الفصل 11: يوحنا الذهبيّ الفمّ والعظة الأولى في 2 كورنتوس

يوحنا الذهبيّ الفمّ والعظة الأولى في 2 كورنتوس

وُلد الذهبيّ الفم في منتصف القرن الرابع، في أنطاكية، من عائلة مسيحيّة شريفة وغنيّة. تعلّم الخطابة على يد ليبانيوس أستاذ البلاغة، واللاهوت على يد ديودورس، أسقف طرسوس، مع تيودورس، اسقف المصيصة. رُسم شمّاسًا سنة 381 وكاهنًا سنة 386، بوضع يد الأسقف فلافيانس الذي سلّمه مهمّة الوعظ في الكنائس الرئيسيّة في أنطاكية.

ترك الذهبيّ الفم العظات الكثيرة حول أسفار العهد القديم والعهد الجديد. وكان لرسائل القدّيس بولس الحصّة الكبيرة. ونحن نشير هنا إلى أنّه ترك لنا 46 عظة حول الرسالة الأولى إلى كورنتوس، و36 عظة حول الرسالة الثانية، وهي تشكّل أفضل نموذج لفكره وتعليمه. في العظة 21 حول 1 كور (21: 6)، أعلن بوضوح أنّه في أنطاكية. وفي العظة 26: 5 حول 2 كور، يتحدّث عن القسطنطينيّة التي هي »هناك«. هذا يعني أنّ العظات حول 1 كور و2 كور قيلت في أنطاكية. نتذكّر أنّ الذهبيّ الفم وعظ ككاهن من سنة 386 إلى سنة 397، سنة مات نكتاريوس، بطريرك القسطنطينيّة، فاختير يوحنّا لكي يخلفه.

* * *

وها نحن نقدّم العظة الأولى. ونُسبقها بالنّص الكتابي (1: 1-4):

(1) من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة اللـه، ومن الأخ تيموتاوس إلى كنيسة اللـه في كورنتوس، وإلى جميع الاخوة القدّيسين في أخائية كلها. (2) عليكم النعمة والسلام من اللـه أبينا ومن الربّ يسوع المسيح. (3) تَبارَكَ اللـهُ أبو ربّنا يسوع المسيح، الآب الرحيم وإله كلّ عزاء، (4) فهو الذي يعزّينا في جميع شدائدنا لنقدر نحن بالعزاء الذي نلناه من اللـه أن نعزّي سوانا في كلّ شدّة.

* * *

سبب كتابة الرسالة

يهمّنا أن نبحث أوّلاً لماذا أضاف الرسول رسالة ثانية إلى الأولى، ولماذا بدأ هكذا فذكر مراحم اللـه والعزاء الذي يَهبه. إذن، لأيّ سبب جاءت هذه الرسالة الثانية؟ كان قد قال في الأولى: »ولكنّي سأجيء قريبًا، إن شاء الرّبّ، فأعرف لا ما يقوله هؤلاء المتكبّرون، بل ما يفعلونه« (1 كور 4: 19). وفي نهاية الرسالة، جدّد هذه الوعود بكلمات أكثر وداعة: »سأجيء إليكم بعد أن أمرّ بمكدونية، لأنّي سأمرّ بها مرورًا عابرًا. وربّما أقمتُ وقضيتُ الشتاء كلّه عندكم« (1 كور 16: 5). مرّ وقتٌ طويل دون أن ينتقل إليهم. كان الوقت المحدّد قد عبر، وامتدّ التأخير. أمّا السبب فلأن الروح ربطه بأمور أكثر أهمّيّة.

ذاك هو السبب الذي لأجله كتب رسالة ثانية. ما كان أحسّ بالضرورة إلى الكتابة لو استطاع أن يأتي في الوقت المحدّد. وهذا السبب ليس الوحيد، فقد كتب أيضًا لأن رسالته الأولى جعلتهم أفضل ممّا كانوا. فهذا الزاني الذي صفّقوا له فيما مضى، والذي كان أيضًا سبب كبريائهم، قد انتزعوه من الجماعة وطردوه طردًا تامٌّا. والرسول يشهد على ذلك بهذا الكلام: »فالذي كان سببًا للحزن، ما أحزنني أنا وحدي، بل أحزنكم كلّكم بعض الحزن، لئلاّ أبالغ« (2 كور 2: 5). أمّا المذنب فيكفيه أنّ الكثيرين وبّخوه. ويلمّح بولس الى الشيء عينه في ما يلي من خطابه، فيقول: »فانظروا كيف أدّى هذا الحزن الذي من اللـه إلى اهتمامكم بنا -بل اعتذاركم واستنكاركم وخوفكم وشوقكم وغيرتكم وعقابكم! وبرهنتم في كلّ شيء على أنّكم أبرياء من كلّ ما حدث« (2 كور 7: 11).

المال الذي طلبه منهم جُمع بسرعة مدهشة. لهذا، قال لهم فيما بعد: »لأنّي أعرف رغبتكم وأفتخر بها عند المكدونيّين، وأقول لهم إن إخوتنا في أخائية مستعدّون منذ العام الماضي« (2 كور 9: 2). أضف إلى ذلك أنّهم كانوا استقبلوا تيطس مُوفَدَه، أطيبَ استقبال. وهو يشهد لهم بذلك فيقول: »ويزداد قلبه محبّة لكم، كلّما تَذكَّرَ طاعتكم جميعًا وكيف قبلتموه بخوف ورعدة« (2 كور 7: 15).

كل هذه الأسباب دفعت بولس إلى أن يوجّه إليهم رسالة ثانية. بِما أنّه وبّخهم حين خطئوا، وجب عليه أن يشجّعهم ويمتدحهم حين أصلحوا نفوسهم. لهذا لَم تكن الرسالةُ كلّها في لهجة قاسية، بل جزء منها في النهاية. لقد وُجد في كورنتوس بعض اليهود المملوءون من نفوسهم، والذين اعتبروا بولس متكبّرًا مع أنّه إنسان لا قيمة له. قالوا: »رسائل بولس عنيفة، ولكنّه متى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا« (2 كور 10: 10). إليك معنى هذا النصّ: حين يكون حاضرًا يحكمون عليه بأنّه رجل تافه. ففهموا هذه الكلمات كما يلي: »هو شخص ضعيف« حين يكون بعيدًا يعتبر نفسه صاحب سلطة كبيرة. هذا ما يريدون أن يقولوه بهذه العبارة: »رسائله عنيفة«. ولكي يبيّنوا أنّهم كبار بأنفسهم، تظاهروا بأنّهم ما نالوا شيئًا منه. وقد لمّح بولس أيضًا إلى ذلك حين قال: »فيما يفاخرون به أنّهم يعملون مثلما نعمل« (2 كور 11: 12).

ثمّ، إذ كانت لهم الكلمة القويّة، عظّموا نفوسهم فوق مقياسهم. لهذا أعلن الرسول أنّه ليس ماهرًا في الكلام، وما أستحى أبدًا من مثل هذا الجهل. بل بيّن أن مهارته ليست بشيء أو هي شيء قليل. إذن، بدا من المعقول أن كثيرًا منهم أقنعوا نفوسهم أكثر مِمّا هم، فامتدح هو الخير الذي قد يكونون صنعوه، وما نسي أن يحطّ من عجرفة المتهوّدين الذين حاولوا أن يحافظوا على ممارسات الشريعة، بعد أن آمنوا، فلامهم في هذا الأمر بشدّة وحكمة. ذاك هو موضوع هذه الرسالة، وأنا أقوله بطريقة عابرة.

 

بداية الرسالة وذكر تيموتاوس

فيجب علينا الآن أن نعالج بدايتها، ونقول لأي سبب بدأ، بعد السلامات المعتادة، بمراحم اللـه. ولكن قبل كلّ شيء يجب أن نشرح الكلمات الأولى، ونقول لماذا ضُمّ اسم تيموتاوس إلى اسم الرسول: »من بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة اللـه، ومن الأخ تيموتاوس«. ففي القسم الأوّل، كان قد وعد بأن يرسله. وأضاف على وعده هذا الإرشاد: »وإذا جاءكم تيموتاوس، فاجعلوه مطمئنّ البال« (1 كور 16: 10). ولماذا أيضًا، لماذا جعل اسمه هنا في المقدّمة؟ لأن التلميذ جاء كما أعلن المعلّم: »أرسلتُ إليكم تيموتاوس وهو يذكّركم بسيرتي في المسيح« (1 كور 4: 17). فبعد أن رتّب كلّ شيء عاد إلى بولس الذي كان قد قال له حين أرسله: »سهّلوا له طريق العودة إليّ بسلام، لأنّي أنا والإخوة ننتظره« (1 كور 16: 11).

إذن، جاء تيموتاوس إلى معلّمه، وساعده في رسالته، في آسية خلال إقامة تذكرها هذه الكلمة: »وسأبقى هنا في أفسس إلى عيد يوم الخمسين« (1 كور 16: 8). وقد تبعه إلى مكدونية. لهذا، لن نعجب إن ذكره بولس هكذا في رسالته.

سبق له وكتب من مكدونية. ومن مكدونية هو يكتب الآن. إن كان جعله بجانبه، فلكي يزيد في إكرامه، ويمارس هو نفسه اتضّاعًا أكبر. كانت المسافة كبيرة بينهما. ولكن المحبّة تقرّب كلّ شيء. من هنا أنّه كان يقدّمه في كلّ مكان، على أنّه مساوٍ له. مثلاً حين قال: »خدمني خدمة الابن مع أبيه« (فل 2: 22). أو: »لأنّه مثلي يعمل للربّ« (1 كور 16: 10). وسمّاه هنا الأخ، وما أهملَ شيئًا لكي يجعله مقبولاً لدى الكورنثيين. وفي أي حال، كان التلميذ جاء إليهم، أكرّر، وأعطاهم البرهان عن فضيلته.

 

كنيسة اللـه في كورنتوس

»إلى كنيسة اللـه في كورنتوس«. ها هو يعطيهم مرّة أخرى لقب كنيسة، ليوحّدهم جميعًا، وليُقيمهم في الوحدة. فلا كنيسة واحدة إذا كان الأعضاء منقسمين وفي حالة من التعارض المتبادل. »وإلى جميع القدّيسين الذين في أخائية كلها«. في هذه المناسبة عينها أكرم الكورنثيين. وإذ سلّم على جميع المؤمنين في الرسالة الموجّهة إليهم، وحّد أيضًا الأمّة كلها. وحين دعاهم قدّيسين علّمهم أن الذي أخلاقه فاسدة يَستبعد نفسه من الكنيسة. ولماذا كتب، وهو يتوجّه إلى العاصمة، إلى الجميع بهذا الوسيط، خلافًا لعادته؟ فحين كتب إلى التسالونيكيّين، ما تكلّم إلى جميع سكان مكدونية. وما ضمّ أيضًا كلّ الذين من آسية في رسالته إلى الأفسسيين، ولا سكان سائر إيطالية في الرسالة إلى رومة. هو ما تصرّف كذلك إلاّ في هذه المناسبة، وحين كتب إلى الغلاطيّين.

ففي هذه الرسالة الأخيرة، ما تطلّع فقط إلى مدينة واحدة ولا مدينتين ولا ثلاث. بل تكلّم إلى جميع المؤمنين المنتشرين في هذه المنطقة. فاسمعوا: »من بولس الرسول لا من الناس ولا بدعوة من انسان، بل بدعوة من يسوع المسيح واللـه الآب الذي أقامه من بين الأموات، ومن جميع الإخوة الذين معي، إلى كنائس غلاطية. عليكم النعمة والسلام من اللـه أبينا ومن الرب يسوع المسيح« (غل 1: 1-3). ورسالته إلى العبرانيّين لا تحمل سوى هذه الإشارة العامّة، ولا تميّز المؤمن حسب كل مدينة. مرّة أخرى، ما هو السبب؟ المرض الذي يعالجه قد أفسد الأمّة. فوجب على الرسالة أن تتوجّه إلى الجميع، لكي يشارك الجميع في الدواء. أجل، جميع الغلاطيّين أصابهم المرض. شأنهم شأن جميع العبرانيّين. وأَفترض أن الأمر كان كذلك بالنسبة إلى الكورنثيين.

 

النعمة والسلام

ما إن جمع الأمّة كلّها وسلّم عليها كما اعتاد أن يسلّم على الجميع، تابع: »عليكم النعمة والسلام من اللـه أبينا ومن الربّ يسوع المسيح«. منذ البداية، لاحِظوا التوافق التام مع موضوع الرسالة: »تَبارَك اللـه أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو المراحم وإله كل تعزية«. ويسألونني: كيف نوفّق هذا مع الموضوع؟ بدون أيّة صعوبة: كانوا في الضيق والبلبلة، لأن الرسول لم يأتِ إليهم، رغم وعده، ولأنّه قضى وقتًا طويلاً في مكدونية فبدا وكأنّه يفضّلهم على الآخرين. إذ أراد أن يزيل هذه العواطف المؤلمة، عرَّفهم سبب تأخّره. ما تكلّم عنه بشكل مباشر، ولا قال: أعرف أنّي وعدتُكم. بل المضايق أعاقتني. فاغفروا لي، ولا تتّهموني بالاحتقار ولا بالإهمال. اتّخذ طريقًا تقود بشكل أفضل إلى الهدف، طريقًا سامية جدٌّا. وربط هذا الحدث بالتعزية بحيث لن يعودوا يسألونه عن العوائق التي قاساها. فعلَ مثل شخص وعد بأن يمضي إلى صديق يحبّه حبٌّا كبيرًا، وما استطاع أن يجيء إلاّ بعد أن عبر ألف خطر، فيهتف: المجد لك يا اللـه، لأنّك أريتني هذا الرأس العزيز. فمن مجّد اللـه بهذه الطريقة برّر نفسه بشكل رفيع وأبعد كلَّ اتّهام: لن يجرؤ أن يلومك على تأخّرك. بل يخجلون إن جادلوا واتّهموا بالتأخّر مثل هذا الرجل الذي يرفع الشكر إلى اللـه الذي حماه حماية خاصّة.

لهذا كان هتاف بولس الأوّل هذا: »تبارك إله المراحم«. أفهَمَنا بهذا، الأخطار، التي نجا منها. ولهذا السبب عينه، ما أعطى داود للـه الاسم عينه في كلّ زمان وفي كلّ مكان. فإن كان قتال وانتصار، هو يهتف: »أحبّك، يا ربّ، يا قوتي وعضدي« (مز 18: 2-3). »الرب نوري وخلاصي« (مز 27: 1). إنّه يستقي عباراته حين يفكّر تارةً في حبّ اللـه للبشر، وطَورًا في برّه أو دينونته الخالدة، حسب الظروف التي يكون فيها. وخضع الرسول للآلام عينها، فتأمّل قبل كلّ شيء في حب اللـه وبارك »إله المراحم« الذي جاء يحميه بمثل هذا الحنان، ويعيده من قلب أبواب الموت.

 

اللـه يرحم ويعزّي

ذاك هو ما يخصّ الألوهة. تلك هي السمة التي تميّز طبيعته، وهي أنّه يرحم. اللـه هو قبل كلّ شيء إله المراحم. وتأمّلوا أيضًا، في هذا الموضع، تواضع بولس. مع أنّه قدّم ذاته للكرازة الإنجيلية، إلاّ أنّه ينسب خلاصه إلى رحمة اللـه، لا إلى استحقاقه الخاص. سيقول ذلك بوضوح أكثر في ما يلي من خطابه. أمّا الآن فيُضيف: »هو الذي عزّانا في كلّ شدائدنا«. إنّه لا يعفينا من الألَم، بل يخفّف ثقل الألَم: هكذا تتجلّى قدرةُ اللـه، وينمو صبر من هو ضحيّة. قال الرسول: »الشدّة تلد الصبر« (روم 5: 3). كان النبيّ قد قال هذه الفكرة: »وسّعت لقلبي في الضيق« (مز 4: 2) ما قال: حفظتني من الضيق. ولا قال: نجّيتني في الحال. بل قال: حين تركت الضيق »وسّعت قلبي«. أعطيتني أن أتنفّس الصعداء وأن أتذوّق الراحة. هذا ما أحسّ به الفتية العبرانيّون الثلاثة. ما مَنَعَهم اللـه من السقوط في الأتون، ولا أطفأ النار حين رُموا فيها. بل في قلب اللهيب وسّع لهم هذا الوسع العجيب. وهو يفعل هكذا دائمًا. ويشير إليه بولس حين يقول: »هو الذي يعزّينا في كلّ شدائدنا«. وبهذا، هو يعلّمنا بعدُ شيئًا آخر. فما هو؟ اللـه لا يعزّي فقط مرّة أو مرّتين، بل بشكل مستمرّ. هو لا يعزّي الآن ليترك فيما بعد. فعمله فينا لا يتبدّل أبدًا. قال بولس: »يعزّينا«. وكان قد عزّانا »في جميع شدائدنا«، لا في هذه فقط أو تلك، »لنقدر نحن بالعزاء الذي نلناه من اللـه أن نعزّي سوانا في كلّ شدّة«. انظروا كيف يدمِّر مسبقًا كلّ اعتذار، ويجعل السامع يشعر بالمحن الكبرى. وهكذا يعطي مثال التواضع، لأن هذه التعزية هي فعل رحمة لا مجازاة استحقّها. وأنّها ستفيد فيما بعد لكي تخفّف عن شدائد أخرى. حين يعزّينا اللـه، يوجب علينا أن نعزّي اخوتنا.

ومن هذا أيضًا تنتج كرامةُ الرسل. فإن كان قد تعزّى واستعاد هدوءه، فليس لكي يبقى في التكاسل كما نفعل نحن. بل لكي يمضي ويوقظ ويسند الآخرين ويعيد إليهم الحياة. هناك أيضًا من يرى في هذا النصّ أن تعزيتنا نحن هي تعزية القريب. بل أذهبُ أبعد، وهذه المقدّمة تصيب الرسل الكذبة الذين افتخروا بدون سبب، وغرقوا في الكسل والملذّات. ولكن هذا لا يُشار إليه إلاّ بشكل خفيّ وبطريقة عابرة. فما جعله بولس، قبل كلّ شيء، نصب عينيه، هو أن يبرّر تأخّره. بدا وكأنّه يقول: إن كنّا تعزّينا فلكي نعزّي الآخرين. لا تلومونا لأنّنا لَم نكن بينكم. قضينا كلّ وقتنا وسط الهجومات والفخاخ. ندافع عن نفوسنا في المخاطر... »فكما أن لنا نصيبًا وافرًا من آلام المسيح، فكذلك لنا بالمسيح نصيب وافر من العزاء« (2 كور 1: 5). ما أراد أن يُحبط التلاميذ فيُبرز الشدائد. لهذا عاد إلى كثرة العزاء وهكذا أعاد إليهم عزيمتهم. وما اكتفى بهذا، بل ذكّرهم بالمسيح وأكّد لهم أن الآلام المحتملة هي آلامه: وهكذا يعزّيهم في الشدائد عينها، قبل أن يتعزّى. هل من عذوبة أعظم من مشاركة المسيح واحتمال مثل هذه الشدائد من أجله؟ ما الذي يقابل مثلَ هذه التعزية؟

وما اكتفى بهذه الوسيلة، بل أخذَ واحدةً أخرى ليهدّئ القلوب التي ضربتها العاصفة. وما هي؟ هي الوفرة التي يتحدّث عنها الرسول. هو لا يقول: كما أن آلام المسيح سقطت علينا. كلا. بل يقول: »... كثرت فينا«. هذا يعني، على ما يبدو، أنّهم لا يرضون بأن يشاركوه في آلامه، بل تكون لهم آلام أكبر يحتملونها. نحن نتألّم من تألّمه هو. مع إهانات أيضًا: المسيح اضطُهد، جُلد، قُتل. ونحن تحمّلنا أكثر من ذلك. وهذا يكفي من أجل عزائنا. مثل هذه اللغة متهوّرة. وقد قال بولس في موضع آخر: »وأنا الآن أفرح بالآلام التي أعانيها لأجلكم، فأُكمل في جسدي ما نقص من آلام المسيح« (1 كو 1: 24).

يجب أن لا تروا، هنا ولا هناك، علامة تعجرف. فكما أن التلاميذ يُ يُجرون آياتٍ أعظم من آيات يسوع، حسب هذه الكلمة: »من يؤمن بي عمل أعظم من الأعمال التي أعملها« (يو 14: 12)، مع أنّ كلّ شيء يعود إلى الذي يعمل فيهم، كذلك احتملوا عذابات أكثر. ولكن هنا أيضًا، كلّ شيء يعود إلى ذاك الذي عزّاهم وشجّعهم لكي يحتملوا كلّ هذه الشّدائد معًا.

ولهذا، فهم بولس ما قاله من كلام سامٍ، فأضاف ليخفّفه: »وبالمسيح تكثر التعزية فينا«. حين أعاد إليه كلّ كرامة، أعلن مرّة أخرى حبَّ المسيح للبشر. فالعزاء لا يُقاس فقط بالعذاب، بل هو يتفوّق عليه. هو لا يُقيم مساواة، بل يعلن وفرة التعزية، بحيث إن زمن القتال هو، في جزء منه، زمن الإكليل. أسألكم: أي شيء أجمل من أن نُجلَد من أجل المسيح، أن نتحدّث مع اللـه، أن نظهر أقوى من العالَم كلّه، أن نتغلّب على الاضطهادات، أن لا تقهرنا جميعُ قوى الأرض، أن ننتظر الآن الخيرات التي لَم ترها عين ولَم تسمع بها أذن، ولا خطرت على قلب إنسان؟ أيّ شيء أجمل من أن نتألّم من أجل الإيمان، أن ننال ألف تعزية من عند اللـه، أن نتنقّى من الخطايا الكثيرة، أن نمتلك الروح فينا، والقداسة والبرّ، أن لا نرهب شيئًا، أن ندوس بأرجلنا كلَّ خوف، أن نشعّ ببهاء لا يوصف وسط المخاطر؟ إذن، لا نترك شدائد الحياة تحطّمنا. ما من أحد يشارك المسيح، وهو يرمي بنفسه في الملذّات والكسل والنعاس، أو يعيش في التراخي والانفلات. وحده يتّحد به من يتحمّل العذابات والمحن، ويسير في الطريق الضيقة. فهو مشى فيها وكان الأوّل. لهذا قال: »ليس لابن الإنسان موضع يُسند إليه رأسه« (مت 7: 20)...

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM