الفصل الحادي عشر: الرسالة إلى العبرانيين

الفصل الحادي عشر
الرسالة إلى العبرانيين

الرسالة إلى العبرانيّين هي أكثر مؤلّفات العهد الجديد سرّيّة. لا بداية فيها تدلّ على مُرسِلها والجهةِ التي إليها أرسلها، ولا تاريخ يدلّ على زمانها ولا إشارة إلى المؤمنين الذين تسلّموها. اسمها الرسالة إلى العبرانيّين، فلا هي رسالة، ولا هي توجّهت إلى العبرانيّين، أولئك المسيحيّين من أصل يهوديّ. قيل إنّها من القدّيس بولس ولم يكتبها القدّيس بولس. يمكننا أن نعنونها: عظة إلى مسيحيّين ضائعين. أمّا قارئوها فهم رجال ونساء تعلّقوا بحماس بيسوع المسيح، ولكن خاب أملُهم حين واجهتهم الصعوبات والاضطهادات: إجعلوا نصب عيونكم رأس إيماننا ومتمّمه يسوع المسيح.

أ- هدف الرسالة
تحتلّ التوسّعات التعليميّة مركَزًا هامًّا في عب فتلفت انتباهنا إلى كثافتها وأصالتها، ولكنّ هذه التوسّعات لم تدوَّن بطريقة مجرّدة بل في أُطُر محلّيّة سوف نتعرّف إليها. فهدف الكاتب هدف عمليّ وهو أن يعزّيَ ويشجعّ مسيحيّين اضطُهِدوا فملّوا من الجهاد. فينطلق التحريض مرّة في توسعّ نظريّ يسنده، ومرّة أخرى يطلّ التأويل الكتابيّ فيتبعه تعليم أخلاقيّ هو خاتمته وتطبيقه الروحيّ (1: 1- 4؛ 3: 1، 6؛ 4: 16؛ 5: 11؛ 6: 12؛ 7: 26؛ 10: 19- 39). نحن لسنا أمام فرائضَ أخلاقيّةٍ خاصّة أو عامّة، ولا أمام لوائحَ من الفضائل نمارسها أو لوائح من الرذائل نتجنّبها، بل أمام إشارة محدّدة في ظرف معيّن: حافظوا على إيمانكم ما كلّفكم الأمر، فإيمانكم هو قبول للكلمة الموحاة وثقة بالعناية الإلهيّة وأمانة ثابتة لإرادة الله (3: 7؛ 4: 3؛ 11: ي). قرّاء عب هم أمام التجربة والمحنة (13: 9)، فوجب عليهم أن يتابعوا سعيَهم وجهادهم (12: 1) فيحافظوا على النعمة (12: 28)، على رجاء لا يلين (10: 23) وعلى التزام بالله لا تراجع فيه (10: 39).
ويحدّد الكاتب كتابه: إنّه كلام تعزية (13: 22). والكلمة اليونانيّة المستعملة هنا (باراكلاسيس) تدلّ على نداء ملحّ يتضمّن التشجيع والتنشيط والسند ترافقه التعزية مرّة والتنبيه والتوصيّة مرّة أخرى. هذا الكلام يتوجّه إلى أشخاص تواجههم الصعوبات، إلى مسيحيّين وجب عليهم أن يكونوا أهلاً لدعوتهم السماويّة (3: 1) وكفوئين ليحقّقوا مصيرهم (11: 40). تجرّب هؤلاء المؤمنون، ضَعُف إيمانُهم وأمانتهم، فحملت إليهم عب مزيدًا من النور عن المسيح وقدّمت لهم لاهوتًا عن الكهنوت. من هذا القبيل تبدو عب مقالة دفاعيّة وتبيانًا لسموّ العهد الجديد على العهد القديم، ويسوع ابن الله على موسى وعلى الملائكة. ما استطاعت الليتورجيّا القديمة أن تطهّر الضمائر، أمّا دم المسيح فيغسل قذارة كلّ خطيئة. ما استطاع بنو إسرائيل أن يدركوا الله، أمّا المسيحيّ فيدخل إلى الهيكل السماويّ. فن يفضّل القليل على الكثير والعابر على الثابت والظلّ على الجوهر والصورة على الحقيقة والوعد على تمامه؟ فلو كان العهد الأوّل لا غبار عليه لَمَا كنّا طلبنا عهدًا آخر (8: 7). ولهذا لمّا جاء المسيح "أَبطل الأوّل وأقام الآخر" (10: 9).
عب هي مقالة دفاعيّة تحمل إلى قرّائها براهينَ عقليّة وتشجيعًا خلقيًّا، وقد كُتبت حسب قواعد البلاغة التي عرفها القرن الأوّل المسيحي. إنّ كلمة التعزية هذه هي خطبة إقناعيّة تمثّل نموذج وعظ المرسلين في الكنيسة الأولى وكرازة الخلاص بالمسيح وتعليمًا عن ابن الله الذي فدانا فداء أبديًّا. هنا نشير إلى مواضيعَ ثلاثة. الأوّل: دعوة الله (3: 1ي؛ 9: 15) التي نقلها الوعّاظ (2: 1- 4) والتي توصل "كلام الله الحسن" (6: 5؛ رج 3:4) في وقت النعمة (7:3، 15؛ 7:4) وتطلب منّا أن نقبل الخلاص المعروض علينا. الثاني: يكمن الخلاص في المسيح حامل الوحي الكامل (1: 1) وراعي الخراف العظيم (13: 20) وقائد خلاصنا (2: 10) فينقّينا من الخطايا (9: 26) ويمنحنا الميراث السماويّ فتتحقّق مواعيد العهد القديم كافلة الرجاء (7: 28). الثالث: يجب أن ننقادَ إلى هذا التعليم (3: 15) ونطيعَ المسيح (5: 9) ونؤمنَ فنخلص (2: 1ي).
ويتوسّع كلام عب بشكل تأويل كتابيّ فَيُعتَبَرُ عظة يتلوها أحد الوعّاظ المرسلين. يتذكّر النفوس الكبيرة المؤمنة في العهد القديم (11: 1ي) ويدعو المسيحيّين إلى الأخذ بمثَل الأجيال السابقة (6: 12). هكذا كان يفعل الخطباء ومعلّمو الأخلاق ليقنعوا عقل الإنسان ويحرّضوه ويدفعوه إلى أن يأخذ قراره. وفي عب تغلّب أبرار العهد القديم على المحنة الطويلة فكانوا غمامة من الشهود تنشّط مجاهد العهد الجديد وتبيّن له حكمة العناية الإلهيّة وثمرة الاتّكال على الله. ظروف الأبرار في العهد القديم هي ظروف تلامذة المسيح، فليقتدوا بهم وليتحاشوا أن يسقطوا بعد أن ورثوا مثل هذه التقليد المجيد.
قلنا إنّ عب هي مقال دفاعيّ وعظة ونقول أيضاً أنها رسالة. فهي قريبة من رسائل العهد الجديد وبالأخصّ الرسالة إلى أفسس التي تشبه العظة والمقالة لا الرسالة. ونجد في عب تحديدات ملموسة عن حالة قرّائها (6: 10؛ 10: 25، 33- 34؛ 13: 7) واللغة المباشرة التي تتضمّن التحريض والتهديد. هذه الرسالة ترتبط براع عارف بحاجات مؤمنيه الروحيّة، وهي تنتهي كما تنتهي كلّ رسالة: "ادعوا لنا لأنّنا نعلم أنّ ضميرنا صالح... كتبت إليكم بإيجاز... اعلموا أنّ أخانا تيموتاوس قد أخلي سبيله... يسلّم عليكم الذين في إيطالية" (13: 18- 25). أمّا نقص العنوان والتحيّة في البداية فهو أمر نجده مثلاً في 1 يو وفي رسائل أخرى من الكتاب المقدّس ومن العالم القديم.
وهكذا يمكننا أن نتخيّل كاتب عب كمعلّم ونبيّ نَعِمَ بموهبة خاصّة لشرح الكتب المقدّسة. انكبّ على العهد القديم فاكتشف فيه الصور المسبقة عن الجديد وبرّر تعلّقه بالمسيح بإنباءات وإسنادات وجدها في النُظُم الموسويّة والأقوال النبويّة. ما يهمّه هو أن يبيّن توافق العهد القديم والعهد الجديد والمفارقة بينهما. فقدّم لنا لاهوتًا عن المسيح الملك والكاهن الذي قُدِّم ذبيحةً فاعلة في المعبد السماويّ فمَنح الخطأةَ المطهَّرين وصولاً إلى الله. وصلته أخبار عن جماعة من "العبرانيّين المثقّفين" (5: 12؛ 6: 1؛ 12: 15) يعيشون أزمة إسكاتولوجيّة وخلقيّة، فشجّعهم ونشّطهم وحرّضهم على الإصلاح. جمع تعليقات وعاد إلى عظات سابقة فقدّم ثمرة تأمّله الكتابيّ بشكل عظة تأويليّة ليشجّعَ المؤمنين المجرَّبين وينيرَ لهم الدرب إلى المسيح.

ب- تصميم الرسالة ومضمونها
لا بنية أدبيّة واضحة للرسالة، وهذا الأمر يصحّ في 1 كور التي تلامس المواضيع المتعدّدة. أمّا عب فهي رسالة وخطبة ونحن سنكتشف أنّ الكاتب اعتنى بتدبيجها فجاءت آية في البيان. وحاول الشرّاح أن يجدوا تصميمًا منطقيًّا فقسموا عب إلى قسم عقائديّ (1: 1- 10: 18) وقسم خلقيّ (10: 19- 13: 21) فاعتبروا خطأً أنّ الكاتب انتظر الفصل العاشر ليحثّ سامعيه على الحياة المسيحيّة. وجعلوا القسم العقائديّ مؤسَّسًا على فكرة التفوّق: تفوّق يسوع على الملائكة (1: 5-18:2)، تفوّق على موسى (3: 1- 4: 13)، تفوّق على الكهنوت القديم (4: 14). ولكن نشير هنا إلى أنّ الكاتب لا يشدّد فقط على التفوّق بل على التشابه بين المسيح والعهد القديم (رج 3: 1- 2؛ 5: 4- 5). وهناك شرّاح آخرون قدّموا تصميمًا في ثلاث نقاط: كلمة الله (1: 1- 4: 13)، كهنوت المسيح (4: 14- 10: 18)، طريق المؤمنين (10: 19- 13: 21). غير أنّ التصميم يتجاهل الفصل الواضح الذي نجده في 3: 1 (لذلك أيّها الإخوة القدّيسون...) وفي 5: 11 (ولنا في هذا الموضوع كلام كثير). ثمّ إنّ موضوع الكهنوت مذكور في ف 3 وما بعد، وموضوع الكلمة حاضر في ف 5 وف 12-13 كما في الفصول الأولى.
وها نحن نقترح مضمون الرسالة إلى العبرانيّين:
1- المقدّمة (1: 1- 4) تتضمّن موضوع الرسالة حسب منهجيّة البلاغة القديمة. تُقدّم شخص وعمل ابن الله الملك والكاهن، حامل الوحي والفداء وموضوع إيمان المسيحيّين (رج 4: 14-16؛ 8: 1-2؛ 10: 19- 22). ينتج من هذا أنّ عهد الخلاص الجديد يتفوّق على القديم.
2- تعلن نهاية المقدّمة عرضاً عن الاسم الذي ناله الابن بالوراثة، وهو اسم يختلف عن اسم الملائكة، تعلن عرضاً كرستولوجيًّا. وهذا هو موضوع القسم الأوّل (1: 5- 2: 18). ابن الله المتجسّد هو ملك الكون. هو إله وإنسان وهو فوق الملائكة المعلنين الوحي القديم. انحدر كإنسان بطريقة موقّتة ولكنّ انحداره ضروريّ لرسالته الخلاصيّة ليتمثّل بإخوته وهو لا يضرّ مطلقًا بسلطانه. أجل، هذا ما قالته الكرازة التقليديّة: أعلن الكاتب أنّ المسيح هو ابن الله وأخ البشر فهيّأ كرستولوجيّته الكهنوتيّة إذ حدّد موقف المسيح كالوسيط الكامل بين الله والبشر.
3- عرضت نهايةُ القسم الأوّل موضوعَ كهنوت المسيح فقالت إنّه وجب على المسيح أن يكون "حَبْرًا رحيمًا وأهلاً للتصديق في ما يخص العلاقات مع الله". وهكذا أعلنت القسم الثاني (3: 1-5: 10) الذي عنوانه يسوع الحبر الأمين والرحيم، والذي يتضمّن جزءين يقابلان الصفتين اللتين أعطيتا للمسيح. يبيّن الجزء الأوّل (3: 1- 4: 14) أنّ المسيحَ حبرٌ أهل للتصديق فيقابل بينه وبين موسى مقابلة تستند إلى عد 12: 7. وبعد هذا يحرّض المؤمنين: بما أنّ المسيح أهل للتصديق فتجنّبوا الكفر وقلّة الإيمان. ويبيّن الجزء الثاني (4: 14- 5: 10) أنّ المسيح حبر رحيم فيقابل بينه وبين هارون. ثمّ يعطي تحديدًا عن الكهنوت يطبّقه على المسيح الذي يتحلّى بالصفتين الجوهريتين لكلّ كهنوت: إنّه رحيم فهو متضامن مع البشر، إنّه أهل للتصديق بفضل تمجيده، لهذا يستطيع أن يتدخّل لدى الله من أجل إخوته. وهكذا يكون للمسيح إمكانيّة إقامة العلاقة الضروريّة لدى كلّ حبْر من أجل دوره كوسيط.
4- وننتقل إلى القسم الثالث (5: 11- 10: 39) الذي يتطرّق إلى كهنوت المسيح الحقيقيّ. يثير الكاتب انتباهَ المؤمنين وينعشُ إيمانَهم فتتوالى التشجيعات والتهديدات. عبّرت الجملة الأخيرة في القيم الثاني عن السمات الخاصّة بكهنوت المسيح فأعلنت القسم الثالث الذي يتضمّن ثلاثة مقاطع تقابل ما قرأناه في 5: 9- 10. وقبل كلّ مقطع يذكّر الكاتب بالكلمات التي تعلنه والتي سيتوسعّ فيها (رج 6: 20؛ 7: 28؛ 28:9). ويسبق كلّ هذا مقدّمة يحرّض فيها المؤمنين (5: 11- 6: 20)، ويدعوهم إلى الإصغاء، ويشدّد على أهمّيّة هذا العرض التعليميّ.
المقطع الأوّل (7: 1- 28) يحدّد نوعيّة كهنوت المسيح الممجّد. فهو كاهن لا على مثال هارون بل على مثال ملكيصادق (7: 11). وهو كاهن، لا لأنه ينتمي إلى أسرة كهنوتيّة أرضيّة، بل لأنّه ابن الله. ويتوقّف المقطع الثاني (8: 1- 9: 28) عند موضوع الذبيحة الذي جعل من المسيح الحبر الكامل الذي جلس عن يمين الله. ويقابل الكاتب الليتورجيّا الحديثة مع عبادة العهد القديم التي تضمّنت فقط ذبائحَ حيوانات في هيكل أرضيّ وطقوسًا خارجيّة غير فاعلة. أمّا ذبيحة المسيح فكانت ذبيحة شخصيّة أدخلته السماء وجعلت منه الوسيط الحقيقيّ، لأنها تنفع من أجل تنقية الضمائر. ويتوسعّ المقطع الثالث (10: 1- 18) في هذه الفكرة الأخيرة فيشدّد على عجز الشريعة القديمة عن تطهير الضمائر رغم معاودة تقديم الذبائح، وعلى فاعليّة كهنوت المسيح الذي "بقربان واحد جعل الذين قدّسهم كاملين أبدًا" (10: 14). وبعد هذا العرض التعليميّ يَرِدُ تحريض (10: 19- 39) يعبّر عن علاقة التعليم بالحياة فيدعو السامعين إلى الدخول في القدس على خطى المسيح الكاهن الأعظم، والعيش في الإيمان والرجاء والمحبّة، ويحذّرهم من السقوط. نحن هنا في قلب الناحية العمليّة.
5- وتهيّئتا نهاية هذا التحريض (36:10-39) للقسم الرابع (11: 1- 12: 13) الذي يشدّد على موضوعين: الثبات الضروريّ والإيمان الذي يحي البارّ. ونتأمّل في مقطع أوّل (11: 1- 40) رسمة جميلة من التاريخ الكتابيّ تصوّر لنا إيمان الأقدمين، ونسمع في مقطع ثان (12: 1- 13) تحريضاً على الثبات يتوجّه إلى المسيحيّين العائشين وسط المحنة.
6- دعت العبارة الأخيرة المسيحيّين "ليرسموا لخطاهم سبلاً قويمة" (12: 13). وهكذا انتقل الكاتب من الإيمان والثبات الأساسيّين للحياة المسيحيّة، إلى النشاط الذي لا يقدر مسيحيٌّ أن يتهامل فيه. هذا هو موضوع القسم الخامس (12: 14- 13: 18) الذي يحدّد اتّجاهاتٍ من أجل السلوك المسيحيّ: "اطلبوا السلام مع جميع الناس. اطلبوا القداسة التي بغيرها لا يرى الربَّ أحدٌ". هنا يتوقّف الكاتب على شعائر العبادة المسيحيّة في علاقتها مع الحياة اليوميّة مستندًا إلى ذبيحة المسيح والربّ القائم في السماء.
7- وتنتهي الرسالة بِتَمَنٍ أخير يختم العظة ويورد السلامات (13: 20- 25).

ج- الفنّ الأدبيّ في الرسالة إلى العبرانيّين
وصل إلينا نصّ عب في حالة جيّدة ونقلته إلينا مخطوطات عديدة أقدمُها السينائيّ والإسكندرانيّ (القرنان الرابع والخامس)، ووصل إلينا ناقصاً في الفاتيكانيّ (يتوقّف في وسط 9: 14). ونقلته إلينا البرديّات كاملاً (رقم 46) أو مقاطع متفرّقة (رقم 12، 13، 17)، وشهدت له الترجمات السريانيّة والقبطيّة واللاتينيّة. وهناك نصوص تقدّم اختلافات عن النصّ المعروف عامّة. ففي 2: 9 نقرأ: بنعمة الله. وهناك نصّ يقول: بدون الله أو ما عدا الله، وهذا لا يتوافق مع القرينة (رج 2: 10). قال أوريجانس: لكلّ إنسان ما عدا الله (رج 1 كور 15: 27) وفكّر كثيرون بكلمة يسوع على الصليب (مت 27: 46). وفي كلتا الحالتين نحن أمام الخيرات الأخيرة التي صارت لنا بواسطة ذبيحة المسيح. وفي 11: 11 نقرأ حرفيًّا: سارة أخذت قدرة على إنشاء نسل، وهذه العبارة تنطبق على إبراهيم لا على سارة. ولكنّ اسم سارة موجود في كلّ المخطوطات فأبقت عليه الترجمات وقالت مثلاً: نالت سارة القوّة على أن تحمل.
وبعد هذا نتساءل: هل نحن أمام رسالة أم مقالة دفاعيّة، أم خطبة وعظة؟ أمّا النظرة التقليديّة فتعتبر عب رسالة كسائر رسائل مار بولس، غير أنّ النظرات الحديثة تختلف عنها.
ولنعد إلى معطيات النصّ. فإذا قابلنا الآيات الأولى (1: 1- 4) مع الآيات الأخيرة (13: 22- 25) وجدنا أنّ المسألة ليست في غاية البساطة. فالخاتمة (13: 22- 25) هي نهاية رسالة حقيقيّة وتتضمّن العناصر التي نجدها في نهايات رسائل القدّيس بولس: تحريض قصير، أخبار شخصيّة، سلامات، وتمنٍّ أخير. وهناك علاقة بين ضمير المتكلّم (أنا) وضمير المخاطب (أنتم). ابتعد الكاتب عن القرّاء فما استطاع أن يتّصل بهم إلاّ بالكتابة. أسلوب هذه الخاتمة بسيط وجملها قصيرة لا رابط بينها، ولهذا تبرّر تسمية عب رسالة.
ولكنّ البداية (1: 1- 4) لا تحمل شيئًا من الطابع الرسائليّ. فلا نجد اسم الكاتب ولا المؤمنين الذين يكتب إليهم ولا تمييزًا بين ضمير المتكلّم وضمير المخاطب ولا عبارة سلامات. الأسلوب فخمٌ احتفاليّ وتشكّل الآيات الأربع الأولى جملة واحدة. فتساءل النقّاد: هل ضاعت البداية، ولكنّ 1: 1- 4 تشكّل بداية حقيقيّة لا لرسالة بل لخطبة وهي تُهيِّئ القارئ للتوسيعات التالية.
بما أنّ الخاتمة رسائليّة والبداية خطابيّة فلنعد إلى جسم الرسالة. هناك عناصر خاصّة بالرسائل: أكتب إليكم (نجدها حتّى في 1 يو)... أو أنتم بعيدون... فالكاتب لا يقول أنه يكتب بل يتكلّم: ولنا في هذا الموضوع كلام كثير (5: 11)، أمّا نحن مع ما تقدّم من كلام (6: 9)، ورأس الكلام في هذا الحديث (8: 1؛ رج 9: 5؛ 11: 32). فلا شيء يفرض علينا القول إنّ الذين يتوجّه إليهم غائبون. ثمّ هو لا يشير إلى رسائل تسلّمها منهم ولا إلى أخبار يريد أن ينقلها إليهم. إنّ العناصر الرسائليّة تنحصر في نهاية عب. والنتيجة التي نصل إليها هي أنّ عب ليست رسالة بل عظة. فنحن لسنا أمام مقالة مكتوبة، بل أمام عظة شفهيّة قيلت في جماعة مسيحيّة ثّم أُرسلت خطّيًّا إلى جماعة أخرى وأضيف إليها العنصر الرسائليّ. ثمّ إنّ الخاتمة تشهد أنّ ما سبقها ليس رسالة بل خطبة وعظة (13: 22). أمّا ما يميز العظة فمزج فنّين أدبيَّين: العرض التعليميّ والتحريض الرعائيّ. وهذا ما نجده في عب. فبين المقدّمة (1: 1- 4) والخاتمة (13: 20- 21) يبدأ الكاتب بالعقيدة ثمّ يدعو سامعيه لأن يستخلصوا الاستنتاحات لحياتهم (2: 1- 4؛ 3: 7- 4: 16؛ 5: 11- 6: 20؛ 10: 19- 39؛ 12: 1-18:13).
وانطلق نقّادٌ من هذا القول فاعتبروا أنّ عب مزيج من مؤلَّفَيْن مختلفَين، جُعلا أجزاء ثمّ دُمجت هذه الأجزاء. فالعرض التعليميّ يعود إلى مقال دفاعيّ يردّ به كاتبه على اعتراضات يهوديّة. من هنا سمّي المؤلَّف: رسالة إلى العبرانيّين. أمّا المقاطع التحريضيّة فتعود إلى عظة ألقيت على المسيحيّين. ولكنّ هذا الاعتبار مرفوض ووحدة عب واضحة.
وتساءل نقّاد آخرون: هل كان هدف الكاتب الأوّل أن يحثّ المؤمنين على حياة مسيحيّة أم أن ينير إيمانهم؟ هناك من قال إنّ الناحية العمليّة هي الأولى وإنّ العرض التعليميّ مرتبط بها. وهناك من يقول إنّ الناحية العمليّة تستند إلى العرض التعليميّ. ويبدو أنّ الرأي الثاني هو الأصحّ ولاسيّما وإنّ عب تشدّد على ضرورة تقبّل رسالة الإيمان قبل أيّ شيء آخر (2: 1؛ 3: 12؛ 4: 14؛ 15: 22، 38؛ 12: 25؛ 13: 7). وإنّ الوحدة العميقة بين تعليم كرستولوجيّ وتحريض أخّاذ يجعل من عب نموذج الكرازة المسيحيّة. فالرسالة إلى العبرانيّين تقدّم لنا العظة الوحيدة التي احتفظ لنا بها العهد الجديد.

د- من كتب الرسالة إلى العبرانييّن؟
هذا السؤال طرحه أوريجانس منذ القرن الثالث المسيحيّ فجاء الجواب: ترتبط عب بالمعنى الواسع ببولس الرسول، ولكننا لا ننسبها بصورة مباشرة إلى بولس الرسول.
قال التقليد الشرقيّ إن عب رسالة بولسيّة بسبب علاقاتها مع رسائل القدّيس بولس ووجودها بين هذه الرسائل. فكرستولوجية عب تذكّرنا بما نقرأ في رسائل الأسر (أف، كو): المسيح هو صورة الله الذي ارتفع فوق الملائكة ونال الاسم الذي يتفوّق على كلّ الأسماء. ثمّ إنّ عرض عب لذبيحة آلام المسيح يستند إلى نصوص مار بولس، وموضوع الكهنوت نفسه يرتبط بما نجده عند القدّيس بولس: فقد أعلن نظام الشريعة وطاعة المسيح الفدائيّة. وهكذا يمكننا أن نقول إنّ صاحب عب هو أحد أعضاء الجماعة الرسوليّة البولسيّة. وذهب بعضهم إلى القول إنّ بولس دوّن ختام الرسالة وضمّه إلى عظة ألقاها أحد رفاقه في الرسالة، ولاسيّما وأنه يذكر تيموتاوس أخاه الذي ترك السجن. ولكنّ هذا القول الأخير يبقى مجرّد افتراض.
دافع عن هذا الموقف نقّاد حتّى النصف الأوّل من القرن العشرين. ولكن ليس من يدافع الآن عن نسبة عب المباشرة إلى بولس. فأسلوب عب يختلف عن أسلوب بولس، والتأليف مختلف بسبب القواعد البيانيّة. تعوَّد بولس أن يتحدّث عن نفسه حتّى في عظة طويلة كما نقرأ في روم:16- 13:15 (رج روم 8:3؛ 9: 1- 3؛ 10: 1- 2؛ 11: 1). أمّا صاحب عب فيختفي كلّيًّا وراء مؤلَّفِهِ. هو لا يعبّر عن مكنونات قلبه ولا يخاطب قرّاءه في صيغة المتكلّم المفرد (أنا)، بل في صيغة المتكلّم الجمع (نحن) التي هي صيغة اصطلاحيّة. لا يعود صاحب عب إلى سلطته الرسوليّة، بل يعلن بالمقابل أنه لم يتّصل اتّصالاً مباشرًا بالربّ يسوع (رج 2: 3). فكم نحن بعيدون عن موقف القدّيس بولس الذي يُعلن بالصوت العالي أنه تسلّم إنجيله من دون وسيط (غل 1: 1، 11- 12) ويدافع عن لقبه كرسول (1 كور 9:؛ 2 كور 2: 11- 12). وهناك أمور أخرى تدلّ على أنّ بولس ليس صاحب عب: طريقة إيراده للنصوص الكتابيّة، طريقة تسميته ليسوع المسيح، التعليم الكهنوتيّ الذي نجده عند القدّيس بولس.
وبحث الشرّاح عن كاتب عب. قال أوريجانس: هو لوقا الإنجيليّ أو إكلمنضوس الرومانيّ، وقال ترتليانس: هو برنابا اللاويّ الذي يقدر وحده أن يقدّم هذه الكرستولوجيا المسيحيّة. وقال آخرون: أنه إسطفانس أو أحد تلاميذه أو فيلبّس أحد السبعة (أع 6: 5) أو الإنجيليّ مرقس أو سيلا تلميذ مار بطرس أو يهوذا صاحب رسالة يهوذا. وقدّم الباحثون براهينهم فبدت ضعيفة. ولكنّهم اتّفقوا على أنّ صاحب عب هو يهوديّ من الإسكندريّة. فتوجهت الأنظار إلى أبلّوس تلميذِ بولس والشخصيّة الرئيسيّة في الكنيسة الأولى. وهو من قال فيه القدّيس لوقا: "وقدم أفسس يهوديّ يدعى أبلّوس، من أهل الإسكندريّة، فصيح اللسان، مُتبحِّر في الكتب. وكان قد لُقّن دين الربّ فاندفع يخطب بحميّة ويعلّم تعليمًا صحيحًا ما يختصّ بيسوع. ولكنّه لم يكن يعرف سوى معموديّة يوحنّا. فشرع يتكلّم في الجمع رابط الجأش. فسمعته برسكلّة وأكيلا، فأتيا به إلى بيتهما وأوضحا له دين الربّ إيضاحًا تامًّا" (أع 18: 24-26). ثمّ إنّ أبلّوس ارتبط بالقدّيس بولس وبشّر معه (1 كور 1: 12؛ 3: 4- 9؛ 16: 12؛ تي 3: 13). ولكنّ التقليد القديم لا يقول شيئًا عن أبلّوس الذي لم يترك لنا مؤلَّفًا نقابله بالرسالة إلى العبرانيّين. من أجل هذين السببين لا نستطيع أن نجزم في أمر صاحب عب وإن يكن النقّاد يميلون إلى أبلّوس.

هـ- لمن كتبت الرسالة إلى العبرانيّين؟
ماذا نقرأ في النصّ؟ يسلّم عليكم الذين في إيطالية (13: 24). ما معنى هذه العبارة؟
هل تعني أن هؤلاء المسيحيّين يقيمون في بلدهم، وأنّ الرسالة أرسلت إلى مكان آخر. فنحن نقرأ شيئًا مماثلاً في 1 كور 16: 19. تسلّم عليكم كنائس آسية. ولقد زيدت ملاحظات في نصّ بعض المخطوطات: كتب من إيطالية، كتب من رومة. ولكنّنا نقدر أن نفهم العبارة بطريقة مغايرة فنقول إنّ أصل هؤلاء الناس من إيطالية وقد أقاموا في بلد آخر. وفي هذا السبيل نقرأ في إحدى المخطوطات: كتب من أثينة. مهما يكن من أمر فلا يعلمنا النصّ عن المكان الذي وُجد فيه قرّاء عب.
وهناك إشارة ثانية تُقرأ في عب 13: 23: إعلموا أنّ أخانا تيموتاوس قد أُخليَ سبيله. فهذا يعني أنّ القرّاء يعرفون من هو تيموتاوس، رفيق بولس. وهذا يوجّه أنظارنا إلى محيط يرتبط بالقدّيس بولس.
وتوقّف الشرّاح القدماء على العنوان: إلى العبرانيّين، فاستنتجوا أنّ القرّاء يهود أقاموا في اليهوديّة وتكلّموا العبريّة. ولكن بولس لم يكتب في العبريّة بل في اليونانيّة، ولا يبدو أنّ النصّ ترجم عن العبريّة. ثمّ إنّ عب تتوجّه لا إلى اليهود بل إلى المسيحيّين الذين يطلب منهم صاحب عب المحافظة على إيمانهم المسيحيّ (6:3، 14؛ 14:4؛ 10: 22؛ 13: 7-8).
من هم العبرانيّون؟ يهود صاروا مسيحيّين يجتمعون لإقامة شعائر العبادة (10: 25) بقيادة رؤسائهم (13: 24). نالوا الثقافة الدينيّة عيونها وتمتّعوا بالإمكانيّات العلميّة نفسها (5: 11-12) وشاركوا في المحن عينها (6: 10؛ 10: 34؛ 13: 2، 5). وفكّر بعضهم بكهنة أطاعوا الإيمان (أع 6: 7) وحافظوا على خدمتهم في الهيكل. ولكن بعد موت إسطفانس تركوا المدينة المقدّسة (6: 18) والتجأوا إلى مكان آخر يمكن أن يكون رومة أو أفسس أو كورنتوس أو غلاطية أو أنطاكية. خسر هؤلاء الكهنة امتيازاتهم المادّيّة والروحيّة وصاروا أشخاصاً عاديّين. تعوَّدوا على فخامة العبادة في الهيكل وها هم يجتمعون في منزل وضيع. يئسوا (12: 12- 13؛ 13: 5- 6) وأحسُّوا بالتجربة تدفعهم إلى الرجوع إلى الديانة اليهوديّة (3: 12- 14؛ 6: 4- 6؛ 10: 39). لهذا وجّه أبلّوس إيمانهم نحو المَقْدِسِ السماويّ (13: 14) الذي يخدم فيه كاهن على رتبة ملكيصادق (3: 1).
ولكنّ النقّاد يتساءلون: هؤلاء المسيحيّون، هل هم من أصل يهوديّ أم وثنيّ؟ هذا السؤال لا تواجهه عب ولا تتكلّم عن اليهود والأمم، ولا عن الختان وعدم الختان. ولكنّها تحارب طموحات الشريعة (7: 18- 19؛ 15: 1، 8- 9) وتعلن أنّ العهد الأوّل قد زال (7: 22، 9: 15؛ 12: 25). نظرة الكاتب نظرة مسيحيّة صريحة وهي تنطلق من رباط عميق بنسل إبراهيم (2: 16) الذي ولد شعب الله (4: 9؛ 11: 25) قبل أن تنفتح على الكون كلّه. فالمسيح جابه الموت من أجل كلّ إنسان (2: 9) وصار علّة خلاص أبديّ لكلّ الذين يطيعونه (5: 9) دون تمييز في العرق واللسان والدين.
ويمكننا أن نجمع من العظة (1: 1-13: 21) ما يساعدنا على تحديد وضع المسيحيّين الذين نحن بصددهم. هم لم يعرفوا الربّ مباشرة (2: 3). إذن ليسوا من فلسطين. ليسوا مرتدّين جددًا بل مسيحيّين منذ زمن طويل (5: 12)، فقدوا مدبّريهم الأُوَل (13: 7). يوم ارتدّوا إلى الإيمان الصحيح، جابهوا الصعوبات والاضطهادات التي سبّبت لهم آلامًا مُرّة وخسارةً مادّية فادحة، ولكنّهم تحمَّلوها بفرح (10: 32- 34). وها هي صعوبات جديدة تعترضهم الآن (12: 1، 7). فالثبات ضروريّ (10: 36)، واليأس يمكنه أن يتغلغل في النفوس (12: 3، 12). وإنّ بعض أعضاء الجماعة انقطع عن الاجتماع (10: 25) فانحدر المستوى الروحيّ (5: 11- 12) وظهرت انحرافات تعليميّة (13: 9). وحذّر الكاتب المؤمنين من مواقف يهوديّة تشدّد على حفظ الأطعمة (13: 9- 10؛ 12: 16)، ونبّههم إلى خطر السقوط والجحود، وأعلن أنّ هذه الطريق تقود إلى الهلاك (6: 4- 6؛ 10: 26- 31). هل يعني هذا أن وضع سامعيه يدعو إلى اليأس؟ كلاّ. بل هو يمتدح سخاءهم في الماضي وخدمتهم لله وللكنيسة. وهو إن تكلّم معهم هكذا فلكي يحثّهم على حياة مسيحيّة حقّة.

و- متى كتبت الرسالة إلى العبرانيّين؟
هناك موقفان. موقف أوّل يعتبر أنّ عب كُتبت قبل سنة 55، ويعلّلون موقفهم بأنّ الوضع الذي تَعْرِض يقابل ما نعرفه عن أزمة غلاطية. وموقف ثان يقول إنّ عب كتبت سنة 80 أو سنة 115.
هنا نقطة نستدلّ بها وهي رسالة إكلمنضوس أسقف رومة إلى الكورنثيّين الني تتضمّن مقطعًا هاما (رقم 36) يتّصل بعب 1: 3-13. وبما أنّ رسالة إكلمنضوس كُتبت سنة 95- 96، فعظم الشرّاح يقولون إنّ عب سابقة لهذا التاريخ. هذا موقف يتحلّى بالحكمة والتعقّل ولكنّه ليس بكاف، لأنّ نصّ إكلمنضوس ونصّ عب يمكنهما أن يعودا إلى مرجع سابق.
وهناك نقطة أخرى نستدّل بها هي دمار هيكل أورشليم سنة 70 ب م. فطريقة عب في الكلام عن شعائر العبادة اليهوديّة يدلّ على أنّ الكاتب دوّن رسالته قبل هذا الزمن. فهو يصوّر الليتورجيّا اليهوديّة وكأنّها حاضرة (9: 9، 25؛ 10: 1- 3، 11). وإذا توقّفنا على 10: 1- 3 نجد أنّ الكاتب متأكد أنّ هذه الذبائح لن تزول. فلو كتب بعد سنة 70 وبعد دمار الهيكل وزوال الذبائح، لما كان كتب ما كتب. ثمّ إنّ التوسعّ في الكرستولوجيا وذكر أوّل المدبّرين في الجماعة يجعلنا نفكر أنّ تأليف عب تّم حوالي السنة 68 وفي بداية الحرب اليهوديّة التي كانت حقبة من القلاقل والسلب والسجن الاعتباطيّ والعنف في إبعاد الناس وطردهم.

ز- قانونيّة الرسالة إلى العبرانيّين
اختلفت الأحكام على عب فتأخّر دخولها في قانون (أو مجموعة) الكتب الملهمة. وإذ كانت رسائل القدّيس بولس جمعت منذ القديم وعُرفت في كلّ مكان وقُرِئت في الاجتماعات الليتورجيّة (رج 2 بط 3: 15- 16)، طُرحت على الكنيسة ثلاث مسائل: نسبة الرسائل إلى القدّيس بولس، وهذه مسألة نقديّة وعلميّة حاولنا الإجابة عليها. أيّ نصّ نقرأه في الليتورجيّا المقدّسة، وهذه مسألة راعويّة وتنظيميّة؟ أي نصّ يشكّل جزءاً من "الكتب الإلهيّة" التي تشكّل وحدة مقدّسة لأنها ملهمة، وهذه مسألة عقائديّة؟ كان الأقدمون ينظرون إلى هذه المسائل نظرة واحدة، وهمّهم أن يحتفظوا بهذا الكتاب أو ذاك بين المؤلفات القانونيّة في الكنيسة.
ففي الشرق نسب بانتينس وإكلمنضوس الإسكندرانيّ عب إلى القدّيس بولس. ونشير هنا إلى أنّ نصّ عب وُجد في البرديّة رقم 46 لتقليد مدينة الإسكندريّة. أمّا أوريجانس فقال بالأصل الرسوليّ للرسالة إلى العبرانيّين ولم يقدر أن يتعرّف إلى كاتبها. وعدّها أثناسيوس بين الرسائل الأربع عشرة المنسوبة إلى بولس الرسول في رسالة العيد (الفصح) التاسعة والثلاثين (سنة 367). وكذا نقول عن أوثاليوس (القرن الخامس) وأوسابيوس القيصريّ وتيودوريتس القورشيّ وتيودورس المصّيصي.
ويورد أفرام عب على أنها من الكتب المقدّسة وأنها من بولس الرسول، مع أنّه عارف بالصعوبات التي تعترض هذه النسبة. وتضع السريانيّة البسيطة عب بين رسائل القدّيس بولس. أمّا طاطيانس فقد عرف عب ولكنّه أخرجها من المجموعة البولسيّة. ورذل مرقيون عب، وهو لا يعترف إلاّ بعشر رسائل بولسيّة. أمّا قانون الرسل المدوَّن حوالي السنة 400 فينسب إلى القدّيس بولس أربع عشرة رسالة ومنها عب. ونشير هنا إلى يوحنّا الدمشقيّ الذي يعتبر عب كتابًا مقدّسًا وينسبها إلى مار بولس. ونذكر هنا القانون 60 من مجمع اللاذقيّة في فريجية (تركيا) الذي يعتبر رسائل مار بولس أربع عشرة فيُثَبِّت قانونيّة عب. هذه القانونيّة ظاهرة في إنجيل الحقيقة (كتاب قبطيّ منحول) الذي يعود إلى القرن الثاني في نسخته اليونانيّة. ورد نصّ عب في كلّ المخطوطات، ولكنّ موقعه تبدّل قبل أن يدخل في المجموعة البولسيّة. فالفاتيكانيّ يجعل عب بين غل وأف. والكودكس بتي بين روم و1 كور، والسينائيّ والإسكندرانيّ بعد 2 تم، والكلارومونتانس في نهاية المجموعة البولسيّة.
أمّا الغرب فهو يورد مقاطع من عب ولكنّه لا ينسبها إلى القدّيس بولس. هناك إكلمنضوس الرومانيّ وراعي هرماس وهيبّوليتس. ويتجاهل عب قانونُ موراتوري الذي دوّن حوالي السنة 180. ورفض الكاهن الرومانيّ كايوس أن ينسب إلى بولس إلاّ ثلاث عشرة رسالة (أي دون عب) كما يفعل معاصروه، وكذا فعل الأمبروسياستر (منسوب إلى أمبروسيوس) في نهاية القرن الرابع. أمّا فكتورينوس فأعلن في التاريخ نفسه تقريبًا: "قال الرسول للعبرانيّين". وهناك نصّ لتلميذ كروماتيوس (القرن الرابع والقرن الخامس) يقدّم لنا أوّل شرح للرسالة إلى العبرانيّين. واعتقد كلّ من أمبروسيوس وروفينوس أسقف أكيلة وهيلاريوس أسقف بواتيِيه بنسبة عب إلى بولس. أمّا كنائس أفريقيا فتجاهلت عب: لا يعرف ترتليانس إلاّ ثلاث عشرة رسالة، ولا يذكر قبربانس عب مرّة واحدة وكذلك أوبتاتوس أسقف نوميديا وزينون الفيرونيّ الذي ولد في أفريقيا. عُقد مجمع هبّونة سنة 393، ومجمع قرطاجة سنة 397، فقدّما لائحة رسميّة بالكتب الملهمة وزادا عب على الرسائل الثلاث عشرة التي ينسبها التقليد إلى مار بولس. أمّا مجمع قرطاجة السادس (سنة 419) فقال في قانونه 29 (بتأثير من أغوسطينس): أربع عشرة رسالة لبولس. أمّا إيرونيموس فسوف يميّز الإلهام الإلهيّ وسلطة عب القانونيّة التي تشهد لها كلّ الكنائس وتقرأها في ليتورجيّتها، عن نسبة عب إلى بولس وهو أمر يجادِل فيه الكثيرون. وفي القرار إلى اليعاقبة في مجمع فلورنسة (4 شباط 1441) ستُوضَع عب في نهاية المجموعة البولسيّة وقبل 1 بط. وفي الدورة الرابعة من المجمع التريدنتينيّ (8 نيسان 1546) سيجعل الآباء عب بين الرسائل البولسيّة الأربع عشرة، ولكنّهم يرفضون أن ينسبوها إلى القدّيس بولس. ويستفيد المجمع الفاتيكانيّ الأوّل في دورته الثالثة (24 نيسان 1870) ممّا قاله المجمع الترلدنتينيّ عن الكتب المقدّسة ويجعل عب بين الرسائل البولسية.

ح- نظرات لاهوتيّة في الرسالة إلى العبرانيّين:
1- شعب الله
إنّ قرّاء عب هم جماعة من الأشخاص هُجِّروا من أرضهم فتشبّهوا ببني إسرائيل العابرين البرّية نحو أرض الميعاد (عب 3: 7- 4: 13). هذا هو الوضع الطبيعيّ لكلّ حياة روحيّة: نحن سائرون، نحن غرباء ونزلاء على الأرض (11: 13) ولاجئون (6: 18) وساكنون في الخيام (11: 9) ونتوجّه نحو مدينة الله الحيّ المبنيّة بناء متينًا (12: 22؛ 13: 14) بل قدس الأقداس السماويّ (9: 8؛ 10: 19). ويتقدّمون كلّ يوم (آ 6:1؛ 18:12-22) كما في تطواف ليتورجيّ نحو عرش النعمة (4: 16). فالإيمان بالله يعني أن نقترب منه ونقدّم له عبادة يرضى عنها (12: 28). فالمسيحيّون هم الذين يتقرّبون (7: 25؛ 10: 1) من المَقْدِس بعد أن تأهّلوا للدخول فيه وخدمته. اقتُلعوا من على هذه الأرض وزُرعوا في العلاء. فحياة الأرض في نظر المؤمن عبور دائم وهجرة دائمة. وهذه الهجرة تحدّد بأربع. أوّلاً: بكلمة ووحي الله (2: 1- 4؛ 4: 12؛ 6: 13 ي) الذي يحدّد الهدف ويعد بالراحة مجازاة للجهود المبذولة والتضحيات المقبولة. ثانيًا: بالمحن التي ترسلها العناية والتجارب (2: 18؛ 12: 5- 11) التي تبدو وكأنها تعارض تحقيق الرجاء (10: 23)، ولكنّها في الواقع مناسبات تظهر أمانتنا لله (11: 2، 4، 5، 39). نعني بكلامنا عبور البَرّيّة أي هذا العالم المُعَادِي وهذه الظروف الخطرة. ثالثًا: فإذا أردنا أن نتغلّب على الصعوبات، لا نبقى في عزلتنا بل نندمج في شعب الله (9:4) ونكون شركاء المسيح (3: 14) الذي هو قائد هذه المسيرة الجماعيّة. ننضمّ إلى المؤمنين (4: 2) ونخضع لنصائح مدبّرينا (13: 7، 17، 24) ونشجعّ رفاق الطريق ونأخذ عينهم بعضاً من أثقالهم (10: 25، 33- 34؛ 13: 5). فمن اعتزل الجماعة ورفض التضامن معها (10: 25) ضلّ وهلك. رابعًا: إنّ النَصر نصيبُ الذين يتحمّلون الاضطهاد ويثبتون حتّى النهاية: نتمسّك إلى المنتهى (3: 14) ولا نتراخى (6: 12).

2- يسوع ابن الله وكاهن
فإذا أرادت البشرية أن تتقرّب من الله وتقدّم له عبادة ترضيه، فهي تحتاج أوّلاً إلى قائد قريب منها يسبقها ويدفعها كما يدفع الراعي قطيعه. يفتح لها الطريق ويسير أمامها ويرافق الذين يتبعوه (9: 18) ويقودهم إلى المنتهى (2: 10؛ 12: 12). وهي تحتاج ثانيًا إلى حَبْر بريء وكامل يقدر أن يطهّرها من خطاياها ويقدّسها. ولقد وجدت ما تحتاج إليه في يسوع المرسل من الله (3: 1؛ 9: 26)، المولود في إسرائيل وفي قبيلة يهوذا (7: 14). هو إنسان حقيقيّ (2: 6 ي؛ 5: 7) وهو يشارك الطبيعة البشريّة في ضعفها (4: 15؛ 5: 2) ولاسيّما في الموت (2: 14؛ 5: 7- 8). غير أنه ظلّ بلا خطيئة فامتُحن في كلّ شيء مثلنا ما عدا الخطيئة (4: 15؛ 7: 26). وُجد قبل أن يأتي على الأرض (1: 10- 12؛ 13: 8) وامتلك حياة لا تزول (7: 3، 16؛ 9: 14) وهذا خاص بابن الله بالمعنى الحصريّ للكلمة. هو الله المالك الطبيعة التي للآب، وبهذا فهو يشاركه في عمل الخلق وتدبير الكون (1: 2- 3) ويمارس سيادته على الملائكة والبشر (1: 6؛ 2: 5 ي؛ 3: 6).
إنّ يسوع يملك الطبيعة البشرّية والطبيعة الإلهيّة، فلهذا أقيم كاهنًا أي وسيطاً وعلّة خلاص أبديّ (2: 10؛ 5: 9). وقد منحه الله هذا اللقب (مز 110: 4) منذ دخوله في العالم (10: 5- 10)، لأنّ كلّ كاهن مأخوذ من بين الناس (5: 1) يهمّ بإخوته البشر من يوم اختاره الله. كان هذا الكاهن إنسانًا فخضع للألم فكان رحيمًا شفوقاً لكلّ المتألّمين (2: 10، 17)، وكان إلهًا فظلّ الكاهن الأبديّ والسماويّ (7: 28). فالمسيح يخدم في المعبد السماويّ (9: 24) فيشفع لنا ويُغْدِقُ علينا خيراتِ الله (8: 1- 2). هو حاضر أمام الله، وحضوره فاعل كخادم للقدس والقبّة الحقيقيّة (8: 2؛ 9: 21). وقُربه من الله وذبيحةُ دمه يجعلان وساطته لا تُرَد. "أنه قادر أن يخلّص الذين يتقرّبون به إلى الله لأنّه حيّ باق يشفع لهم" (7: 25).

3- عمل المسيح
ونتساءل: كيف استطاع هذا الهادي وهذا القائد الكامل وهذا الكاهن أن يتمّ عمله فيقود إلى المجد إخوة كثيرين (2: 10)؟ أوّلاً: حمل إلينا الوحي. فقد كلّمنا الله به (1: 2) ففاق تعليمه تعليم كلّ الأنبياء. وكانت رسالته على الأرض رسالة كرازة (2: 3) فلم تتبدّل من أجل كلّ المؤمنين (3: 7 ي؛ 4: 2). ثانيًا: ولكنّ هذا الكاهن هو أيضاً ذبيحة لأنّ الناس الذين سيخلّصهم هم خطأة (10: 4، 11؛ 12: 1، 4) فلا تُفتح لهم السماء إلا إذا نقّى الله ضمائرهم وغفر لهم (8: 12؛ 10: 17- 18). في الماضي كانت ذبائح العبادة اللاويّة ولكنّها لم تكن نافعة. فتجسّد ابن الله ليقدّم ذاته كالذبيحة الوحيدة التي تقدر أن ترضي الله (10: 5- 10). تمّت هذه الذبيحة على الجلجلة، وهذا يعني أنّ موته كان ذبيحة حقّة. فنتج عن هذا أنّ يسوع كان الكاهن الأوحد والذبيحة الواحدة في عبادة دينيّة جاء ينظّمها.
وتشدّد عب على عفويّة تقدمة يسوع الشخصيّة والطابع الواثق فيها تجاه حيوانات يذبحها العهد القديم. فما يشكّل جوهر الذبيحة ليس الموت بل هذه التقدمة عينها، وقوّة الفداء لا تقوم أوّلاً في موت المسيح، بل في إرادة تقدمة الضحيّة وقداسة الكاهن الذي يقرّبها إلى الله. ولا يحتاج هذا القربان الواحد (10: 14) أن يتجدّد، لأنّ قيمته تبقى هي هي إلى الأبد. فيسوع نفسه قرّب بروح أزلي قربانًا لا عيب فيه (9: 14)، وهذا ما يتيح لنا أن نفهم أنّ الحَبْر الأزليّ هو خادم ليتورجيّ دائم بعد أن أراد أن يقدّم دمه إلى الأبد. إذن هناك ذبيحة سماويّة (8: 3)، وإلاّ لما استطعنا القول إنّ المسيح كاهن في السماء، لأنّ دور الكاهن الأوّل هو أن "يقرّب قرابين وذبائح كفّارة للخطايا" (5: 1).
ينتج عن كلّ هذا أنّ الله رضي عن البشر وأنّ الخطأة تصالحوا معه وكُفِّرت ذنوبهم. والفداء (9: 12) يعني أنّ دم المسيح فدية، وأنه كثمن تحرير العبيد والأسرى (9: 15) وكتعويض ماليّ. فمنذ مقدّمة الرسالة تبدو كلّ ثمار ذبيحة يسوع "تطهيرًا من الخطايا" (1: 3). عجز دم الحيوانات عن أن ينظّف ويغسل الضمير النجس (9: 13)، مع أنّ الجميع اعتبروا الدم وسيلة تطهير (9: 22)، أمّا دم يسوع فطَّهر ضمائرنا من الأعمال الميتة وقلوبنا من سؤ النيّة (9: 14؛ 10: 22)، وغسلنا من كلّ نجاسة. عجزت شعائر العبادة الموسويّة عن تقديسنا تقديسًا حقيقيًّا (9: 13)، أمّا المسيح القدّوس فقدّس شعب الله على المستوى الدينيّ وعلى المستوى الأخلاقي، وجعله أهلاً لأن يرى الله ويدخل في مقدسه. المسيح يقرّبنا من الله، لأنه الوسيط وكفيل العهد الجديد الذي يهبنا الخلاص والخيرات السماويّة.

4- الليتورجيّا السماويّة والحياة المسيحيّة
ويتابع المسيح في السماء وبشكل جديد وظيفته الكهنوتيّة من أجلنا (9: 24). لا شكّ في أنّ لا صلة له بالخاطئين (7: 26) وهو يرتبط بالمعبد السماويّ فيمارس ليتورجيّا خاصّة (8: 1ي). بما تقوم هذه الليتورجيّا؟ تعتبر عب أنّنا لا نتصوّر كهنوتًا من دون ذبيحة (8: 3؛ 10: 11). ولكن كيف نتصوّر ذبيحة سماويّة، وهل ستزاحم ذبيحة الصليب؟ هنا نقابل بالقياس بين طقس اللاويّين في يوم التكفير وذبيحة المسيح. فبحسب لا 16: 1ي يذبح الكاهن الأعظم ضحيّتين وينضح بدمهما "الكفّارة، أي الغشاء الذي يغطّي تابوت العهد، وهذا ما يشكّل العمل الذبيحيّ بحصر المعنى. وهكذا فموت المسيح يقابل ذبح العجل والتيس على يد رئيس كهنة بني هارون، والدخول إلى قدس الأقداس السماويّ يقابل تقدمة الدم. ما وجب على يسوع أن يقدّم دمه بطريقة مادّية في المقدس الجديد، إلاّ أنّ سَفكَ دمِهِ كان وسيلةً لدخوله قدس الأقداس. ولقد كان موتُه باطلاً لو لم يستفد من قيمته فيعبر الحجاب ويتمّ ذبيحته. إذن لا حاجة أن نفترض أنّ هناك ذبيحة للمسيح المنبعث تُزاد على ذبيحة الصليب، ولكنّ ذبيحة الصليب هذه ما زالت تقدَّم على يد الكاهن الأزليّ (9: 14). وهكذا تقوم الليتورجيّا السماويّة بهذه التقدمة الدائمة. ولقد قال الشرّاح في ذلك: تتألّف ذبيحة المسيح من التقدمة الطوعيّة التي بها يقدّم حياته البشرّية المكرّسة لله كقربان مخصّص لعبادة الله.
ونتيجة هذه الليتورجيّا هي أن تُطَهِّرَ وتقدّس المؤمنين على مثال الكهنة ليتقرّبوا من الله. وهذه العبادة لا تنحصر في جماعة ليتورجيّة محدّدة. فحين نتحلّى بضمير نقيّ وقلب صادق (19:10 ي؛ 16:13) نمارس وظيفة ليتورجيّة بروح عبادة تتجلّى في الحمد والشكر. هؤلاء المؤمنون (3:4)، هؤلاء القدّيسون (3: 1) هم إخوة (3: 12؛ 10: 19) مدعوّون إلى السماء (3: 1؛ 9: 15)، يعلنون الإيمان الواحد ويعيشون من الرجاء الواحد وهم واثقون أنهم واصلون إلى الربّ. المسيحيّ إنسان يتأمّل فَيُثَبِّتُ انتباهَه على كلماتٍ سمعها (2: 1- 3؛ 12: 25). هو يفهم أن العوالم خلقت بكلمة الله (11: 3) كما عرف إبراهيمُ أنّ الله يتحلّى بالقدرة ليقيم الموتى (11: 19). ويدرك عظمة ملكيصادق (7: 4) ومن يمثّل، ويتعلّم أقوال الله. أنه محتاج إلى أكثرَ من اللبن الحليب، أنه يحتاج إلى الطعام القويّ المخصّص للكاملين، وهو لا يتوانى عن الإصغاء فيستفيد من الزمن ليصبح من المعلّمين (5: 11 ي).

5- وجه الله
الله يتكلّم (1: 1) ونحن نسمعه (12: 25) ونتعبّد له (12: 29؛ 13: 21). ووجوده موضوع فعل إيمان فريد (11: 6). هو العليّ وربّ السماء والأرض، وهو إله سيناء الرهيب (12: 21) وإله المسيحيّين وإله الأرواح (12: 7- 9). هو القدّوس والعارف بكلّ شيء والقادر على كلّ شيء، هو إله الحقّ والحكيم والثابت في مقاصده والأمين في وعوده، هو العادل والرحوم والكلّيّ الصلاح.
الله حيّ وهو بالتالي فاعل (3: 12؛ 9: 14). خلق الكون والأرواح بكلمته وبواسطة ابنه. أنه المبدأ الأوّل والغاية الأخيرة لكلّ موجود، أنه صاحب تصميم الخلاص وسيّد تنفيذه في كلّ مراحله وفي كلّ عناصره. لقد حدّد تدبير مسيرة الشعب المختار وفدائه (3: 4)، ونظّم بصورة خاصّة التوازيَ بين العهدين (9: 9)، وعيّن زمن الإصلاح والفائدة المحفوظة لأعضاء العهد الجديد. وقرّر الله بصورة خاصّة تجسّدَ ابنه (3: 1- 2) وإرسالَه إلى العالم موحيًا وفاديًا وحبرًا. أعطاه جسدًا وجعله كاملاً بالألم، وأقامه من بين الأموات وأجلسه عن يمينه وأخضع له الكون. وبنى بنفسه المقدس الذي سيخدم فيه هذا الحبر، وهو أيضاً باني المدينة الطوباويّة التي يجتمع فيها المقدَّسون (11: 10؛ 12: 22). وإليه تتوجّه شفاعة وسيط العهد الجديد على الأرض أو في السماء، وأمامه تتقدّم خِدمة المؤمنين وعبادتهم (10: 36؛ 11: 4؛ 12: 28؛ 21:13).
والله يتذكّر البشر ويتفقدّهم، يعتني بهم ويُعينهم. هو إله المؤمنين ويبادر ليعقد معهم العهود. لا يتخلّى عن مؤمنيه، بل يحميهم ويقودهم ويعضدهم ويعطيهم نعمته ويؤدّبهم ويرضى بذبائحهم الروحيّة. أمّا واجب الإنسان الأوّل فهو أن يؤمن بالله وبتدخّلاته، وأن يتقبّل كلمته ويسمعها ويتمسّك بها ويكون لها أمينًا. يدفعه إلى ذلك اقتراب اليوم (10: 25) واليقين أنّ هذا الإله هو ديّان الجميع الذي يجازي كلّ واحد حسب أعماله. الله نار محرِقة وهو يحتفظ بعقابه للكفرة والنجسين المتراخين والزناة، ولكنّه يجازي الإنسان على الأعمال الصالحة ولاسيّما أعمال الرحمة، ويشرك المؤمنين في سعادته الخاصة.

6- التأويل الكتابيّ
يتطرّق صاحب عب إلى مسألة تفسير الكتب المقدّسة فيجمع بين الأضداد. فيبيّن من جهةٍ احترامًا مطلقًا لسلطة العهد القديم، وينتقد من جهة ثانية العهد القديم انتقادًا جذريًّا. هو يعلن زوال العهد القديم ويعلن أنه تمّ. يقدّم لنا عباراتٍ قاطعةً ضدّ الشريعة القديمة. قال: إذا تبدّل الكهنوت، فلا بد من تبدّل الشريعة... وهكذا نُسخت الوصيّة القديمة لضعفها وقلّة فائدتها، لأنّ "الشريعة لم تحقّق شيئًا من الكمال، فاستبدل بها رجاء أفضل منها نتقرّب به إلى الله" (7: 12، 18- 19). وقال أيضاً: "ولمّا كانت الشريعة لا تشمل إلاّ ظلّ الخيرات المستقبلة، لا جوهر الحقائق، فهي عاجزة، بتلك الذبائح التي لا تزال تقرَّب كلّ سنة، أن تجعل الذين يتقرّبون بها كاملين... فقد أبطل العبادة الأولى وأقام الثانية" (10: 1- 9).
ولكن رغم ذلك، ما زال يلجأ بعناية إلى العهد القديم بوجهته النُظُمِيّة ووجهته النبويّة. فالعهد القديم كنبوءة يحتفظ بكلّ قيمته لأنه يشهد على المسيح. أمّا كنظام فيجب أن يَتْرُكَ مكانه لنظم العهد الجديد. فبعد أن شُيِّد البناء النهائيّ نتخلّى عن المسكن الموقّت. وهكذا يُفهمنا الكاتب أنّ العهد القديم كنبوءة يعلن نهايته كنظام وهذا واضح بالأخصّ في العرض المركزيّ (7: 1- 10: 18) الذي يستعمل فيه نصوص مز 110 وإر 31: 31- 34 ومز 40 ويحلّل شعائر تفرضها الشريعة على المؤمنين (رج لا 16: 1 ي).
هنا يتطرّق الكاتب إلى العلاقات بين العهد القديم والعهد الجديد فيتوقّف عند ثلاث كلمات: استمرار، انقطاع، تجاوز، ويلقي الضوء على هذه الوجهات الثلاث. فإن لم يكن لموت المسيح أيّة علاقة بالذبائح القديمة، فلا نقدر أن نتعرّف فيه إلى تتمّة قصد الله. فلو لم يكن استمرارًا لَبَدَا موتُ المسيح واقعًا خاصًّا لا نعرف موضعه في تاريخ الخلاص. من هنا كان من الضروريّ أن توجد تشابهات. قال: "فإذا كان دم التيوس والثيران ورشّ رماد العجول يقدّسان المنجَّسين ويطهِّران أجسادهم، فما أَوْلى دم المسيح الذي قرَّب نفسه إلى الله بروح أزليّ قربانًا لا عيب فيه، أن يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ" (9: 13- 14).
ولكنّ هناك اختلافاتٍ أيضاً. فإذا كان المسيح قدَّم فقط ذبيحة طقسيّة كسائر الكهنة لما استطعنا أن نتكلّم عن إتمام وإنجاز، بل نكون أمام إعادة لطقس لا فائدة فيه ولا منفعة. فالإنجاز الحقيقيّ يفترض ذبيحة من شكل آخر ومن نوع جديد. قالت عب: "أمّا المسيح فقد جاء حبرًا للخيرات المستقبلة واجتاز قبّة أكبر وأكمل من الأولى، لم تصنعها أيديّ الناس، أي أنها ليست من هذه الخليقة، فدخل القدس مرّة واحدة، ولم يدخله بدم التيوس والعجول، بل بدمه فكسب لنا فداء أبديّاً... فالمسيح لم يدخل قدسًا صنعته الأيدي رمزًا للقدس الحقيقيّ، بل دخل السماء عينها ليَمْثُلَ الآن في حضرة الله من أجلنا، لا لأنه سيقدّم نفسه عدّة مرات كمَا يدخل الحبر القدس كلّ سنة بدم غير دمه. ولو كان ذلك، لكان عليه أن يتألّم كثيرًا منذ إنشاء العالم" (9: 11-12، 24- 26).
غير أنّ الاختلافات تتّجه في طريق التجاوز والسموّ. فالعهد الجديد يتفوّق على العهد القديم. وإلاّ فأيّة فائدة أن تحلّ محلّ طقوس عاجزة شعيرة مختلفة تبقى هي أيضاً عديمة الفائدة. فما وجب أن يكون هو تحقيق كامل لا ينقصه شيء. وهذا ما نجده في آلام المسيح المجيدة. قالت عب: "جاءنا التقديس... بالقربان الذي قرّب فيه يسوع جسده مرّة واحدة... لأنه بقربان واحد جعل الذين قدّسهم كاملين أبدًا... فحيث يكون غفران لا يقدَّم من بعد قربان من أجل الخطيئة" (10: 10- 14، 18).
وانطلاقًا من هذه العلاقة بين الاستمرار والانقطاع والتجاوز، يتوصّل الكاتب لأن يعرض علينا كهنوت المسيح بصورة عميقة ومتّزنة وديناميكية. ولو لم يتصرّف هكذا لأضاع ملء الحقيقة ووقع في خطر مزدوج: إمّا أن يشدّد على الاستمرار ويعود بطريقة لا واعية إلى نظم العهد القديم، وإمّا أن لا يدرك الاختلافات فيعتبر الكلام عن كهنوت المسيح مجرّد استعارة. ولكنّ وجهة الكاتب كانت مغايرة لهذا الموقف. فلقد صار الكهنوت في المسيح واقعًا حقا، ولم يكن في الماضي يتجاوز مرحلة الصورة الرمزيّة العاجزة.
توقّف الشرّاح عند أسلوب التأويل في عب وحاولوا أن يقابلوه بتفسير حبقوق كما وصلنا من مغاور قمران، أو بتفاسير فيلون الإسكندرانيّ. واعتبر آخرون أنّ عب مدراش (أو: درس) على المزمور 110، وهذا ما يعطينا فكرة تقريبيّة وناقصة عن هذه الرسالة. إنّ تفسير عب للعهد القديم يبدو مبتكرًا جدًّا فيدخل النصوص في مجموعة أدلّته ولا يوردها بطريقة رتيبة. وبقد قام صاحب عب بهذا التفسير بعد أن وعى وعيًا تامًّا أن الكتب المقدّسة تجد كمالها في المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM