الفصل الأول :في اليوم الثامن لمولدي

الفصل الأول

في اليوم الثامن لمولدي

حين نسمع الرسائل البولسيَّة في الليتورجيّا، أو حين نقرأها ونقرأ القسم الأكبر من سفر الأعمال، يطلُّ علينا بولس الرسول بقامته الفارعة وشخصيَّته البارزة حين نرافق هذا الرسول الذي دام عمله قرابة عشرين سنة فمضى من آسية إلى أوروبّا، وربَّما وصل إلى نهاية الأرض، إلى إسبانية، نتساءل: كيف استطاع أن يقطع كلَّ هذه المسافات ولا يتعب ولا يكلُّ؟ كتب الرسائل، حرَّك الجماعات، قاوم المقاومين. أترى هذا الرسول إنسانًا، يأكل ويشرب مثلنا، ويرتاح من وقت إلى وقت؟ أما هو فوق البشر العاديّين، ولو وقف بعضهم وتحدُّوه بأنَّهم الرسل المميَّزون لأنَّهم شاهدوا الربَّ وخبروا قيامته؟

إلى بولس سوف نتعرَّف خلال سنتين بعد أن أعلن قداسة البابا الفترة الممتدَّة من 29 حزيران 2008 إلى 29 حزيران 2009، سنة القدّيس بولس. ونبدأ كلامنا بطفولته مع عنوان: في اليوم الثامن لمولدي. ويتوزَّع موضوعنا في ثلاث محطّات: شابٌّ من قبيلة بنيامين وُلد في الشتات، لا في أرض فلسطين، وُلد في طرسوس، تلك المدينة التي كانت تُعتبر كبيرة في أيّامها، إذ ضمَّت مئة ألف نفس. وفي المحطَّة الثالثة، نتوقَّف عند المواطنيَّة الرومانيَّة وامتيازاتها، حيث نعم بولس وراثةً، في البيت الوالديِّ بكلِّ ما حباه الله من مواهب ستكون في خدمة الرسالة.

1. شاب من قبيلة بنيامين

ونبدأ بالكلام عن ذاك الشاب اليهودي.

أ- اعتماد على أمور الجسد

بعد أن كلَّم الرسول جماعة فيلبّي وما يكنّ لها من حبّ، وهي التي أمدَّته بالعون الماديّ، بل أرسلت إليه من يكون بقربه، في السجن، لئلاّ يحسَّ بالعزلة، أرسلت إليه أبفروديتس. بعد ذلك، عاد إلى الجماعات اليهوديَّة التي اعتادت أن تفتخر بالشريعة وبفرائضها، وكأنَّ المسيح لم يأتِ بعد. يكفي أن نكون أمناء للشريعة لكي نخلص. ونحن نتذكَّر أنَّ عدد الوصايا كان 613 وصيَّة، منها 365 وصيَّة نافية: لا تفعل، والباقي إيجابيَّة: ما ينبغي أن تعمل.

أ- احترسوا من الذين يشوِّهون الجسد. ردَّ بولس على هؤلاء الخصوم، فجاء جوابه قاسيًا، لأنَّ الجماعة كانت في خطر. قال في فل 3: 1-2:

1 وبعد، يا إخوتي، فافرحوا في الربّ، لا تزعجني الكتابةُ إليكم بالأشياء نفسها، ففي تكرارها سلامة لكم.

2 احترسوا من الكلاب، احترسوا من عمّال السوء، احترسوا من أولئك الذين يشوِّهون الجسد.

هاجم اليهود بولس مرارًا، ولهذا كرَّر الكلام في هذا الموضوع، موضوع الختان الذي يجعل الإنسان ينتمي إلى «الشعب المختار» بحيث لا يحتاج شيئًا بعد ذلك. في أيِّ حال، ما يُقال هنا ينطبق على كلِّ ديانة تتعلَّق بالنُظم وتتخلّى عن الجوهر. أنا صرتُ في هذا المركب السائر على الأمواج، ولا خوف عليَّ مهما كانت عواطف قلبي وعمق إيماني!

بولس هو فرحٌ ويطلب من الجماعة أن تفرح معه، ولا تتأثَّر بهذه الاتِّهامات التي تُطلَق على رسولها. ويأتي فعل «احترس» ويتكرَّر ثلاث مرّات.

الاحتراس الأوَّل من الكلاب. صار اليهود خارج البيت، مع أنَّ الربَّ دعاهم، كما دعا الوثنيّين. قال: «يا أورشليم، يا أورشليم! كم مرَّة أردتُ أن أجمع بنيك مثلما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فما أردتُم. وها هو بيتكم متروكٌ لكم خرابًا» (مت 27: 23). إذًا، بما أنَّهم من الخارج، فلماذا تسمحون لهم أن يدخلوا البيت ويعيثوا خرابًا. واليوم، لسنا أفضل منهم حين نترك الشيع والبدع، التي تدَّعي المسيحيَّة تدخل بيوتنا لتنفث سمومها. هم من الخارج »احترسوا من الكلاب». أما هكذا سبق لليهود فدعوا الوثنيّين الذين لا يحقُّ لهم أن يأكلوا على مائدة الأبناء: «لا يجوز أن يؤخذ خبز البنين ويُرمَى للكلاب» (مر 28: 7). وهكذا هذه المرأة السوريَّة الفينيقيَّة صارت في عداد البنين، بعد أن أطلقت فعل إيمانها. فشهد لها يسوع: »ما أعظم إيمانك أيَّتها المرأة! » (مت 5: 28). أمّا اليهود في فيلبّي والجوار، فما أرادوا الدخول إلى حفلة العرس، على مثال الابن الأكبر في مثل الابن الضالّ (لو 15: 28: غضب ورفض أن يدخل).

الاحتراس الثاني «من عمّال السوء». ما السوء الذي يعملون؟ يضلِّلون الوثنيّين الذين اهتدوا إلى الإيمان، ويحاول«ون أن يردُّوهم إلى العهد القديم، على ما نقرأ في الرسالة إلى غلاطية: «هل نلتُم روح الله لأنَّكم تعملون بأحكام الشريعة، أم لأنَّكم تؤمنون بالبشارة؟» (غل 3: 2). ولكن يبدو أنَّ الفيلبّيّين لم ينحدروا إلى ما وصل إليه الغلاطيّون، فقال لهم بولس: «أيُّها الغلاطيّون الأغبياء! من الذي سحر عقولكم، أنتم الذين ارتسم أمام عيونكم المسيح مصلوبًا» (آ1). ويواصل الرسول: «هل وصلتْ بكم الغباوة إلى هذا الحدّ؟» (آ3). والخطر الكبير من هؤلاء «العمّال«، هو أنَّهم يثيرون المؤمنين على الرسول، كما نقرأ في 2 كو 11: 13: «هم رسل كذّابون، وعاملون مخادعون، يظهرون بمظهر رسل المسيح«. ويقابلهم الرسول في النهاية «بالشيطان« (آ14).

والاحتراس الثالث، من المختونين الكذبة. وقيل: من الذي يشوِّهون الجسد. أمّا في الأصل، فاللفظ اليونانيّ يعني: البتر. ففي الختان، يُقطع بعض العضو التناسليّ عند الرجل. إذا كان فقط عملاً خارجيٌّا، فهو يشبه ما يفعله الأطبّاء في أيّامنا. أمّا إذا كان عملاً دينيٌّا يعبِّر عن إيمان ذاك الذي يأتي ليقيم في ظلِّ القدير، فاسمه يتبدَّل. ما هذا اليهوديّ الذي تتكلَّم عنه الرسالة إلى رومة، الذي يعلِّم غيره ولا يعلِّم نفسه؟ يقول: لا تسرق، وهو يسرق. يقول: لا تزنِ، وهو يزني (2: 21-22). متى لا يعود الختان «بترًا«؟ حين يعمل المؤمنُ بالشريعة، وإلاَّ لا يكون لختانه من فائدة (آ25).

افتخر هؤلاء بالختان، ولكنَّ بولس افتخر بالختان الحقيقيّ الذي يعني انفتاح الإنسان على كلام الله ونداءاته. تحدَّثوا عن عبادات يقومون بها في المجامع يوم السبت فيؤمُّها العديدون، كما يُدعَى المؤمنون في أيّامنا إلى مثل هذه الاجتماعات، وفي النهاية تضيع هويَّتهم، بعد أن سُحروا بالضلال والكلام المعسول إن لم يكن الكاذب. أمّا بولس فتحدَّث عن »عبادة الله بالروح« على مثال ما قال يسوع للمرأة السامريَّة: »الله روح. وبالروح والحقِّ يجب على العابدين أن يعبدوه« (يو 4: 24).

ب - أنا أيضًا أعتمد على أمور الجسد

ظنَّ بعض الناس أنَّ بولس يتنكَّر لأصله، كلاّ ثمَّ كلاّ. ولكنَّه لم يَسجن نفسه في أصله اليهوديّ، بحيث لا يخرج منه ويعادي المسيحيّين الجدد. ونتابع قراءة فل 3: 5-6.

5 لأنّي مختون في اليوم الثامن لمولدي، وأنا من بني إسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبرانيّ ابن عبرانيّ، أمّا في الشريعة، فأنا فرّيسيّ.

6 وفي الغيرة فأنا مضطهِد الكنيسة، وفي التقوى حسب الشريعة فأنا بلا لوم.

قدَّم لنا بولس هنا أصله اليهوديّ: من بني إسرائيل. في التاريخ، كانت إسرائيل مملكة في شمال فلسطين تجاه مملكة يهوذا في الجنوب، ولكن بعد ذلك، اتَّخذت معنى روحيٌّا: المختونون هم من إسرائيل. في هذا المعنى نفهم صلاة مريم في نشيد التعظيم: »أعان عبده إسرائيل« (لو 1: 54). أي هذه الجماعة التي انتظرت مجيء المخلِّص. وفي الخطِّ عينه، تنبَّأ زكريّا بالروح القدس: »تبارك الربُّ، إله إسرائيل«. أي مساكين الربّ الذين يلتجئون إليه في ضيقهم وآلامهم. ولكن من المؤسف أن يكون هذا الاسم تشوَّه في أيّامنا. كما تشوَّه اسم صهيون، الذي هو في الأصل »صيون«: فالله يُسمّي أورشليم المدينة المصونة. ولكن ما حيلتنا والمتاجرة بكلام الله من أجل أسباب سياسيَّة واقتصاديَّة تحوِّل صدقَ الله إلى كذب، على ما يقول الرسول: »ضلُّوا كلُّهم وفسدوا معًا. ما من أحد يطلب الخير... حناجرُهم قبور مفتوحة، وعلى ألسنتهم يسيل المكر وسمُّ الأفاعي على شفافهم وملء أفواهم لعنة ومرارة« (رو 3: 12-15).

بما أنَّه من بني إسرائيل، خُتن في اليوم الثامن، شأنه شأن كلِّ يهوديّ، في فلسطين كما في أرض الشتات. جرحٌ في الجسد يدلُّ على انتماء خارجيّ. ويتَّخذ قيمته حين يرتبط بإبراهيم وإيمانه، فيصبح علامةً فارقة للمؤمن وسط العالم الوثنيّ.

وبما أنَّنا في المعنى الروحيّ، نفهم كلام الرسول عن عشيرة بنيامين. نشير هنا إلى أنَّ العهد القديم تكلَّم دومًا عن اثنتي عشرة قبيلة، أو عشيرة، حتّى في زمن المنفى. حتّى حين لم يَعُدْ لهذه التسميات معنًى للناس في الحياة اليوميَّة، والدليل على ذلك أنَّ عددًا من اليهود اتَّخذوا لهم أيضًا اسمًا يونانيٌّا أو رومانيٌّا. مثلاً، صار يشوع »ياسون«، وشاول »بولس«، وسمعان »بطرس« وسيلا »سلوانس«... وكما يقال: هذا قديم في أرضه، قال الرسول: »عبرانيّ ابن عبرانيّ«. أي أبًا عن جد! ونحن نعرف خبرة العبرانيّين ولاسيَّما حين عبروا البحر مع موسى، وعاشوا في البرِّيَّة، قبل أن يدخلوا الأرض مع يشوع.

مرَّتين ذُكرت »الشريعة«. فهناك تيّارات مارستها، وأخرى تطلَّعت إليها بشكل عامّ ولاسيَّما في الاحتفالات بالأعياد. أمّا الفرّيسيّون، فهم الفئة المتشدِّدة، التي تبتعد عن كلِّ علاقة بالوثنيّين. يرفضون الاحتلال الرومانيّ، ولكنَّهم يلبثون وسط الشعب ليرفعوا له معنويّاته. في هذا المجال، استطاع الرسول أن يقول، كما يقول كلُّ فرّيسيّ: »أنا بلا لوم«.

اسمه شاول. هو الاسم الحميم، في البيت، الذي به ناداه يسوع، على طريق دمشق: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« (أع 9: 4). ولكنَّ بولس سيترك هذا الاسم، بسبب المعنى المرتبط به في العالم اليونانيّ، ويحتفظ باسم بولس، منذ مجيئه إلى قبرص حيث نقرأ:»فامتلأ شاول، واسمه أيضًا بولس، من الروح القدس« (أع 13: 9). شاول اسم أوَّل ملك في القبائل. وهو من قبيلة بنيامين. افتخر بولس بهذا الاسم، ولكن إلى حدٍّ ما. فكلُّ ما حسبه اليهود ربحًا، حسبه الرسول »خسارة من أجل المسيح« (فل 3: 7). فكلُّ هذا لا يبرِّره. قال: »لا أتبرَّر بالشريعة (وممارساتها) بل بالإيمان بالمسيح« (آ9).

2. ابن مدينة طرسوس

هذا اليهوديّ المتجذِّر في يهوديَّته، المتديِّن إلى حدود الممارسة الدينيَّة مع الفرّيسيّين، لم يُولَد في فلسطين، ولا هو عاش في فلسطين، إلاَّ بعض الوقت. كانوا يعرفونه على أنَّه كان من طرسوس. لا شكَّ في أنَّه كان هناك أكثر من «شاول»، فلا بدَّ من التمييز. لهذا، قال الربُّ، في الرؤيا، لحنانيا: «اسأل في بيت يهوذا عن رجل من طرسوس، اسمه شاول، وهو الآن يصلّي» (أع 9: 11). ولمّا هدَّد الخطر المهتدي الجديد، أعاده الرسل إلى بلدته. «حاولوا أن يقتلوه، فأنزله الإخوة إلى قيصريَّة وأرسلوه منها إلى طرسوس»، وإلى هناك مضى برنابا يدعوه إلى الرسالة: »وذهب برنابا إلى طرسوس يبحث عن شاول».

ماذا نعرف عن طرسوس؟ هي حاضرة قديمة، واقعة في وادي كدنوس، في كيليكية، كانت مأهولة منذ العصر الحجريّ المصقول (الألف التاسع ق.م.)، ساعة حُوِّلت النباتات البرِّيَّة إلى جوِّيَّة، ودُجِّنت بعض الحيوانات، وما عاد الإنسان راحلاً متنقِّلاً: بل صنع الفخاريّات التي كُشف بعضها في طرسوس، وبدأ عمل النسيج وصقل الحجارة. بعد ذلك أقام فيها الحثِّيّون الذين ظهروا على المسرح السياسيّ في تركيّا (ولاسيَّما في الأناضول) منذ القرن العشرين ق.م. وبما أنَّها قديمة، يجب أن يكون مؤسِّسها أحد أبطال الميتولوجيّا: برسايس، ابن زوش (إله الآلهة) ودنائي، أو هرقل الذي اشتهر بأعماله البطوليَّة.

كانت طرسوس مدَّة طويلة، عاصمة كيليكية، والنقود التي وُجدت فيها دلَّت على انفتاحها في الحقبة الهلِّنستيَّة (أي بعد مجيء الإسكندر الذي حمل الحضارة اليونانيَّة)، وتخاصم عليها السلوقيّون في أنطاكية والبطالسة في مصر، وفي النهاية، بدَّل لها اسمَها أنطيوخسُ الرابع إبيفانيوس (175-164ق.م)، فصارت أنطاكية على كدنوس، وصنع نقدًا خاصٌّا بها، بانتظار أن تعود إلى اسمها الأوَّل. مرَّ فيها بومبيوس الرومانيّ، ثمَّ مارك أنطونيوس مزاحم أوغسطس. في السنوات الأخيرة من الحقبة السابقة للمسيحيَّة وُلد بولس. ويبدو أنَّه مضى إلى أورشليم، وتحدُّث عن معلِّمه «غملائيل» (أع 22: 3) الكبير.

مدينة هامَّة، ويستطيع بولس أن يفتخر بها. ولكن حين اكتشف المسيح، صار كلُّ شيء بالنسبة إليه «نفاية». أصله اليهوديّ أو موطنه الطرسوسيّ. نشير هنا إلى أنَّه عاد إلى طرسوس بعد اهتدائه. أتراه بشَّر في مدينته؟ أتراه انتظر ساعة الله؟ المهم، من هناك أتوا به إلى أنطاكية، وبدأت له مغامرة لن تتوقَّف إلاَّ بموته شهيدًا في زمن نيرون الإمبراطور الرومانيّ.

موقع جغرافيّ رائع. مدينة متَّصلة بالبحر بفضل النهر الذي يسمح بالملاحة بين طرسوس والشاطئ. محطَّة هامَّة على الطريق التجاريَّة التي تنطلق من أنطاكية وسورية، لتصل إلى ساحل بحر إيجه وآسية الصغرى. وكانت طرسوس أيضًا نقطة انطلاق لطريق أخرى تربط البحر المتوسِّط بالبحر الأسود. وهكذا عرفت هذه المدينةُ نموٌّا اقتصاديٌّا وثقافيٌّا كبيرًا.

أقامت في طرسوس جماعةٌ يهوديَّة، وكان لها، بدون شكّ، مجمعها. ويروي تلمود بابل أنَّ الخصيَّين اللذين كانا على باب أحشويرس (أس 2: 21-23) كانا من طرسوس وتكلَّما اللغة (أو: اللهجة) الطرسوسيَّة. ومجمع «الطرسوسيّين» يذكره تلمود أورشليم والعهد وطبريَّة. نشير هنا إلى أنَّ المجموعات اليهوديَّة انتشرت في آسية الصغرى. نقرأ مثلاً في يوء 4: 6: «بعتُم بني يهوذا وأهل أورشليم عبيدًا لليونانيّين». وتحدَّث إش 66: 19 عن ياوان (اليونانيّ) حيث يقيم بعض اليهود. ولمّا توالت أعمال القرصنة، لعبت تجارة العبيد دورها، وأُخذ اليهود إلى المناطق اليونانيَّة. وفي القرن الثالث ق.م.، جعل أنطيوخس الثالث 300 أسرة يهوديَّة في مستوطنة حربيَّة في ليدية وفريجية (تركيّا الحاليَّة)، وأعطاهم أرضًا للزراعة مع الكروم، على ما قال المؤرِّخ اليهوديّ يوسيفس في كتابه العاديّات (12: 147-153). وكان يأتي الخمرُ من كيليكية إلى فلسطين، من كروم يهوديَّة، على ما يبدو. وذكر أع 6: 9 مجمعًا في أورشليم، يضمُّ يهودًا مهلينين (تحضَّروا بالحضارة الهلِّنيَّة أو اليونانيَّة) وبينهم أناس من كيليكية ومن آسية. وكانت مدوَّنات وشهادات عديدة تشير إلى أنَّ عددًا من العائلات اليهوديَّة في آسية الصغرى، كانت غنيَّة جدٌّا ومن محيط اجتماعيّ رفيع. ويروي شيشرون، الخطيب الرومانيّ، كيف أنَّ الوالي فالاريوس فلاكوس نهب «الذهب اليهوديّ». أمّا الكتابات على القبور، فتبيِّن، بالنسبة إلى كيليكية، أنَّ الحواجز سقطت، فصار اليهود مواطنين، شأنهم شأن غيرهم.

قال بولس مرَّتين: «أنا يهوديّ ومواطن رومانيّ من طرسوس في كيليكية، وهي مدينة معروفة جدٌّا» (أع 21: 39). وفي أع 22: 3: »أنا رجل يهوديّ. وُلدت في طرسوس من كيليكية، لكنّي نشأت في هذه المدينة« (أورشليم). جاءته المواطنيَّة من والده، أو من جدِّه. ولكن لماذا أقامت الأسرة في طرسوس؟ نشير إلى أنَّ 2 كو 11: 22 وفل 3: 5، تذكران شاول على أنَّه »«عبريّ» و«عبري ابن عبريّ». فهذا يعني أنَّ الرسول من أصل فلسطينيّ، وهاجر أهله من زمن قصير. وقال القدّيس جيروم، في الرجال المشهورين (ف 5) إنَّ والدَي بولس جاءا كسجيني حرب. ومهما يكن من أمر، فقد أخذ بولس الكثير من هذه المدينة الجامعيَّة. ففي خطبته في أثينة، ذكر الشعراء اليونان (أع 17: 28) مثل الشاعر إبيمنيد (القرن السادس ق.م.) مع المثلَّث الأفلاطونيّ: ه« «الحياة، الحركة، الكيان». كما ذكر الفيلسوف أراتس (القرن الثالث ق.م.) بفكره القريب من فكر كليانث الرواقيّ. أتُرى يستطيع بولس أن يجادل الفلاسفة الرواقيّين (يشدِّدون على وحدة العالم وسيطرة الإنسان على نفسه) والإبيقوريّين (الذين يُعمِلون العقل في حياتهم اليوميَّة) لو لم يكن درس الفلسفة. وسواء كان في الجامعة الطرسوسيَّة أم لا، فقد أخذ الكثير من المدينة التي وُلد فيها.

3. المواطن الرومانيّ

ذكرنا الأصول اليهوديَّة، كما ذكرنا الأصول اليونانيَّة حيث وُلد بولس. ويتساءل البعض، لمَ هذه الأمور التاريخيَّة أو الجغرافيَّة؟ لأنّها تساعدنا أوَّلاً على فهم شخصيَّة بولس المتشعِّبة، ثمَّ تُبرز أنَّ كلَّ ما ناله بولس من مواهب، إنَّما استعمله من أجل البشرى، فهو من قال: «كلُّ شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله» (1 كو 3: 23). لا شيء في العالم لا أقدر أن أتعامل معه، شرط أن يكون مشروعي للمسيح. من اليهوديَّة، أخذ بولس الكثير من المجالات مع اليهود، كما الوعظ ولاسيَّما في أنطاكيَّة بسيدية: استعاد التاريخ المقدَّس، ليصل إلى العبارة الذروة: «فاعلموا يا إخوتي، إنَّنا بيسوع نبشِّركم بغفران الخطايا» (أع 13: 38).

وكما استفاد من كونه مواطنًا طرسوسيٌّا، حيث بدأ رسالته بعد العودة من أورشليم، كذلك استفاد من كونه مواطنًا رومانيٌّا. مرَّتين على الأقل، أشار بولس إلى أنَّه مواطن رومانيّ. مرَّة أولى، حين كان في فيلبّي. لم يُشِر في البداية إلى هذه المواطنيَّة، فجُلد مع رفيقه ووُضع في السجن، وانتظر اليوم التالي لكي يُعلن من هو. هنا نقرأ أع 16: 35-39:

35 ولمّا طلع الصباح، أرسل الحكّام حرسًا يقولون للسجّان: «أطلق الرجلين».

36 فنقلَ السجّان هذا الكلام إلى بولس. قال: «أمر الحكّام بإطلاقكما، فاخرُجا واذهبا بسلام! »

37 فقال بولس للحرس: «جلدونا علانية من غير محاكمة، نحن المواطنين الرومانيّين وألقونا في السجن، وهم الآن يريدون أن يخرجونا سرٌّا؟ كلاّ، بل يجيء الحكّام بأنفسهم ويخرجونا».

38 فنقل الحرس هذا الكلام إلى الحكّام، فلمّا عرفوا أنَّ بولس وسيلا مواطنان رومانيّان خافوا.

39 فجاؤوا إليهما يعتذرون.

ما معنى المواطنيَّة الرومانيَّة؟ قبل الكلام عن المواطنيَّة، نودُّ أن نقول إنَّ لوقا، كاتب سفر الأعمال، أراد أن يبرز رفعة المسيحيّين في العالم اليهوديّ كما في العالم المسيحيّ. فإذا كان بولس تعلَّم «عند قدمي غملائيل»، فمن يتجاسر أن يقول عنه كما قيل عن المسيح: كيف يعرف هذا الكتب، وهو لم يمرَّ في مدارسنا؟ وكذا نقول بالنسبة إلى العالم الوثنيّ. سبق الرسول وحدَّثَ أهل كورنتوس: »ما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر ولا من الأقوياء أو الوجهاء. إلاَّ أنَّ الله اختار ما يعتبره العالمُ حماقة ليخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليخزي الأقوياء. واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنُّه لا شيء ليزيل ما يظنُّه العالم شيئًا« (1 كو 1: 26-28). أمّا لوقا، في كلِّ كلامه عن بولس، فأراد أن يبيِّن أنَّ بين المسيحيّين من هم من درجة رفيعة. مثلاً ليدية، بائعة الأرجوان. هي امرأة غنيَّة، وفي بيتها تجتمع الكنيسة (أع 16: 14-15). ونقول الشيء عينه عن بولس. هو مواطن رومانيّ، ممّا يعني درجة رفيعة في المجتمع. وما هو مواطن منذ فترة قصيرة، بل وُلد في هذا الحالة: ورث المواطنيَّة من والده، وربَّما من جدِّه. إذًا، لا تتوقَّفوا عند أوَّل الرسل الذين كانوا صيّادي سمك. فالمسيحيَّة عرفت في صفوفها كلَّ المستويات »فديونيسيوس الأريوباغيّ هو أحد أعضاء مجلس المدينة« (أع 17: 34). وإن ذُكرت داماريس باسمها، فلأنَّها لم تكن مجهولة في أثينة. هذا ما يقودنا اليوم ألاَّ نعتبر أنَّ الفقراء وحدهم يتعبَّدون لله. أمّا الأغنياء، فهم لا يحتاجون شيئًا!

في هذا المجال، نفهم أنَّ بولس هو أعظم من قائد الحامية. فحين علم أنَّ بولس رومانيّ، قال له: »أنا دفعتُ مالاً كثيرًا حتّى حصلتُ على هذه الجنسيَّة«. فقال بولس: »أمّا أنا فمولود فيها« (أع 22: 28). وكما جاء حكّام فيلبّي يعتذرون، »تراجع القائد وخاف لمّا عرف أنَّه رومانيّ وأنَّه كبَّله بالقيود» (آ29).

ونعود إلى السؤال: «ماذا تعني المواطنيَّة الرومانيَّة؟ امتياز يحدِّد الوضع الاجتماعيّ لحامل هذه الهويَّة. فهناك إشارات خارجيَّة: لبس التوجةَ البيضاء، الرداء الواسع. اسم ثلاثيّ. مثلاً شيشرون هو: مرقس توليوس شيشرون، قيصر، القائد الرومانيّ هو: كايوس يوليوس قيصر. له الحقّ أن ينتخب ويُنتخب، لا يحقُّ لأحد أن يضربه بشكل يحمل العار له. يحقُّ له أن يرفع دعواه إلى الإمبراطور. وهذا ما فعله بولس حين رأى الوالي خائفًا، واليهود مصمِّمين على قتله: »أنا لدى محكمة القيصر، ولدى محكمة القيصر يجب أن أحاكَم» (أع 25: 10). فمن يجسر أن يعارض هذا الطلب؟ لا أحد. ولهذا، أجاب الوالي فستس: »رفعتَ إلى القيصر دعواك، فإلى القيصر تذهب« (آ12).

وبما أنَّ بولس مواطن رومانيّ، مضى إلى رومة. ذاك الذي صعد إلى أورشليم، كما فعل معلِّمه، لن يموت مثل معلِّمه في أورشليم، بل في رومة بقطع الرأس.

الخاتمة

جذور مثلَّثة في مسيرة بولس الرسول. هذا يعني شخصيَّة غنيَّة جدٌّا ومتنوِّعة، قال أنا يهوديّ مع اليهوديّ (1 كو 9: 20). ويقدر أن يقول: أنا يونانيّ مع اليونان، وأنا رومانيّ مع المواطنين الرومان. بل هو حرٌّ من الأحرار، وعبد مع العبيد. أجل، في العالم اليهوديّ درس الشريعة في النسخة اليونانيَّة، المسمّاة السبعينيَّة. في طرسوس، أخذ بأساليب الكلام والخطابة اللذين عرفهما العالم اليونانيّ. ومواطنيّته الرومانيَّة أعطته الثقة بالنفس، على المستوى البشريّ، فحمل اسم الربِّ «إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل» (أع 9: 15). ذاك هو بولس الرسول، الذي فتح الطريق للرسالة مع فريق من العمل كبير. والذي كتب فقدَّم لنا أوَّل آثار مسيحيَّة في العهد الجديد، إذ جاءت الرسالة الأولى إلى تسالونيكي قبل إنجيل مرقس، أوَّل إنجيل، بعشرين سنة تقريبًا. أما ينبغي علينا أن نتعرَّف على هذا العملاق في المسيحيَّة الأولى؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM