، لأنّها تنير الغلاطيّين في قلب هويّاتهم، تتضمّن خير إبراهيم وابنيه الذين يتميّزان بأصليهما: "الواحد من الأمة، والآخر من الحرّة". "واحد وُلد بحسب البشر، وآخر بحسب الوعد".

أعاد بولس قراءة سفر التكوين (16: 15؛ 21: 2؛ 17: 16؛ 21: 9-10). فالتقى بما قاله في 3: 6 مع إيراد تك 15: 6 (آمن إبراهيم بالله) جاء التأويل البولسيّ هنا جريئًا جدًّا، لأنّه انطلق من نصوص ناموسيّة تلقّت من قبل، تفسيرًا في العالم اليهوديّ (آ 22). وها هو يقدّم قراءة أصيلة (رمز، أليغوريا، آ 24) مستندًا إلى أش 54: 1 (إفرحي، أيّتها العاقر التي لا ولد لها)، مقابلاً بين أورشليم وأورشليم. عارض تفسيرُ الرسول القراءة اليهوديّة. والاسمان المعطيان لا يقدَّمان أبدًا في توازٍ وتقابل. ورد اسم هاجر. وأغفل اسمُ سارة. مقابل هذا، ورد اسم إسحق، لا اسم إسماعيل. وتوسّع التأويل فماهى بين أولاد إبراهيم، أولاد المرأة الحرّة، ابن الوعد، الجماعة المسيحيّة، وارثة إبراهيم، المولودة بجسب الروح.

المرأتان ترمزان إلى عهدين مختلفين: عهد الحرّيّة وعهد العبوديّة. منذ بداية النسل، هناك نمطان من الولادة تدلاّن على حرّيّة الله. في آ 23، لجأ بولس إلى حرفَيْ جرّ مختلفين، لأنّ ابن المرأة الحرّة وُلد هو أيضًا بحسب (كاتا) البشر ولكن بالنظر إلى الوعد (ديا). ففي قلب الجماعة المسيحيّة، وُلد أشخاص بالنظر إلى الوعد، وآخرون حسب البشر وبالوعد. وربط بولس الوعد والروح ربطًا وثيقًا. في 4: 23، قابل بين وُلد "بحسب البشريّة (اللحم والدم) مع وُلد بالنظر إلى الوعد. وفي 4: 29 "وُلد بحسب البشر وولد "بحسب الروح". وتأمّل بولس في المرأتين على ضوء أش 54: 1، أتاح للرسول أن يرى في كلّ من الولدين رمزًا: من جهة، الجماعة المسيحيّة كأولاد الوعد (وهكذا ترك بولس اللفظ "ابن" هيوس، وأخذ "تكنون" ولد. فالبنات أبناء الوعد مع البنين). ومن جهة ثانية، المضطهِد الذي يرمز إلى المتهوّدين. ودعت الشريعة في معناها كتاب مقدّس، إلى طرد ذاك الذي يلجأ إلى الشريعة على أنّها فريضة، على مثال المرأة الحرّة التي دعت إبراهيم لكي يطرد ابن الأمة.

على مدّ هذا المقطع، استند بولس إلى يقينه فقدّم قراءة استعاريّة للناموس عرضها بشكل معنى احتياطيّ. وألحّ على الذين يريدون أن يكونوا تحت الشريعة الموسويّة ويُتمّوا أعمال الشريعة، أن يسمعوا ما تقول الشريعة كخبر وكلمة حيّة، قدّمت الشريعة (التوراة) مفاتيح للتعرّف إلى أولاد إبراهيم الحقيقيّين، إلى الجماعة المولودة بحسب الروح، بل هي تدعو إلى الفصل بين الذين وُلدوا بحسب الشريعة والذين وُلدوا بقوّة الوعد وبحسب الروح.

*  *  *

ونحتم كلامنا لثلاث مقالات حول الشريعة: الجماعة المسيحيّة، وظائف الشريعة. الشريعة (الموسويّة) وشريعة المسيح. كلام الرسالة إلى غلاطية متشعّب، مدقَّق. وهذا ما لا نكتشفه في قراءة أولى. ويبدو الناموس في وجوه عديدة. ولا يستطيع القارئ أن يقيّم أقوال بولس إلاّ في تنبّه إلى وجهة وإلى نصوص تتطرّق إلى الشريعة وإلى ما يوازيها، أي التوارة والكتاب المقدّس.

يسوع المسيح المصلوب موضوع أمام عيون الغلاطيّين، والإنسان مهما كان أصله، مبرَّر بالإيمان بيسوع المسيح. لهذا يُرذَل كلُّ ما يطرح شكًّا على هذا الينبوع الوحيد، ينبوع التبرير. فالإيمان بيسوع المسيح هو في أصل وحدة الجماعة. أمّا الشريعة الموسويّة فهي تفصل. إنتقل بولس من ضرورة "العمل" إلى العطاء الجذريّ. لا نستطيع بعدُ أن نحدِّد موقعنا في منظار شريعة تكون جوابًا للعهد. فالذي يُختَن يُفرَض عليه أن يمارس متطلّبات الشريعة كلّها. ففي إطار الشريعة، خطر اللعنة حاضر دائمًا لمن لا يمارس أعمال الشريعة كلّها. أمّا المسيح فقدّم طريقًا تختلف عن هذه كلَّ الاختلاف. وأقوال الرسول حول الشريعة ترتبط بهذه المقدّمات. ثمّ أراد بولس أن يُقنع أشخاصًا تقبّلوا بفرح يسوع المسيح المصلوب، ثمّ تطلّعوا إلى شريعة هي تكملة من أجل التبرير. أتُرى الخلاص الذي حمله المسيح ناقصًا لكي تضاف الشريعة؟

ميّز الرسول نمطين في "نوموس" (ت و را): الشريعة الموسويّة بفرائضها. والشريعة ككتاب مقدّس وبشرى ونبوءة. وانتقل الرسول من معنى إلى معنى. صارت الشريعة الموسويّة نسبيّة، لأنّها تعني إسرائيل في حياته الخاصّة. أعطيت له لكي تحميه من الخطيئة. حافظت عليه كالمربّي، في انتظار للمسيح. هي شريعة فصل ولا تتوجّه سوى إلى إسرائيل. هذا الوضع ألغي الآن ومن كان تحت الشريعة، كان تحت لعنة الشريعة الموسويّة بكلّ ثقلها. غير أنّ الشريعة الموسويّة كوصيّة تحافظ على قيمتها، وتطال كمالها في كلمة المحبّة (أغابّي) التي هي موهبة الروح.

فالشريعة التي يُنعشها الروح هي حقًّا شريعة المسيح. لا تفرضُ نفسها من الخارج، بل تأخذ المسيح مثالاً لها. ولا تطلبُ بعد أعمالاً مثل الختان وغيره، بل تتيح لعمل الروح أن يتخذ وجهًا بشريًّا. فالشريعة كتوراة أو كتاب مقدّس، تقدّم نفسها احتياط معانٍ لا ينضب. لم نعد هنا أمام الشريعة الموسويّة كوصيّة من الوصايا، بل أمام الشريعة (التوراة) التي هي خير هي شريعة العهد. أعطى بولس المعنى الحقيقيّ لهذه الشريعة، الذي يثبت وجهته بالصور والاستعارات التي لجأ إليها. وهذه الشريعة (ت ور ا) التي هي كتاب، تفرض فصلاً بين الجماعة المسيحيّة المولودة تحت حكم الروح ووارثة الوعد، وبين الذين استُعبدوا لأعمال فأرادوا أن يفرضوها على الجماعة كلّها[*].

 

 



[*] Jean-Pierre LEMONON, « Dans l’épitre aux Galates, Paul considère-t-il la loi mosaique comme bonne? » in La loi dans l’un et l’autre Testament (LD 168), Paris, Cerf, 243-270.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM