وقفة الاستعداد للصلاة

وقفة الاستعداد للصلاة

بعد ذلك[2] لا يبدو لي نافلاً أن ننهي ما يتعلّق بالصلاة، فنتحدّث مع بعض توسّع عن وقفة واستعدادات ضروريّة للصلاة، عن الموضع الذي فيه نصلّي، عن الاتّجاه الذي إليه نتوجّه، إذا لم يكن هناك عائق، عن الزمن المؤاتي للصلاة، وعن كلّ ما يُشبه هذا من أمور.

ما هو من الاستعدادات، يتعلّق بالنفس. ما هو من الوقفة، يتعلّق بالجسد. قال بولس، كما سبق وأوردنا، مصوّرًا استعداداتنا، أنّه يجب أن نصلّي بدون غضب ولا خصام (1 تم 2: 8). والموقف: نرفع أيادي مقدّسة. هذا ما أُخذ من المزامير كما يبدو لي: "رفع يديّ ذبيحة مساء" (مز 141: 2). وفي ما يخصّ المكان: "أريد أن يصلّي الرجال في كلّ مكان" (1 تم 2: 8). وفي ما يخصّ الاتّجاه، نقرأ حكمة سليمان: "فعلم أنّه يجب أن نستفيق قبل طلوع الشمس لنشكرك ونصلّي إليك عند الفجر" (حك 16: 28).

من جاء إلى الصلاة فاستعدّ وتهيّأ بعض الشيء، يكون أكثر سرعة وانتباهًا لمجمل الصلاة. وإن طرد كلَّ تجربة وكلَّ بلبلة في عقله. وإن تذكّر بحسب قواه، عظمة ذاك الذي يقترب منه. وإن فهم الشرّ بأن يقترب منه دون تنبّه ودون مجهود وببعض الاحتقار. إن رذل جميع الأفكار الغريبة وجاء هكذا إلى الصلاة، وهو يرفع نفسه قبل أن يرفع يديه، وينطلق روحه إلى الله قبل عينيه. يرفع عن الأرض ذهنه قبل أن ينتصب واقفًا. فيقدّمه أمام ربّ الكون. إن ترك جانبًا كلّ التذكّرات الشرّيرة الآتية من الذين ظلموه، بقدر ما يريد هو من الله أن ينسى الشرّ الذي صنعه تجاهه وتجاه عدد من القريبين منه، وجميعَ الذنوب الذي وعى أنّه صنعها ضدّ العقل المستقيم.

هناك استعدادات عديدة على مستوى الجسد، هذا ما لا شكّ فيه: رفع الأيدي وارتفاع العيون فوق كلّ شيء، لأنّ الجسم يحمل إلى الصلاة صورة الصفات التي تليق بالنفس. ومع ذلك نقول إنّ هذا يكون إن لم يمنع ظرفٌ ما. حسب الظروف، نقدر بعض المرّات أن نصلّي بشكل لائق، ونحن جالسون، بسبب مرض القدمين الواجب معالجته، أو ونحن نائمون بسبب الحمّى أو ضعف مشابه. وحين نبحر، وحين لا تتيح لنا أشغالنا أن نعتزل لنتفرّغ للصلاة، نستطيع أن نصلّي دون ظهور.

ونحني الركبتين حين نقرّ لله بخطايانا ونطلب الشفاء منها والغفران، هذه الوقفة هي رمز للإنسان المتواضع، الخاضع، كما يقول بولس: "لهذا أحني ركبتيّ أمام الآب، فمنه كلّ أبوّة في السماء والأرض" (أف 3: 14-15). فالركعة الروحيّة تُدعى كذلك لأنّ جميع الخلائق تخضع لله، باسم يسوع، وتتّضع أمامه. هذا ما يدلّ عليه الرسول حين يقول: "لتسجد لأمر يسوع كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض وفي الأسافل" (فل 2: 10).

نحن لا نفكّر أنّ الكائنات السماويّة لها أجسام مرتّبة بهذا الترتيب وتمتلك ركبًا جسديّة. فقد تبيّن لدى الدارسين، أنّهم يمتلكون أجسامًا دائريّة (مثل الكواكب). فمن لا يقبل بهذا الطرح، وجب عليه القول بأنّ كلّ عضو له فائدته، بحيث ما صُنع شيء بدون فائدة. هذا إذا لم يقاوم العقل بوقاحة. ويصطدم بصعوبتين اثنتين: إمّا يقول: أعطى الله أعضاء الجسم، بدون فائدة، للكائنات السماويّة، لا لتقوم بوظيفتها الخاصّة. إمّا يقول: تتمّ الأعضاء المعدّة وظيفتها الخاصّة حتّى لدى الكائنات السماويّة. حينئذٍ نبلغ إلى جهالة كبيرة، إن نحن فكّرنا بأنّ هذه الكائنات السماويّة تشبه الأصنام، ولا يكون لها شكل بشريّ إلاّ على السطح، لا في العمق. هذا ما قبل بالنسبة إلى الركعة وإلى كلام الرسول: "لكي تجثو لاسم يسوع كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض وفي الأسافل". وما كُتب في التبنّي يشبه هذا: "أمامي تنحني كلُّ ركبة" (أش 45: 23).

مكان الصلاة

بالنسبة إلى المكان. ينبغي أن نعرف أنّ كلّ مكان يليق بالصلاة لمن يصلّي حسنًا: قال الربّ: "قدّموا لي البخور في كلّ مكان" (ملا 1: 11). وأيضًا: "أريد أن يصلّي الرجال في كلّ مكان" (1 تم 2: 8). كلّ واحد يستطيع أن يمتلك مكانًا محدّدًا ومختارًا في بيته، ليقوم بصلاته في الهدوء، بعيدًا عن القلق. هذا إذا كان البيت واسعًا: مكان جليل للصلاة.

في البحث عن هذا المكان نتساءل: هل المكان الذي نصلّي فيه صُنع شيء يتعارض مع الشريعة أو العقل المستقيم. فلا نهتمّ فقط بنفوسنا، بل بالمكان الذي نصلّي فيه، بحيث لا يتجنّب الله أن ينظر إليه. وحين أتفحّص ما يجب أن أفعله في هذا المكان، لي رأي متعب وإن لم يكن محتقَرًا، إذا فكّرنا فيه برويّة، أن نعرف إن كان التوجّه إلى الله مقدّسًا وطاهرًا، في غرفة يتمّ فيها عمل اللحم، لا العمل المحرّم بل ذاك الذي يسمح به الرسول، شفقة لا أمرًا. إذا كنّا نستطيع أن نتفرّغ للصلاة كما ينبغي، في اتّفاق متبادل ولزمن محدّد (1 كور 7: 2-6)، يجب أن نتفحّص المكان اللائق لهذا العمل.

موضع الصلاة يكون مستحبًّا ومفيدًا. يستطيع المؤمنون أن يجتمعوا فيه، وتشارك قوّات الملائكة جماعات المؤمنين. وتأتي قدرة ربِّنا ومخلّصنا بالذات. وتجتمع أرواح القدّيسين وأرواح الموتى الذين سبقونا، كما تجتمع أرواح القدّيسين الذين ما زالوا على قيد الحياة، وهذا دون أن يسهل علينا أن نقول كيف يكون ذلك.

وهذا ما يجب أن نقول عن الملائكة: "طاف ملاكُ الربّ حول متّقي الله ونجّاهم" (مز 34: 8). إن كان يعقوب يقول الحقيقة في ما يخصّه، وفي جميع المكرّسين لله حين يتكلّم عن "الملاك الذي نجّاني من كلّ الشرور" (تك 48: 16)، فهذا يكون بلا شكّ حين يجتمع العديدون اجتماعًا شرعيًّا لمجد المسيح، فيطوف ملاكُ كلِّ واحد منهم حول الذين يخافون الله. ويكون مع الإنسان الذي أوكل بحراسته وقيادته.

حين يلتئم القدّيسون، هناك كنيستان: كنيسة البشر وكنيسة الملائكة. وإن قال رفائيل عن طوبيت إنّه قدّم صلاته ذكرانة (طو 12: 12)، ثمّ صلاة سارة التي صارت فيما بعد كنّته بزواجها مع طوبيّا، فماذا نقول حين يجتمع الكثيرون في الروح الواحد والفكر الواحد ويشكّلون جسمًا في المسيح؟ وحول قدرة الربّ الحاضرة مع الكنيسة، يقول بولس: "اجتمعنا أنتم وروحي بقدرة الربّ يسوع" (1 كور 5: 4). وكأنّ قدرة الربّ ليست فقط مع الأفسسيّين، بل أيضًا مع الكورنثيّين. وإنّ ظنّ بولس وهو يرتدي الجسد، أنّه رُفع بروحه إلى كورنتوس، فيجب أن لا نيأس: فالمطوّبون الذين خرجوا من أجسادهم يأتون في الروح، وربّما قبل ذاك الذي هو في جسده، في وسط الكنائس. لهذا، يجب أن لا نستخفّ بالصلوات التي تقام في هذه الكنائس، لأنّها تحمل سموًّا لمن يشارك فيها باستقامة.

فمثل قدرة يسوع، روحُ بولس وأمثاله، فالملائكة الذين يحيطون بكلّ واحد من القدّيسين، يلتئمون ويجتمعون مع الذين يلتئمون بشكل شرعيّ. لهذا نحذر من أن يكون إنسان غير أهل لملاك قدّيس، فيستسلم لملاك شيطانيّ بذنوب يقترفها وبظلامات يحتقر بها الله. فمثل هذا الإنسان الذي لا يشبهه العديدون، لا يُفلت طويلاً من عناية الملائكة الذين يعرفون الجماعة بذنوب هذا الإنسان، لخدمة المشيئة الإلهيّة التي تحرس الكنيسة. وإن كثر عددُ هؤلاء الناس، فالتأموا مثل شركات بشريّة لتعمل في الأشغال الجسديّة، لا يعود الربّ يسهر عليهم. هذا ما يبنيه أشعيا حيث يتكلّم الربّ: "حتّى إذا أتيتم لكي أراكم" (أش 1: 12). لأن أميل بعينيّ عنكم، وإن أكثرتم الطلبات. لا أستجيب لكم" (آ 15). وبدلاً من هاتين الجماعتين، جماعة البشر القدّيسين وجماعة الملائكة المطوّبين، يكون اجتماعان اثنان: اجتماع البشر الكفّار واجتماع الملائكة الأشرار. فيستطيع أن يقول الملائكة القدّيسون والناس الفضلاء عن هذه الجماعة: "ما جلست مع جماعة الباطل، ولا دخلتُ مع الجائرين. أبغضت جماعة الأشرار، وما جلستُ مع الكفّار" (مز 26: 405).

لهذا أظن أنّ الذين أكثروا الخطايا في أورشليم وفي اليهوديّة كلّها، أخضعهم أعداؤهم. فالشعوب الذين تركوا الشريعة تركهم الله والملائكة الحارسون والناس القدّيسون الذين كانوا قد خلّصوهم. وهكذا سقطت مجموعات كاملة في التجارب، بحيث انتزع منهم ما بدا وكأنّه لهم (لو 8: 18). فشابهوا التينة الملعونة واليابسة من جذورها لأنّها لم تعطِ ثمرًا ليسوع الجائع (مر 11: 20). يبسوا وتعرّوا من بعض القوّة المحيية بحسب الإيمان الذي كان لهم بعدُ. بدا لي من الضروريّ أن أقول هذا، فتحدّثت عن مكان الصلاة، وبيّنتُ أن أفضل مكان للصلاة كان ذاك الذي فيه يجتمع القدّيسون في الكنيسة.

اتّجاه المصلّي

أمّا الاتّجاه الذي فيه ننظر للصلاة، فلن أقول عنه الشيء الكثير، فناك أربع جهات أصليّة: الشمال، الجنوب، الغرب، الشرق. من لا يعرف حالاً أنّ الشرق يدلّ بلا شكّ أنّ علينا أن نصلّي ونحن ننظر إلى هذه الجهة. هذا هو رمز النفس التي تنظر إلى شروق النور الحقيقيّ؟ فإن فضّل إنسان أن يصلّي وهو ينظر إلى فتحة مسكنه، مهما كان اتّجاه أبوابه، فيقول إن رؤية السماء تحمل في ذاتها ما يحرّك الصلاة، أكثر من الأسوار، هذا إذا كان البيت لا ينفتح على الشرق، مثل هذا نجيبه: هي أعراف توجّه مساكن البشر بهذا الشكل أو ذاك. وبحسب الطبيعة، الشرق يتغلّب على سائر الأعراف. وإلاّ، فلماذا يصلّي ذاك الذي يصلّي في حقل، نحو الشرق لا نحو الغرب؟ فإذا توافقنا مع العقل، نفضّل الشرق. فلماذا لا نفعل هكذا في كلّ مكان؟ هذا يكفي حول اتّجاه الصلاة.

أقسام الصلاة

يبدو لي أنّ عليّ أن أنهي هذا الكتاب فأعالج أيضًا أقسام الصلاة. أرى أنّ هناك أربعة أقسام للصلاة، وجدتُها في الكتب المقدّسة. ونستطيع أن نصنع صلاة كاملة في كلّ قسم من هذه الأقسام. إليك هذه الأقسام:

في البداية فاتحة الصلاة، ينبغي أن نمجّد الله، بحسب قوانا، في المسيح الذي يمجَّد معه، في الروح القدس الذي يُمدَح معه. بعد هذا، يرفع كلّ واحد شكرًا عن الحسنات التي ترتبط بالجميع، والتي نالها من الله بشكل خاصّ. وبعد فعل الشكر، نقرّ بخطايانا ونطلب من الله أوّلاً الشفاء الذي يشفينا من العادة التي تدفعنا إلى الخطيئة. ثمّ نطلب غفران الخطايا السالفة. بعد الاعتراف، تكون النقطة الرابعة برأيي: طلب الخيرات العظيمة والسماويّة، الخاصّة والشاملة، من أجل الوالدين والأصدقاء. وأخيرًا، تنتهي الصلاة بتمجيد الله بالمسيح في الروح القدس.

هذه النقاط، كما قلنا، نجدها مذكورة في الكتب المقدّسة. فالتمجيد نقرأه في هذه الكلمات من مز 104: "أيّها الربّ إلهي، ما أعظمك! ارتديتَ البهاء والجلال، وتغطّيتَ بالنور كثوب، ومددت السماء كمعطف. يملأ بالمياه علاليه يجعل السحب عرشه، يمشي على أجنحة الرياح. من الريح جعل رسله ومن لهيب النار خدّامه. ثبَّتَ الأرض في أسسها فلا تتزعزع في دهور الأدهار. التحفت بالغمر كرداء، فتوقّفت المياه على الجبال وهربت من انتهارك، وخافت من صوت رعدك" (آ 1-7).

أكبر قسم من هذا المزمور يتضمّن تمجيدًا للآب. كلّ واحد يستطيع أن يورد عددًا من الأسئلة ويقول كيف أنّ الكتاب المقدّس يتوسّع في المجدلات.

ومن فعل الشكر، نورد هذا المثل الذي نأخذه من 2 صم 7: 18-22. بعد المواعيد التي حملها ناتان إلى داود، تكلّم داود وهو مندهش من عطايا الله، فرفع إليه الشكر بهذه الطريقة: "من أنا، أيّها الربّ ربّي، وما هو بيتي لكي تحبنّي إلى هذا الحدّ؟ أنا صغير أمامك يا ربّ، وتكلّمت عن بيت عبدك إلى زمن طويل. ذاك هو ناموس الإنسان، أيّها الربّ ربّي. وماذا يضيف داود حين يكلّمك؟ فأنت الآن تعرف عبدك، يا ربّ. وصنعت لعبدك، عملتَ بحسب قلبك كلّ هذه العظمة التي هي عظمتك، لتعرّفها لعبدك فتتعظّم، أيّها الربّ إلهي".

ومثل عن الاعتراف بالخطايا: "نجّني يا ربّ من معاصيّ" (مز 39: 9). وفي مكان آخر: "جراحي نتنٌ وفسادٌ أمام جهلي. كنت بائسًا فانحنيتُ إلى الأرض حتّى النهاية. النهار كلّه أمشي في الحداد" (مز 38: 6-7).

ومثل عن الطلب في مز 28: 3: لا تسلّمني مع الخطأة، ولا تهلكني مع الذين يقترفون الجور". وعدد من النصوص المشابهة.

ويحسن بنا، بعد أن بدأنا الصلاة بالمجدلة، أن ننهيها بالمجدلة. فنشكر ونمجّد أبا الكون بيسوع المسيح في الروح القدس "له المجد في الدهور" (روم 16: 27).

خاتمة

بحسب قواي، يا أمبروسيوس أخي الغيور والحبيب في التقوى، ويا أختي تاتيانا درستُ مسألة الصلاة أو الصلاة التي تتضمّنها الأناجيل، ولا سيّما ما قيل في متّى. إن انبسطتما دومًا إلى الأمام، ونسيتما ما هو إلى الوراء (فل 3: 14) وأنتما تصلّيان لأجلكما، لا أيأس من إمكانيّة الحصول في كلّ هذا، على نعم عديدة وإلهيّة من لدن الله السخيّ. وحين أنالها أرجو أن أكون أهلاً لأن أتكلّم عن هذا الموضوع بمهابة ورفعة ووضوح.

والآن، تقبّلا هذا الكتاب مع اعتذاري.



[2] بعد أن شرح أوريجانس الصلاة الربّيّة، عاد إلى الكلام عن الصلاة في شكل عام.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM