القوة الكامنة في الصلاة

القوة الكامنة في الصلاة

في كلّ ما قلنا، عرضنا بما فيه الكفاية ما يتعلّق بالصلاة، في شكل عامّ، حسب النعمة التي منحَنا الله بواسطة ابنه، في الروح القدس. وهذا ما يقدر أن يراه من يقرأ مؤلَّفي. وها نحن نواصل العمل وندرس القوّة الكامنة في الصلاة التي علّمنا الربّ.

نصوص الصلاة الربّيّة

نبدأ فنلاحظ أنّ عددًا كبيرًا اعتبر أنّ متّى ولوقا قدَّما الشكل الواحد للصلاة التي بحسبها يجب أن نصّلي (صلاة متّى أطول. وهي التي تُستعمَل في الليتورجيا، لهذا شرحها أوريجانس وحدها). إليك العبارات التي استعملها متّى: »أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتتمّ مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا اليوم خبزنا الفوجوهريّ، واترك لنا ديوننا كما تركنا نحن لمديونينا، ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّ« (مت 6: 9-13). وعبارة لوقا هي: »أيّها الآب، ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، أعطنا كلّ يوم خبزنا الفوجوهريّ، واترك لنا خطايانا كما تركنا لمديونينا، ولا تدخلنا في تجربة« (لو 11: 2-4).

نقول أوّلاً للذين يظنّون هذا الظنّ، أنّ الألفاظ وإن تشابهت في عدد من المرّات، فهي تختلف أيضًا في نقاط أخرى سيبيّنها بحثُنا. ثانيًا، لا يمكن أن تكون الصلاة عينها التي قيلت على الجبل »حين صعد ورأى الجموع. وإذ جلس، رأى تلاميذه بقربه. ففتح فمه وعلّم« (مت 5: 1-12). ففي سياق الخطبة حول التطويبات والفرائض التابعة لها، سجّل متّى الصلاة. لا يمكن أن تكون في موضع »كان يصلّي فتوقّف وقال لأحد تلاميذه الذي طلب منه أن يعلّمهم الصلاة كما علّم يوحنّا تلاميذه الأخصّاء« (لو 11: 1).

كيف نقبل بأن تكون الكلمات عينها قد قيلت بدون أن يسبقها استفهام وفي سياق متواصل، هذا من جهة؟ ومن جهة ثانية أن تكون قيلت بناء على طلب تلميذ؟ قد نقول إنّ لهاتين الصلاتين القدر عينه. هما واحدة قيلت أوّلاً في نصّ كامل، ثمّ إلى أحد التلاميذ بعد أن طلب ذاك: فهذا، على ما يبدو، كان غائبًا حين قال يسوع ما نقرأ في متّى. أو هو نسيَ ما قيل في ذلك الوقت. أما يجب بالأحرى أن نفكّر أنّنا أمام صلاتين مختلفتين مع أجزاء مشتركة؟ إذا بحثنا في إنجيل مرقس عن صلاة في المعنى عينه، فلا نجد أيّ أثر إطلاقًا (نقول اليوم إنّ متّى ولوقا غرفا من المعين عينه، الصلاة الواحدة، التي يمكن أن تكون عباراتها جاءت في أوقات مختلفة).

مقدّمة الصلاة

يجب أوّلاً على من يصلّي أن يستعدّ ويتهيّأ. وبعد ذلك يبدأ بالصلاة. هذا ما قلناه من قبل. وها نحن نرى، قبل الصلاة التي أوردها متّى، الكلمات التي تلفّظ بها مخلّصُنا في هذا المجال. وها هي: »حين تصلّون لا تكونوا مثل المرائين. فهم يحبّون الصلاة وقوفًا في المجامع وفي زوايا الساحات ليراهم الناس، الحقّ أقول لكم: لقد أخذوا أجرهم. أمّا أنت فإذا صلّيت، فادخل مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلى أبيك سرٌّا، وأبوك الذي يرى في السرّ يستجيبك. وحين تصلّون، لا تُكثروا الكلمات مثل الوثنيّين الذين يظنّون أنّه يُستجاب لهم لثرثرتهم. فلا تتشبّهوا بهم. فأبوكم يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. إذن، صلّوا هكذا« (مت 6: 5-9).

نرى ربّنا مرارًا يلاحق حبَّ المجد مثل مرضٍ قاتل. وهذا ما يفعل هنا أيضًا، حين يمنع أن يكون زمنُ الصلاة عمل المرائين. فمن أراد أن يمجّد نفسه أمام البشر، في تقواه أو سخائه، يعمل عمل المرائين. تذكّروا كلامه: »كيف يمكن أن تؤمنوا وأنتم تطلبون مجد البشر ولا تطلبون المجد الآتي فقط من عند الله«؟ (يو 5: 44). لنحتقر كلَّ مجدٍ آتٍ من عند البشر، وإن بدا من أجل الخير. ولنطلب فقط المجدَ الحقيقيّ الذي يعطيه وحده ذاك الذي يمجّد من هو أهل المجد، في شكل أسمى من الاستحقاق.

فما نظنّه جميلاً وأهلاً للمديح، يصبح نجسًا من حين نعمله ليمجّدنا الناس أو ليرونا. لهذا، لن يأتينا جوابٌ من الله. فكلّ قول من يسوع حقيقيّ. وأكثر حقيقة هو قول يرافقه قسَمٌ. فقد قال عن الذين يبدون أنّهم يصنعون الخير للقريب من أجل المجد البشريّ، أو يصلّون في المجامع وفي زواية الساحات لكي يراهم الناس: »الحقّ أقول لكم: لقد نالوا أجرهم« (مت 6: 5).

والغنيّ الذي تكلّم عنه لوقا، نال الخيرات في حياته البشريّة (لو 16: 25). ولأنّه نالها، فلن يحصل عليها أيضًا بعدَ الحياة الحاضرة. والذي نال أجرًا لسخائه أو صلاته، لأنّه زرع في الجسد، لا في الروح. الذي صنع صدقة في المجامع وفي الشوارع العريضة مع بوق أمامه لكي يمجّده الناس. الذي يحبّ الصلاة واقفًا في المجامع وفي الساحات ليراه الناس ويحسبه نقيًا وقدّيسًا أولئك الذين ينظرونه.

فجميعُ الذين يتبعون الطريق الواسعة والسهلة التي تقود إلى الهلاك (مت 7: 13)، والتي لا استقامة فيها ولا نظام، بل هي ملتوية، معوجّة (الخطّ المستقيم يكون مرارًا منكسرًا)، لا يجدون نفوسهم في أحسن حال حين يصلّون في زوايا الساحات. فحبّ الشهوة لا يجعلهم يقيمون في موضع واحد، بل في مواضع عديدة حيث البشر المائتون لابتعادهم عن الله، يمجّدون أولئك الذين يرون فيهم أبرارًا في الساحات العامّة، ويطوّبونهم.

عديدون هم الذين يبدون في صلاتهم، أكثر حبٌّا للشهوة منه لله. من يقوم للصلاة وسط الولائم ومواضع السكر، ويقف حقٌّا في الساحات العامّة للصلاة: فجميع الذين يعيشون حسب اللذة، ويحبّون الطريق الواسعة، يتركون طريق يسوع المسيح الضيّقة والصعبة، الطريق التي لا التواء فيها ولا اعوجاج.

هناك فرق بين الكنيسة والمجمع. فالكنيسة لا وصمة فيها ولا عيب، ولا ما يشبه ذلك. بل هي مقدّسة لا عيب فيها (أف 5: 27). لا يدخل إليها ابن الزنى ولا الخصيّ ولا المخصيّ. لا المصريّ ولا الأدوميّ. ويكاد يدخل إلى الكنيسة بصعوبة أولاد هؤلاء في الجيل الثالث. لا الموآبيّ ولا العمّونيّ قبل أن يكمل الجيل العاشر وتتمّ الأبديّة (تث 23: 1-8).

أمّا المجمع فقد بناه قائد المئة. شيّده في الزمن السابق لتجسّد يسوع، قبل أن ينال شهادة إيمان عظيم بحيث إنّ ابن الله لم يجد مثله في إسرائيل (لو 7: 5ي). فالذي يحبّ الصلاة في المجامع، ليس بعيدًا من زاوية الساحات العامّة. ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القدّيس. هو لا »يحبّ« أن يصلّي، بل يصلّي بحرارة. لا في المجامع، بل في الكنائس. لا في زاوية الساحات العامّة، بل في استقامة طريق ضيّقة وقاسية، لا ليراه الناس، بل ليراه الربُّ الإله. هو رجل يفكّر في السنّة التي ترضي الربّ، ويحفظ الوصيّة: »ثلاث مرّات في اليوم، يحضر كلّ رجل أمام الربّ الإله« (تث 7: 16).

ينبغي أن نسمع بعناية فعل »ظهر«. فما يظهر فقط ليس بجميل. هو فقط جميل في الخارج ويُضلّ المخيّلة، ولكنّه لا يلفت الانتباه حقٌّا وحقيقة. فالذين يلعبون دورًا في التمثيل على المسرح، ليسوا ما يقولون ولا ما يظهرون بحسب الشخصيّة التي يمثّلون. وهكذا جميع الذين يكتفون بمظهر الجمال، ليسوا أبرارًا بل »ممثّلي« البرّ، وهم يلعبون دورهم في مسرحهم، في المجامع وزاوية الساحات العامّة.

أمّا من لا يمثّل، بل يترك كلّ زينة غريبة، ويحاول أن يرضي نفسه على المسرح، فيتفوّق تفوّقًا كبيرًا على الأوّل: يدخل إلى غرفته الخفيّة، حيث يتكدّس كنز الحكمة والمعرفة، لا الغنى والأموال. هو لا ينظر إلى الخارج. لا يهتمّ بالخارج. يُغلق باب الحواس لئلاّ تميل به الأشياء الحسيّة وتدخل صورتها في عقله. يصلّي إلى الآب الذي لا يهرب من مثل هذه العزلة، ولا يتركها، بل يقيم فيها مع ابنه الوحيد. قال يسوع: »أنا والآب نأتي إليه ونجعل عنده مسكنًا« (يو 14: 23). من الواضح أنّنا إن صلّينا هكذا، لا ندعو فقط الله العادل، بل الآب الذي لا يتخلّى عن بنيه، الذي هو حاضر في عزلتنا فيتأمّلها ويزيد كنوزها، شرط أن لا تغلق أبوابها.

وحين نصلّي لا نُكثر الكلمات، بل نتكلّم إلى الله. نحن نثرثر حين لا نتنبّه بقساوة إلى نفوسنا وأقوالٍ تكوّن صلاتنا، فنتحدّث عن أعمال وأقوال وأفكار فاسدة، دنيئة، بشعة، غريبة عن اللافساد في الربّ. فالثرثار في الصلاة، يجد نفسه في وضع أسوأ من الذين تحدّثنا عنهم حتّى الآن. في طريق أصعب من الذين يقيمون في زاوية الساحات العامّة. فهذا ليس له سوى ظاهر الخبر. حسب كلام الإنجيل، الثرثارون هم الوثنيّون الذين لا يفكّرون في الطلبات السماويّة الكبيرة، فيكتفون بالصلاة من أجل الخيرات الجسديّة والبرّانيّة. فمن طلب خيرات أدنى من الربّ الساكن في السماوات وفي مقامات فوق السماوات، يشبه الوثنيّ الثرثار.

الكلام الكثير، والكلام الذي لا فائدة منه، رذيلتان تتشابهان. فلا وحدة في المادّة والأجسام، بل كلّ ما يبدو واحدًا هو منقسم، مقطوع، مفصول قِطعًا عديدة. لقد خسر وحدته: واحد هو الخير، كثير هو الشرّ. واحدة هي الحقيقة، كثير هو الضلال. واحد هو البرّ الحقيقيّ، وكثيرة هي تزييفاته. واحدة هي حكمة الله. وكثيرة هي الحكمات الظاهرة في هذا الدهر ولدى أراكين هذا الدهر (1 كور 2: 6). واحد هو كلام الله، وكثيرة هي الكلمات الغريبة عن الله. لهذا، لا يُفلت أحد من خطيئة الثرثرة (أم 10: 19). والذين يظنّون أنّهم يستجابون لكثرة كلامهم، لا يستجابون (مت 6: 7).

إذن، يجب أن لا تشبه صلواتُنا ثرثرات الوثنيّين الباطلة والطويلة، وما يُصنع في شبه الحيّة (مز 58: 5). فالله أبو القدّيسين، يعرف ما يحتاج إليه أبناؤه، لأنّها خيرات تستحقّ أن يعرفها الآب. فإن جهل أحد الله، جهل أيضًا أمور الله، وجهل أيضًا ما يحتاج إليه. هو يظنّ أنّه يحتاج إلى أشياء رذيلة. أمّا الذي تأمّل الخيرات السامية والإلهيّة التي يحتاج، فينال هذه الخيرات المعروفة لدى الله، كما نشاهدها، والتي عرفها الآب قبل أن نطلبها.

وبعد كلّ هذه الشروح عمّا يسبق الصلاة في متّى، نرى الآن ما يبيّن الصلاة عينها[1] (الصلاة الربّيّة. وبدأ أوريحانس الصلاة الربّيّة).



(1) هنا يأتي شرح الصلاة الربّيّة، كما ورد في الجزء الأوّل. ويختتم أوريجانس شرحه بكلام حول وقفة الصلاة والاستعداد لها ومكانها...

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM