الصلاة وأهدافها وفوائدها

الصلاة وأهدافها وفوائدها

أسماء الصلاة

الصلاة والنذر

نقرأ لفظ "صلاة" بقدر ما لاحظتُ، للمرّة الأولى حين كان يعقوب هاربًا من غضب أخيه عيسو فمضى إلى بلاد الرافدين تابعًا وصيّة إسحق ورفقة (تك 27: 41-45). وإليك النصّ: "وجّه يعقوب صلاته قائلاً: إن كان الربّ معي وحفظني في هذا الطريق الذي أسير فيه، إن أعطاني خبزًا آكله وثوبًا ألبسه، إن أعادني سالمًا إلى بيت أبي، الربّ يكون إلهي وهذا الحجر الذي نصبته عمودًا يكون لي بيت الله، ومن كلّ ما تهبه لي أعطيك العشر..." (تك 28: 20-22).

نلاحظ هنا أنّ لفظ "صلاة" الذي يحمل مرارًا معنى مختلفًا عن "دعاء"، يُسمعه شخص يَعِد في نذر بأن يفعل هذا أو ذاك إن نال من الله ذاك الخير. ومع ذلك، فهذا اللفظ استعمل في معناه العاديّ، في موضع آخر، فنجد في سفر الخروج، بعد ضربة الضفادع، التي هي ثاني الضربات العشر..." دعا فرعون موسى وهارون وقال لهما: صلّيا لأجلي إلى الربّ فيرفع الضفادع عنّي وعن شعبي. وأنا أطلق الشعب فيذبح للربّ" (خر 8: 8). إذا استصعب أحد أن يصدّق أنّ لفظ "صلّيا" الذي استعمله فرعون له مدلول عاديّ يضاف إلى معنى النذر، وجب عليه أن يقرأ ما يلي: "قال موسى لفرعون: قل لي متى يجب أن أصلّي من أجلك ليبعد الربّ الضفادع عنك وعن شعبك، وعن بيوتكم، فتعود إلى النهر" (خر 8: 9).

نلاحظ بالنسبة إلى البعوض، وهي الضربة الثالثة، أنّ فرعون ما طلب صلاة، ولا موسى صلّى. بالنسبة إلى الذباب، الضربة الرابعة، قال: "صلّيا إلى الربّ من أجلي". فأجاب موسى: "أبتعد قليلاً وأصلّي إلى الله فيرتفع الذباب غدًا عن فرعون وعن عبيده وعن شعبه" (آ 30). في الضربتين الخامسة والسادسة ما طلب فرعون صلاة ولا موسى صلّى. في السابعة "أرسل فرعون في طلب موسى وهارون وقال لهما: الآن خطئتُ. الربّ بارّ، وأنا وشعبي أشرار. فصلّيا إلى الربّ فتتوقّف أصوات الربّ، الرعود والبروق" (مر 9: 27-28). "وبعد ذلك خرج موسى من أمام فرعون إلى خارج المدينة. مدّ يديه إلى الربّ فتوقّفت الأصوات" (آ 33). لماذا لم يكتب: "وصلّى". كما في المرّات الأولى. هذا ما نتفحّصه فيما بعد، في الوقت المناسب. في الضربة الثامنة، قال فرعون: "صلّيا إلى الربّ إلهكما فيبعد عنّي هذا الموت. فخرج موسى من أمام فرعون وصلّى إلى الله" (خر 10: 17-18).

قلنا مرّات عديدة إن لفظ الصلاة لا يُستعمَل دومًا في المعنى العاديّ، مثلاً في الكلام عن يعقوب. وكذلك في سفر اللاويّين: "وكلّم الربّ موسى قائلاً: "تكلّم إلى بني إسرائيل وقل لهم: من نذر نذرًا ووعد الله بنفسه (بحياته)، يكون ثمن الرجل من السنة العشرين إلى السنة الستّين، ويكون خمسين درهمًا من الفضّة حسب القياس المقدّس" (لا 27: 1-3).

وفي سفر العدد: "تكلّم الربّ إلى موسى قائلاً: الرجل أو المرأة اللذان نذرا نذرًا احتفاليًّا بأن يتقدّسا ويتكرّسا للربّ، يمتنعان عن الخمر ونقيع العنب" (عد 6: 1-3). وما يلي بالنسبة إلى النذير (آ 11-12). وبعد ذلك بقليل: تلك شريعة النذر يوم يتمّ يومَ نذره" (آ 13). وبعد ذلك بقليل: "بعد ذلك، يشرب المنذور خمرًا. تلك هي شريعة النذر، ذاك الذي بنذر كرّس عطاءه للربّ بمعزل عمّا تكون يدُه وجدَتْ حسب قوّة نذره الذي يكون قد نذره بحسب شريعة الطهارة" (عد 6: 20-21). وفي نهاية سفر العدد: "وتكلّم موسى إلى رؤساء أسباط بني إسرائيل قائلاً: هذه هي الكلمة التي أمرها الربّ، أيّ رجل نذر نذرًا للربّ، أو ألزم نفسه بحلف، أو اتّخذ قرارًا في حياته، لا يدنِّس كلامه. كلّ ما خرج من فمه ينفّذه، وإن نذرت امرأة نذرًا للربّ، أو اتّخذت التزامًا في بيت أبيها، في صباها، وسمع الربّ نذورها والتزاماتها التي أخذتها على حياتها وسكت، فكلّ نذورها وكلّ التزاماتها التي أخذتها على نفسها تثبت وتقوم" (عد 30: 2-5).

وفي سفر الجامعة: "ألاّ تنذر خير من أن تنذر ولا توفي" (جا 5: 4). وفي أعمال الرسل: "هنا أربعة رجال نذروا على نفوسهم" (أع 21: 23).

 

الدعاء

بدا لي أنّه من المعقول أن أميّز أوّلاً مدلولَيْ "الصلاة" في الكتب المقدّسة. وتفعل الشيء عينه بالنسبة إلى "الدعاء". لهذا اللفظ مدلول مشترك وعاديّ، ويُستعمل نادرًا للكلام عن الصلاة، كما رُويَ عن حنّة في سفر صموئيل الأوّل: "كان الكاهن عالي جالسًا على كرسيّه أمام باب هيكل الربّ: كانت نفس حنّة مليئة بالمرارة، فدعت الربّ وهي تبكي بكاء. وتلت هذه الصلاة فقالت: يا ربّ الجنود إن ألقيت نظرة على وضاعة أمتك وذكرتني، وما نسيت أمتك وأعطيت أمتك ابنًا، أهبه للربّ هبة جميع أيّام حياته ولا يعلو موس رأسه" (1 صم 1: 9-11).

مع ذلك، نستطيع هنا بوجه معقول أن نشدّد على العبارتين: "دعت الربّ". ثمّ "تلت صلاة". ونقول إنّها قامت بعملين: دعت الربّ وتلت صلاة. من هذا القبيل يُستعمل لفظ دعاء في المعنى العاديّ للفظ صلاة. وللصلاة المعنى الذي قرأناه في سفرَيْ اللاويّين والعدد. والعبارة: "أهبه هبة للربّ كلّ أيّام حياته ولا يعلو موس رأسه" (1 صم 1: 11)، ليست دعاء، بل صلاة شبيهة بصلاة يفتاح في هذا النصّ: "نذر يفتاح نذره للربّ فقال: إذا سلّمت بني عمّون إلى يديّ، فكلّ من يخرج للقائي من باب بيتي حين أعود بسلام، بعد الانتصار على بني عمّون، يخصّ الربّ وأقدّمه محرقة" (قض 11: 30-31).

هدف الصلاة

إن وجب بعد ذلك، كما أمرتَ (قدّم أمبروسيوس أسئلة، وأوريجانس يجيب عليها)، أن أعرض الأسباب لدى الذين يظنّون أنّنا لا نحصل شيئًا بالصلاة، وبالتالي يرون أنّ الصلاة نافلة، لا نرفض أن ندرس معهم هذه الصعوبة بحسب مقدورنا فنستعمل لفظ صلاة بطريقة بسيطة، معروفة...

لا يأخذ الكثيرون بهذا الرأي الذي لا يجد من يدافع عنه لدى الكبار، بحيث نكاد نجد بصعوبة، بين الذين يقرّون بالعناية ويؤمنون بالله من يرفض الصلاة. ذاك هو رأي الذين ألحدوا إلحادًا وأنكروا وجود الله، أو الذين تقبّلوا اسم الله وفي الوقت عينه رفضوا عنايته (الله يعرف مسبقًا فلماذا نطلب منه). ولكن قدرة الشيطان وحدها جعلت الآراء الكافرة تجاه اسم المسيح وتعليم ابن الله، فأقنعت البعض بأنّه لا ينبغي أن نصلّي. رؤساء هذا المعتقد يرفضون رفضًا تامًا كلّ ما هو حسّيّ، لا يمارسون المعموديّة ولا الإفخارستيّا، يجادلون في الكتب المقدّسة وكأنّها لا تطلب الصلاة العاديّة، بل تعلّم صلاة مختلفة.

1- معرفة الله السابقة

إليك ما يمكن أن تكون أسباب الذين يحاربون الصلاة، وهم يقولون بإله ضابط الكلّ ويعتقدون بالعناية (فنحن الآن لا نناقش براهين الذين ينكرون الله وعنايته). يقولون: الله يعرف كلّ شيء قبل أن يحصل. ولا شيء يحصل إلاّ ويُعرَف قبل أن يحصل ودون أن يكون حصل من قبل. إذن، أيّة فائدة في أن نصلّي إلى ذلك الذي يعرف حاجتنا، قبل أن نصلّي. "الآب السماويّ يعرف ما تحتاج إليه قبل أن تسأله" (مت 6: 8). لا شكّ أنّ الله وهو الآب وخالق الكون الذي يحبّ كلَّ موجود ولا يبغض شيئًا صنعه، يمنح بشكل خلاصيّ ما يتعلّق بكلّ واحد دون أن ينتظر صلاته، مثل أب يسهر على أولاده ولا ينتظر سوى طلباتهم، سواء كانوا بعدُ أصغر من أن يطلبوا، أو جهلوا فرغبوا مرارًا ما لا يفيدهم ولا ينفعهم. ونحن البشر أبعد جدًّا عن الله، من الأولاد عن قلب والديهم.

ونعتقد أنّ الله لا يعرف المستقبل وحسب، بل يأمر به، وأنّ لا شيء يحصل إلاّ ما أمر به هو. فإن صلّى أحدٌ لكي تشرق الشمس، نعتبره مجنونًا لأنّه اعتقد أنّ ما يحصل من دون صلاته، لا يحصل بسببها. وكذلك يكون بليدًا الإنسان الذي يظنّ أنّ بصلاته أحدث كلَّ ما يحدث بدونها. بل يتجاوز كلَّ حدود الجنون من يعتبر أنّ الشمس تزعجه وتحرقه في زمن المدار الصيفيّ، فيأمل أنّه بصلاته يُعيد الشمس إلى الوراء بين كواكب الربيع لكي ينعم ببرودة الهواء: هكذا أولئك الذين يظنّون أنّهم يُبعدون بصلواتهم إزعاجات لا يستطيع البشر أن يتجنّبوها. هم أبلد البلداء.

فإن ابتعد الخطأة عن الله منذ أحشاء أمّهاتهم (مز 58: 4)، وإن اختير البارُّ بحيث يتجلّى مخطّط الله بالنظر إلى الاختيار لا إلى الأعمال. إن كُتب أنّ الكبير يخدم الصغير (روم 9: 11)، فباطلاً نتضرّع لنطلب غفران الخطايا أو قوّة الروح، وباطلاً نتوسّل لكي نستطيع كلَّ شيء بقوّة المسيح (فل 4: 13). فإن كنّا خطأة، ففي أحشاء أمّهاتنا أبعدنا، وإن كنّا موجَّهين سلفًا منذ حشا أمّهاتنا، سيكون لنا النصيب الأفضل دون أن نطلبه. هل صلّى يعقوب قبل أن يُولد ليعلن النبيّ أنّه يسود على أخيه عيسو وأنّ أخاه يخدمه؟ (تك 25: 23). أيّ ذنب اقترف عيسو ليُبغض قبل أن يولد؟ ولماذا صلّى موسى، كما في مز 90، إذا كان الله ملجأه قبل أن تكون الجبال وتتكوّن الأرض المأهولة (مز 90: 1).

وعن جميع الذين سيخلصون كُتب في الرسالة إلى أفسس: "اختارهم الله فيه، في المسيح، قبل خلق العالم، ليكونوا قدّيسين وبلا عيب فيه. بعد أن أعدّهم في المحبّة للتبنّي فيه بالمسيح" (أف 1: 5). فواحد من الذين اخيروا قبل خلق العالم لا يمكن أن يسقط من هذا الاختيار. لهذا، لا يحتاج إلى الصلاة. ولكن إن لم يكن اختير ولا أعدّ سلفًا، فهو يصلّي باطلاً، ولا تستجاب صلاتُه إن تكرّرت عشرة آلاف مرّة. "فالذين عرفهم الله سلفًا، أعدّهم سلفًا على شبه صورة ابنه. والذين أعدّهم سلفًا دعاهم. والذين دعاهم برّرهم. والذين برّرهم مجدّهم" (روم 8: 29). لماذا يتعب يوشيّا ولماذا يُعنى لكي يعرف إن كانت صلاته تستجاب أم لا. ساعة تنبأوا عنه باسمه منذ عدد من الأجيال، وأنّ ما يجب عليه أن يفعله، ما عُرف سلفًا فقط، بل أعلن أيضًا أمام العديدين؟ ولماذا يصلّي يهوذا (= يوضاس) بحيث تصبح صلاته خطيئة لأنّه، منذ زمن داود أنبئ أنّه يخسر الأسقفيّة ويأخذ آخر مكانه (مز 109: 7). لهذا لا ينبغي له أن يصلّي لأنّ الله لا يتبدّل، وقد رأى مسبقًا كلّ شيء. ويبقى ثابتًا في أحكامه، وهو يأمل أنّه بصلاته يبدّل مقاصد الله كما لو أنّ الله أمر مسبقًا كلّ شيء وانتظر صلاة كلّ إنسان يرتّب الأمور بحسب ما يوافق البشر، دون أن يرى شيئًا، بحسب نزواته.

هذا ما كتبتَ إلي (يا أمبروسيوس) بكلماتك الخاصّة: أوّلاً، إن كان الله يرى المستقبل سلفًا بحيث يحصل، فالصلاة باطلة. ثانيًا، إن كان كلُّ شيء يحصل حسب إرادة الله، وإن كانت مقاصده ثابتة، وإن كان لا يقدر أن يبدّل شيئًا ممّا يريد، فالصلاة باطلة. فأرى أنّه من المفيد أن نذكر هذه العبارات من أجل حلّ الصعوبات التي تثار على الصلاة.

ب- القدريّة

أشياء تتحرّك. بعضها يأخذ حركته من الخارج، مثل الكائنات الجامدة، ويبقى حسب الترتيب. وبعضه تحرّكه الطبيعة والنفس، لا في حدّ ذاته حين يتحرّك، بل كمشابه للأشياء التي تبقى حسب الترتيب، فالحجارة المقلوعة من المقلع، والخشب الذي خسر إمكانيّة النموّ، تبقى حسب الترتيب. هي تأخذ حركتها من الخارج. وكذلك أجسام الحيوانات، والنبات، بل بشكل مشابه للأخشاب التي فقدت إمكانيّة النموّ. وإن تحرّكت مثل كلّ جسم ماضيٍ إلى الفساد، فليس له حركة موجّهة نحو الفساد. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، تأتي الكائنات التي تحرّكها طبيعة باطنيّة أو النفس، فنقول: هي تتحرّك بذاتها، إذا استعملنا الكلمات في المعنى الحصريّ. وحركة ثالثة هي حركة الحيوانات. هي الحركة الطوعيّة. أمّا حركة الكائنات العاقلة، فهي الحركة الحرّة كما أظنّ (هو في إطار رواقيّ).

فإن أخذنا من الحيوان الحركة الطوعيّة، لا نستطيع بعد أن ندع حيوانًا، بل يُصبح شبيهًا بالنبتة التي تتحرّك بالطبيعة وحدها أو بالحجر الذي يحرّكه عاملٌ خارجيّ. ولكن إن اتّبع كائن حركته الخاصّة، بعد أن قلنا إنّه يتحرّك بذاته، من الضروريّ أن يكون هذا الكائن عاقلاً.

فالذين يريدون أن لا يكون شيء في سلطتنا يقبلون صنمًا آراء غير معقولة: أوّلاً، لسنا كائنات ذات نفس، لأنّنا لسنا كائنات عاقلة، بل يحرّكنا عاملٌ خارجيّ يعمل ما نحسب أنّنا نحن نعمل. ولينتبه الإنسان إلى إحساساته الخاصّة وليرََ إذا كان في وسعه أن يقول، بدون وقاحة، إنّه ليس هو من يريد، من يأكل، من يمشي، من يؤكّد، الذي يُعلن تارة هذه الآراء، وطورًا يرفضها على أنّها خاطئة. كما يستحيل أن نجعل إنسانًا يتعلّق ببعض آراء، ببعض براهن أو علل يستعملها، هكذا يستحيل أن نجعله يصدّق ما نقول حول الأعمال البشريّة التي ليست كلّها في سلطتنا. من يظن أنّ لا شيء معقول؟ من يحيا وهو يشكّ بكلّ شيء؟ من لا يعاقب خادمه حين يرى صورة خادم مخطئ؟ من لا يوبّخ ابنًا لا يقوم بواجباته تجاه والديه؟ من لا يوبّخ امرأة زانية ويحكم عليها بسبب سلوكها المشين؟ الحقيقة نكرهها، تفرض علينا وإن قدّمنا ألف برهان، أن نعمل، أن نمدح، أن نلوم، وكأنّ ما في سلطتنا هو حقيقيّ ويستحقّ منّا المديح واللوم.

فإذا حُفظ القرار الحرّ، كلّ الاتّجاهات التي يمتلكها تجاه الفضيلة أو الرذيلة، نحو الواجب أو ما يعرضه يجب أن يعرفه الله كما هو قبل أن يُنفَّذ، منذ خلق العالم وتكوينه. وفي كلّ الأشياء التي يأمرها الله سلفًا بحسب ما يراها في سلطتنا، رتّب بحسب متطلّبات حركاتنا الحرّة ما سيحصل بالنظر إلى عنايته، وما سيحصل حسب نواميس الكائن المحتومة. ولكنّ نظرة الله المسبقة ليست سبب ما سيكون والذي نفعله بحرّيّة حسب ميولنا. ولو افترضنا أنّ الله لا يعرف المستقبل، فنحن سنفعل هذا ونريد ذاك، ويتبع من الرؤية المسبقة أنّ كلَّ ما هو في سلطتنا ينتظم من أجل تناسق الكون بشكل مفيد لجمال كلِّ شيء.

والآن، إن عرف الله مسبقًا ما هو في سلطتنا، فمن المعقول أنّ ما رآه مسبقًا تأمره العناية بحسب تناسق الكلّ فيحسب حساب صلاة البشر واستعداداتهم وإيمانهم وإرادتهم. هكذا يرتّب كلَّ شيء بشكل منتظم. يقول: أستجيب هذا الإنسان الذي صلّى بفطنة، بفضل صلاته عينها. أو لا أستجيب هذا الأخر، إمّا لأنّه لا يستحقّ أن يستجاب، وإمّا لأنّه يطلب ما لا يفيده، وإمّا لا يحسن لي أن أمنحه. وهكذا حسب صلاة هذا أو ذاك، أمنح أو لا أمنح. فإن تبلبل أحدٌ بعلّة أنّ الضرورة أُدخلت في الأشياء، لأنّ الله الذي يرى المستقبل مسبقًا لا يُخطئ. نجيبه أنّ الله يعرف بالضرورة بأنّ هذا يريد، لا بضرورة ولا بثبات، الخير، أو لا يريد الشرّ، بحيث يعجز على التوجّه إلى الأفضل.

وكذلك يقول الربّ: أصنع هذا أو ذاك لهذا الإنسان الذي يصلّي: هذا يليق لأنّه يصلّي بطريقة لائقة ولا يتهامل في صلاته وحين يصلّي ما فيه الكفاية أمنحه وفرًا لم يطلبه أو لم يفهمه، لأنّي أسرّ بأن أغلبه في الإحسان وأن أعطيه ما لا يسعه أن يطلب. إلى هذا أرسل ملاكًا حارسًا الذي يبدأ في مساعدته ليعمل عمل خلاصه، يسانده منذ الآن. وإلى هذا الآخر أرسل أيضًا ملاكًا أقوى، لأنّه سيكون أفضل من الأوّل. ومن هذا الثالث الذي بدأ فتكرّس لتعاليم سامية ثمّ مال وسقط في أفكار مادّيّة، أنزع محاميه السامي. وإذ ينطلق هذا المحامي، يستحقّ هذا قوّة شريرة فتستفيد من الظرف وتنصب الفخاخ لضعفه، وتسقطه في هذه الخطيئة أو تلك، ولكنّه هو يكون تهيّأ للخطيئة.

هذا ما يقوله من رتّب الكون: ولد أمون يوشيّا الذي لم يقتدِ بخطايا أبيه، بل تبع الطريق الذي يقود إلى الفضيلة بفضل مستشاريه. فكان رجل خير ودمّر مذبحًا بناه يربعام بفكر شرّير (2 مل 21: 24). وأعرف، ساعة يأتي ابني وسكن وسط البشر، أنّ يهوذا يبدأ فيكون صالحًا في ما بعد يسقط وينحدر في الخطيئة: لهذا كان الحكمة أن تألّم هذا العذاب أو ذاك. وقد يكون هذا العلم المسبق للمستقبل في ما يخصّ يهوذا والخطايا التي يقترف، والذي قال بفهم داود، بفضل هذه المعرفة المسبقة، قبل ولادة يهوذا: "يا الله، لا توقف مديحي".

وكذلك، إذا عرف الله المستقبل وعلم المكانة التي يمثّلها بولس في الديانة، قال: قبل أن أخلق الكون وأكوّن العالم، أختاره. أستلهم الله منذ ولادته، قدرة تساعد البشر على الخلاص. وأفرزه من بطن أمّه. أتيح له منذ صباه أن يمتلئ غيرة الجهل بحيث يلاحق، بدافع التقوى، أولئك الذين آمنوا بمسيحي، ويحفظ ثياب الذين يرجمون خادمي وشهيدي إسطفانس. وهكذا بعد هذا الاندفاع الشبابيّ يجد مناسبة لكي يهتدي ولا يفتخر أمامي، بل يقول: "لا أستحقّ أن أدعى رسولاً، لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله" (1 كور 15: 9). وهكذا يفهم صلاحي تجاهه بعد خطايا صباه، التي اقترفها باسم التقوى. فيقول: "بنعمة الله أنا من هو" (1 كور 15: 10). والوعي لما عمل في صباه ضدّ المسيح. يمنعه أن يفتخر بعظمة الإيماءات (2 كور 12: 7) التي أجعلها له.

وفي ما يتعلّق بممارسة الصلاة عند شروق الشمس، هذا ما نقول: أشرقت الشمس ومعها بعض الحرّيّة، وهي مع القمر تُنشد الله. قال الكتاب: "هلّلي له، أيّتها الشمس والقمر" (مز 148: 3). ونقول الشيء عينه عن القمر وسائر الكواكب، كما كُتب: "إمدحيه يا جميع الكواكب والنيّرات". وكما سبق فقلنا، يستعمل الله حرّيّة إرادة كلّ ما هو على الأرض، ويرتّبه من أجل فائدة الكائنات الأرضيّة، ويجب أن نفترض أيضًا أنّه حسب قرار حرّ من الشمس والقمر والنجوم، أمر بضرورة ويقين وثبات وحكمة، كلّ زينة السماء ومسيرة النجوم وحركتها المتناسقة. فإن كنتُ لا أصلّي باطلاً لأشياء لا ترتبط بإرادتي، فبالأحرى أمام ما يتعلّق بحرّيّة النجوم التي ترتّبت في السماء لفائدة الكون.

لا شكّ في أنّنا نستطيع القول عن الأشياء الأرضيّة، أنّ بعض الصور التي تنتجها الظروف، تدفع ضعفنا أو ميلنا إلى الشرّ. نحو هذا العمل أو ذاك، هذه الكلمة أو تلك، ولكن، في السماء، أيّة صورة يمكن أن تأتي وتحوّل سير أحد الكواكب المحسن للعالم، الذي تمتلكه نفسٌ ثبّتها العقل وما تأثّرت بالصور، أو جسم أثيري طاهر جدًّا.

بالإضافة إلى ذلك، نستطيع أن نستعمل مثلاً آخر لندعو الناس إلى الصلاة، ونميل بهم عن إهمالها. لا يستطيع رجل أن يكون له أولاد إن لم يتزوّج ويعمل العمل الزواجيّ وكذلك لا ننال هذا الشيء أو ذاك دون صلاة بمثل هذه الاستعدادات وهذا الإيمان، دون أن نعيش بهذه الطريقة قبل الصلاة. فيجب أن لا نكثر الكلمات، ولا نطلب أشياء لا قيمة لها، ولا نلتمس خيرات الأرض، ولا نجيء إلى الصلاة في حالة الغضب أو الاضطراب الداخليّ. وكذلك لا نستطيع أن نفهم الغيرة في الصلاة دون تنقية النفس. فمن يصلّي لا ينال غفران الخطايا إن لم يغفر من عمق قلبه لأخيه الذي يطلب منه السماح عن ظلم اقترفه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM