الفصل الثالث عشر :رسالة القدّيس بطرس الأولى

الفصل الثالث عشر
رسالة القدّيس بطرس الأولى

تقدّم الرسالةُ نفسَها على أنّها عمل بطرس رسول يسوع المسيح (1: 1) الذي هو شيخ بين الشيوخ (5: 1) والشاهد لآلام المسيح (5: 1). يشير النصّ إلى بطرس، هامة الرسل الذي اختاره يسوع (مر 3: 13 ي) ليرعى قطيع الربّ (يو 21: 15 ي). ويكون شاهدًا للمسيح (أع 1: 22 و 2: 32 و 10: 41).

أ- بطرس الرسول
يحتلّ بطرس مكانة هامّة في الإنجيل كرئيس الرسل. وهو في أعمال الرسل قائدُ الجماعة الأولى في أورشليم. ولكنّنا لا نعرف الشيء الكثير عن فترة حياته من مجمع أورشليم (حوالي سنة 49) حتّى موته شهيدًا في رومة (حوالي السنة 64- 67). مارس رسالته بالدرجة الأولى لدى اليهود كما تقول الرسالة إلى غلاطية (2: 7). ولكنّه لعب دور الريادة في تبشير الوثنيّين حين عمّد الضابط كورنيليوس (أع 10: 1ي). قدّر بولسُ كيفا (اسم بطرس في الآراميّة) قدره كأوّل شاهد للقيامة (1 كور 15: 5) ولكنّه تصادم وإيّاه في أنطاكية. كان بطرس يأكل مع المرتدّين الجدد من الوثنيّة، ولما جاءت جماعة يعقوب تنحّى وتنحّى معه برنابا. أحسّ بولس في هذا العمل أنّ بطرس يرفض حقيقة الإنجيل (غل 2: 14)، لا على مستوى المبادئ (غل 2: 15 ي)، بل على مستوى التطبيق العمليّ.
بعد هذه الحادثة الخطيرة، أقام بطرس مدّة طويلة في أنطاكية كما يشهد التقليد القديم في هذه الكنيسة، ثمّ توجّه، على ما يبدو، إلى كورنتوس (رج 1 كو 1: 12). ولكن نتساءل: هل قام بطرس برسالة في مقاطعات آسية الصغرى التي تتوجّه إليها الرسالة الأولى، هل ذهب إلى بنطس وغلاطية وكبادوكية وآسية وبيثينية؟ لا شيء يؤكّد ذلك ولا شيء ينفيه.
متى وصل بطرس إلى رومة؟ لا نملك التاريخ الأكيد. فحين كتب بولس إلى أهل رومة في شتاء سنة 57- 58، لم يشر إلى بطرس. وحين روى القدّيس لوقا حياة الأسر التي قضاها بولس في عاصمة الإمبراطوريّة فهو لا يتكلّم أيضاً عن بطرس. لكنّ الشيء الأكيد هو أنّ رئيس الرسل مات شهيدًا في رومة. فقبره كان موضع تكريم منذ القرن الثاني على ما يقول الكاهن غايوس في نصّ حفظه لنا أوسابيوس القيصريّ: "أمّا أنا فأقدر أن أبرز الأسلاب التي هي علامة انتصار الرسل. فإذا أردت أن تذهب إلى الفاتيكان أو إلى طريق أُستيا، تجد أسلاب الذين أسسّوا هذه الكنيسة". والحفريّات التي أجريت تحت قبّة مار بطرس في رومة قدّمت الدليل المؤثّر على هذا التقليد. فمنذ القرن الثاني بدأ الحجّاج يأتون إلى هذه الأمكنة يطلبون حماية صيّاد بيت صيدا المتواضع الذي جعل منه يسوع أساس كنيسته.
قدّمت لنا رسائل القدّيس بولس المعطياتِ الكثيرةَ عن حياته الرسوليّة. أمّا رسالتا بطرس فلا تحملان إلاّ القليل من المعلومات الشخصيّة. تبدوان بشكل رسالة دوّارة، تنتقل من موضع إلى آخر وتتطرّق إلى مواضيع عامّة دون أن تُعْلِمَنا بالعلائق الخاصّة التي تربط كاتبها بالذين يكتب إليهم. لهذا وضعت رسالتا بطرس بين الرسائل الكاثوليكيّة السبع، أي الرسائل العامّة، لأنّها تتوجّه إلى الكنيسة كلّها.

ب- عنوان الرسالة وخاتمتها
يقدّم الكاتب نفسه: أنه رسول يسوع المسيح. وهو يتدخّل كشيخ قديم فيحرّض كهنة الجماعة على ممارسة وظائفهم (5: 1). وبما أنه الشاهد لآلام المسيح والمشارك في مجده العتيد، يحقّ له بشكل من الأشكال أن يشجعّ المؤمنين على الثبات في المحنة.
كتب رسالته من بابل (5: 13)، أي من رومة التي سمَّتها الرؤى اليهوديّة والمسيحيّة (رؤ 17: 5؛ 18: 10، 21) مدينة الدماء والزنا. لم يكتب بطرس رسالته بيده ولكن دوّنها سلوانس، الأخ الأمين، الذي عمل عمل السكرتير. وهذا يعني أنّ بطرس أملى عليه كما أملى بولس على ترثيوس رسالته إلى الرومانيّين (16: 22)، أو أنّ بطرس أعطى سلوانس الأفكار العامّة وتركه يكتب بطريقته الخاصّة.
من هو سلوانس؟ هو ولا شكّ سيلا، ذلك النبيّ في جماعة أورشليم الأولى (أع 15: 22، 40) الذي رافق بولس في رحلته الرسولية الثانية. قدّر رسول الأمم خدماته خير تقدير، وأورد اسمه مرّتين في رأس اثنتين من رسائله، في 1 تس 1: 1 وفي 2 تس 1: 1 .
وتورد الرسالة أيضاً اسم مرقس "ابني" (13:5). فالعلاقة حميمة بين بطرس ومرقس، وأمّ هذا كانت تستقبل في بيتها مؤمني أورشليم. فحين نجا بطرس من سجنه جاء وقرع باب بيتها (أع 12: 12- 17). في البداية، رافق مرقس بولس في رسالته. ولكنّ مرقس سيترك رسول الأمم (أع 13: 13). فيقرّر بولس أن لا يرافقه من فارقه في بمفيلية وما شاركهـما في العمل (أع 15: 38). حينئذ التحق مرقس ببطرس وصار له ترجمانًا. ولأنّه حمل هذا اللقب دوّن باسمه الإنجيل الذي نسمّيه إنجيل مرقس.

ج- مَن كتب 1 بط؟
هناك ثلاثة آراء:

الرأي الأوّل
بطرس هو نفسه كاتب الرسالة. هذا هو الرأي العامّ المؤسسّ على إشارات في الرسالة نفسها وفي التقليد الآبائيّ. وهذا هو رأي شرّاح عديدين يعتبرون البراهين المعارضة غير مقبولة.
بطرس هو رسول يسوع المسيح، والشاهد لآلامه وموته، والمسؤول عن رعاية القطيع، وصاحب الطبع العفويّ (1: 8؛ 2: 3؛ رج مر 9: 5؛ يو 6: 68)، والذي يعالج في رسالته مواضيع سبق له وعالجها في عظاته الواردة في أعمال الرسل (2: 14 ي؛ 12:3 ي..).
ولكنّ هناك اعتراضاتٍ : لغة الرسالة يونانيّة أنيقة، فأين تَعَلَّمها بطرس؟ ثمّ إنّ القسم الثاني (4: 12 ي) من الرسالة يلمّح إلى اضطهادات دوميسيانس (+ 96) أو ترايانس سنة 110- 111 على ما يقول المؤرّخ الرومانيّ بلينوس الأصغر في رسالته 96 (رج 4: 16). فكيف يكتبها بطرس وهو الذي توفّي على أبعد تقدير سنة 67 وفي أيّام نيرون؟ والاعتراض الثالث، قرْب أفكار 1 بط من أفكار رسائل القدّيس بولس. وسنعود إلى هذا فيما بعد فنبيّن أنّنا أمام تقليد واحد غرف منه كتّابُ العهد الجديد.
ونُجيب: تمتّعت الجليل بمعرفة اليونانيّة والآراميّة وهي القريبة من وسائل الاتّصال بين العالم اليونانيّ والعالم الساميّ. ثمّ إنّ الرسالة مقالة واحدة تشير إلى الآلام عينها وإلى الفرح عينه (1: 6؛ 13:4) والسعادة عينها (3: 14؛ 4: 14) والمجد عينه (3: 17؛ 4: 14، 5- 10) والطاعة عينها (2: 13- 18؛ 4: 15) ومثال يسوع المتألّم (1: 11؛ 2: 21؛ 3: 18؛ 4: 13) وإرادة الله الواحدة (3: 17؛ 4 : 19).

الرأي الثاني
سلوانس هو الكاتب وإليه تشير الرسالة (5: 12). دعاه بطرس ففعل (5: 12- 14) أو انتظر موت بطرس فدوّن سنة 80- 95 فذكّر بالتعليم العماديّ وشجّع المؤمنين في محنتهم. ولكن كيف نفهم المديح الذي يكيله سلوانس لنفسه: إنّه أخ أمين. ثمّ لماذا لا يقول كلمة عن بطرس الذي يعرفه القرّاء ولا عن بولس؟

الرأي الثالث
كاتب الرسالة مجهول الاسم. دوّنت الرسالة في عهد ترايانس وأرسلت باسم بطرس في نهاية القرن الأوّل. واعتَبر هذا الرأي أنّ الرسالة رسالتان. تنتهي الأولى بالمجدلة في 4: 11: "له المجد والعزّة إلى دهر الدهور. آمين"، وتبدأ الثانية في 4: 12: "أيّها الأحبّاء". ولكنّ هذا الرأيَ مردودٌ وهو أضعف الآراء. أمّا نحن فنقول إنّ صاحب الرسالة هو بطرس الذي دوّنها بمؤازرة سلوانس. فتحدّث عن الاضطهادات التي لحقت بالكنيسة في أيّام نيرون.

د- لمن كُتبت 1 بط؟
إن 1 بط هي رسالة دوّارة وجّهها كاتبها إلى الجماعات المسيحيّة المشتّتة في بنطس. وغلاطية وكبادوكية وآسية وبيثينية. وهي ضمن مقاطعات تقع في الشمال والشمال الغربي من تركيا الحاليّة. اثنتان منهما تلقّتا البشارة على يد بولس الرسول وهما: غلاطية التي مرّ فيها في رحلته الثانية والثالثة، وآسية بعاصمتها أفسس التي أقام فيها زمنًا يزيد على السنتين (أع 19: 1ي). إذا عُدنا إلى سفر الأعمال نعرف أنّ بولس مُنع من الدخول إلى بيثينية (16: 7). أمّا بنطس وكبادوكية فلا يُعلِمُنا بأمرهما العهد الجديد. وما نقرأه في أع 2: 9 لا يُعرِّفنا بطريقة ملموسة إلى هُوِيَّة تلاميذ بطرس الأُوَل، بل يريد أن يبيّن أن الإنجيل وصل إلى المسكونة كلّها. ثمّ إنَّ لا شيء يشير إلى أنّ بطرس زار هذه المقاطعات. فما يبدو معقولاً هو أنّ بعض التلاميذ دفعهم الروح القدس فحملوا بشارة المسيح إلى هذه الأصقاع البعيدة (1: 12). وما نقرأه عند بلينوس الأصغر يُعَرِّفنا أنّ المسيحيّة تجذّرت تجذّرًا ثابتًا في بيثينية منذ بداية القرن الثاني.
حين نتحدّث عن هذه المقاطعات الخمس، لن نتوقّف على المعنى السياسيّ بل على المعنى الأثني أو الشعبي الذي يدلّ على مناطق شاسعة. ثمّ إنّه أورد المناطق الخمس متتبّعًا الطريق التي سيسلكها حامل الرسالة.
وكما سُميّ اليهود العائشون خارج فلسطين الغرباء في أرض الشتات (يو 7: 35) هكذا يسمّي بطرس قرّاءه. نفهم هذا بالمعنى المادّيّ، وبالأحرى بالمعنى الرمزيّ، وخطّ الرسالة خطّ إسكاتولوجيّ يوجّه أنظارنا إلى نهاية الزمن.
من أين يأتي القرّاء؟ من العالم الوثنيّ وهذا واضح من الإعتبارات التي نقرأها في 1: 18 (سيرتكم الباطلة التي ورثتموها عن آبائكم) و 4: 3 (مجاراة الأمم، عبادة الأوثان). ولكنّ بطرس يفترض أنّ هذه الجماعات تقرأ بصورة متواترة الكتاب المقدّس في نصّ السبعينيّة. فالتلميحات العديدة والنصوص الكتابيّة الواردة لا يفهمها إلاّ الذي تآلف ونصَّ الكتاب المقدّس. كانوا في الماضي جُهّالاً (1: 14) بتفكيرهم وسلوكهم، وكانوا عائشين على هامش شعب الله (2: 10)، فصاروا اليوم شعب الله بعد أن نالوا رحمة الربّ.
وكتب القدّيس بطرس رسالته إلى أبناء المدن الذين يستطيعون أن يفهموا اللغة اليونانيّة الأنيقة التي تتحلّى بها الرسالة، لأنّ أبناء الريف احتفظوا بلغاتهم الأصليّة (رج أع 14: 11). بعض هؤلاء كانوا يعيشون في بحبوحة (13:2- 17؛ 3: 1- 6).
ولكنّ أكثرهم كانوا من صغار القوم، من العمّال والصنّاع والعبيد (2: 18- 25؛ رج 1 كو 1: 26 ي). إذا قابلنا 1 بط مع سائر أسفار العهد الجديد، نلاحظ أنّ هذه الأسفار تعالج مسألة الغنى (يعقوب، لوقا)، بينما يتحفّظ بطرس فلا يورد إلاّ مقطعًا تقليديًّا يحارب فيه ترف النساء (3: 3).
وما يجمع بين هذه الجماعات المشتّتة وسط عالم مُعاد هو روح الأخوّة (5: 9). فهي عُرضة لتهديدات خطيرة. ولهذا يكتب إليها بطرس ليعزّيَها في شدائدها ويبيّنَ لها معنى المحنة في عناية الله. وإذ نقرأ بعض الآيات نكتشف طبيعة هذه الأزمة: "أيّها الأحبّاء، لا تتعجّبوا مَّما يصيبكم من محنة تصهركم بنارها لامتحانكم كأنّه شيء غريب يحدث لكم" (4: 12). " فاثبتوا في إيمانكم وقاوموه (أي إبليس) عالمين أنّ إخوتكم المؤمنين في العالم كلّه يعانون الآلام ذاتها" (5: 9). هل نستطيع أن نتعرّف إلى الاضطهاد الذي تشير إليه الرسالة؟

هـ- اضطهاد المسيحيّين
هناك تفسير مألوف يقول إنّ 1 بط تشير إلى الاضطهاد الذي شنّه نيرون ضدّ المسيحيّين بعد حريق رومة في شهر تمّوز سنة 64. كان لابدّ من إيجاد المذنبين لتهدئة غضبة الشعب فاعتُبر المسيحيّون سبب هذا الحريق وأُُسلِموا إلى الوحوش والعذاب في النار. وترك لنا تاقيتس عن هذا الإضطهاد الدمويّ مقطعًا قال فيه: "قدّم نيرون كمتّهمين وسلّم إلى أقسى العذابات أُناسًا مبغَضين بسبب دناءتهم ويسمّيهم الشعبُ مسيحيّين. بدأوا يلاحقون الذين يقرّون. وبناء على إقرارهم اتّهموا جمعًا كبيرًا لا لجريمة حرق رومة، بل لعداوتهم للجنس البشريّ".
كان اضطهاد نيرون سريعًا، ولكنّه لم يتعدّ نطاق رومة. فما صدر قرار يحرم الاسم المسيحيّ بحدّ ذاته. وأفضل برهان على ذلك ارتباك بلينوس الأصغر، حاكم بيثينية، حين قدّموا إليه مسيحيّين للمحاكمة. كان رجل أدب معروف وما جهل القوانين، ومع ذلك تحيّر فرجع إلى السلطة العليا كما يفعل كلّ موظف صالح. فكتب إلى ترايانس رسالة تشكّل وثيقة رئيسيّة عن نموّ المسيحيّة في آسية الصغرى في بداية القرن الثاني.
لم تبدأ القضيّة من فوق، بل إنّ بعض الناس اشتكوا علنًا أو خفية إلى الحاكم وحذّروه من عدد المسيحيّين في المدينة بل في الريف نفسه. ويبدو أنّه من جرّاء ذلك اضطربت الحياة الاقتصاديّة وهُدِّدَ النظام العامّ. عمل بليتوس أوّلاً للحصول على تراجع من قِبَلِ المتّهَمين وعلى فعل ولاء للإمبراطور المؤلَّه. قال: "سألتهم إن كانوا مسيحيّين. فالذين أقرّوا بذلك سألتهم مرّة ثانية ومرّة ثالثة وهدّدتهم بالعذاب. فالذين ثبتوا على موقفهم أعدمتهم. فمهما يكن من أمر إقرارهم، فلقد. تأكّد لي أنه يجب معاقبة هذا العناد وهذا التصلّب الذي لا يلين.
"وأُلْصِقَ إعلانٌ غيرُ موقع يتضمّن عددًا كبيرًا من الأسماء. فالذين أنكروا أنهم مسيحيّون أو أنّهم كانوا مسيحيّين فتوسّلوا إلى الآلهة حسب العبارة التي أمليتها عليهم، وضعوا البخور والنبيذ أمام صورتك التي جئت بها لهذه الغاية مع أصنام الآلهة، وجدّفوا على المسيح (وهذه أمور لا نقدر أن نحصل عليها من المسيحيّين الحقيقيّين)، فكّرت أنّه يجب عليّ أن أطلق سراحهم".
ولقد ساعد البحث بلينوس على التثبّت من أنّ بعض المسيحيّين تركوا إيمانهم منذ ثلاث سنوات أو حتّى منذ عشرين سنة، وهذا يعود بنا إلى زمن دوميسيانس الذي هاجمه سفر الرؤيا بسبب ادّعاءاته التي تُدنّس اسم الله.
وانطلق بعض الشرّاح من رسالة بليتوس هذه فاعتبروا أنّ 1 بط دُوِّنَتْ خلال الإضطهاد ضدّ المسيحيّين في بيثينية. ولكنّ هذا القولَ مردود بسبب العلاقة الوثيقة بين 1 بط والقدّيس بطرس. ثمّ إنّ 1 بط تشير إلى 2 بط (2 بط 2: 1) ويبدو أنّها كتبت قبلها بزمان. فإذا حسبنا أنّ 1 بط دوّنت في بداية القرن الثاني وأنّ 2 بط دوّنت بعد ذلك الوقت بكثير، لما كانت استطاعت الدخول بين الأسفار القانونيّة.
كلّ هذا يدفعنا إلى القول إنّنا لسنا أمام إضطهاد معلَن ومنظّم، بل في جوّ من الضيق وفي حالة من الخطر الدائم بسبب الحياة الغريبة التي يعيشها المؤمنون وسط عالم وثنيّ. ولْنتوقّفْ على بعض الصعوبات: هناك افترائات (2: 12) على متّهَمين ببغض الجنس البشريّ. إنّهم يؤلّفون تجمّعاتٍ سرّيّةً ويهدّدون النظامَ العامّ (2: 15 ي). والعبيد لا يخضعون لنزوات أسيادهم حين تكون منافية للأخلاق، ونستطيع أن نتصوّر أنّ حالة العبيد من شبّان وشابّات لم تكن سهلة. فدعاهم بطرس ليحتملوا بهدوء العقاب الذي ينتج عن طاعتهم لإرادة الله (2: 20 ي). وكانت الزواجات المختلطة بين وثنيٍّ ومسيحيّةٍ كثيرة. فعلى النساء أن يُظهرن وداعة وصبرًا ليحوّلن ظنون أزواجهن. وأيّ سلوك يسلكه المسيحي أمام جيران أو رؤساء يقلقون من طريقة حياته (3: 15 ي) وبالأخصّ في الأعياد الكبرى التي تَفِيْضُ فيها المدينة ببهجة مبّللة بالخمر والفسق. نتذكّر هنا الاحتفالات في أفسس كل ربيع إكرامًا للإلهة أرطميس، إلهة الخصب.
ولقد كان على المسيحيّ أن يواجه هذا المناخ من الحذر كلّ يوم، وهو أصعب من الإعتراف يومًا واحدًا بإيمانه مخاطرًا بحياته. لا شكّ في أن العاصفة كانت تهبّ بين الفينة والأخرى (4: 12) وما كانت جماعة بمأمن منها (5: 9). إلاّ أنّ بطرس أراد أن يشجّع المؤمنين أمام محنة طال أمدها فبدت ثقيلة على المسيحيّين.

و- أين كتبت 1 بط ومتى كتبت؟
أرسلت 1 بط من بابل (5: 13). أمّا اسم بابل فصار في الكتاب المقدّس رمز العواصم الوثنيّة التي تعادي الشعب المختار (أش 13: 1ي؛ 21: 9؛ 43: 14؛ إر 28: 4؛ 50: 29). وسيستعمل الكتّاب اليهود والمسيحيّون هذا الاسم ليدلّوا على رومة (رؤ 14: 8؛ 16: 19؛ 17: 5 ي، 18: 2، 10، 21، عذرا الرابع 5: 1- 31؛ باروك الثاني 67: 4). ولهذا يعتقد الشرّاحُ عامّةً أنّ بابل تدلّ هنا على عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة. ثمّ إنّ لا شيء يدفعنا إلى الظنّ أنّ بطرس بشّر بابل القديمة التي كانت خرابًا في أيّامه، أو أنّه بشر تلك القلعة القريبة من ممفيس في مصر والتي يذكرها المؤرّخ اليهوديّ يوسيفوس. إذًا كتبت 1 بط من رومة، لا من إحدى مدن آسية الصغرى كما يقول بعض الشرّاح.
متى كُتبت 1 بط؟ هناك عناصر تساعدنا على تحديد الوقت الذي كُتبت فيه. فحال القرّاء وأفكار الرسالة تدفعنا إلى أن نقول إنّ 1 بط دوّنت بعد أسفار بولس الأخيرة إلى آسية وتدوينه لرسائله الكبرى. ثمّ إذا اعتبرنا أنّ بطرس هو صاحب الرسالة، وإذا عرفنا أنّه جاء إلى رومة ومات فيها شهيدًا فلا نستطيع أن نتأخّر عن السنة 67. ثمّ إنّ الآباء الرسوليّين (الذين عرفوا الرسل) استعملوا هذا النصّ باكرًا، وهذا ما يمنعنا من القول إنّ الرسالة دوّنت في القرن الثاني كما يظنّ بعض الشرّاح. أمّا الذين يقولون إنّ سلوانس كتب الرسالة فيحدّدون زمن كتابتها بين سنة 64 وسنة 95. والذين يقولون بكاتب آخر فيجعلون زمن تدوينها بين سنة 96 وسنة 111. على كلّ حال، نحن أمام مشكلة نقديّة لا تلزم الإيمان بشكل من الأشكال، والرسالة هي كلام الله. والمهمّ أن نعرف أنّ ذكر بطرس ارتبط برومة حين أُلّفت الرسالة وأنّ سلطته اعتبرت أعظم حافظ للتقليد الرسوليّ.

ز- الفنّ الأدبيّ
اختلف النقّاد في تسمية 1 بط. فقال بعضهم إنّها رسالة، وقال آخرون إنّها عظة، وأكّدت فئة ثالثة أنّنا أمام ليتورجيّا عماديّة.

1- هي رسالة
فالعنوان واضح والسلامات موسّعة ترافقها صلاة (1: 1ي). كلّ هذا يشبه عددًا كبيرًا من الرسائل في ذلك الزمان. أمّا الخاتمة فتشبه خاتمات رسائل القدّيس بولس. وإنْ نقص جسم الرسالة تفاصيل عن الكاتب والقرّاء، إلاّ أنّه يتوافق مع العنوان والسلامات وفعل الشكر، ويستعيد الكلمات المهمّة. وإن قال بعضهم إنّ طابعَ الرسالة لا شخصيّ بمعنى أنّنا لا نحسّ بعلاقة حميمة بين الكاتب والقرّاء. نجيب أصحاب هذا الرأي أنّ الرسالة لا تتوجّه إلى شخص فرد (كما في الرسالة إلى تيطس) ولا إلى كنيسة خاصّة (كما إلى تسالونيكي أوكورنتوس) بل إلى مجموعة واسعة من الكنائس.

2- هي عظة.
فالتحريضات الأدبيّة المتعدّدة تجعل من 1 بط عظة زيد عليها ما يشير إلى الفنّ الرسائليّ (1: 1- 2؛ 5: 12- 14). إلاّ أنّ ما يميّزها عن رسالة يعقوب مثلاً هو أنّ العرض المنطقيّ يحلّ محلّ النقد اللاذع والشكل الحكميّ. تَرِدُ نصوص من العهد القديم، ولكنّها لا ترجع إلى الأسفار الحكميّة، وتذكّرنا المعلّلات التعليميّة بالرسالة إلى العبرانيّين فتتوافق مع هدف كاتب الرسالة الذي يَظهر في الخاتمة: أن يحرّض المسيحيّين على الأمانة رغم المحن، أن يدفعهم إلى الشهادة لِمَا نالوا من نِعَم.

3- هي ليتورجيّا عماديّة
فالتلميحات إلى المعموديّة عديدة (13:1-23). وهذا ما لفت نظر النقّاد فاستنتجوا أنّ الكاتب استعمل عباراتٍ وأفكارًا تعود إلى كرازة عن المعموديّة. فقال بعضهم: الرسالة نسخة عن كرازة عماديّة تستوحي أفكارها من المزمور 34. واعتبر البعض الآخر أنّ القسم الأوّل (1: 3- 4: 11) هو عظة أُلقيت بمناسبة احتفال عماديّ أو هو حفلة معموديّة أُقيمت ليلة عيد الفصح. أمّا القسم الثاني (4: 12- 5: 11) فهو تحريض للموعوظين الذين سيتألّمون بسبب إيمانهم (1: 6؛ 3: 3 ي؛ 4: 6) ولكلّ الجماعة المعرّضة للاضطهاد (4: 12 ي؛ 5: 8- 10).
أمّا نحن فنقول إنّ 1 بط هي رسالة حقيقيّة استقى الكاتب عناصرها المتعدّدة من الكرازة أو الليتورجيّا كيّفها حسب الظروف بشكل تحريض. أراد الكاتب أن يسند المسيحيّين الذين يمرّون في محنة من أجل إيمانهم، فذكّرهم بأصل هذا الإيمان الإلهيّ، وبالالتزام الواجب على كلّ الصعد، وبالخلاص النهائيّ الذي يكلّل جهادنا.

ح- 1 بط وأسفار العهد الجديد
1- 1 بط ورسالة يعقوب
هناك موازاة بين 1 بط 1: 22- 2: 5 ويع 1: 17- 27. أمّا الفكرة الرئيسيّة في هذين المقطعين فهي ولادة المسيحيّ الجديدة انطلاقًا من مبدأ إلهيّ هو كلام الله. نقرأ في 1 بط 1: 23: "وُلدتم ولادة ثانية، لا من زرع يفنى، بل من زرع لا يفنى، وهو كلام الله الحيّ الباقي". ونقرأ في يع 1: 18: "شاء (الآب) فولدنا بكلمة الحقّ لنكون باكورة لخلائقه". والنتيجة التي تنبع من هذه الولادة الثانية تبدو في شكل سلبيّ وفي شكل إيجابيّ: "فانزعوا عنكم كلّ خبث ومكر ونفاق وحسد ونميمة" (2: 1). "فانبذوا كلّ دنس وكلّ بقيّة من شرّ" (يع 1: 21). وفي شكل إيجابيّ يقول يعقوب 1: 21 ب: "وتقبّلوا بوداعة ما يغرس الله فيكم من الكلام القادر أن يخلّص نفوسكم". وتعبّر 1 بط 2: 2 عن الفكرة ذاتها: "ارغبوا كالأطفال الرضّع في اللبن الروحيّ الصافي حتّى تنمُوا به للخلاص". فاللبن رمز الكلمة: وحين يتغذّى الإنسان من الكلمة يصل إلى الخلاص. وهناك نتيجة ثانية لولادة المسيحيّ الجديدة: بعد أن تخلّى المسيحيّ عن كلّ شرّ وأطاع الله الذي ولده، يقدر أن يقدّم حياته ذبيحة روحيّة لله (1 بط 2: 5؛ يع 1: 26- 27).

2- 1 بط ورسالة يوحنّا الأولى
إنّ 1 يو 2: 29- 3: 2 تقابل 1 بط 1: 2- 5. فموضوع الولادة الإلهيّة هو قلب هذين المقطعين: مبارك الله لأنّه ولدنا ثانية (1 بط 1: 3): صرنا أبناء الله (1 يو 3: 1) بعد أن وَلَدَنا الله (1 يو 2: 29؛ رج 3: 9). مبدأ ولادتنا في رسالة بطرس رحمة الله. وفي رسالة يوحنّا محبّة الله. وهذه الولادة الإلهيّة التي تَمَّتْ منذ الآن توجّهنا إلى حالة من الكمال ستتجلّى (1 يو 2:3؛ 1 بط 1: 5) عند مجيء المسيح (1 يو 28:2؛ 1 بط 1: 7). أجل، بدأ مصير المسيحيّ العلويّ منذ الآن بالولادة الإلهيّة، وسيتفتّح حين تنكشف الحقائق الإسكاتولوجيّة.
والنتيجة؟ قال 1 يو 33: "ومن كان له هذا الرجاء طَهَّرَ (أو قدّس) نفسَه كما أن المسيح طاهر" (أو قدّيس). وقال 1 بط 1: 15: "كونوا قدّيسين في كلّ ما تعملون على مثال القدّوس الذي دعاكم". وكيف يتقدّس المسيحيّ، كيف يتجنّب الخطيئة؟ بفعل المسيح الذي ظهر ليزيل الخطيئة ويدمّر أعمال إبليس (1 يو 3: 5: 8). فالمسيح يعطي البشر مبدأ حياة ويقوّيهم لئلاّ يخطأوا (1 يو 3: 9). وهذا ما يقوله 1 بط 1: 18- 20: ظهر المسيح في الجسد وافتدانا من سلوك ورثناه عن آبائنا أي من الخطيئة التي تُمَيِّزُ العالم الوثنيّ. أجل، لم يكفّر المسيح خطايانا السابقة فحسب، بل هو يخلّصنا من عالم شرّير تسود فيه الخطيئة ليُدْخِلَنا في عالم نورانيّ تملك فيه القداسة. ولقد نجونا بدم الحمل (1 بط 1: 9) الذي يحمل خطايا العالم (يو 1: 29، 31).
ونعود من جديد إلى الولادة الثانية في 1 يو 3: 9: "كلّ مولود من الله لا يعمل الخطيئة لأنّ زرع الله ثابت فيه". وهذا الشيء قاله 1 بط 1: 23: "فأنتم ولدتم ولادة ثانية، لا من زرع يفنى بل من زرع لا يفنى. وهذا الزرع هو كلام الله" (رج يو 1: 12- 13)، ويتساءل يوحنّا: كيف يتميّز أبناء الله الحقيقيّون عن أبناء إبليس؟ أبناء إبليس لا يحبّون إخوتهم. إذًا المحبّة تميّز المولود من الله (1 يو 3: 10) أمّا 1 بط 1: 33 فقال: "أحبّوا بعضكم بعضاً من صميم القلب".

3- 1 بط ورسالة القدّيس بولس إلى تلميذه تيطس
يبدأ القدّيس بولس فيعدّد واجباتِ الشيوخ الموكّلين على الجماعة المسيحيّة (تي 1: 5- 9)، ثمّ واجباتِ الرجال والنساء والعبيد (تي 2: 1- 10). بعدها يتطرّق إلى الخضوع للسلطات العامّة (تي 3: 1- 3). هذه هي المواضيع التي يعالجها القسم الثالث من 1 بط. ونلاحظ موضوع الخضوع، خضوع العبيد لأسيادهم، والنساء لرجالهنّ، والمؤمنين للسلطات العامّة.. والهدف: سلوك المسيحيّ الصالح يفحم الوثنيّين الذين يَتَّهِمونه (1 بط 12:2؛ 2:3؛ تي 5:2، 10).
بعد هذه التنبيهات الخاصّة، يدعو بولس قُرّاءه بواسطة تيطس أن يبدِّلوا حياتهم (تي 2: 11-14). وهذا ما يتوافق مع 1 بط 1: 13-16: "لا تتبعوا شهواتكم". وتبديل الحياة مبنيّ على رجاء الخيرات الإسكاتولوجيّة. قال بولس: "نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيشَ بتعقّل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر منتظرين اليوم المبارك الذي نرجوه، يوم ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح الذي ضحّى بنفسه من أجلنا حتّى يفتديَنا من كلّ شرّ" (تي 12:3-14). وهذا ما يقوله 1 بط 1: 13- 15، 18؛ 2: 9. يستند المسيحيّ إلى الرجاء الإسكاتولوجيّ فيبدّل حياته الأخلاقيّة لأنّ المسيح افتداه وخلّصه ليؤلّف شعب الله الجديد.
ونجد مواضيعَ مشتركةً بين تي 3: 5- 7 و 1 بط 1: 3- 5. ونورد نصّ تيطس: "برحمته (1 بط 1: 3) خلّصنا (1 بط 1: 5) بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي أفاضه علينا وافرًا بيسوع المسيح (1 بط 1: 3) مخلِّصِنا لنتبرّر بنعمته ونصير ورثة (1 بط 1: 4) برجاء (1 بط 1: 3) الحياة (1 بط 1: 3) الأبديّة". نلاحظ هذه المواضيع البولسيّة: معارضة بين التبرير بالأعمال والتبرير بنعمة الله، وموضوع التجديد الذي يضاف إلى موضوع الولادة الجديدة. لقد حلّ الروح القدس محلّ الكلمة كمبدأ لولادتنا الجديدة، وهذا الروح أفيض علينا (رج أف 2: 4- 10؛ كو 3: 10؛ روم 5: 5).
المواضيع التي قرأناها في 1 بط هي عينها التي نجدها في تيطس. غير أنّ 1 بط ينطلق من العامّ إلى الخاصّ ليعرض الحياة المسيحيّة، أمّا تيطس فينطلق من الخاصّ إلى العامّ: واجبات المسيحيّين الخاصّة، ثمّ ضرورة الارتداد، وأخيرًا مصير المسيحيّين الإسكاتولوجيّ.

4- 1 بط ورسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة
يتطرّق بولس في روم 6: 1 ي إلى المعموديّة التي توحّدنا بموت المسيح وقيامته. ونتيجة هذا الاتّحاد تبديل حياة جذريّ: صُلب الإنسان العتيق ومات (رج 1 بط 1: 14- 15). ويتوسع القدّيس بولس في هذا فيقول: يصير تبديل حياتنا ممكنًا لأنّنا نجونا من عبوديّة الخطيئة فاستطعنا أن نخدم الله والِبرّ (روم 6: 18، 22). يحدّثنا 1 بط 1: 18 عن الفداء، ولكنّ الرسالة لا تتكلّم على عبوديّة الإنسان لقوى الشرّ. أمّا بولس فيجعل من الخطيئة شخصاً يستعبدنا ويعارض الله (روم 3: 8: 10). هنا نجد معارضة بين شخصين يتجاذبان أفعالنا الأدبيّة، أكانت صالحة أم طالحة وهما: الله وإبليس. ويبيّن القدّيس بولس الإنسان يصارع الخطيئة التي تفرض عليه شريعتها، وينهي بنشيد الظفر (روم 7: 24) لأنّ الروح حرّره من شريعة الخطيئة (روم 8: 1- 3). فإن استطاع المسيحيّ أن يحيا حسب شريعة الله فلأنّه يملك في ذاته مبدأ حياة يشركه في قدرة الله عينها. هنا نلتقي مع 1 بط 1: 22-23 ومع 1 يو 3: 9 مع فارق بسيط هو أنّ بولس يتكلّم عن الروح وبطرس ويوحنّا عن كلام الله.
وفي روم 9- 11 نجد مقابلة بين العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ تستند إلى نصوص من العهد القديم هي أش 28: 16؛ مز 118: 22؛ أش 8: 14 ثمّ هو 1: 9- 12؛ 11: 1- 6. ولنقرأ أوّلاً روم 11: 29- 31: "ولا ندامة في هبات الله ودعوته. فكما عصَيتم الله من قَبْلُ ورَحِمكُمْ الآن لعِصْيَانكم، فكذلك هم عَصَوُا الآن ليرحَمَهم كما رَحِمَكُمْ" ونقرأ في 1 بط 2: 8، 10: "هم يعثرون لأنّهم لا يؤمنون بكلمة الله... أمّا أنتم فشعب اقتناه الله لإعلان فضائله وهو الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. وما كنتم شعبًا من قبل، وأمّا اليوم فأنتم شعب الله: كنتم لا تنالون رحمة الله وأمّا الآن فنلتموها". نجد مقابلة على مستوى العصيان بين "من قبل" و "اليوم".
ثمّ إنّ روم 12: 1- 2 تقابل 1 بط 2: 5؛ 1: 13- 15. وبعد هذه المقدّمة يتوسّع بولس في القسم الأخلاقيّ منطلقًا من واجبات الذين نالوا مواهبَ لبناء الكنيسة روم 12: 3- 8. ثمّ يعدّد الفضائل التي تؤول إلى التعاون مع الجميع (روم 12: 9- 21؛ رج 1 بط 4: 7- 11؛ 3: 8- 9). بعد هذا يدعو بولس إلى المحبّة الأخويّة والضيافة (رج 1 بط 4: 8- 9). هنا يقول بولس (روم 12: 14- 17): "باركوا مضطهديكم، كونوا متّفقين، لا تتكبّروا بل اتّضعوا. لا تجازوا أحدًا شرًّا بشرّ". وفي 1 بط 3: 8- 9 نقرأ: "وبعد فليكن لكم جميعًا وحدة في الرأي وعطف وإخاء ورأفة وتواضع. لا تردّوا الشرّ بالشرّ، والشتيمة بالشتيمة، بل باركوا فترثوا البركة".
في روم 13: 1- 7 يطلب بولس من المسيحيّين أن يخضعوا للسلطات العامّة (1 بط 2: 13، 17)، وهذا الخضوع يتأسسّ على مخافة الله. ويعود بولس (روم 13: 8- 14) إلى المحبّة الأخويّة ويدعو المؤمنين لأن يخلعوا أعمال الظلمة ويلبسوا سلاح النور. هذا ما نقرأه في 1 بط 1: 13- 2: 10 عن تبديل حياة المسيحيّين، عن الحبّ الأخويّ، عن التخلّي عن كلّ شرّ لأنّ الله دعانا من الظلمة إلى النور.

5- 1 بط ورسالة القدّيس بولس إلى كولسّي
بعد أن أشار بولس إلى المعموديّة (كو 2: 11- 12) التي يعتبرها (رج روم 6: 3- 4) اتّحادًا بموت المسيح وقيامته، استخلص نتائج من أجل الحياة المسيحيّة: "الله أحياكم.. إذا كنتم متّم مع المسيح... إذن، إن قتم مع المسيح.. أميتوا أعضاءكم" هنا نكتشف أفكار 1 بط: دعوة المسيحيّ العلويّة، تبديل الحياة، وواجبات المسيحيّ.
إن كو 3: 1- 4 تقابل 1 بط 1: 3- 5. يقول بولس إنّ المسيحيّ نال حياة جديدة (كو 2: 13؛ 3: 3). ويشدّد على إسكاتولوجيّة هذه الحياة الجديدة التي نلناها في المعموديّة فيقول: "لأنّكم متّم وحياتكم مُسْتَتِرَةٌ مع المسيح في الله. فمتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا تظهرون أنتم أيضا معه في مجده". هذا هو موضوع 1 بط 1: 3- 5: "وَلَدَنَاْ الله ولادة ثانية لرجاء لكم في السموات.. لخلاص سينكشف في اليوم الأخير".
ويشدّد 1 بط 1: 13- 2: 10 على تبديلٍ في الحياة الأخلاقيّة مفروض على المسيحيّ. هذا هو أيضاً الموضوع الأساسيّ في كو 3: 5- 17. هناك الوجهة السلبيّة: "أميتوا أعضاءكم" (كو 3: 5)، تخلّصوا من كلّ ما فيه غضب (كو 3: 8)، اخلعوا الإنسان العتيق (كو 3: 9). وهناك الوجهة الإيجابيّة: "البسوا الإنسان الجديد (كو 3: 7). وهذا ما نقرأ في 1 بط 1: 14: "لا تتبعوا شهواتكم ذاتها التي تبعتموها في أيّام جهالتكم.. انزعوا عنكم كلّ خبث".
وبعد أن يتحدّثَ بولسُ عن الإرتداد إلى المسيحيّة بوجه عامّ، يحدّد بالتفصيلِ واجباتِ أعضاءِ الجماعة: خضوعَ النساء لرجالهنّ، واجباتِ الأزواج نحو نسائهم، واجباتِ الأولاد نحو والديهم وواجباتِ الوالدين نحو أولادهم، خضوع العبيد لأسيادهم وواجبات الأسياد نحو عبيدهم (كو 3: 18- 4: 1). هذا ما نقرأ أيضاً في 1 بط 18:2- 7:3.
حين قابلنا 1 بط مع يع، 1 يو، تي، روم، كو، إكتشفنا المواضيع عينها. إذًا لا بد من وجود رسمة عامّة لبسَتْ أشكالاً متنوّعة حسب الأمكنة فأعطت الخطوط الكبرى للأخلاقية المسيحيّة: دعوة المسيحيّ إلى حياة إسكاتولجيّة، تبديل حياة تفرضه هذه الدعوة على المسيحيّ، تفاصيل هذه الحياة الجديدة. من أين جاءت هذه الرحمة؟ لا بدّ لنا هنا من أن نعود إلى النصوص الليتورجيّة. المعموديّة خروج جديد ينتقل فيه المسيحيّ من عالم إلى آخر، لأنّه افتُدِي بدم حملٍ لا عيب فيه ولا دنس هو المسيح. والمعموديّة ولادة جديدة بكلمة الله الحيّ والأزلي: ننزع عنّا كلّ شرّ وننكر الشيطان، ننسلخ من عالم الظلمة وننتقل إلى ملكوت الابن.

ط- مضمون 1 بط
تبدو 1 بط بشكل رسالة. تبدأ بعنوان (1: 1- 2) يُذكَر فيه اسم المرسِل والمرسَل إليه.

1- القسم الأوّل (1: 3- 12)
يبدأ هذا القسم بعبارة مباركة يهوديّة أخذت طابعًا مسيحيًّا ونجدها في 2 كور 1: 3؛ أف 1: 3: "يبارَك الله ويُمْدَح لأنّه ولدنا ولادة ثانية من أجل مصير إسكاتولوجيّ" (1: 3- 5). ويعبَّر عن هذا المصير بثلاث كلمات: من أجل رجاء، من أجل ميراث، من أجل خلاص، فالرجاء والميراث والخلاص هي المجد الإسكاتولوجيّ (رج 1: 7؛ 5: 10) المستتر بعد الآن والذي سينكشف يومًا ما (1: 5)، هي ظهور يسوع المسيح (1: 7). وُضع المسيحيّ منذ البداية أمام مصيره العلويّ الذي دشّنته على الأرض الولادة الإلهيّة الجديدة والذي يجد كامل تفتّحه في المجد الإسكاتولوجيّ. وتبرز نتيجة طبيعيّة مرتبطة باضطهادات محتملة: رجاء الخلاص الإسكاتولوجيّ هو يَنبوع فرح عميق يتيح لنا أن نتحمّل آلآم هذا الزمن الحاضر وأحزانه دون أن نلينَ (1: 6- 9). ثمّ إنّ الآلام الحاضرة والمجد الإسكاتولوجيّ قد أعلن عنها الروح النبويّ. المسيح نفسه تألّم قبل أن يدخل في مجده. وهكذا نكتشف في هذا القسم الثالوث الأقدس. يُذكر الآب في 1: 3- 5، والروح القدس في 1: 10- 12، والابن في المقطع كلّه.

2- القسم الثاني (1: 13- 2: 10)
يبدو القسم الثاني كنتيجة لتوسيع القسم الأوّل وهو يبدأ: لذلك. أمّا قلب هذا القسم فموضوع ولادتنا الجديدة بيد الله (1: 23) الذي عبّرت عنه الرسالة في 1: 3. أمّا الفكرة المسيطرة فهي ارتداد المسيحيّ وتبديل حياته المسيحيّة الذي تفرضه دعوته الإسكاتولوجيّة. يجب أن نتخلّى عن شهواتنا الماضية لنحيا حياة قداسة على مثال القدّوس السامي (1: 13- 16). وتبديل الحياة ممكن، لأنّ دم الحمل افتدانا من حياة أخلاقيّة شرّيرة ورثناها من آبائنا (1: 17- 21). فالحياة الجديدة تتميّز بالمحبّة الأخويّة التي صارت ممكنة بولادتنا الجديدة بكلمة الله (1: 22- 25). إذن يجب علينا أن ننزع كلّ شرّ ونكرّس نفوسنا للخير بحيث تكون حياتنا كلّها ذبيحة روحية مقدَّمة لله (2: 1- 5). وهكذا حلّ المسيحيّون محلّ اليهود فكوّنوا شعب الله الجديد. دُعُوا من الظلمة إلى النور. أي انتُزعُوا من منطقة الشرّ ليدخلوا إلى دائرة الخير والقداسة. ونلاحظ التضمين الذي يقدّم لنا الفكرة الأساسيّة في هذا القسم: حين دعانا الله أجازنا من حياة فساد إلى حياة قداسة (1: 14- 15)، من الظلمة إلى النور.

3- القسم الثالث (2: 11- 5: 11)
يتوسعّ هذا القسم الأخير بطريقة ملموسة في ما تقوم به حياة المسيحيين الجديدة التي تتعارض وحياة الوثنيّين. فبعد مقدّمة (2: 11- 12) تُثَبِّتُ العلاقة مع القسم السابق، نجد لائحة بواجبات المسيحيّين نحو السلطات العامّة (2: 13- 17)، بواجبات العبيد نحو أسيادهم (2: 18- 25)، بواجبات النساء نحو أزواجهنّ وواجبات الأزواج نحو نسائهم (3: 1-7)، بفضائل يجب ممارستها لِيسودَ السلامُ في الجماعات (3: 8- 9)، بواجبات الذين نالوا مواهب لبناء الكنيسة (4: 7- 11)، بواجبات الشيوخ الذين أقيموا على رأس القطيع وبواجبات الشبّان نحو الشيوخ (5: 1- 5).
كان من حقّ المسيحيّين أن يظنّوا أنّ أمانتهم الأخلاقيّة المسيحيّة ستؤمّن لهم احترامًا وإكرامًا من مواطنيهم غير المسيحيّين. ولكن يبدو أنّ الوثنيّين استاؤوا لأنّ المسيحيّين لا يعيشون مثلهم ويبدون وكأنّهم يعطونهم أمثولات في علم الأخلاق (رج 2: 12؛ 16:3؛ 4:4).
من هنا بعض المضايقات والاضطهادات ضدّ جماعات آسية الصغرى، فأراد بطرس أن يحرّض المسيحيّين ليبقَوا أمناء للمثال الذي اتّخذوه، وكلّمهم عن الفرح وسط الالام من أجل البِرّ. من الأفضل أن نتألّم على مثال المسيح لأنّنا نعمل الخير، من أن نتألّم كفاعلي سؤ (3: 13- 4: 6). فإن تألّمنا كمسيحيّين كان لنا مجد أبديّ وهذا أفضل من أن تصيبَنا دينونةُ الله (4: 12- 19). تأتي هذه الإضطهادات من إبليس، ولكن الله الذي دعانا إلى مجد أبديّ يحمينا إن سلّمنا إليه نفوسنا متّكلين عليه (5: 7- 11).

ي- التعليم اللاهوتيّ في 1 بط
إنّ رسالة بطرس الأولى هي أقدم إعلان عن البديهيّات الأساسيّة التي توجّه الحياة المسيحيّة: "إيمان من أجل الخلاص" (1: 5، 9). أي رجاء (3: 15) حيّ (1: 3) لا يتعب ولا يلين (1: 13، 3: 5). فعلى المسيحيّين أن يتصرّفوا "كأناس أحرار وكخدّام لله" (2: 16) لا كمن يجعل الحرّيّة ستارًا للشرّ. من أجل هذا أعطاهم الله عقلاً يسودون عليه وينيرونه ويُغْنُوْنَهُ بتعليم الإنجيل الصحيح (2: 2)، وقلبًا به يعبدون الله ويحبّون القريب (1: 22، 3: 15)، وضميرًا به يعبّر المؤمن عن نواياه الخاصّة وعن شخصيّته الأخلاقيّة (3: 16) وبه ينذر نفسه لخدمة الله (3: 21) فيوجّه سلوكه حسب أنوار الإيمان (2: 19). وهذه الأنوار تتركز خاصّة على شخص المسيح (آلامه وعمله الفدائيّ، 1: 8) وعلى المعموديّة التي هي الحدث الخلاصيّ الحاضر دومًا بالنسبة إلى كلّ واحد منا. "هو ينجّيكم منذ الآن" (3: 21).
فكلّ معمّد وُلد ولادة ثانية لرجاء الحياة بفضل قيامة المسيح (1: 3). وينتج عن ذلك:

1- كلّ أبناء الله هم إخوة (17:2؛ 5: 9)
على أبناء الله أن يحبّوا بعضهم بعضاً محبّة صادقة (22:1-23؛ 17:2؛ 4: 8). ونعبّر عن هذه المحبّة بقبلة السلام في نهاية الحفلات الليتورجيّة (5: 14)، والتوافق في الآراء (3: 8)، والإحترام المتبادل (3: 7) والضيافة (4: 9) وخدمة الآخرين (4: 10 ي) والتغاضي عن الشتائم ونسيان سيّئات القريب (3: 9) ورفض كلّ افتراء ونميمة (2: 1). إنّ ممارسة مثل هذا الحبّ الإلهيّ الصادق تعطينا غفران كلّ خطايانا (4: 8).

2- مات المسيح ليقودنا نحو الله (3: 18؛ 4: 6)
لهذا كانت الحياة المسيحيّة انطلاقًا في غربة (1: 1، 17؛ 2: 11) تسير في إطار إسكاتولوجيّ، ولاسيّما وإنّ نهاية منفانا قريبة (4: 7) وإنّ كلّ خليقة على الأرض فانية وسريعة العطب كالعشب الذي ييبس (1: 24). ينتج عن هذا أنّ المسيحيّ المنطقيَّ مع ذاته ينظر دومًا إلى المجد السماويّ (4: 14؛ 5: 1، 4، 10) إلى الميراث الذي لا يفسد ولا يضمحلّ (1: 4؛ 3: 7: 7- 9) إلى ساعة ظهور يسوع (1: 7، 13)، ساعة المديح والإكرام (4: 13؛ 5: 4) وساعة الحساب والمجازاة (4: 5، 17- 18؛ 5: 6). فلا ظروف بشريّة ولا أعمال يوميّة ولا حالة حياة إلاّ ويضيئها هذا النور وهذا الرجاء بالنهاية، ويعطيها معنى وقيمة. وهذا النور يحدِّد موقف سهر ويقظة وعفّة (1: 13؛ 4: 7؛ 5: 8). فيكون يَنبوع قوّة ويكفل لنا الثبات (5: 9: 10، 12) ويحفظ في النفس الفرح والبهجة (1: 6، 8؛ 13:4) لأنّنا متيقّنون أنّنا سنرى أيامًا سعيدة (3: 10).

3- شعب مقدّس
بعد أن طهّرت المعموديّة نفوس المختارين (1: 22) بفضل تقديس الروح ورشّ دم المسيح (1: 2)، يكون المسيحيّون شعبًا مقدّسًا (2: 9) ويحسبون ذواتهم كهنة يعملون في مديح الله ورفع الصلوات إليه وتقدمة الذبائح الروحيّة له (2: 5). وبعد أن صارت حياتهم طاعة ليسوع المسيح (1: 2- 14) أصبحت دينيّة وهي تمجّد الله (: 11 6). "عيشوا مدّة غربتكم في مخافته" (1: 17) وأنتم في أرض غريبة (2: 17). ويشدّد على العفّة (31: 2) كما على التكريس لله (1: 15). وهنا نفهم كم تُعارض القداسةُ الجذريّة ممارساتِ الوثنيّين (1: 18؛ 4: 3- 4). إنّها موت عن الخطيئة وحياة من أجل البرّ (2: 24)، وهي تفرض علينا أن ننزع كلّ خبث ومكر ونفاق وحسد ونميمة (2: 1- 2)، أن نزيل الشهوات البدنية التي تحارب نفوسنا (1: 14؛ 2: 11؛ 4: 33)، أن نضع حدًّا للخطيئة (4: 11) وأن نميل عن الشرّ بكلّ أشكاله (2: 16؛ 3: 10، 17؛ 4: 15). هذا السلوك الجميل هو أفضل ردّ على الإفتراءات التي تصيب المؤمنين (2: 12، 15)، وهو يقدر أن يردّ إلى المسيح ذوي الإرادة الصالحة (3: 1، 15).

4- المشاركة في الصلب
ما يميّز هذه الحياة المسيحيّة هي أنها مشاركة في صليب المخلّص. فبطرس الشاهد للمسيح (5: 1) يعلم أنّ زمن الغربة هو زمن المحنة (1: 6؛ 5: 10) لأنّ إيماننا يجب أن يُمتحن وينقّى (1: 7). فالمسيح تحمّل معاملات مؤلمة ومذلّة، فلا يقدر تلاميذه إلاّ أن تصيبهم الالام عينها. "هذه هي دعوتكم: تألّم المسيح من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه" (2: 21). نحن هنا في قلب سرّ الخلاص الذي لا يزال يتمّ في كلّ من يطيع يسوع المسيح (1: 2). فلاهوت آلام المسيحيّين يرتبط بصليب المخلّص. ولقد تبيّن الأنبياء على ضوء الروح القدس أنّ المجد يتبع الآلام (1: 11). منذ ذلك الوقت "هي نعمة أن نصبر على العذاب ونتحمّله مظلومين" (2: 19). إنّها السعادة الحقّة لأنّها تدخلنا إلى السماء بفضل هذه المطابقة الدقيقة مع المخلص (3: 14؛ 4: 13- 14). وهذا اليقين عند المعمَّد يوجّه تحقيق حياته المسيحيّة. "تألّم المسيح في الجسد، فتسلّحوا أنتم بهذه العبرة" (4: 1).

5- تقبّل مشيئة الله
مثل هذا الزهد الصارم بل البطوليّ يبقى قابل التحقيق ويبدو عاديًّا للمؤمن الذي يسلم ذاته إلى الربّ على مثال يسوع (13:2) ويهتمّ بالعمل بمشيئته (4: 2؛ 19: 5: 2). وهو يتّكل على الخالق الأمين عاملاً الخير (4: 19). يزيل عنه كلّ همومه ويتركها لله الذي يُعْنَى بنا (7:5) فتبقى عيناه على الأبرار ويستجيب طلباتهم (3: 12). وهو يتقبّل بتواضع وخضوع كامل نظام العناية الذي أسسّه الله على الأرض. ويبدو من هذا القبيل محترمًا للتسلسل الاجتماعيّ (2: 18 ي) والزواجيّ (3: 1ي) والسياسيّ (2: 13 ي). لا يدهش من شيء، ولا من كارثة حين تفرض نفسها وكأنها آتية من عند الله (4: 12). هو يعرف أنّ إله كلّ نعمة (5: 10) الذي اختارنا وهيّأنا مسبقًا (1: 1، 20؛ 5: 10) يحمينا (1: 5) بقدرته (5: 10- 11) ويتمّم عمله. بعد هذا لا الخوف ولا التهديد يؤثّران في شجاعته (3: 6، 14، 16) وثباته (5 : 9) والسلام العميق الذي يعيش فيه (3: 4، 5: 14). فالمسافرون والمتغرّبون هم تلاميذ يسوع المسيح، هم مؤمنون بالله (1: 21) ولهذا يدعونه كأب (1: 17) ويتذوّقون طيبته (2: 3) ويعرفون أنّه ثالوث (1: 2) فيعبدونه.

6- مسبّبات وفرائض
في هذا التعليم الخلقيّ تتناوب الفرائض البسيطة والمسبّبات السامية. فالمسيحيّ يبدو إنسانًا عاديًّا يحافظ على ثنائيّة كل حياة أخلاقيّة: يتجنب الشرّ ويصنع الخير (3: 11). وفوق ذلك يظهر ورعه في تكريس ذاته للخير (3: 13) بفضل إيمانه: يعيش سلوكًا صالحًا في المسيح، يعيش للبرّ (2: 24؛ 3: 16). ولكنّ القدّيس بطرس يذكّر أعضاء الجماعة المسيحيّة (النساء، العبيد) أنّ عليهم أن يتصرّفوا حسنًا (2: 15، 20؛ 3: 6، 17) فيخالفوا فاعلي السوء. والتصرّف الحسن يكون بأن نقوم بواجباتنا حسب حالتنا الاجتماعيّة ووظيفتنا في الكنيسة، أن نكون أصحاب أخلاق حميدة فلا نعمل شيئًا قبيحًا أو عائبًا. وهذا الإصلاح واجب لنقطع ألسنة المفترين الوثنيّين وتدخّلات العدالة البشرّية، بل لأنّ الربّ يطلبه وفيه السلام الحقيقيّ وفرح الضمير (3: 11- 17).
ويعود القدّيس بطرس إلى مبادئ الإيمان ولاسيّما حين يكون على المسيحيّ أن يضع خطواته في خطوات المسيح المتألّم. وهو يبرّر السلوك المسيحيّ مذكّرًا المؤمنين بهذه الأمور العلويّة. يحدّثهم عن قداسة السيرة فيستند إلى سلطة الكتاب المقدّس (1: 15)، وعن الخضوع للسلطات فيرجع إلى إرادة الله (2: 15). ويجب على المسيحيّ أن يكون متواضعًا ولا يهتمّ لأمور الدنيا لأن الله يعطي نعمته للمتواضعين ويعتني بنا (5: 5، 7). ثم يسند متطلّبات المحبّة والصبر إلى النظرة إلى الخلاص وغفران الخطايا (3: 9؛ 4: 8، 14، 17). ثم يقول لنا إنّه يجب أن نتحمّل كلّ شيء لأنّ المسيح مات من أجل خطايانا.

7- الله والمسيح ها قطبا الأخلاقيّة المسيحيّة
هذا ما يعطي هذه الأخلاقيّة وجهًا خاصًّا في الكنيسة الأولى. فإله كلّ نعمة يهيّئ دومًا للمؤمنين عطيّة الخلاص المجّانيّة (1: 10) ويغمرهم منذ الآن بمواهبه (1: 2) حتّى حين يمتحنهم (2: 9- 20). فعلى كلّ منّا أن يستعمل هذه المواهب الإلهيّة من أجل إخوته الذين يعتبرهم وارثي النعمة (3: 7) ومختارين (1: 1). وهو من أعماق قلبه يشكر رحمة الله أي ربّنا يسوع المسيح (1: 3). هذا من جهة. ومن جهة ثانية فهو كمسيحيّ يمجّد الله (4: 16) والمسيح ويؤمن به ويرجوه (1: 21) ويتمّم إرادته مقتديًا بالمسيح ومتّحدًا به. فالتلاميذ هم المسيحيّون (4: 16 نسبة إلى المسيح) أو الذين هم في المسيح (5: 14)، لأنّهم موضوع اختيار أبديّ وتقديس تمّ منذ البدء. وهم كمعمّدين مُعَدُّون لحياة دينيّة وأخلاقيّة "في الطاعة ليسوع المسيح" (1: 2) "وفي السيرة الحسنة في المسيح" (3: 16). فكلّ تلميذ يؤمن بربّه (1: 8) ويحبّه دون أن يراه (1: 8) ويعبده (3: 15) ويسير وراءه كالنعجة وراء الراعي. ويثق به على أنّه حافِظُ نفسه (2: 25) والوسيط تجاه الآب (2: 5؛ 4: 11؛ 5: 10). يقتات من الإنجيل الذي هو الغذاء الوحيد الذي ينمّيه من أجل الخلاص (2: 2). حياته هي اقتداء بيسوع المسيح، بل مشاركة في حياته بحيث يقاسمه مجد السماء (7:1) بعد أن يتّحد هنا معه في آلامه (1:4، 13؛ 1:5).
لا ينفصل كائن المسيحيّ عن كائن المسيح. فعند الولادة الثانية بالمعموديّة يدخل العضو الجديد كحجر حيّ في الحجر المختار والثمين الذي هو المسيح، ويجتهد ليكمّل هذه الوحدة ويتقرّب أكثر بل يتمثّل ويندمج بحيث لا نعود نميّز بين حجر وحجر. وهذا ما يفصل المؤمنين عن اللامؤمنين (2: 7- 8) ويجعلهم شعب المدعوّين إلى النور (2: 9). المؤمنون هم قطيع الله ورعيّته (5: 2، 3)، هم بيت روحيّ (2: 5)، أمّة مقدّسة، نسل مختار، شعب نظّمه الله بانتماء كلّ المؤمنين إلى المسيح. من خلال الصور والاستعارات نكتشف أنّ الكنيسة هي الموضع الذي نتقبّل فيه نعمة الله (4: 10؛ 5: 12) لأنّها تجمع المختارين حول حجر الزاوية المختار من الله (2: 4، 6).

8- المسيح ابن الله (1: 3)
المسيح هو ابن الله الموجود قبل الخلق والذي جاء على الأرض في نهاية الزمن ليَظْهَرَ للمسيحيّين (1: 2). تألّم بإرادته ومات عن خطايانا (1: 19) وقام (1: 3؛ 3: 18، 21) في المجد (1: 21). وجلس عن يمين الله فوق كلّ الأرواح السماويّة (3: 22) وسيعود أيضاً ليدين الأحياء والأموات (4: 5؛ 5: 4). وحين يذكّرنا بطرس بتاريخ الخلاص يشير إلى أنّ المسيح لَمَّا دُفن نزل إلى الجحيم (أي عالم الموتى) بنفس حيّة، ليحمل البشرى إلى الناس هناك.

9- نزول المسيح إلى الجحيم (3: 19)
يشكّل هذا النزول أحد المواضيع في الإيمان المسيحيّ فيدّل على أنّ سلطان المسيح شمل الكون كلّه وأنّ فداءه عمل حتّى في عالم الموتى.
علّم بطرس يوم العنصرة (أع 2: 27؛ رج مز 16: 10) أنّ المسيح نزل إلى الجحيم يوم كان جسده محبوسًا في القبر. وكان أشعيا قد قال: "الجحيم من أسفل تزلزلتْ لك لتستقبل مجيئك، وأنهضت لك كلّ الأشباح.. فأجاب جميعهم قائلين: أنت أيضاً سُحقت مثلنا وصرت مشابهًا لنا" (أش 14: 9- 10). وعلّم الرسل أنّ المسيح يسود على مملكة الموتى: "من أجل هذا مات المسيح وعاش ليكون سيّد الأموات والأحياء" (روم 14: 9). وقال بولس في الرسالة إلى أهل فيلبّي (2: 10): "كلّ ركبة تنحني باسم يسوع في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم". فالمسيح جاء بتجسّده إلى الأرض، وبموته نزل إلى الجحيم وبقيامته صعد إلى السماء. وهو يقبل الهتافات في المناطق المختلفة من أفواه مستقبليّه. فأهل الجحيم أنفسهم حَنَوا ركبهم وأقرّوا به سيّدًا وعبدوه. وهذا ما يقوله أيضاً سفر الرؤيا (5: 13): (كلّ خليقة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض تهتف لله وللحمل الذي بيده مفاتيح الموت والجحيم" (رؤ 1: 18)، لأنّ سلطانه مطلق على ذلك المكان.
سلطان يسوع سلطان حيّ وخلاصيّ. أعلنه يوحنّا (5: 25، 28، 29) فقال: "ستأتي ساعة وهي الآن حاضرة متى يسمع الموتى صوت ابن الله فيحيا الذين سمعوه... ستأتي ساعة يسمع الذين في القبور صوته فيخرجون: فالذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيّئات إلى قيامة الدينونة". وتعلن آ 25 قيامة روحية دشّنها المسيح بكرازته على الأرض. وتعلن آ 28- 29 قيامة للموتى حين يسمعون صوت الربّ.
أمّا القدّيس بطرس فيحدّد أنّ المخلّص مارس رسالة فاعلة تجاه سكّان الجحيم: "مات المسيح مرّة من أجل الخطايا. مات وهو البارّ من أجل الأشرار، فانطلق يبشرّ في السجن الأرواح التي رفضت أن تؤمن فيما مضى حين تمهّل صبر الله أيّام بَنَى نوحٌ الفلك" (3: 18- 20). "فالوثنيّون سيؤدّون حسابًا للذي هو مستعدّ أن يدين الأحياء والأموات. ولذلك أذيعت البشارة على الأموات أيضاً" (4: 4، 6). ينتج من هذين النصّين:
إنّ المسيح انطلق بعد موته إلى الأرواح (إلى الموتى) الذين ظلّوا غير مؤمنين في أيّام نوح فلم يسمعوا تنبيهه فحُفظوا في الجحيم، في جبّ المسجونين. وإنّ على موتى العهد القديم أن يسمعوا أوّلاً الإنجيل وبشارة الخلاص بالمسيح قبل أن يدانوا ويحكم عليهم بصورة نهائيّة. لأنّ لا خلاص إلاّ بالمسيح (أع 4: 12).
هذا يفترض ضرورة اتّخاذ موقفٍ واعٍ مع المخلّص أو ضدّه. لقد تمهّل الله وصبرَ وانتظر الزمن المؤاتي زمن التوبة للموتى قبل الدينونة الأخيرة. كان اللاهوت اليهوديّ على خطى دا 12: 2 يقسم الموتى إلى أبرار يذهبون إلى الحياة الأبديّة وأشرار يذهبون إلى العار الأبديّ. أمّا مدرسة شمعي فتحدّثت عن طبقة متوسّطة تنزل إلى الجحيم لتُسحق هناك وتخرج بعد أن تشفى. واعتبر بعض الرابّانيّين أنّ داود انتزع أبشالوم من ذلك المكان وأنّ رابي مئير أخرج معلّمه أبنير وأنّ المسيح سيُخرج بني إسرائيل من هذا السجن المظلم.
إذًا ذهب المسيح إلى الجحيم بين موته وخروجه من القبر ليعطيَ الأرواح الفرصة الأخيرة للخلاص. قال يوستينوس: "فالربّ الإله القدّوس تذكّر موتى بني إسرائيل والذين يرقدون في تراب القبور، نزل إليهم ليبشّرهم بالخلاص". ولكن هذا التدخّل الأخير لا يتلائم والعهدَ الجديد حيث ظهر المسيح بالجسد، وحلّ على الملائكة والوثنيّين والعالم (1 تم 3: 16). وتعلن الرسالة إلى العبرانيّين (9: 27): "مصيرُ البشر أن يموتوا مرّة واحدة. وبعد ذلك الدينونة". فبعد أن ينال الخطأة معرفة الحقّ لا يبقى لهم إلاّ "إنتظار مخيف ليوم الحساب ولهيب نار يلتهم العصاة" (عب 10: 26- 27). فلا مجال للتوبة للكفّار والسفهاء والفاسقين (عب 12: 6-17).
استعمل بطرس فعل "كرز" وفعل "أنجل" (أي أعلن الإنجيل) ليدلّ على رجاء عون إلهيّ حفظه الله لأهل الجحيم. فلقد قال الترجوم كامتداد لنصّ تث 30: 12- 13: "لو كان لنا واحد مثل يونان النبيّ الذي نزل إلى أعماق البحر فيأتي إلينا بالمسيح ويسمعنا فرائضه فنتّمها"! ثمّ إنّ أف 4: 8 أوردت مز 68: 19 فتذكّرت تحرير الموتى على يد المسيح: "صعد إلى العلى واقتاد المسبيّين وأعطى البشر عطايا". وفي هذا الكلام رجوع إلى الترجوم: "أصْعَدْتَ (يا موسى) إلى الفُلْكِ مسبيّين وعلّمتَ كلماتِ الشريعة ووزّعت على الناس العطايا". ويقول بولس (أف 4: 9- 10): "وما المقصود بقوله صعد سوى أنّه نزل أولاً إلى أعمق أعماق الأرض. وهذا الذي نزل هو نفسه الذي صعد إلى ما فوق السموات كلّها ليملأ شيء". وهكذا تسلّط المسيح على الكون كلّه بما فيه عالم الموتى. وكما أنّ آلام المصلوب هي مجده لأنّها آلام خلاصه، فقيامته وصعوده هما غلبة منتصر انتزع الخاطئين من سلطان الموت والشيطان.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM