الفصل الثامن :الرسالة إلى أهل رومة

الفصل الثامن
الرسالة إلى أهل رومة

الرسالة إلى أهل رومة أهمّ رسائل القدّيس بولس وأطولها، وأغناها من الوجهة التعليميّة، وأفضلها بنيانًا. سُمِّيت رسالة ولكنّها أكثر من رسالة، هي بحث ودراسة مطوّلة عن أعمق ما في الإيمان المسيحيّ. لا شكّ أنّ فكر بولس سوف يغتني فيما بعد في رسائل الأسر، ولكنّه كان من العمق في روم بحيث سمّاها بعضهم وصيّة بولس الأخيرة. هي تتوجّه إلى كنيسة خاصّة، إلى رومة، ولكنّها تعالج مسائل حياتيّة لم يتجرّأ أن يتصدّى لها أحد في الديانة المسيحيّة. لهذا احتلّت مكانة مرموقة في علم التأويل وفي علم اللاهوت، ففسرها أوريجانس ويوحنّا فم الذهب وتيودورويتس القورشيّ وبلاجيوس وأغوسطينس وغيرهم. وستلعب دورًا هامًّا في عصرين مهمّين من تاريخ الكنيسة: في القرن الخامس يوم شدّد البلاجيّون في أفريقيا الشماليّة خاصّة على قوّة الحرّيّة في الإنسان على حساب النعمة الإلهيّة، وفي القرن السادس عشر يوم أعلن البروتستانت مجّانيّة الخلاص وأهمّيّة الإيمان دون الأعمال.
سنحاول قراءة هذه الرسالة فنتعرّف إلى الجماعة التي وُجّهت إليها، والظروف التي أحاطت بكتابتها، والتعليم اللاهوتيّ والأخلاقيّ الذي تتميّز به.

أ- جماعة رومة
كانت رومة عاصمة الإمبراطوريّة كلّها، فكانت تستقبل غنى كلّ البلدان التي احتلّتها، كما كانت تستقبل أناسًا جاؤوا إليها من كلّ أنحاء المملكة. هؤلاء تجمّعوا كلّهم في هذه المدينة التي صارت عالما مصغَّرًا، وزادوا في عدد سكّانها فبلغ في القرن الأوّل المسيحيّ ما يوازي مليون نسمة تقريبًا.
كان مجمل هؤلاء السكان من الطبقة الشعبيّة: مهاجرون أتقنوا الصناعة والتجارة، عبيد معتقون وآخرون ما زالوا في العبوديّة، أبناء أسرى الحرب الذين جاؤوا إلى رومة في القرنين السابقين للمسيحيّة.
وكانت الطبقةُ العالية طبقةَ الأرستقراطيّين الحاكمة. وبدأ يزاحمها على الحكم طبقة الفرسان وقد كانوا من الدرجة الثانية، ثمّ ضبّاط الجيش. ثمّ إنّ العبيد المعتقين ولاسيّما العائشين في ظلال الإمبراطور زاد تأثيرهم في الأمور السياسيّة والاقتصاديّة ووصل بعضهم إلى أعلى المناصب.
أمّا الآتون من الشرق فتجمّعوا وعاشوا في أحياءٍ خاصّةٍ بهم وشكّلوا مجموعة كبيرة. وكان مدنهم اليهود الذين كوَّنوا جالية متناسقة وقويّة. ولقد دلّت الحفريّات على أنّه كان لهم ما لا يقلّ عن ثلاثة عشر مجمعًا وستّة مدافن خاصّة بهم، وعلى أنّ عددهم راوح ما بين أربعين وستّين ألفًا في رومة في القرن الأوّل المسيحيّ. طردهم من رومة قرار كلوديوس (سنة 49)، ولكنّهم عادوا إليها بعد موت هذا الإمبراطور (سنة 54) أو قبل موته بقليل. ونحن نعرف أنّ بولس التقى خلال رسالته في كورنتوس ببعض التجّار اليهود مثل أكيلا وبرسكلّة (أصلهم من البنطس)، الذين تركوا المدينة بعد قرار الإمبراطور (1 كور 16: 19). ويبدو أنّ الذي أثار الاضطهاد عليهم هو الكرازة المسيحيّة التي حملها المؤمنون الآتون من الشرق. هذا ما يقوله المؤرّخ سويتونيوس. ولكنْ متى دخلت المسيحيّة إلى رومة ومتى تنظّمت فيها كنيسة محلّيّة؟ هذا ما لا نجد له جوابًا.
ومها يكن من أمر، فالرسالة إلى رومة تشهد على وجود جماعة مسيحيّة. وسيقول لنا لوقا فيما بعد (أع 28: 15) إنّ الإخوة (المسيحيّين) جاؤوا من رومة للقاء بولس السجين. وكان معظم هؤلاء الإخوة من الطبقة الشعبيّة، وبعضهم كان من اليهود كما تلمّح إليه مقاطع عديدة من روم ولاسيّما 15: 7- 9. ولكنّ الشّراح يختلفون حول نسبة اليهود والوثنيّين في هذه الجماعة. ولكنّ الرأي الذي يأخذ به أكثر الشرّاح هو أنّ الأكثرّية كانت من المسيحيّين الآتين من العالم الهلّينيّ الوثنيّ، بعد أن هرب قسم كبير من اليهود على أثر قرار كلوديوس. فإلى الوثنيّين يتوجّه بولس وهو يرغب أن يجنيَ بعض الثمار الروحيّة عندهم كما عند سائر الأمم (1: 13- 15). وسيعود في النهاية إلى القول نفسه: إنّه يريد أن يقدّم لله الوثنيّين المرتدّين كذبيحة حقيقيّة (15: 15- 16).
هل جاء بطرس إلى رومة وكم قضى فيها من السنين؟ يشهد على علاقة بطرس برومة الرسالة الأولى التي أرسلها البابا إكلمنضوس إلى كورنتوس سنة 95، ورسالة أغناطيوس إلى أهل رومة. وتلمّح 1 بط (5: 13) إلى إقامة بطرس في رومة. إذًا، لا شكّ في مجيء بطرس إلى رومة ولكنّنا نجهل متى جاء إليها. وإذا كانت روم لا تذكر اسم بطرس فلأنّه كان غائبًا عنها أو لم يأت إليها بعد.
يعتقد البعض أنّ المسيحيّين من أصل يهوديّ هم أوّل من حمل بشارة الإنجيل إلى رومة. ومن هذا القبيل نفهم أن تكون جماعة رومة قد تأثّرت ببطرس الرسول. واعتبر البعض الآخر أنّ بطرس ظلّ خمسًا وعشرين سنة يدير كنيسة رومة. ولكنْ لا شيء في التاريخ يسند هذا القول، وكلّ ما نستطيع أن نقوله هو أنّ بطرس أقام في رومة قبل مجيء بولس إليها. وقال آخرون إنّه كان لمسيحيِّي رومة أفكار خاطئة منذ ارتدادهم، يشهد على ذلك مقدّمات لاتينية للرسالة إلى رومة، وهذا ما دفع بولس لأن يكون عنيفًا في بعض مقاطع الرسالة.

ب- لماذا كتبت الرسالة إلى رومة؟
هناك أسباب ثلاثة تجعلنا نعتبر كتابة روم سرًّا ولغزًا. أوّلاً: توجّهت سائر رسائل القدّيس بولس إلى كنائسَ سبق له وأسّسها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو زارها. فما الذي دفعه ليكتب إلى جماعة رومة التي لم يتّصل بها بعد؟ ثانيًا: كيف نفسّر تجرّؤ رسول الأم أن يكتب إلى كنيسة رومة المتّصلة بالقدّيس بطرس وهو الذي افتخر أنه لم يَبْنِ على أساسٍ وضعه غيره (15: 20)؟ ثالثًا: ما الذي دفع بولس إلى تأليف رسائل؟ صعوبات ألمّت بالجماعة أو أسئلة طُرِحَتْ على الرسول. فكيف نفسّر أنّ يوجّه بولس رسالة تعليميّة إلى جماعة غريبة عنه ولم تطرح عليه سؤالاً واحدًا؟
كيف يفسّر الشرّاح هدف القدّيس بولس حين كتب روم؟ هناك خمسة آراء. الرأي الأوّل: الحرب على نقص خطير في جماعة رومة المسيحيّة، ولكنّنا لا نستطيع أن نتكلّم عن نقص خطير على المستوى التعليميّ وبولس يقول: "إنّكم على قسط كبير من كرم الاخلاق، وإنّكم مزوّدون بتمام المعرفة، قادرون على أن ينصح بعضكم بعضاً" (15: 14). الرأي الثاني: أراد بولس أن يهيئ سفره إلى أورشليم قبل أن يعود إلى رومة وإسبانية. ولكن نتساءل: هل كتب بولس من أجل نفسه أم من أجل أهل رومة؟ الرأي الثالث: نحن أمام رسالة دوّارة لا تتوجّه إلى كنيسة واحدة بل إلى كنائس متعدّدة. ولكنْ لا أساس لهذا الرأي. ثمّ، لماذا أُرسلت إلى رومة ولم ترسل إلى غيرها من المدن؟ الرأي الرابع: رغب بولس في أن يعرّف بنفسه وفي أن يطلب المساعدة من كنيسة رومة. ولكن هل كان بولس مجهولاً بعد نشاط طويل ومثمر؟ ثمّ هل إنّ من كتب ما كتب في بداية الرسالة إلى غلاطية يحتاج إلى موافقة أحد على رسالته؟ الرأي الخامس: أراد بولس أن يضع حدًّا للخلاف بين الأقوياء والضعفاء وسط جماعة رومة المسيحيّة. ولكنّ هذا الموضوع جانبيّ ولم يتطرّق إليه بولس إلاّ في ف 14- 15، لهذا نعتبر أيضاً أنّ هذا الرأيَ غيرُ كاف.
هذه الآراء صحيحة ولكنّها غير كافية. وها نحن نقدّم رأيّا يعطي فكرة عامّة عن أفضل الحلول فنعود إلى 13:15- 32 حيث يشركنا الرسول في نواياه، ونقابل معطيات روم وغل عن المسألة اليهوديّة.
فبعد المقطع الطويل (14: 1- 15: 13) الذي حاول فيه بولس أن يُحِلَّ الوحدة في جماعة منقسمة بين أقوياء وضعفاء، نتعجّب حين نسمع مديحًا لهذه الجماعة (15: 14). وإذا كانت الجماعة كاملة فلماذا كلّ هذه التعليمات؟ وبعد هذا اعتذر الرسول لأنّه تجرّأ وكتب ثمّ أردف أنّه ما أراد إلاّ أن يذكّر الرومانيّين بما يعرفون (15: 15). ثمّ يضيف أنّه يفتخر بأنّه لم يحمل الإنجيل حيث كان المسيح معروفًا (15: 20- 21). فهو يشير بهذا إلى جماعة رومة العائشة في ظلّ بطرس. فكيف تجاسر أن يكتب بحثًا طويلاً إلى أهل رومة وفيه ما فيه من تعليم؟ نجيب هنا: كان بطرس على اتّفاق مع بولس على جوهر التعليم المعروض في روم، ولهذا قال بولس إنّه يكتفي بأن يذكّرهم. ولكنْ يُطرَح سؤالٌ ثانٍ : لماذا اهتمّ بولس في كتابة بحث تعليميّ طويل جدًّا؟
هنا نعود إلى 15: 22- 30: عرف بولس، وإنْ كان غريبًا عن جماعة روما، أنّه مُتَّحِدٌ بها روحًا وقلبًا وأنّه يودّ أن يجدَ سرورًا لدى هؤلاء المسيحيّين (آ 24) ويجدَ عندهم بعض الراحة (آ 32) وهو متيقّن أنّه يحمل إليهم بركة المسيح (آ 29). ويُسِرّ إليهم في الوقت ذاته بهمومه ليلة ذهابه إلى أورشليم ليحمل إلى هناك حسنات القدّيسين ويطلب منهم أن يجاهدوا معه في الصلاة لينجو من الكفار الذين في اليهوديّة ويُقبَل الإحسان الذي يحمله إلى أورشليم (آ 30- 31). إذن، يبحث بولس عن خير الرومانيّين الروحيّ وعن خيره أيضاً.
ثمّ إنّ بولس كان قاسيًا في رسالته إلى أهل غلاطية فلم يساوم مع المتهوّدين وأغفل ذكر امتيازات الشعب المختار، بل أنكرها. ففي غل 3 يعتبر أن الشريعة الموسويّة نظام عابر وقد أضيف من أجل المعاصي (غل 3: 19). ويقابل الشريعة بسجّان ثمّ بحارس إلى أن يأتيَ المسيح (غل 3: 23- 24). وفي بداية الفصل الرابع يسمّي العبادة اليهوديّة والعبادة الوثنيّة معًا "أركان العالم" (4: 3، 9). وحين كتب روم أكمل ما حسبه ناقصاً في غل فحارب أفكار المتهوّدين المسبقة ضدّه. إذًا قدّم في رومة قضيّة سيدافع عنها في المدينة المقدّسة. لهذا كتب ف 9- 11 وشدّد على امتيازات الشعب المختار في الخطط الخلاصيّ. فالمسيح هو من ذرّيّة داود (1: 3). واليهوديّ هو قبل اليونانيّ (1: 16؛ 2: 9- 10). وقال: "ما هو تفوّق اليهوديّ؟ وما نفع الختان؟ كبير من كلّ وجه" (3: 1- 2). وقال أيضاً: "أفنُبطل بالإيمان عملَ الشريعة؟ معاذ الله، بل نُثْبِتُ الشريعة".

ج- متى كتبت الرسالة ومن أين أرسلت؟
يختلف الشرّاح في تحديد التاريخ، ولكنّهم يعتبرون أنها كتبت بين السنة 55 والسنة 58، ولكنّ الرأي الأصحّ أنّها كتبت سنة 57 وأرسلت في ربيع 58، ساعة تبدأ الرحلات البحريّة.
نحن في زمن نيرون (54-68) والتوتّر على أشدّه في فلسطين، والمقاومة تتهيّأ ضدّ الرومان مع أصحاب السيوف وغيرهم. ثمّ إنّ ما يؤثّر في يهود فلسطين يؤثّر في يهود الشتات. وهنا نتذكّر قضيّة التمثال الذي أراد الإمبراطور كاليغولا أن يضعه في هيكل أورشليم سنة 40. كانت هذه المحاولة سببًا لجرح بليغ في قلب كلّ يهود ذلك الزمان. وبدأ هجوم اللصوص وقطاع الطرق وأصحاب السيوف، يسندهم بأفكارهم "أنبياء" من نوع خاصّ (أع 5: 36؛ 21: 38) فيمنعون عنهم اللامبالاة. وفي سنة 59- 60 ستشاهد قيصريّة عاصمة فلسطين الرومانيّة ثورة اليهود ضدّ السلطة وهمّهم أن يحصلوا على حقوق تساويهم بالوثنيّين. مقابل هذا، زاد عداء الوثنيّين لليهود في الإسكندريّة وفي غيرها من المدن. هذا المناخ السياسيّ والدينيّ، وهذا العنف المتصاعد، لم يكونا غريبَيْن عن بولس حين كتب روم، فحاول أن يتّخذ طريقًا تحاول أن تجابه حالة تزداد خطورة. حين كتب غل ما خاف أن يشحذ التوتّر بين الفِرَق داخل الجماعة المسيحيّة الواحدة. ولكنّه يعود الآن إلى الهدوء ويتطرّق إلى مسألة علاقات اليهود (بمن فيهم المتهدوّدين) والمسيحيّين الآتين من الأمم.
من أين كتبت روم؟ من اليونان، وبالتحديد من كورنتوس. هذا ما يتّفق عليه معظم الشرّاح.
أجل، حين أملى بولس رسالته على ترسيوس (16: 22)، كان في كورنتوس عند غايوس مضيفه ومضيف الكنيسة كلّها (23:16؛ رج 1كور 1: 14-15). وهو يستعدّ لأن ينطلق إلى أورشليم (15: 25-33) حاملاً حصيلة اللمّة التي نظّمها في مكدونية وأخائية من أجل القدّيسين المعوزين في أورشليم (15: 25- 26).
قضى بولس ثلاثة أشهرٍ في كورنتوس (أع 20: 3) في نهاية رحلته الرسوليّة الثالثة التي كُتبت فيها 1 كور و 2 كور وغل وفل. وهو يجد نفسه في نهاية حقبة متقلّبة من نشاطه الرسائليّ واللاهوتيّ. بل ينطلق بفكره إلى رومة وإسبانية (15: 24). ولكنّه قلق: كيفا ستنتهي رحلته إلى أورشليم؟ فهو يحسّ مسبقًا بالصعوبات التي تنتظره (15: 30- 31). ويؤكّد هذه المخاوف سفرُ أعمال الرسل: "وأنا اليوم ذاهب إلى أورشليم بدافع من الروح القدس، لا أعرف ما يصادِفُني هناك. غير أنّ الروح القدس كان يحذِّرني في كلّ مدينة من أنّ القيود والمشقّات تنتظرني" (أع 20: 22-23).
وصلت إلى بولس بعض المعلومات عن جماعة رومة بواسطة الذين التقاهم في هذه المدينة أو تلك، فوضع بعض النقاط على الحروف بالأخصّ فيما يتعلّق بكرامة ودعوة شعب الله (3: 1ي؛ 9: 1ي). سيذهب بولس إلى رومة وستستقبله الجماعة هناك دون أن تشكّ في تعليمه. لهذا عرض طريقته لفهم إنجيل المسيح وأفاد من المناسبة ليعطيَ تعليمًا عرض بعضه على كنائس غلاطية: إنّ الله يعطي الخلاص مجّانًا لكلّ الذين يؤمنون بالمسيح. انطلق من دعوته المسيحيّة والرسوليّة (غل 1: 12، 16) ومن أحداث رسالته حيث جابه اليهود والمتهوّدين، فعمّق هذا الموضوع الأساسيّ في كرازته. حمله إلى الشرق وسوف يحمله إلى الغرب. لهذا كتب رسالته.

د- تصميم الرسالة إلى رومة
قضيّة تصميم الرسالة قضيّة مهمّة جدًّا في روم اكثر منها في سائر الرسائل. فكلّ من 1 تس، 2 تس، فل، غل كتبت في ظرف معيّن فجاءت بنيتها صدفة واتّفاقًا. إنّ 1 كور تتضمّن سلسلة من الأجوبة على أسئلة، أو توسّعاتٍ في مواضيعَ تهمّ الحياة اليوميّة في الجماعة. وإنّ 2 كور كُتبت في اطار من الدفاع عن أساس رسالة بولس. أمّا روم، وبالأخصّ ف 1- 11، فهي بحث يتألّف من نقاط تعليميّة. من هنا أهمّيّة التصميم ليبدوَ البحث واضحًا. ولكنِ اختلف الشرّاحُ في التصاميم التي قدّموها لأنّهم اختلفوا حول هدف بولس الأساسيّ.
هناك قسم أوّل (ف 1- 11) تعليميّ بمجمله، وقسم ثان (ف 12- 15) أخلاقيّ ثمّ السلامات وكلام الوداع (ف 16): وها نحن نقدّم تصميمًا وتحليلاً للرسالة داخل هذا الإطار العامّ.

1- المقدّمة (1: 1- 17)
بعد السلامات المعتادة يقدّم بولس نفسه على أنّه رسول الأمم (1: 1- 7) ويشكر الله من أجل إيمان كنيسة رومة ويخبرها برغبته في أن يزورها (8:1- 15) ثمّ يقدّم موضوعه: إنجيل البرّ في الإيمان (1: 16- 17).

2- القسم التعليمي (1: 18- 11: 36)
بالإيمان في الإنجيل ينتقل البشر من غضب الله إلى برّه الخلاصيّ. هنا يبدأ القسم الأوّل وعنوانه: الإنجيل قوّة لكلّ من يؤمن، وينتهي في 11: 36.

أ- من غضب الله الى برّه (18:1-26:4)
* ظهر غضب الله... (1: 18)
- على الأمم (1: 18- 32) التي لم تعبد الله ولم تشكره. رفضوا متطلّبات الله المشروعة، ولو أرادوا لاستطاعوا أن يتأمّلوا الله في خلقه. ولكنهم لم يفعلوا. لهذا غرقوا في الخطايا.
- على اليهود (2: 1- 3: 20) الذين عرفوا الشريعة ومارسوا الختان، إلاّ أنّهم ظلّوا بعيدين عن الخلاص، شأنهم شأن سائر البشر. ولكن بين الأم من يحفظون شريعةَ الله المكتوبة في قلوبهم. هم لم يعرفوا نظام الشريعة ولكنهم عاشوا حسب نظام الروح. وهكذا، فكل البشر خاطئون كما يقول الكتاب وهم يستحقون عقاب الله.

* ولكن ظهر بر الله (3: 21)
- برّ خلاصيّ أعطي لجميع المؤمنين بموت يسوع الفِدائيّ ولم يُعطَ لغيرهم (21:3-31).
- لا يعارض الكتاب هذا القول، ويدلّ على ذلك مَثل إبراهيم. حُسب له إيمانُه بقدرة الله بِرًّا. ولهذا فهو أبو كلّ المؤمنين (4: 1- 25).
(5: 1- 8: 39): حُمل يسوع إلى جميع البشر بالإيمان فأحّل محلّ نظام الشريعة الدينيّ نظام الروح.

ب- من الموت إلى الحياة (5: 1- 6: 23)
- نحن بالإيمان ننال النعمة، لأنّ الله، حين أرسل ابنه، صالحنا معه وأعطانا المحبّة بروحه (5: 1- 11). لهذا، كما أدخل آدم إلى العالم الخطيئة والموت، كذلك أدخل المسيح آدم الجديد، النعمة والبرّ والحياة (5: 12- 21).
- تعمّد المسيحيّون في موت المسيح فماتوا عن الخطيئة وما عادوا يتحمّلون سلطتها عليهم. فبسبب المسيح نالوا حياة جديدة هي مشاركة في قيامته (6: 1- 11). تحرّروا من الخطيئة فوجب عليهم أن يعيشوا في طاعةٍ لله تقودهم إلى القداسة والحياة الأبديّة (6: 12- 23).

ج- من نظام الشريعة إلى نظام الروح (7: 1-8: 39)
- حصل لنا المسيح بموته على التحرّر من نظام الشريعة الدينيّ (7: 1-6)، ولكنّ هذا لا يلغي الواقع أنّ الشريعة صالحة ومقدّسة وروحيّة. غير أنّ الإرادة والعقل ما استطاعا أن يؤمّنا ممارسة الشريعة لدى الخاطئ: فالشريعة أكثرت الخطيئة التي تقود إلى الموت (7:7-25).
- ولكنّ الله حكم على الخطيئة في جسد المسيح ليستطيع المؤمنون الذين عاشوا حسب الروح وتحرّروا من سلطان الخطيئة أن يتمّوا متطلّبات الشريعة ويحصلوا على رجاء القيامة (8: 1- 11). صاروا بالروح أبناء الله ووارثين مع المسيح (8: 12- 17) فنالوا رجاءً شاركتهم فيه الخليقةُ كلّها. وحين قيامة الأجساد يتمّ تبنيّنا على يد الله (8: 18-30). وينهي بولس هذا العرض بنشيد الرجاء المسيحيّ (8: 31- 39).

د- بنو اسرائيل ومخطط الخلاص (9: 1- 11: 36)
رفض بنو إسرائيل مؤقّتًا المسيح يسوع، ولكنّ رَفْضَهم لا يقف حاجزًا أمام شموليّة مخطّط الله الخلاصيّ.

* لم يؤمن الشعب المختار (9: 1-33)
- إنّ الموقف الذي اتّخذته جماعة إسرائيل تجاه الإنجيل طرح عل بولس مشكلة أحسّ بها في أعماقه وتألّم لها: فرغم الامتيازات الممنوحة للشعب كلّه (9: 1- 5)، صار قسمٌ بسيط من هذا الشعب أبناءَ الوعد (6:9-33).
- وهذا حصل لا بسبب ظلم الله الذي أظهر رحمته حين دعا الوثنيّين إلى نعمته (9: 14- 24). ولكنّ هذا يبيّن صدق الكتاب الذي أنبأ أنّ بقيّة تبقى فقط (9: 25- 33).

* جهلَ الشعبُ المختار برَّ الله فلا عذر لهم (10: 1- 21).
- طلب اليهود بِرَّهُمُ الخاصّ فجهلوا بِرّ الله الذي جعل المسيح غاية الشريعة (10: 10-4)، وهذا ما يوافق الكتاب الذي يعلن خلاص الناس بالإيمان (10: 5- 13).
- ما طلب اليهود الربّ، مع أنّ صوت المبشّرين وصل إلى أقاصي الأرض. إذن لا عذر لهم لأنّهم شعبٌ عاصٍ وعنيدٌ (10: 14- 21).

* مخطّط الله ومستقبل شعب إسرائيل (11: 1-36):
- لم يرذل الله شعبه، ولكنّه اختار له منذ الآن بقيّة وَسْطَ الجماعة العاصية (11: 1-10). ولكن إذا كان سقوط اليهود سببًا لخلاص الأمم فأيّة نعمة يجلبها رجوعهم (11: 11-15)؟
- فالأمم أغصان زيتون برّيّ طُعِّموا على زيتون جوّيّ هو شعب إسرائيل (11: 16- 24). دخولهم كمجموعة في طريق الخلاص يدعو إلى الخلاص كلّ إسرائيل الذي من أجله كان نداء الله وعطاياه. وهكذا حُبِس جميع الناس في الخطيئة لينالوا في النهاية رحمة الله (11: 25-23).
- وينتهي تأمّل هذا السرّ بنشيد شكر (33:11-36).

3- القسم الأخلاقي (12: 1- 15 : 13 )
* مقدمة: تطبيق على الحياة المسيحيّة كلها
ويرتبط القسم الأخلاقيّ (12: 1- 15: 13) بالتوسعّ السابق فيعلن القاعدة الأساسيّة: حين يُتمّ المؤمنون إرادة الله يحيَوْنَ الحرّيّة المسيحيّة فتصبح حياتهم ذبيحة حيّة ومقدّسة لمجد الله (12: 1- 2).

* قواعد من أجل حياة الجماعة (12: 3- 21)
- ويستنتج المؤمن أوّل قول عن حياة الجماعة حيث يوزّع الله مواهبَ متنوّعةً. فعلى كلّ واحد أن يستثمرها من أجل بناء جسد المسيح الذي هو الكنيسة (12: 3- 13).
- وتتوسّع هذه النظرة في دعوة إلى البركة والفرح وحبّ الأعداء (14:12-21).

* قواعد تحدّد موقفنا أمام السلطات المدنيّة (13: 1- 7)
تعيش الجماعة المسيحيّة في عالم وثنيِّ فلا قانون أساسيًا لها. فيجب أن يتحلّى موقف أعضائها بالصدق نحو السلطات المدنيّة من أجل الضمير.

* رجوع إلى قواعد الحياة الجماعيّة (13: 8- 14)
تتضمّن وصيّة المحبّة سائر الوصايا (13: 8- 10)، وتمارَس في إطار الرجاء الإسكاتولوجيّ (13: 11- 14).

* تطبيق على جماعة رومة (14: 1-13:15)
عرف بولس أنّ هناك مجابهة بين الذين يسمّون أقوياء والذين يسمّون ضعفاء. فيوصي الفريقين بالتقبّل والاحترام المتبادلين (14: 1- 22). فهناك طرق عديدة تساعدنا على أن نحيا حياة مسيحيّة حقيقيّة تمجّد الله (15: 1- 6). وهكذا يمجد اللهَ معًا المختونون وغيرُ المختونين.

4- الخاتمة (15: 14- 16: 27)
* رسالة شخصيّة (15: 4- 33)
ويصل بولس إلى الأخبار الخاصّة. يذكر أنّه ينوي أن يسافر إلى الغرب مارًّا في رومة. أمّا الذي دفعه إلى أن يتجرّأ ويكتب إلى أهل رومة حيث لم يبشّر بالإنجيل، فدعوته كرسول للأمم.

* توصيات وسلامات (16: 1- 16)
ويوصي بولس بفيبة التي حملت الرسالة، ويورد لائحة بمن يسلّم عليهم.

* زيادات أخيرة (16: 17- 27)
- نقرأ هنا تحذيرًا إلى المتهوّدين في الجماعة (16: 17- 20).
- وترد سلامات رفاق بولس ولاسيّما ترسيوس سكرتيره (16: 21-23).
- وزيدت أيضاً: نعمة ربّنا يسوع المسيح عليكم أجمعين. آمين (16: 24).
- المجدلة الأخيرة (16: 25- 27) تستعيد مواضيع إنجيل بولس الرئيسيّة وتذكّرنا بـ 1: :16- 17 فتشكّل تضمينًا ناجحًا.

هـ- الفنّ الأدبيّ في الرسالة إلى أهل رومة
تحدّثنا عن الظروف التي أحاطت بالرسالة إلى أهل رومة ولم نكشف كلّ الأسرار، إلاّ أنّ طبيعة هذه الرسالة تبقى لغزًا علينا. هل نحن أمام بحث تعليميّ أو رسالة كُتبت في ظرف من الظروف، أو رسالة كالرسائل البولسيّة؟
نحن أوّلاً أمام بحث لاهوتيّ، ولكنّه لا يتضمّن كلّ تفكير الرسول اللاهوتيّ. فهذا البحث هو عرض لما يسمّيه بولس "إنجيله" (2: 16؛ 16: 25) وقلب البشرى التي يحملها إلى الأمم. من هنا قال البعض إنّ بولس لم يكن يعرف جماعة رومة معرفة دقيقة. لهذا تحاشى المسائل العمليّة الملموسة التي تعرفها جماعة خاصّة، وتجنّب الدفاع عن نفسه كما فعل في غل و 2 كور، فعرض على كنيسة رومة، ومن خلالها على كلّ الكنائس، المشاكل التي تتحدّى رسالته.
وهنا يمكننا أن نقابل بين روم وغل. ففي هاتين الرسالتين نجد المواضيع الرئيسيّة الخاصّة ببولس: التبرّر والخلاص، شريعة موسى والإيمان المسيحيّ، شخصيّة إبراهيم... ولكنّ طريقة طرح هذه المواضيع تختلف بين الرسالة وأختها. كتب بولس غل متأثّرًا بما سمعه عن الغلاطيّين الأغبياء الذين سحر عقولَهم تعليمٌ مغاير للذي سمعوه منه (غل 3: 1). فثار ثائره لأنّهم تركوا الذي دعاهم بنعمة المسيح واتّبعوا بشارة أخرى (غل 1: 6). أمّا في روم فبولس هادئ في كلامه، وهو صاحب منهج في تعليمه. نظر إلى الأمور من عَلُ فجاء كلامه متوازنًا: خفض من كبرياء اليهود في البداية، ثمّ خفض من كبرياء الوثنيّين الذين نَسُوا أنّهم زيتونة برّيّة طُعِّمَتْ على زيتونة جويّة (11: 17 ي).
لا شكّ في أنّ أسلوب بولس في روم يعجّ بالحياة. فهو يتوجّه إلى سامع لا يحدّده. يسأله، يتعجّب معه: ماذا نقول إذن؟ ولكنّ هذا الشكل الحواريّ يدلّ على أنّ الشخص الذي يحدّثه بولس يمكن أن يكون أيّ مؤمن كان في رومة أو في غيرها من الكنائس.
في هذا الإطار نرى الفرق الشاسع بين روم والرسالتين إلى كورنتوس. فهاتان الرسالتان دافعتا عن سلطة بولس الرسوليّة وحاربتا من أجل وحدة كنيسة كورنتوس وبنيانها. أمّا روم فلا تكاد تتحدّث عن الكنيسة إلاّ في التوصيات العمليّة الأخيرة. ثمّ إنّنا لا نجد في روم ما يقابل تعليم 1 كور عن الإفخارستيّا (1 كور 11: 17- 34). ثمّ إنّ 1 كور تحدّثنا عن الروح الذي هو يَنبوعُ المواهب والخدم المنظّمة، أمّا روم فتحدّثنا عن الروح الذي هو في أصل الصلاة والحرّيّة الشخصيّة (8: 1ي). ولكنّ روم تلتقي 1 كور في حديثها عن الكنيسة جسد المسيح (12: 4- 6؛ 1 كور 12: 12- 27) وعن المسيح آدم الثاني (روم 5: 1ي؛ 1 كور 15: 1ي).
إذن، هناك مواضيع تطرحها روم وهناك مواضيع لا تذكرها. هذا ما يدفعنا إلى القول إنّها كتبت في ظرف من الظروف، فلم تكن فقط بحثًا مجرّدًا لا يرتبط بمشاكل الكنيسة في بداية القسم الثاني من القرن الأوّل المسيحيّ.
وعى بولس الخطر الذي يهدّد الكنيسة في وقت من تاريخها وخاف أن تنقسم جماعتين: جماعة آتية من العالم اليهوديّ وترتبط بالمجمع، وجماعة آتية من العالم الوثنيّ. ولقد عرف أزمة هزّت كنيسة غلاطية كما عرف انقسامًا في كنيسة كورنتوس فقال واحد: أنا مع بولس، وقال آخر: أنا مع بطرس (1 كور 1: 12). إذًا الوضع صعب، فكيف ستتقبّل كنيسة رومة رسالته وكيف ستستقبله أورشليم شخصيًّا؟ تجاه هذه الحالة شدّد بولس على وحدة الوحي في العهد القديم وفي الإنجيل، وأشار إلى المواعيد إلى شعب إسرائيل ودوره في تاريخ الخلاص. وستكون اللمّة التي نظّمها في العالم اليونانيّ علامة على تضامن الكنيسة الآتية من العالم الوثنيّ مع الكنيسة الآتية من العالم اليهوديّ والعائشة في فلسطين.
ونعود إلى الزمن الذي كتبت فيه الرسالة أي سنة 57- 58. لمّا أصدر كلوديوس قراره بطرد اليهود من رومة لم يستثن منه المسيحيّين من أصل يهوديّ. لهذا غادر أكيلا وبرسكلّة رومة والتقيا ببولس في كورنتوس (أع 18: 2). ولكنْ لمّا كتب بولس روم كانا في رومة من جديد (3:16). فهذا يعني أنّهما عادا كما عاد غيرهما من اليهود والمتهوّدين. وهنا نتساءل: هل اتّخذ المسيحيّون الذين من أصل وثنيّ موقف ازدراء وتعالٍ تجاه إخوتهم الذين من أصل يهوديّ والذين عادوا من المنفى؟ هنا نفهم بعض عبارات في روم: "فكيف يا هذا تدين أخاك؟ وكيف يا هذا تحتقر أخاك؟ نحن جميعًا سنقف أمام محكمة الله" (14: 10). فإذا كان الوثنيّون قد شاركوا اليهود في خيراتهم الروحيّة فمن الطبيعيّ أن يشركوهم في الخيرات الماديّة (15: 27). ولا يجب على الوثنيّين أن ينسوا أنّهم زيتون برّيّ مُطَعَّمُونَ على من هم زيتون جوّيّ. وهكذا بدت كنيسة رومة مقسّمة على مثال كنيسة كورنتوس وغلاطية. فاندفع بولس يدعو الفئة اليهوديّة والفئة اليونانيّة إلى وعي وحدتهم الأساسيّة: "فاقبلوا بعضكم بعضاً لمجد الله كما قبلكم المسيح" (15: 7). وهكذا تكون روم بحثًا تعليميًّا عن وحدة الكنيسة كُتب في ظرف خاصّ مرّت فيه كنيسة رومة وسائر كنائس المسيح. فإن لم يقبل المسيحيّون بعضهم بعضاً يتمزّق جسد المسيح وتضيع الشهادة المسيحيّة.

و- النقائض في الرسالة إلى رومة
درج القدّيس بولس على استعمال أسلوب النقائض في رسائله: الجسد والروح، الجنون والحكمة، الضعف والقوّة، الظلمة والنور، العبد والحرّ، اليهوديّ واليونانيّ، الأعمال والإيمان، الختان وعدم الختان... ونفسّر هذا الأسلوب بحياة بولس. ارتدّ إلى الديانة المسيحيّة فاتّخذ موقفًا معاكسًا للذي كان قد أخذ به سابقًا. كان يقول: حياتي هي الشريعة، فصار يقول: حياتي هي المسيح. تبدّلت حياته ففكّر في الخليقة الجديدة، غار على شريعة موسى وها هو يحارب هذه الشريعة التي صارت سببًا للخطيئة. وبرزت نقائض: الجسد والروح، الشريعة والنعمة، الحرف والروح، الموت والحياة، الخطيئة والبرّ، الخسارة والربح.
وسنتوقّف الآن على نقائض ثلاث نقرأها في ف 1-8، النقيضة الأولى: بين خطيئة الإنسان وبرّ الله، النقيضة الثانية بين الموت والحياة، النقيضة الثالثة بين الحرف (الشريعة، الوصيّة) والروح.

1- نقيضة الخطيئة والبرّ
نجد الصفة (البارّ) والاسم (برّ) والفعل (تبرّر) في ف 1-4 ولا نعود نجدها إلاّ قليلاً فيما بعد. ثمّ نلاحظ في هذه الفصول الأربعة تعارضاً دائمًا بين خطيئة الناس ولابرّهم مع البرّ الذي يقدّمه الله إليهم مجّانًا بفضل الإيمان. ونلاحظ أيضاً نقيضة بين وحي غضب الله (1: 18) وظهور برّ الله (3: 21). ونشير هنا إلى أنّ عبارة "غضب الله" ليست صفة من صفات الله الذي هو بطيء عن الغضب وطويل البال (خر 34: 6؛ نح 9: 17)، بل تعبيرًا استعاريًّا وأنتروبومورفيًّا عن تنافر مطلق بين قداسةِ اللهِ وخطيئة الإنسان.
وإذا أردنا أن نفهم كلام الرسول نعود إلى العهد القديم حيث نقرأ أنّ الله يبدو بارًّا حين يمارس دينونته وعقابه على الخطأة. ولكنّ برّه يرتبط أيضاً بأمانته للمواعيد المتضمّنة العهد، وبرحمته التي تريد أن تخلّص شعبه.
برّ الله هو تدخّله الخلاصيّ في تاريخ شعبه المختار (قض 5: 11؛ 1 صم 12: 7؛ مي 6: 5). وبرّ الله يدلّ في أشعيا على الخلاص الذي يحمله الله (أش 45: 8؛ 46: 13؛ 51: 5- 8). الكلمة العبرّيّة التي تقابل "برّ" هي "صدقة" وهي أهمّ كلمة تدلّ على العلاقات الحياتيّة بين الإنسان والإنسان، بين الله والإنسان.
إذن نربط البرّ بالمعنى الخلاصيّ، وإلاّ يصعب علينا فهم مقاطع عديدة من روم. فحين يعلن بولس في 3: 5 أن "لابرّنا" (ضلالنا) يُبْرِزُ برّ الله"، فهو لا يعني العدالة التي تحمل العقاب، بل أمانة الله لكلمة نعمته، وهذا واضح إذا قابلنا هذه الآية مع 3: 7: "إذا كان كذبي يزيد ظهور صدق الله من أجل مجده، فلماذا يُحكَم عليّ كما يُحكَم على الخاطئ"؟
نجد كلمة برّ وبرّر في روم، 1 كور، 2 كور، غل، ولكنّنا نجد عبارة "برّ الله" في روم ثماني مرّات (1: 17؛ 3: 5، 21، 25، 26؛ 10: 3) ولا نجدها إلاّ مرّة واحدة في 2 كور 5: 21. وتساءل الشرّاح عن معنى العبارة. هل تدلّ على البرّ الذي في الله أو على البر الذي يأتي من الله وينتقل إلى البشر؟ ما الذي يسند الرأي الأوّل؟ المقابلة بين وحي برّ الله (1: 17) ووحي غضب الله (1: 18) والعلاقة بين برّ الله (1: 17) وقدرة الله (1: 16)، والتعارض بين برّ الله ولا برّ البشر (3: 5).
واعتبر بعض الشرّاح أنّ عبارة برّ الله تعني في اليهوديّة المتأخّرة وفي قمران عمل الله الخلاصيّ وأمانته للعهد ورحمته الغافرة ومتطلّباته في أن نطيعه ونخضع له بكلّيّتنا. وقالوا بحقّ إنّ هذه العبارة تتعلّق بحالة برّ الإنسان الآتي من عند الله. ففي 3: 25- 26، يعني برّ الله البرّ الذي في الله. وفي 10: 3: جهلوا برّ الله وسَعَوا إلى برّهم الخاصّ. نحن هنا أمام برّ يعطيه الله وهو يقابل ذلك الذي يظنّ الإنسان أنّه يقدر أن يحصل عليه بقواه الخاصّة (رج فل 3: 9). ونقرأ في 1 كور 1: 30: "صار المسيحِ يسوع لنا حكمة آتية من الله وبرًّا وقداسة وفداء". فالله يعطينا الحكمة ويعطينا البرّ أيضاً.
من أين جاءت نقيضة "خطيئة الإنسان وبرّ الله التي تملأ الفصول الأربعة الأولى من روم؟ نقول أوّلاً إنّ عبارة بر الله حاضرة في أشعيا وفي المزامير كما ألمحنا إلى ذلك أعلاه. أمّا النقيضة فلا نجدها إلاّ في النشيد الرابع من أناشيد عبد الله في أشعيا (52: 13- 53: 12). هنا تقف أمام خطيئة البشريّة كلّها نعمةُ التبرير التي يقدّمها الله للخاطئين بذبيحة عبد الله التكفيريّة. وهذا واضح من 2 كور 5: 21: "الذي لم يعرف الخطيئة" تقابل "الذي لم يقترف خطيئة" (أش 53: 9)، "جعله الله خطيئة من أجلنا" تقابل "قدّم حياته ذبيحة تكفيريّة" (أش 53: 10)، " لنصير فيه برّ الله" تقابل "الصدّيق عبدي يبرّر الكثيرين" (أش 53: 11). أمّا عبارة "نصير برّ الله" فتعني أن نتبرّر بالله. هنا نفهم "كفّارة" في 3: 25 على أنها تلميح إلى ذبيحة عبد الله التكفيرّية (أش 53: 10). ونقرأ في 4: 25: "سلِّم لأجل ذنوبنا وقام لأجل تبريرنا" (رد أش 53: 4- 5).

2- نقيضة الموت والحياة
خصّص بولس ف 1- 4 للحديث عن البرّ المرتبط بالإيمان، وسيخصّص ف 5-8 للحديث عن وعد الحياة.
نجد في 5: 12- 21 معطى جديدًا: دخول الموت إلى العالم. ويحلّ محلّ نقيضة الخطيئة والبرّ نقيضة الموت والحياة التي ستمتدّ حتّى نهاية ف 8. فانطلاقًا من هنا تظهر كلمات: مات، أمات، موت، مائت، وما يقابلها: حيِيَ، أحيا، حياة، حيّ. وما يريد أن يشدّد عليه الرسول هو شموليّة الموت قبل شموليّة الخطيئة فيعود إلى تك 3: 1ي في ثلاثة مقاطع: 5: 12- 21؛ 7:7- 11؛ 8: 19- 21.
عرفنا أنّ موت المسيح كان تكفيرًا عن خطايا البشرّية كما أمر به حبّ الله. ونحن نعرف الآن أنّ هذا الموت كان نصر الحياة على موت دخل إلى العالم بواسطة خطيئة آدم. نستطيع أن نلخّص بهاتين العبارتين صراع الحياة وانتصارها ضدّ الموت: إذا كان سلطان الموت قد دخل في البشرّية بخطيئة إنسان واحد، فالناس يثقون أنّهم يملكون الحياة بواسطة يسوع المسيح وحده. فإذا قتلت وصيّة الله كلّ إنسان خاطئ ومستند إلى قواه الخاصّة، فروح ذلك الذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيى كلَّ إنسان جعلَ نفسه في خدمة المسيح.
ونتساءل من أين جاءت نقيضة الموت والحياة؟ قال بعضهم: إنّها جاءت من العالم اليونانيّ (هيراكليتس وأفلاطون). ولكنّ التأثير اليونانيّ يبقينا على هامش فكر بولس. فالرسول مقتنع بأنّ موت المسيح كان حياة العالم وبأنّ الناس أفلتوا بواسطة المسيح، من نير الموت الجسديّ والروحيّ ليدخلوا في دائرة الحياة التي لا سلطة للموت عليها. ثمّ إنّ الوجود المسيحيّ الذي هو مشاركة في موت المسيح وقيامته يتحدّد أساسًا في هذه المفارقة: الموت الذي هو حياة. وهنا عاد بولس الرسول إلى سفر الحكمة لا إلى فلسفة الرواقيّين كما يظنّ البعض.
إنّ ما يميّز الفصول الخمسة الأولى من سفر الحكمة هو تكرار هذه النقيضة (حك 1: 12، 13، 16؛ 2: 1؛ 3: 2، 4؛ 4: 6؛ 5: 4) مع التشديد على أنّ الخلود (اللاموت) أراده الله منذ البدء وأنه ثمرة البرّ الطبيعيّة. وإنّ موت الأبرار هو مظهر خارجيّ، لأنّهم يملكون حياة لا تزول.
ونبرهن بهذا الشكل على ارتباط نقيضة الموت والحياة في روم بسفر الحكمة. فبصورة عامّة تستغلّ روم سفر الحكمة دون أن تورد نصوصه حرفيًّا. وبالأخصّ، حين يكتب الرسول: "كما أنّه بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت" (5: 12) فهو يتذكّر حك 2: 14: "دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس". لا يعبّر هذان النصّان فقط وبالطريقة عينها عن دخول الموت إلى العالم على خطى آدم، بل يقدّمان نظرة لاهوتيّة يبدو فيها الموت الجسديّ علامة لواقع أعمق هو الموت الروحيّ وحرمان الخلاص في نهاية الأزمنة. وحين يعارض الرسول سلطان الموت والخطيئة بالسلطان الذين ينالون به وفرة النعمة وعطيّة البرّ في الحياة، فهو يرجع إلى سفر الحكمة الذي يشيد بمُلك الأبرار ويعارضه بسلطان الموت.
سبق بولسُ واستعمل نقيضة الموت والحياة في 1 كور 15: 22: "كما أنّهم كلّهم يموتون في آدم، كذلك يَحيَوْنَ في المسيح"، فعاد إلى سفر الحكمة. ثمّ حين قال: "إذا كان الموتى لا يقومون، لنأكل ونشرب فإنّا غدًا نموت" (1 كور 15: 32)، فهو يعود إلى أش 13:22، ولكنّه يقرأه على ضوء سفر الحكمة الذي أورد هذا النصّ.

3- نقيضة الحرف (الوصيّة، الشريعة) والروح
نقرأ في روم 7: 6: "ولكنّنا الآن تحرّرنا من الشريعة لأنّنا متنا عمّا كان يقيّدنا حتّى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم". نحن هنا أمام نقيضة جديدة: الحرف والروح. وكانت قد ظهرت أوّلاً في 2 كور 3: 6: "الحرف يقتل أمّا الروح فَيُحْيِي". واستعادها بولس في 2: 29: "ختان حسب الروح لا حسب الحرف". أمّا الآن فستكون موجودة في 7: 7- 8: 39. تخصَّص 7: 7- 25 للحرف الذي نعبّر عنه بكلمتين معادلتين له: الشريعة (أو الناموس ترد 11 مرّة في 7: 7- 25) والوصيّة (ترد 6 مرّات في 7: 7- 13). أمّا ف 8 فيتوقّف عند الروح القدس (ترد كلمة روح 16 مرّة في 2:8-27).
من 5: 12 إلى 7: 6 صوَّر بولس مأساة شاملة ممثّلوها هم آدم والمسيح، الموت والحياة، الشريعة والخطيئة (خاصّة في 7: 1- 6). بعد 7: 7 يدخل ممثّل جديد هو "أنا" تجاه شريعة الله. جعل مأساة الخلاص وكأنّها شخص حيّ، فانطلق انطلاقة جديدة حتى 8: 2. شريعة روح الحياة حرّرتني (او حرّرتك كما في بعض المخطوطات أو حرّرتنا كما في غيرها). فماذا يعني هذا "الأنا"؟
"الأنا" يدلّ على الجماعة كما في المزامير، وهو الإنسان بما أنّه حرّ ومسؤول. وهنا نفصل بين مقطعين 7: 7- 13 و7: 14- 25 بسبب صيغة الأفعال. فنقدرأن نعطيَ عنوانًا للمقطع الأوّل: الشريعة والخطيئة. يقول النصّ إنّ المسيحيّ مات عن الشريعة الموسويّة (7: 4) كما مات عن الخطيئة (6: 2) فنستنتج من هذا أنّ الشريعة سيّئة وليست من عمل الله. أمّا جواب بولس فهو أنّ الشريعة تعرّفنا بالخطيئة وأنّ الخطيئة كقوّة شخصيّة تفيد من الشريعة لتثير الشهوة وتجرّ الساقطين إلى الموت فتنتصر انتصارًا أكيدًا.
أيّة شريعة يعني الرسول؟ لا الشريعة الموسويّة فقط وإنْ دخلت الشريعة في الحساب. فاستعمال كلمة "وصيّة" قرب كلمة "شريعة" والتلميح الواضح إلى قصّة الفردوس الأرضيّ يشيران إلى أنّ الشريعة الموسويّة ليست وحدها الهدف.
في هذا المقطع يتجاوز بولس تاريخ البشريّة كلّه مفكّرًا أنّ ما حدث في البدايات (أو حين أعطيت الشريعة الموسويّة) يتكرّر في حياة كلّ إنسان يقف بحضرة الشريعة الإلهيّة. فكلّ الوصايا تقتل إن لم تَشْفِ النعمةُ الإلهيّةُ ضعفَ الإنسان الساقط. وحين يقول بولس إنّ الحرف يقتل والروح يحيى، فهو يعني أنّ الشريعة الموسويّة وحدها، بمعزل عن عطيّة الروح، تفرض على الإنسان طاعة لا يقدر أن يحقّقها فتقوده إلى الموت. بهذا المعنى نفهم النقيضة بين الحرف والروح في 7: 6: يموت المسيحيّون عن الشريعة التي تقيِّدهم.
وننتقل إلى المقطع الثاني (7: 14- 25) الذي يصوّر الصراع الممزّق وانقسام الإنسان الداخليّ الذي لا يفعل ما يريد بل يفعل ما يبغض، الذي لا يصنع الخير الذي يريد ويقترف الشر الذي لا يريد. فمن هو هذا الإنسان؟ هل هو الإنسان الذي لم تحوّله النعمة قبل ان يصير مسيحيًّا؟ هل هو الإنسان الساقط والمفديّ؟ يبدو أنّ نظرة بولس شاملة وهو يشير إلى كلّ إنسان أمسيحيًّا كان أم غيرَ مسيحيّ.
تنطبق هذه الصورة أوّلاً على الإنسان الذي لم يحوّله عمل الروح القدس. فما يعارض الجسد ليس روح الإنسان الذي حوّله الروح القدس بل العقل. وتدلّ آ 22- 23 على أنّ شريعة العقل هي أيضاً شريعة الله، ولاسيّما وإنّ روم 2: 13- 16 تعلّمنا أنّ شريعة العقل المكتوبة في داخلِ كلّ إنسان والمعروفة في ضميره تقابل الشريعة الموسويّة لدى الوثنيّين الذين لم ينعموا بالوحي. وما نقرأه في 7: 23- 25 يذكّرنا بنصوص يونانيّة لاوفيدس وأبيكتاتس الذي قال: لا يصنع الخاطئ ما يريد، ويصنع ما لا يريد. ويتكلّم أفلاطون عن صراع الإنسان الداخليّ ضدّ غرائزه السيّئة.
وتنطبق 7: 14- 25 على المسيحيّين الذين يتواصل فيهم الصراع الداخليّ. فالإنسان الذي يسرّ بشريعة الله يريد الخير ويكره الشرّ ويخدم بعقله شريعة الله. هو أسمى من الوثنيّين الذين تصوّرهم 2: 18- 32 عبيدًا للخطيئة والنجاسة. وهنا نفكّر أنّ الإنسان الداخليّ (7: 22) هو الإنسان الجديد (2 كور 4: 16؛ أف 3: 16). والأفعال المستعملة في هذا المقطع تدلّ على أنّ الصراع الذي يصوّره الرسول هو واقع حاضر ويدوم حتّى عند الإنسان الذي وُلد بالنعمة. بهذا المعنى نقرأ آ 25: "فأنا (الآن) أخضع بالعقل لشريعة الله، وبالجسد لشريعة الخطيئة".
يقدّم لنا بولس هنا نِظرةً إلى الحرّيّة. فحرّيّة الإنسان، ذلك المخلوق المرتبط بالله والموجَّه إليه، ليست إمكانيّة صنع أيّ شيء كان، بل إمكانيّة توجيه الذات نحو الخير السامي الذي يريده كيانه العميق. فالنصّ يقول: الخير الذي أريد... الشرّ الذي لا أريد. يبقى على الإنسان الساقط أن يُدخل إلى أعماقه شريعة الله. وهذه هي ثمرة الموهبة المعطاة لنا في الروح القدس، وهذا هو المكان الذي فيه تسقط النقيضة بين الحرف والروح.
ما هو أصل هذه النقيضة (الحرف والروح) التي تلعب دورًا هاما في ف 7- 8؟ يمكننا أن نعود إلى أفلاطون؟ ولكنّنا نبقى معه في النطاق البشريّ للمعرفة العقليّة. أمّا النقيضة البولسيّة فتشدّد على حاجة الإنسان إلى عون الله. لهذا سنتوجَّه إلى العهد القديم وإلى الحديث عن العهدين كما في إرميا (31: 31- 34) وحزقيال (36: 26- 27).

ز- التعليم اللاهوتيّ
توقّف الشرّاح عند عظمة هذه الرسالة التي يسمّونها دستور المسيحيّة الخالد. ينعم فيها بولس بحسّ استقاه في حواره مع الله. ويحدّثنا بولس كرسول أوكلت إليه سلطة التعليم في الكنيسة. ويبدو بولس أخيرًا ذلك اللاهوتيّ بقوّته الخلاّقة التي تتيح له أن يؤوّل معطيات الإنجيل والكرازة الأولى ويتعمّق فيها دون أن يزوّرها أو يحرّفها. أمّا كيف يبدو لاهوت القدّيس بولس؟ إنّه تعليم عن الخلاص كما نقرأ في 1: 16: "أنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كلّ من آمن، لليهوديّ أوّلاً ثمّ لليونانيّ". سنتطرّق إذًا إلى الخلاص وسرّ الثالوث، إلى حياة المسيحيّ الجديدة، إلى المسيح آدم الجديد وعبد الله المتألّم.

1- الخلاص وسرّ الثالوث
يرتكز تعليم روم اللاهوتيّ على أقوال كرستولوجيّة هامّة جدًّا يبدو بعضها بقايا أفعال إيمان ردّدتها الكنيسة الأولى. نقرأ في 1: 3- 4: "في شأن ابنه (ابن الله) الذي في الجسد جاء من نسل داود، وفي الروح القدس (أو روح القداسة والتقديس) ثَبَتَ أنّه ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات، ربّنا يسوع المسيح". يعني هذا النصّ أنّ المسيح هو منذ الأزل "ابن الله". وفي وقت محدّد من التاريخ لبس ابنُ الله الطبيعةَ البشريّة فصار جسدًا. والجسد يدلّ هنا (رج يو 1: 14) على الطبيعة البشرّية الضعيفة المائتة، لا على الخطيئة. ويقابل بولس بين ضعف الجسد وقدرة روحيّة سرّيّة هي قدرة الروح القدس أو القداسة أو التقديس. أمّا القدرة فهي قدرة ابن الله (رج 4: 24- 25؛ 5: 8؛ 8: 32).
ونقرأ أيضاً في 9: 5: "وجاء المسيح في الجسد وهو الكائن على كلّ شيء إلهًا مباركًا إلى الأبد". اسم المسيح الإلهيّ في رسائل القدّيس بولس هو "كيريوس"، الربّ، واسم الربّ هو "تيوس"، الله. ولكنّ هذه الآية تسمّي المسيح نفسه الله. إلاّ أنّنا نستطيع أن نقرأها بصورتين مختلفتين: منهم (أي من بني إسرائيل) جاء المسيح بالجسد (أو حسب الطبيعة البشريّة) الذي هو مسيح فوق كلّ شيء إله مبارك إلى الأبد. والطريقة الثانية: ليكنِ الله الذي هو فوق كلّ شيء مبارَكًا إلى الأبد. ولكنّ الطريقة الأولى هي الأصحّ لأنّ المجدلات البولسيّة ترتبط دومًا بما قبلها. أجل ليس المسيح إنسانًا فحسب، ولكنّه ينعم بالطبيعة الإلهيّة. والروح القدس هو قوّة إلهيّة ويبدو أنّه شخص وأقنوم بحمر المعنى ولاسيّمَا في ف 8. فالروح هو كائن شخصيّ يقيم في المسيحيّين (9:8، 11)، ويحرّكهم بنشاطه (8: 11، 14)، ويشهد لروحهم أنّهم أبناء الله (8: 16)، ويُعين ضعفهم ويتشفّع من أجلهم بأنّات لا توصف (8: 26). هذا الروح هو روح الله الآب (9:8، 14) وروح المسيح أو الابن (8: 9؛ ق 8: 15 مع غل 4: 6). هو لا يسكن في المؤمنين إن لم يسكن الابن فيهم، وغيابه يعني غياب الابن. هذا يعني أن الابن والروح متحدان اتحادًا لا ينفصم. غير أنهما متميزان. فالروح لا يُسمَّى ابن الله ولا تُنسب إليه صفات الابن ونشاط المسيح الفدائيّ.
لا يكشف لنا القدّيس بولس كيان الله الحميم، بل نشاطه الخارجيّ الحرّ، وبالأخصّ عمله الخلاصيّ من أجلنا. ولكنّه يقول لنا من خلال هذا العمل بعض الشيء عمّا هو الله في ذاته، عمّا هم الآب والابن والروح القدس. لا يعلِّم الرسول فقط أنّ المسيح هو ابن الله بالمعنى الحصريّ، بل يجعلنا نستشفّ أنّ الروح هو، في قلب الثالوث، العطاء المتبادل بين الآب والابن. نحن ننعم به مع الآب والابن، وهو يُنمي فينا عمل الآب والأبن، ويتيح لنا أن نجيب إلى نداء الآب بعطاء ذواتنا الحرّ.
إنّ هذه المعطيات الكرستولوجيّة والثالوثيّة قد لعبت دورًا هامًّا في نموّ اللاهوت، فانفتح أمام البحث اللاهوتيّ طريقان مختلفان: طريق أغوسطينس والآباء اللاتين الذي ينطلق من وحدة الله ثمّ يتأمّل في الأقانيم الثلاثة. وطريق الآباء اليونانيّين الذين انطلقوا من الاقانيم الإلهيّة الثلاثة ليصلوا بعد هذا إلى الجوهر الإلهيّ الواحد. وإنّ الطريق الثاني أقرب إلى القدّيس بولس الذي يربط التبرير والتقديس بكلّ من الأقانيم الثلاثة: الآب ثمّ ابن الله المتجسّد وآدم الجديد، وأخيرًا الروح القدس.
ولكن لا ننسى أنّ تعليم روم هو الخلاص الذي لا يقتصر على شعب واحد (كما في العهد القديم) والذي لا يتوقّف على إطار زمنيّ وسياسيّ. فالمسيح يقدّم لكلّ البشر خلاصاً عن خطاياهم، فيشدّد أوّلاً على الإيمان، وثانيًا على شموليّة هذا الخلاص الذي يصيب اليهوديّ واليونانيّ.
وكيف يخلص الإنسان؟ حين يقبل بتدخّل الله المتمثّل بشخص يسوع وعمله. فبولس ينظر إلى كلّ شيء من خلال المسيح ولا يحيد نظره برهة عن مخلّصه. ففيه يتأمّل البشريّة كلّها وفيه يكتشف ضعفها من دون النعمة، وسمّو دعوتها العلويّة. ونحن لا نفهم الإنجيل إلاّ بعد أن نتعرّف إلى شقاء البشريّة المحرومة من المسيح. ولقد قال الرسول: "ما أشقاني أنا الإنسان، من ينجّيني من هذا الجسد الذي يقودني إلى الموت؟ الحمد لله بربّنا يسوع المسيح" (7: 24-25).

2- حياة المسيحيّ الجديدة
إنّ مبادرة العمل الخلاصيّ محفوظة كلّها للآب. هذا ما نجده في الجزء التعليميّ الأوّل (1: 18- 5: 11) وبالأخصّ في المقطع الأساسيّ (3: 21- 31).
يبدو التبرير في 3: 24 كنتيجة نعمة الله أي صلاحه الرحوم ومجّانيّة عمله. أظهر الله محبَّتَه لنا في أنّه حين كنّا خطأة مات المسيح من أجلنا. فالله الآب يحيينا في المسيح المائت على الصليب وهكذا نحصل على الفداء. والفداء في العهد القديم هو نجاة من عبوديّة مصر أو من سجن بابل أو بطريقة أعمق من عبوديّة الخطيئة. وفي نظر بولس نُفتدى من الخطايا ونَنعم بهذا الفداء منذ الآن.
والآب يبرّر الخطأة بالإيمان. ولكنّ الإيمان ليس سبب البرّ، بل هو حركة يقوم بها الإنسان ليتقبّل البرّ ويستسلم إليه. الإيمان هو استعداد أخير يساعد الإنسان على امتلاك البِرّ. فالإيمان يتأثّر أيضاً بعمل الله لأنّ الإنسان الساقط لا يستطيع أن ينفتح على حبّ الله إن تخلّى اللهُ عنه.
والتبرير الذي نحصل عليه لا يزيل حالة الخطيئة. هذا المجد الذي حُرمنا منه مع الخطأة يعود إلينا ولكن بطريقة ناقصة، لأنّ التمجيد هو آخر أعمال الآب في مخطّطه الخلاصيّ. وخلال حياتنا على الأرض ننتظر هذا التمجيد كما يقول الرسول (8: 18، 21).
وبعد مبادرة الآب الذي يبرّر الخطأة بفضل عمل الفداء في المسيح، نقرأ في ف 6 إعلانًا عن عمل المعموديّة الذي يربط بطريقة حميمة حياة الإنسان الجديدة بالمسيح المائت والقائم.
المسيحيّ إنسان تعمَّد في المسيح، وهذا العماد يعبّر عنه بولس بأداة المعيّة: صلبنا مع المسيح (6: 6)، دفنّا مع المسيح (6: 4) حيينا مع المسيح (6: 8). ونتساءل: كيف نتّحد بالمسيح، وموتُه وقيامته حدثا في تاريخ محدّد؟ هنا نقول: لا يصبح موت المسيح حاضرًا بل هو المعمَّد يدخل في موت المسيح. فمن المسيح القائم والجالس عن يمين الله تفيض قوى جديدة على المؤمن وهذا ما يجعل وجوده تحت تأثير المسيح الممجّد.
وهكذا يقيم المسيح في المسيحيّين بالإيمان والمعموديّة. فيقول بولس: "المسيح يحيا فيَّ". (غل 2: 20). "إلى أن يتكوّن المسيح فيكم" (4: 19). "احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيئة أحياء لله في المسيح يسوع" (6: 11).
نقرأ في ف 6 أنّ المسيح حرّرنا من الخطيئة والموت وأدخلنا إلى الحياة. وفي ف 8 نرى الروح يعمل العمل عينه. فنحن هنا أمام موازاة بين دور المسيح ودور المعزّي كما في إنجيل يوحنّا، وبين عمل المسيح كما يصوّره إنجيل لوقا وعمل الروح الممتدّ في الكنيسة بعد العنصرة كما يصوّره سفر أعمال الرسل.
لقد أعلنت 5: 5 عطيّة الروح: "سكب الله محبّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا". هذا النصّ الذي ردّده أغوسطينس ما يزيد على 200 مرّة يعني أنّ الروح القدس يُفيض في قلب المسيحيّين الحبّ الذي أحبّهم به الله. وهذا يدخلنا في ف 8 الذي موضوعه التحرير الذي تمّ في الإنسان الساقط بعطيّة الروح، وعبور من عالم الحرف إلى عالم الروح الذي يعطي الحياة. وتتردّد كلمة روح فتعني مرّة روح الله، هذا الشخص المميز، وينبوع الحياة العلويّة لنا، وطورًا النعمة التي ينقلها إلينا، وطورًا روح الإنسان الذي تجلّى بهذا الروح.
هنا يظهر التضادّ بين الجسد والروح وكلّ منهما يتّخذ اتّجاهًا مختلفًا في الإنسان الواحد. والروح الذي يقاومه الجسد ليس الروح القدس بل عقل الإنسان المولود بالروح القدس. أمّا الجسد فهو الحياة البشرّية التي تصبح في الإنسان الساقط أداة وحليفة للخطيئة فتقف بوجه الله والحياة الإلهيّة التي في الإنسان. إذًا هناك حياتان متعارضتان (8: 8- 14): حياة حسب الجسد تطابق الميول الشرّيرة التي في الإنسان الساقط، وحياة حسب الروح هي امتداد للقوى العلويّة والميول التي في الإنسان المتجدّد بالروح.
الروح يعمل في الكنيسة ويعمل في كلّ مؤمن وإن يكن عمله سرّيًّا. فهو يجعل المسيحيّ حرًّا ويمنحه عواطف بنويّة: الذين يقودهم روح الله هم أبناء الله (8: 14).
وهكذا نتصرّف كأبناء لا كعبيد بعد أن تحرّرنا بالروح. ولكنّ هذا التحرّر يتمّ تدريجيًّا ولا يكون كاملاً على هذه الأرض. فالمهمّ أن نعرف أنّنا لم نعد في الجسد بل في الروح، "هذا إذا كان روح الله ساكنًا فيكم". لهذا لا نطيع الجسد بل نطيع الروح.

3- المسيح آدم الجديد وعبد الله المتألّم
شدّد الشرّاح على نقيضة آدم والمسيح في 5: 12- 21 التي تقدّم حقبتين تسودان كلّ التعليم البولسيّ: حقبة سلطان الخطيئة والموت التي دشّنها آدم، وحقبة البِرّ والحياة التي بدأ بها المسيح. وهنا يرتبط بولس بتعليم يسوع (مر 1: 15) الذي يجعل الحقبة الجديدة تتهيّأ بمجيئه وتبدأ نهائيًا بالسرّ الفحصيّ.
وإذا أردنا أن نفهم المقابلة بين آدم والمسيح (1 كور 15: 45- 49؛ روم 5: 12- 21)، يجب أن نتذكّر تيّارين فكريّين في العالم اليهوديّ: تيّار مسيحانيّ ينسب صورة الله إلى المسيح الداوديّ، إلى ابن الله الرؤيويّ، إلى الحكمة الإلهيّة المشخّصة التي تلعب دور المسيح. وتيّار أنطروبولوجيّ يعتبر صورة الله مكفولة لكلّ إنسان بفعل الخلق. شُوِّهت هذه الصورة بالخطيئة ولكنَّها لم تهلك بصورة نهائيّة.
في 1 كور 11: 7 تذكر الرسول تعليم سفر التكوين فقال إنّ الإنسان صورة الله ومجده، وفي 1 كور 15: 45- 49 تأمّل الإنسانَ في وضعه الحاليّ ككائن ساقط وخاطئ، ولا يعود إليه شبهه بالله إلاّ إذا شارك آدم الجديد الذي جعله الله روحًا محييًا منذ الدقيقة الأولى من وجوده.
ولكنّ يسوع ابن الإنسان الذي يرتبط بمسيح دانيال العلويّ أعلن أنّه ما جاء ليُخدم بل ليَخدم (مر 10: 45). وهذا ما يحيلنا إلى أش 52: 13- 53: 12. فهناك كلمة الكثيرين تتردّد أربع مرّات في نشيد عبد الله هذا (52: 14، 15؛ 53: 11، 12). وهكذا نقابل 5: 19 (بطاعة واحد بُرّر الكثيرون) مع أش 53: 11 (الصدّيق عبدي يبرّر الكثيرين). و 4: 25 (أُسلم لأجل ذنوبنا وأقيم من أجل تبريرنا) وأش 53: 12 الذي يعلن أنّ العبد أسم. وفي 5: 6 نقرأ أنّ يسوع أُسلم عن الخطأة وفي 5: 8 أنّ يسوع المسيح مات من أجلنا. كلّ هذا يذكّرنا بالكرازة المسيحيّة الأولى المرتبطة بعبد الله المتألّم (1 بط 21:2).
وحين يتذكّر بولس عبد الله المتألّم يشير إلى الحبّ الذي دفع يسوع إلى هذا العمل من أجلنا. "ابن الله أحبّني وأسلم نفسه من أجلي" (غل 2: 20). "ابن الله أحبّنا وأسلم نفسه عنّا مقدّمًا ذاته لله ذبيحةً، عَرْفًا طيّبًا" (أف 5: 2). "أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه عنها" (أف 5: 25). أجل إنّ سبب آلام يسوع هو حبّه، بل حبّ أبيه الذي أسلمه عنّا كلّنا (8: 32). وهذا ما يذكّرنا بكلام القدّيس يوحنّا: "أحبّ الله العالم حتّى إنّه أسلم ابنه الوحيد" (يو 3: 16).
ويصوّر رسول الأمم عمل المسيح الفدائيّ كفعل تضامن دفعه إليه حبّه الإلهيّ. ففي غل 4: 7، يبيّن لنا كيف أنّ الآب أرسل ابنه إلى العالم ليحرّر البشر من العبوديّة ويجعلهم أبناء الله، وطلب منه أن يقاسمَ البشرَ وَضْعَهم. ويشدّد في 5: 12- 21 على موضوع التضامن بين المسيح والبشريّة بشكل آخر: فالبشر صاروا متضامنين مع المسيحِ آدمَ الجديدِ وعبدِ الله المتألّم، بعد أن كانوا متضامنين مع آدمَ الأوّلِ ومع خطيئته المقترَفَةِ في البدء. هذا التضامن مع آدمَ الجديدِ يفترض انتماءَ المسيح إلى الجنس البشريّ، وكرامتُه كابن الله كرامةٌ لا يقدر بدونها أن يحوّلَ طبعنا البشريّ ويؤلِّهَه.
ويقابل بولس عصيان آدمَ الأوّل بطاعة المسيح وهي طاعة ينفحها الحبّ بروحه. وهكذا يكفّر يسوع بآلامه عن خطايا البشر إخوته ويفتح لهم باب البرّ والحياة الأبديّة.

ح- التعليم الأخلاقيّ
إنّ روم غنيّة من الناحية الأخلاقيّة وهي تضع أسسَ أخلاقيّةٍ مسيحيّة ترتبط بالإيمان والمعموديّة. عزَلت الأعمالَ عن التبريرِ الأوّل، ولكنّها وجّهت إلى المسيحيّين تحريضاتٍ أدبيّةً. فكيف يتخيّل الرسول إنجيل المسيح دون تأثير على الحياة الأخلاقيّة؟ هنا نتوقّف على ثلاثة أمور: تمييز إرادة الله بالضمير والإيمان، ربط الأوامر الأخلاقيّة بالزمن المسيحيّ ووضع المسيحيّ الجديد، العلاقات بين الشريعة القديمة والأخلاقيّة المسيحيّة.

1- التمييز الأخلاقيّ عند المسيحيّ (الإيمان) وغير المسيحيّ (الضمير)
اسم التمييز يعني فحص المرشّحين لوظيفة. والفعل امتحن: تحقّق إذا كانت العملة صحيحة أو مزيّفة. وفي رسائل بولس التمييز هو عمل يرتبط بحكم الله وقبول هذا العمل وتنقيته من كلّ ما هو بشريّ وشرّير (1 تس 2: 4؛ 1 كور 13:3؛ 1: 28؛ 2 كور 2: 9؛ 8: 8، 22؛ 9: 13؛ غل 6: 4)0 التمييز يُعَرِّف المؤمنَ بواجباته فَيَدُلُّهُ على ما يجب أن يعمل في هذا الظرف أو ذاك ليطابق عملُه الإنجيلَ.
وقبل أن تتكلّم روم عن تأثير الإيمان المسيحيّ على التمييز الأخلاقيّ، تتطرّق إلى قضيّة الوثنيّين: "رفضوا أن يحتفظوا بمعرفة الله فأسلمهم الله إلى فساد عقولهم ليصنعوا كلّ عمل شائن" (1: 28). حَسبَ الوثنيّون أنّهم لا يحتاجون إلى معرفة الله لكي يَحيَوا، فأقصيَ تمييزهم الخلقيّ وفسد. فَدَعَوْا خيرًا ما هو شرّ فأسلمهم الله إلى الشرّ.
ولكنْ حين نقرأ هذا النصّ نقابله ب 13:2-16 و 25:2-29 عن ختانة القلب أو حسب الروح التي لها أهمّيّتها. لقد اعتبر الرسول أنّ للوثنيين وصولاً إلى الخلاص الذي حمله المسيح حين يَتْبَعُوْنَ ضميرَهم. وهذا يعني أنّ حِسّهم الخُلُقِيّ لم يُلغَ. فالضمير يعمل كشخص غريب عن الإنسان فيتّهمه أو يدافع عنه. إنّه شريعة داخليّة مصدرها الله كالشريعة الموسويّة، وحكمه تسبيق للحكم النهائيّ حيث يقف جميع البشر أمام منبر المسيح.
نلاحظ أنّ بولس يعلن في 2: 19 أنّ الحافظين الحقيقيّين للشريعة يبرَّرون. وفي الآية التالية يعلِّم أنّ الوثنيّين الذين يُتمّون فرائض الشريعة يدلّون على واقع الشريعة المكتوبة في قلوبهم. هذا المقطع يؤكّد وجود شريعة طبيعيّة مكتوبة في القلوب، وإمكانيةً للوثنيّين أن يخلصوا بممارستهم هذه الشريعةَ الطبيعيّة. هذا يعني أنّهم يؤمنون إيمانًا ضمنيًّا بالمخلّص الوحيد الذي وصل فداؤه إلى البشريّة جمعاء. هذا يعني أنّه إنْ خَلُصَ الوثنيّون بممارسة الشريعة الطبيعيّة وحدها، فخلاصهم لا يتمّ من دون نعمة الله.
هل يتفوّق اليهود على الوثنيّين لأنّهم قبلوا الشريعة فعرفوا إرادة الله؟ سيجيب بولس بالإيجاب ثمّ يعلن أنّ هذه المعرفة لا تفيد، لأنّ سلوكهم الأخلاقيّ لا يقابل تمييزهم. فاليهود مسؤولون عن عدم التوافق بين ممارستهم ومعرفتهم. يقولون ولا يفعلون. وهكذا نستعدّ لسماع كلام الرسول في 12: 2: "لا تتشبّهوا بما في هذه الدنيا، بل تغيّروا بتجديد عقولكم لتعرفوا مشيئة الله: ما هو صالح، وما هو مرضيّ وما هو كامل".
في ف 1- 8 بيَّن الرسول أنّ المسيحَ، آدمَ الجديد، هو مصدر العالم الجديد والخليقة الجديدة، وهذه فكرةٌ نجدها في غل 1: 4: المسيح أسلم نفسه من أجل خطايانا لينتزعنا من هذا العالم السيّئ. فالمسيحيّ نجا من هذا العالم بفضل عماده وحضور الروح القدس فيه، ودخل إلى عالم جديد. والمقاومة الخاصّة في المسيحيّة تضعنا أمام عالَمَيْنِ متعارضينِ وموجودينِ معًا: عالَمِ إبليسَ والظلمةِ والخطيئةِ الذي لا يزال يعمل الآن، ولكنّه جرح بعد أن تغلّب عليه المسيح ودشّن مُلْكَهُ النهائيّ.
لقد دخل المسيحيّ في العالم الجديد بالإيمان والمعموديّة. ولكنّ هذا يتطلّب منه مجهودًا ليكمّل دخولَه في النظام الجديد وتحَوُّلَهُ الروحيّ، وإلا تركَ نفسَه تتقولبُ بواسطة العالم القديم. وهذا التحوّل الذي بدأ به الروح القدس والذي يتابعه الإنسان بعونه يرتبط بتجدّد أخلاقيّ يوميّ. فإذا تشوّه التمييز بحياة شائنة فهو يتكمّل بسلوك المعمد الروحيّ. وهكذا تصبح الحياة المسيحيّة التي نحياها يَنبوعَ نور.
ويقدم لنا ف 14-15 تطبيقًا عمليًّا عن التجديد الخُلُقيّ كما قرأنا عنه في 12: 20.
في توسّع أوّل (14: 1- 12) نجد إشاراتٍ عامّةً من علاقات الضعفاء بالأقوياء: يجب أن لا يدين الواحد الآخر، وأن يتصرّفَ كلّ واحد حسب متطلّبات ضميره. وفي توسعّ ثان (14: 13- 23) نقرأ عن واجب تجنّب الشكوك المفروض على الأقوياء باسم المحبّة المسيحيّة. وفي توسعّ ثالث (15: 1- 12) نقرأ النصائحَ الموجّهةَ إلى الفئتين الحاضرتين في هذه الجماعة: من جهة أتمّ اللهُ وعودَه للآباء من أجل الشعب المختار، ومن جهة ثانية سَيُسَبِّحُ الوثنيّون الله من أجل رحمته.
ولكنْ ما هي علاقة الضمير الخلقيّ بالإيمان المسيحيّ؟ إنّ الإيمان المسيحيّ أغنى وعمَّق الضميرَ. فنحن حين نتبع ضميرنا لا نترك متطلّباتِ المحبّةِ المسيحيّةِ. وهنا نتذكّر مسألةَ اللحوم المكرّسةِ للأصنام (1 كور 8- 11).

2- ربط الأوامر الأخلاقيّة بالزمن المسيحيّ
هناك كلمتانِ تدلاّنِ على الزمن. "كرونوس" يدلّ على تعاقب الساعات والأيّام والسنين. "كايروس" يعبّر عن وجهة نوعيّة وينطبق على التواريخ الهامّة في حياة البشرية الدينيّة، وبالأخصّ على مجيء المسيح على الأرض. ففي 5: 6: "كايروس" هو الزمن الذي حدّده الله لموت المسيح الفدائيّ. وفي 3: 26، الزمن الحاضر يقابل زمن صبر الله يومَ لم يكن بعدُ تَمَّ عملُ الفداء. وفي 8: 8، الزمن الحاضر هو الزمن الذي ينشر فيه الروحُ القدس عملَه في النفوس رغم وجود الالام والضعف. وفي 11: 5: إنّ عدم إيمان إسرائيل الذي يميّز الزمن المسيحيّ هو عابر. فستبقى بقيّة هم اليهود الذين ارتدّوا إلى الإنجيل والذين هم عربون عودة الشعب كلّه إلى المسيح.
لم يتمّ الخلاص بعد فينا. ومع ذلك يعيش المسيحيّون في زمن غنى علويّ لم يُسمع به. ولكنّ زمن النعمة والرحمة الإلهيّة هو نداء مُلِحٌّ يتوجّه إلى البشر ليتعرّفوا إلى علامات الأزمنة. في هذا الإطار نفهم الأخلاقيّة المسيحيّة. بعد أَن يوحيَ بولسُ بالمحبّة الأخويّة (8:13- 10) يرتبط تعليمه بالزمن المسيحيّ: "وأنتم تعرفون في أيّ وقت نحن: حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم. فالخلاص الآن أقربُ إلينا ممّا كان يوم آمنّا" (11:13).
يذكر الرسولُ مُسَبِّباتٍ لاهوتيّة مأخودةً من العهد القديم ليبنيَ التعليمَ الأخلاقيَّ، ولكنّه يعود إلى الكرازة المسيحيّة. هناك الإيمان والمعموديّة، وهناك الكنيسة جسد المسيح. فعلى المعمَّد أن يجعلَ حياته تتناسقُ وتدبير النعمة الذي دخل فيه. وتبدو الحياة المسيحيّة في بُعديها الفرديّ والجماعيّ: سيروا في نظام حياة جديدة (6: 4)، سيروا في طريق المحبّة (14: 15).
تَبَرَّرَ الناسُ بإيمانهم وعمادهم بطريقة مجّانيّة بواسطة الله الآب، فصاروا أبناءً في المسيح وفي الروح. لقد انتقلوا بواسطة المسيح الفادي إلى تدبير الخلاص، وبدأوا يعيشون تحت تأثير الروح الإلهيّ الذي حوَّل روحهم الخاصّ. ولكنّ هذه هي البداية، فيجب أن يَحْيَوْا أفضلَ كأبناء الله الحقيقيّين، أي أن يُطابِقَ سلوكُهم تعليمَ المسيح ابنِ الله لمجد الله الآب.
وترتبط الأخلاقيّة البولسيّة بالمسيح عن طريقين. أوّلاً: ترتبط بعمل التبرير والتقديس الذي ينتج عن الإيمان بالمسيح. ثانيًا: الأخلاقيّة البولسيّة هي صدى لتعليم المسيح نفسه، وإليك بعض الأمثلة: نقرأ في 12: 14: "باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا" وفي 12: 21: "لا يغلبْك الشرُّ بل أغلبِ الشرّ بالخير". هذا يذكّرنا بأمثولة عظة الجبل عن محبّة الاعداء وعدم مقاومة الشرّ وانتزاع روح الانتقام. وفي 13: 7 نقرأ عن واجب الطاعة للسلطات السياسيّة فنتذكّر قول الربّ. "أعطُوا ما لقيصرَ لقيصرَ" (مت 22: 21). وفي 14: 14 نقرأ: "وأنا عالم ومتيقّن في الربّ يسوع أنّ لا شَيْءَ نجسٌ في حدّ ذاته ولكنّه يكون نجسًا لمن يعتبره". هذه الآية تذكّرنا بكلام الربّ عن الطاهر والنجس (مر 7: 14-23؛ مت 15: 10- 20). وفي 13:14 يطلب بولس من الأقوياء ألاَّ يكونوا حجَر عَثْرَةٍ للضعفاء، فيعود ولا شكَّ إلى أقوال المسيح: "الويلُ للعالم من الشكوك" (مت 18: 7). وعندما يقول بولس: "كيف يا هذا تدين أخاك" (14: 10)؛ يتذكّر قول المسيح: "لا تدينوا لئَلاَّ تُدانوا"، لا تدينوا الآخرين لِئَلاَّ يَدينَكُمُ الله (مت 7: 1- 2. لو 6: 37).

3- الشريعة القديمة والأخلاقيّة المسيحيّة
هناك أقوال لبولسَ قاسيةٌ بالنسبة إلى الشريعة. ولكن يجب أن نقرأ تجاهها ثلاث آيات. في 3: 31 يقول لنا إنّ نظام الإيمان في المسيح يثبِّت الشريعة. في 10: 4 يؤكّد أنّ المسيح غاية الشريعة. وفي 13: 10 يقول: المحبّة هي كمال الشريعة.
ماذا تعني العبارة الأولى (3: 31)؟ لا نفصل الشريعة عن تاريخ الخلاص. فالشريعة ترتبط بوحي الله عن نفسه أنّه الإله الواحد. ولهذا فأخلاقيّة العهد القديم هي أخلاقيّة جواب الله. والطاعة للشريعة هي جواب الإنسان إلى الربّ الذي أحبّه أوّلاً. وأخيرًا، ارتبطت الشريعة بالعهد (وهو عمل رحمة) فتضمّنت نعمة العهد والعون الإلهيّ للحفاظ على هذا العهد.
ما معنى عبارة "المسيح غاية الشريعة" (10: 4)؟ هل تعني أنّ المسيح يضع حدًّا للشريعة؟ هل تعني أن المسيح هو الغاية التي تسير نحوها الشريعة الموسويّة؟ المعنى الأوّل يرتَبِطُ ب 10: 5- 13. والمعنى الثاني ب 10: 1- 3. إنّ البرّ المؤسَّسَ على ممارسة الشريعة قد أراده الله قبل مجيء المسيح لأنّ الذي يعمل بهذه الشريعة يحيا (لا 18: 5). ولكنّ هذا البرّ سراب لا يتحقّق من دون النعمة. وإذا عدنا إلى المعنى الثاني نسمع بولس يتكلّم عن غيرة اليهود للشريعة، ولكنّه يوَبِّخُهم لأنّهم نَسُوا برّ الله المجاني وظَنُّوا أنهم يقدرون أن يحقّقوا بأعمالهم برًّا يكون مُلْكًا لهم. فقادهم هذا التكبّر إلى نسيان خطاياهم، فخالفوا الشريعة، ودفعهم لأن يُخْضِعُوا قصدَ الله لأفكارهم المُسَبَّقةِ وأغلقهم على نشاط الله الخلاصيّ والرحوم. وهكذا حين جاء المسيح إلى العالم مخلّصاً لم يعرفوا أنه كان الهدف الذي تُوَجِّههُمُ إليه الشريعة.
وكيف نفهم 13: 10: المحبّة كمال الشريعة؟ أي إنّها ملء الشريعة وكلّ الشريعة. فهذا ما تعنيه كلمة "بليروما" في اليونانيّة عند القدّيس بولس. هي لا تعني أنّ المسيح يكمل الشريعة التي هي ناقصة. فملء اللاهوت أوكلّ غنى الحياة الإلهيّة يقيم في المسيح فيجعله للمسيحيّين ملئًا فيّاضاً (كو 2: 9). والكنيسة هي ملء المسيح (أف 1: 23)، لا لأنّها تكمّل المسيح "الناقص"، بل لأنّ فيها تتركّز كلّ الخيرات الإلهيّة التي حملها المسيح إلى العالم. وكذلك نقول إنّ المحبة هي كال الشريعة. هذا لا يعني أنّ ممارستها تساوي كمال الشريعة الموسويّة، بل أنّ كلَّ فرائضِ الشريعةِ موجودةٌ فيها. ولكنّ المحبّة تجمع كلّ الوصايا لتتجاوزها. فمن الممكن أن نحفظ كلّ فرائض الشريعة التي هي موانع، ويبقى علينا دَيْنُ المحبّة الأخويّة: وهذا ما قاله يسوع حين أعلن أنّ كلّ الشريعة والأنبياء ترتبط بمحبّة الله ومحبّة القريب.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM