مقدّمة في الصلاة

مقدّمة في الصلاة

بالمسيح نعرف مشيئة الله

الخبرات التي تتجاوز كثيرًا ، بسبب عظمتها وارتفاعها، طبيعتنا البشريّة المسيحيّة ولا يمكن أن يفهمها ضعفُ عقلنا، والنعمة العظيمة والمتعدّدة التي يفيضها الله وسط البشر بيسوع المسيح، وخادم هذه النعمة اللامحدودة بيننا، وبالروح العامل معه، كلّ هذا يمكن أدراكه بمشيئة الله. يستحيل على الطبيعة البشريّة أن تقتني الحكمة التي بها خُلق كلُّ شيء (حسب داود، الله فعل كلّ شيء بالحكمة، مز 104: 24)، غير أنّ هذا المستحيل يُصبح ممكنًا بربِّنا يسوع المسيح "الذي صار لنا حكمة الله، وبرًّا وقداسة وفداء" (1 كور 1: 30). "فمن يقدر أن يعرف مشيئة الله؟ أو يفكّر في ما يريده الله؟ فبراهين البشر ضعيفة، وأفكارنا غير أكيدة. فالجسد الفاسد يُثقل النفس. ومسكننا الأرضيّ يضعضع الروح بأفكاره الكثيرة. نحن نكاد نقدِّر ما هو على الأرض. ولكن من يتفحّص ما في السماء" (حك 9: 13-16). ومن يُنكر أنّه يستحيل على الإنسان أن يتفحّص ما في السماوات؟ ومع ذلك، المستحيل يُصبح ممكنًا بنعمة الله التي لا تُقاس: فالذي رُفع إلى السماء الثالثة قد يكون تفحّص ما في السماوات الثلاث، لأنّه سمع كلمات لا يُسمح للإنسان أن يستعملها (2 كور 2: 4)؟ ولكن حتّى هذا يمنحه الله بالمسيح...

لم تعُد تلك مشيئة الربّ حين يعلّمهم مشيئة من يريد أن يكون الربّ، تتحوّل إلى صديق بالنسبة إلى الذين كان في الماضي الربّ. ولكن بما "أنّ أحدًا من البشر لا يعرف ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه، كذلك لا يعرف أحد ما في الله إلاّ روح الله" (1 كور 2: 11). وإن كان أحد لا يعرف أمور الله إلاّ روح الله، يستحيل على الإنسان أن يعرف أمور الله. ومع ذلك، فكّر في الطريقة التي بها يُصبح هذا ممكنًا. قال الرسول: "أمّا نحن فما نلنا روح العالم، بل الروح الآتي من الله لنعرف ما أعطانا الله. وهذا ما نقوله، لا في علوم الحكمة البشريّة، بل في تعليم الروح" (1 كور 2: 12-13).

 

لماذا وكيف نصلّي؟

وقد تتساءل يا أمبروسيوس (شمّاس في قيصريّة) التقيّ المجدّ، وأنت، يا تاتيانا (مؤمنة في قيصريّة قريبة من أمبروسيوس) الجميلة والقديرة، يا من سُررتُ حين رأيتك تتركين زينة الناس، مثل سارة (تك 18: 11) في الماضي: لماذا أعرض عليكما الكلام عن الصلاة؟ أذكركما في هذه المقدّمة ما يستحيل على الإنسان، وما يصبح ممكنًا بنعمة الله. يبدو لي أنّ إحدى المهام المستحيلة، بالنظر إلى ضعفنا، هي الكلام كلام اللياقة والتقوى عن الصلاة: أن نبيّن لماذا وكيف يجب أن نصلّي. ما يجب أن نقوله لله في الصلاة، ما هي الأزمنة المؤاتية للصلاة...

ذاك الذي يخاف، بسبب عظمة إيحاءاته، أن ينظر الناس إليه على أنّه أسمى ممّا رأى وسمع، يُعلن أنّه لا يعرف كيف يجب أن يصلّي (2 كور 12: 6). قال الرسول: "لا نعرف أن نصلّي كما ينبغي" (روم 8: 26). فلا يكفي أن نصلّي، بل يجب أن نصلّي كما ينبغي ونطلب ما يجب أن نطلب، ولو كنّا قادرين على فهم ما يجب أن نطلب، لن يكون هذا كافيًا إن لم نُضِفْ: كما ينبغي. وماذا يفيدنا "كما ينبغي" إن لم نعرف أن نطلب ما يجب أن نطلب.

 

متطلّبتان للصلاة

متطلّبتان اثنتان. واحدة، ما ينبغي، تتمّ بكلمات الصلاة. والأخرى، كما ما يجب، تكوّنها وقفة المصلّي. إليك مثلاً ما يجب أن تطلب: "أطلب الأشياء الكبيرة فتُعطى لك الصغيرة زيادة" (مت 6: 33). "أطلب خيرات السماء فتُعطى لك خيرات الأرض زيادة" (قول لم يكتب في الإنجيل)، "صلّوا لأجل من يفتري عليكم" (مت 5: 44). "إسألوا ربّ الحصاد أن يُرسل فعلةً إلى حصاده" (مت 9: 38). أطلبوا "أن لا تدخلوا في تجربة" (لو 22: 40). "صلّوا لئلاّ يكون حربكم في الشتاء ولا في يوم السبت" (مت 24: 20). "حين تصلّون لا تكونوا ثرثارين" (مت 6: 7). وهكذا دواليك.

وإليك طريق الصلاة: "أريد أن يصلّي الناس في كلّ مكان، وهم رافعون أيادي مقدّمة، بدون غضب ولا جدال. وكذلك النساء في ثياب محتشمة مزيّنات زينة الحياء والوقار. لا بشعر مجدول وذهب ولآلئ وثياب فاخرة، بل بأعمال صالحة تليق بنساء يعشن بتقوى الله" (1 تم 2: 8-10)، والأعمال الصالحة.

وإليك من يعلّمنا طريقة الصلاة: "إذا حملت قربانك على المذبح، وتذكّرت أنّ لأخيك عليك شيئًا، أترك هنا قربانك أمام المذبح، وامضِ أوّلاً وصالح أخاك. ثمّ عُدْ وقدّم قربانك" (من 5: 23). فهل تستطيع الخليقةُ العاقلة أن تقدّم لله عطيّة أعظم من صلاة عطرة، مرضيّة تقدّمها نفسٌ ليس في وجدانها زلّة نتنة؟

وأيضًا حول طريقة الصلاة: "ولا يمتنع أحدكما عن الآخر إلاّ على اتّفاق بينكما وإلى حين، حتّى تتفرّغا للصلاة. ثمّ عودا إلى الحياة الزوجيّة العاديّة، لئلاّ يعود كما ضبطُ النفس فتقعا في تجربة إبليس" (1 كور 7: 5). وهكذا نرى أنّنا لا نصلّي كما ينبغي إن لم يتمّ عمل أسرار الزواج اللاموصوفة، باحترام وندرة وبدون هوس. فالاتّفاق المشار إليه منّا، يُزيل فوضى الأهواء، ويطفي اللاعفّة ويُبطل فرح الشيطان الشرّير.

وأيضًا حول طريقة الصلاة: "حين تصلّون، إغفروا إن كان لكم شيء على أحد" (مر 11: 25). وهذا القول للقدّيس بولس: "كلّ رجل يصلّي أو يتنبّأ وهو مغطّى الرأس يهين رأسه، وكلّ امرأة تصلّي أو تتنبّأ وهي مكشوفة الرأس، تهين رأسها" (1كور 11: 4-5).

 

الروح يعلّمنا

عرف بولس كلّ هذا. وقد كان بإمكانه بالأحرى أن يستقي من الشريعة والأنبياء، وملء الإنجيل، وأن يعرض كلّ هذا بتفصيل وتنوّع. ما كان ذلك تواضعًا، بل حقيقة، حين رأى بعد كلّ هذا كم كان بعيدًا عن طلب ما يجب وكيف يجب، فأضاف: "لا نعرف كيف نطلب كما ينبغي" (روم 8: 26). وأضاف كيف يحلّ محلّ هذا النقص، ذاك الذي يجهل كلَّ شيء، ومع ذلك يسعى ليكون أهلاً ليرى عدم كفايته معوّضة. قال: "الروح يشفع لنا عند الله بأنّات لا تُوصَف. والذي يرى ما في القلوب يعرف ما يريده الروح، وكيف أنّه يشفع للقدّيسين بما يوافق مشيئته" (روم 8: 26-27).

فالروح الذي يصرخ في قلوب المطوّبين: أبّا، أيّها الآب، يعرف بدون شكّ، أنّ الأنّات التي يُطلقها في هذا العالم، تجعل الخطأة والضعفاء عرضة لعذاب أثقل. لهذا، فهو يتشفّع إلى الله بأنّات لا تُوصَف. وبالنظر إلى حنانه العظيم ورأفته، يقدِّم هو ذاته أنّاتنا. وإذ يرى في حكمته أنّ نفسنا منسحقة في التراب، سجينة جسد يُذلّها، لا يتشفّع لدى الله بأنّات عاديّة، بل بأنّات لا تُوصَف تشبه هذه الكلمات السرّيّة التي لا يحقّ لإنسان أن يتفوّه بها (2 كور 12: 4). وهذا الروح لا يكتفي بأن يشفع لدى الله، بل يجدد طلبه ويلحّ. أظنّ أنّه يعمل من أجل المنتصرين الشبيهين ببولس الذي قال: "في كلّ هذا نحن منتصرون" (روم 8: 37). ولكن يبدو أنّه يكتفي بالتشفّع للذين لا يقدرون أن ينتصروا. هم ما قُهروا ولا انتصروا.

 

صلاة في الروح

وإليك هذا النصّ حول موضوع الصلاة: "لا نستطيع أن نصلّي كما ينبغي، ولكنّ الروح يشفع لنا بأنّات لا توصَف" (روم 8: 26). يشبهه هذا: "أصلّي بروحي، أصلّي بعقلي أيضًا. أرنّم بروحي، وأرنّم بعقلي أيضًا" (1 كور 14: 15). فعقلنا لا يستطيع أن يصلّي، إن لم يصلِّ الروحُ من قبل، وإن لم يخضع له عقلنا. ولا يقدر أن يرنّم ولا أن يمدح بوزن ونسق وإيقاع ونغم، الآب في المسيح، إذ الروح الذي "يفحص كلّ شيء حتّى أعماق الله" (1 كور 2: 10) لا يبدأ أن يرنّم وأن يمتدح ذاك الذي تفحّص الأعماق وفهمها كما استطاع.

وأرى أنّ أحد تلامذة يسوع، الواعي لضعفه البشريّ، الذي لا يعرف كيف يجب أن يصلّي، ويفهم خاصّة بعد أن يسمع كلمات عارفة وقويّة تلفّظ بها المخلّص في صلاته، أراه يقول للربّ في نهاية صلاته: "يا ربّ، علّمنا أن نصلّي، كما علّم يوحنّا تلاميذه" (لو 11: 1). ويكون التسلسل الكامل للنصّ كما يلي: "وحصل إذ كان يصلّي في أحد الأماكن وانتهى، قال له واحدٌ من تلاميذه: "يا ربّ، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنّا تلاميذه".

أترى إنسانًا اغتذى بتأديب الشريعة، وسمع أقوال الأنبياء، وأمّ المجامع، ما عرف أن يصلّي قبل أن يرى الربّ يصلّي في أحد الأماكن؟ هذا غير معقول. إذن، صلّى بحسب عادات اليهود. ولكنّه وعى أنّه يحتاج إلى علم أكثر في ما يتعلّق بالصلاة. ماذا علّم يوحنّا عن الصلاة، تلاميذه الذين أتوا من أورشليم، من كلّ اليهوديّة، ومن المناطق المجاورة، لكي يعتمدوا؟ يبدو أنّه كان أكثر من نبيّ. فرأى حول الصلاة أمورًا لم يعلّمها لجميع المعتمدين، بل علّمها سرًّا لتلاميذه بالإضافة إلى العماد. (هذا يعني تعليمين اثنين).

 

صلوات في الكتاب المقدّس

مثلُ هذه الصلوات روحيةٌ حقًّا، لأنّ الروح يصلّي في قلب القدّيسين، يذكرها الكتاب المقدّس، وقد امتلأت تعليمًا لا يُوصَف، تعليمًا عجيبًا. في سفر صموئيل الأوّل، صلاة حنّة في بعضٍ منها. فحين أنهت صلاتها أمام الربّ وتحدّثت في قلبها، هذا لم يَكتُب. وفي المزامير، عنوان المزمور الثاني عشر: "مزمور لداود" والمزمور الحادي والتسعون، "صلاة موسى رجل الله". والمزمور 102: "صلاة مسكين كان في الضيق فصبّ طلباته أمام الربّ". هذه الصلوات التي كانت حقًّا صلوات تمّت في الروح حين قيلت، امتلأت من تعاليم الحكمة الإلهيّة بحيث نستطيع أن نقول عمّا أعلن: "من هو حكيم فليفهم، من هو فهيم فيعرف"؟ (مز 15: 9).

إذن، يصعب علينا جدًّا أن نتكلّم عن الصلاة بحيث نحتاج إلى إشراق الآب، وتعليم الكلمة البكر، وعمل الروح، لكي نفهم مثل هذه المسألة، ونعالجها كما يليق. أنا أصلّي كإنسان (لأنّي أرى أنّه لا يحقّ لي أن أحدّد الصلاة) لكي يؤهّلني الروح قبل أن أبدأ بالكلام عن الصلاة، بحيث تُمنَح لنا صلاة مليئة، روحيّة، فنشرح صلوات دُوِّنت في الأناجيل. وها نحن نبدأ كلامنا عن الصلاة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM