الفصل الثالث: سفر الأعمال

الفصل الثالث
سفر الأعمال

المقدّمة
يقول النقّاد اليوم إنّ الإنجيل الثالث وسفر الأعمال قد ألّفهما كاتب واحد. ويستند هذا الرأي إلى الرباط بين مقدّمة الإنجيل الثالث (1: 1- 4) ومقدّمة سفر الأعمال (1: 1- 2) وإلى التجانس بين أسلوب وفكر الكتابين. ونجد إشارة في البناء المتوازي بين الكتابين: يبدو الإنجيل صعودًا من الجليل إلى أورشليم، ويبدو سفر الأعمال انتشار الإنجيل من أورشليم واليهوديّة والسامرة إلى أقاصي الأرض (1: 8).
يبدو الإنجيل (أقوال المسيح، الأخبار ولا سيمّا أخبار الطفولة) وسفر الأعمال (خطب مكتوبة على طريقة المؤرّخين في اليونان) تأليف شخص هلّينيّ استفاد من تقليد عالم ساميّ. ونكتشف محيط كاتب الإنجيل الثالث والأعمال من خلال إشارات عديدة.
ليس المؤلّف من فلسطين وهو يجهل جغرافيّتها وعاداتها.
ثقافته اليونانيّة واضحة، ليس فقط بالنظر إلى اللغة وأساليب الكتابة، بل بالنظر إلى كتَّاب اليونان، وقد أورد نصوصًا منهم ولاسيمّا في خطبة بولس في ساحة أثينة (16:17- 34).
لم يكن لوقا يهوديًّا، وهذا واضح من معاملته لشريعة إسرائيل. فالإنجيل الثالث لا يعطي أهميّة للشريعة في تعليم يسوع، بل يعتبرها كعادة وطنيّة أو كالشريعة الرومانيّة (21:16؛ 17:25).
ارتبط لوقا بمحيط بولسيّ. أعطى مكانًا مرموقًا لبولس في أعمال الرسل، وأورد أسفاره مع بولس في لغة المتكلّم الجمع (16: 10- 17؛ 20: 5- 15؛ 21: 1- 18؛ 27: 1- 28: 16). وهناك مقاطع في الإنجيل مطبوعة بلغة بولس وفكره (لو 8: 12، 15؛ 18: 1، 14؛ 21: 28، 34). نذكر بصورة خاصّة العبارة الإفخارستيّة (لو 22: 19- 20) البعيدة عن متّى ولوقا والقريبة من 1 كور 11: 23- 25.
والآن بعد أن قرأنا الإنجيل في فصل سابق، نتوقّف عند سفر الأعمال.

أ- كيف يبدو سفر الأعمال
1- العنوان والمقدّمة
عُرف أعمال الرسل (أو أعمال بعض الرسل) منذ القرن الثاني، وهو يلخّص بعضًا من مضمون كتاب عن أعمال وأقوال المسؤولين الأوّلين في الكنيسة، ولا سيّما بطرس وبولس. ولكنّه يشدّد لا على بعض الأبطال يذكّرنا بسيرتهم، بل على الروح القدس، مبدأ الكلمة، وعلى الجماعة الرسوليّة التي ينعشها الروح. إذًا لا يشبه سفر الأعمال "أعمالاً" عُرفت في العالم الهلّينيّ فقدّمت لنا سيرة هنيبعل أو الإسكندر، كما لا يشبه ما نسمّيه أعمالَ الشهداء.
سفرُ الأعمالِ هو امتدادٌ لإنجيل لوقا، والاثنانِ توجّها إلى تاوفيلوس (1: 1؛ لو 1: 3). تذكّرنا المقدّمة (1: 1، 5) باختصار برسالة يسوع دون أن تعلن مضمون الجزء الثاني. إلاَّ أنها تشير في 1: 4- 5، 8 إلى حدث العنصرة. كما نرى أنّ يسوع القائم من الموت يعطي التلاميذَ برنامجَ رسالتهم الذي هو برنامج سفر الأعمال: "ستكونون لي شهودًا في أورشليم، في كلّ اليهوديّة والسامرة وإلى أقاصي الأرض". هكذا يحدّد الكاتب مقصده.
ويبرز تعارض ظاهر بين خبر الصعود في نهاية إنجيل لوقا (ليلة الفصح، في بيت عنيا) وخبر الصعود في سفر الأعمال (بعد أربعين يومًا، على جبل الزيتون). فحسبَ بعضِ الشرّاح، إنّ هذين النصّين (أي لو 24: 50- 53 وأع 1: 1- 5) زيدا فيما بعد ليفصلا بين جزءَيِ الكتاب. لقد اعتبروا أنّ السفرينِ أَلّفا في البداية كتابًا واحدًا. ولكنّ هذا الرأي لا يثبت، لأنّ الرباط المقترح بين لو 24: 49 وأع 1: 6 (بعد إزالة المقطعين) ليس كاملاً. إنّ أع 1: 6- 12 تجعلنا على جبل الزيتون لا في داخل بيت (33:24- 49). ثمّ إنّ هذا الكتاب سيكون طويلاً فلا يمكن استعماله بسهولة في الليتورجيّا. وكما دأبت الترجمة السبعينيّة على قسمة كتب صموئيل والملوك والأخبار، هكذا قسم لوقا كتابه إلى إنجيل وأعمال رسل يكادان يكونان متساويين. يتألف الإنجيل من 19404 كلمات وأعمال الرسل من 18374 كلمة.
يرتبط الإنجيل بسفر الأعمال ارتباطًا وثيقًا: "يتكلّم لو 24: 47 عن شهادة مقدّمة إلى كلّ الأمم، ابتداء من أورشليم". وهذا ما يقوله أع 1: 8. موضوع الخلاص الممنوح للوثنيّين يبرز في البداية (لو 3: 6: "فيرى كلّ بشر خلاص الله") وفي نهاية كتاب لوقا (أع 28: 28: "ليكن معلومًا أنّ الله أرسل خلاصه إلى غير اليهود من الشعوب"). ثمّ إنّ أع 1 يقف في نقطة الاتّصال بين السفرين. في هذا الفصل نجد تذكيراتٍ إنجيليّةً ( بشارة الملكوت، عشاء القائم من الموت، يوحنّا المعمدان ووعد الروح، جماعة الاثني عشر) تبرز الوحدة الجذريّة بين زمن يسوع وزمن الكنيسة. في الإنجيل ينهي الصعودُ زمن يسوع، كنقطة في تاريخ انتهى. هدف الخبر هو كرستولوجيّ. أمّا في الأعمال، مع حبّ التنوّع الذي يتميّز به لوقا، فالخبر ذاته يدشّن أزمنةَ الروح الجديدة. هدف النصّ هو كنسيّ. أنه خبر التواصل بين تاريخ يسوع وتاريخ كنيسته. ثمّ إنّ اختيار متّيّا (1: 15- 26) يدلّ على التواصل بين جماعة الاثني عشر التي نظّمها يسوع وكنيسة العنصرة، شرط أن يُملأَ الفراغُ الذي سبّبه يهوذا في هذه المجموعة التي تمثّل أسباط إسرائيل (لو 22: 30). نحن نرى ان موضوع الوحدة يلعب دورًا كبير في الفصل الأوّلِ من الأعمال بانتظار أن نكتشفه خلال كلّ سفر الأعمال.

2- تنظيم سفر الأعمال
إنّ تنوّع موادِّ سفر الأعمال من أخبار وخطب، كبير جدًّا. والفنون الأدبيّة تمتزج مرارًا، والخبر يبدو بعضَ المرّات غيرَ متناسقٍ . والأمرُ واضحٌ خاصّةً في ف 1- 12 حيث تبدو بعض العناصر قرب الأخرى، بينما تبدو ف 13- 28 وحدة متماسكة في إطار خبر سَفَرْ. فهل من الممكن أن نجد تصميمًا دقيقًا؟ يمكننا أقلّه أن نشير إلى بعض الطرائق الأدبيّة أو البنى الظاهرة، وأن نكتشف بعض المبادئ التنظيميّة التي توجِّه فكر القارئ.

أولاً: البنى الظاهرة
ونبدأ بالأخبار. نشير إلى ثلاثة ملخّصات هامّة تقسم عادة الفصول الثلاثة الأولى: 2: 42- 47 عن وحدة الجماعة، 4: 32- 35 عن المشاركة في الخيرات، 5: 12- 16 عن قوّة الرسل التي تجترح المعجزات. وهناك ردّات تتكرّر في الرواية فتدلّ على نموّ الكنيسة أو الكلمة؛ 2: 47: "وكان الربّ كلّ يوم يزيد عدد الذين أنعم عليهم بالخلاص"؛ 4: 4: "وآمن كثير من الذين سمعوا"؛ 5: 42: "وكانوا يعلّمون كلّ يوم في الهيكل وفي البيوت ويبشّرون بيسوع المسيح"؛ 6: 7: "وكانت كلمة الله تنمو وعدد التلاميذ يزداد في أورشليم" (رج 6: 7؛ 9: 31؛ 11: 24؛ 12: 24؛ 16: 5؛ 19: 5؛ 19: 10، 20). وهناك أسلوب التكرار مثلاً في لوحتي قصّة حنانِيَّا وسَفِّيرَة (5: 1- 6 و5 :7- 11)، وفي الروايات الثلاث لدعوة بولس (9: 1- 19؛ 22: 4- 21؛ 26: 9- 18)، وفي رؤى كورنيليوس (10: 3- 8، 30- 33 و11 :13) وبطرس (10: 9- 16، 28 و11: 5- 10). لا نستطيع أن ننطلق من هذه الروايات المتوازية لنتحدّث عن وثائق مختلفة. ثمّ إنّ هناك عناصر عديدة تعود بانتباه القارئ إلى حادث سابق. مثلاً: العنصرة (4: 1: "وبينما هم يصلّون اهتزّ المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا كلّهم من الروح القدس". رج 10: 44- 48؛ 11: 15؛ 19: 6)، مقرّرات مجمع أورشليم (15: 19- 20؛ 21: 25)، تشتّت الجماعة (8: 14؛ 11: 19)، أغابوس (11: 28؛ 21: 10)، فيلبّس (8: 40؛ 21: 8).
ونصل إلى الخطب وظاهرة التكرار واضحة في خطب سفر الأعمال. نجد نحو 24 خطبة، وهذا يشكّل ثلث السفر تقريبًا. نشير خاصّة إلى خطب بطرس الرسوليّة ( 2: 14- 41؛ 10: 34- 43)، وإلى خطب بولس يتوجّه فجها إلى اليهود (13: 16- 41) وإلى اليونانيّين (14: 15- 17؛ 17: 22- 31)، وإلى دفاع بطرس (4: 9- 12؛ 5: 29- 32) وإسطفانُس (7: 1- 53) وبولس (22: 1- 21؛ 26: 2-23). وهناك خطب إلى مسيحيّين آخرين (1: 16-22؛ 11: 4- 17؛ 15: 13- 21؛ 20: 18- 35). وتورد آخر آياتُ الأعمال كلماتِ الرسول القاطعةَ التي تقدّم الفكرة الأساسيّة في الكتاب (28: 15- 28).
وُضعت هذه الخطب في الأماكن المهمة من الكتاب لتعرض بوضوح للقرّاء مضمون الأحداث. فالأخبار ترتبط بالخطب ارتباطًا وثيقًا. ثمّ نجد على المستوى الأدبيّ أنّ أشخاص الخبر يعطون الطريقة لولوج الأحداث. اتّبع لوقا أسلوب المؤرّخين في اليونان أو في مجامع فلسطين (القديميّات الكتابيّة لفيلون المزعوم). من هذا القبيل تعبِّر خطب الأعمال أفضل تعبير عن فكر لوقا اللاهوتيّ. فبعلاقاتها المتبادلة (كتب 13: 35 على ضوء 25:2- 31) ومواضيعها المتكرّرة، تشكّل الخطب عنصرًا هامًّا من بنية الكتاب. نستطيع مثلاً أن نقابل الخطبتين إلى اليونانيّين: 14: 15- 17 تهيّيء الدرب لخطبة ساحة أثينة (17: 22- 31). ولكنّ الأمر أجلى في الخطب الموجهة إلى اليهود والتي تتألّف من رسمة واحدة.
هناك مقدّمة تتضمّن العنوان (أيّها الإخوة، يا رجال يهوذا...) ونداءً إلى السامعين ليُصْغُوا (اسمعوا، أصغُوا...)، وتذكِّر بصعوبة أو بسؤال طرحه السامعون. وهكذا ترتبط الخطبة بالقرينة الإخباريّة (رج 2: 14- 21؛ 3: 11- 12؛ 5: 27- 28؛ 10: 34- 35؛ 13: 14- 15). ثمّ هناك صُلب الخطبة بوجهها الكرازيّ: يذكر الخَطِيبُ صَلبَ يسوع على يد اليهود وقيامتَه (2: 22- 26؛ 3: 13، 21- 26؛ 5: 29- 32؛ 10: 36- 43؛ 13: 23 ي). وهناك أخيرًا تحريض مع دعوة إلى التوبة والارتداد إلى الله (2: 37- 41؛ 3: 17- 20؛ 5: 31؛ 10: 42؛ 13: 38- 41).
هذه الرسمة هي تلك التي عرفتها العظات في مجامع العالم الهلّينيّ. فإيراد النصّ الكتابيّ (2: 17- 21) أو التلميح إليه في بدء العظة يقابلان ما نعرفه عن الخطبة في المجامع. ونشدّد أيضًا على وجود أمور تتكرّر في القسم الكرازيّ من الخطبة مع استشهاد (2: 32؛ 3: 15؛ 5: 32؛ 10: 39؛ 13: 31) أو تقديم البرهان الكتابيّ (2: 25- 31؛ 3: 22- 24؛ 10: 43؛ 13: 32 ي). وهناك مواضيع تظهر مرّات عديدة: ذِكرٌ سريع لرسالة يسوع على الأرض، ذِكر الصَلب الذي يتجاوب وقصد الله، ولكنّ هذا لا يخفّف مسؤوليّة أهل أورشليم أو السلطات اليهوديّة. ذكر قيامة يسوع بيد الله، كما يؤكّد الشهود. المعنى المسيحانيّ لهذا الحدث كما تبيّنه الأسفار المقدّسة. وأخيرًا موضوع إعلان مغفرة الخطايا.
تلك هي النقاط الرئيسيّة في الكرازة الرسوليّة كما جمعها لوقا من فم يسوع (لو 24: 46-49)، وبطرس باسم جماعة التلاميذ، وبولس. وهذه المواضيع المتكرّرة تدلّ على التماسك اللاهوتيّ بين الإنجيل الثالث وسفر الأعمال.
ونتحدّث أخيرًا عن المقابلة بين بطرس وبولس. هناك أسلوب بلاغة عند اليونانيّين اتّبعه لوقا فجعل أقوال بطرس وأعماله تقابل في القسم الثاني من الكتاب أقوال بولس وأعماله. ويمكننا مثلاً أن نقارن بين شفاء الكسيحَين على يد الرسولين (2:3- 26 و14 : 8- 17)، ومثول بطرس وبولس أمام المجلس (4: 5- 7؛ 23: 1- 15). جُلدا كلاهما، واجترحا المعجزات عينها (5: 4، 12-16 و19: 11- 12، 22)، وأقام كلّ منهما ميتًا (32:9- 42 و20: 19- 12). ويمكننا أيضًا أن نقابل 2: 14- 36 و13: 5- 17؛ 3: 1 و17:22؛ 3: 6 و20: 33؛ 8:4 و13: 9؛ 8: 9 و6:13- 8؛ 10: 25 و14: 14؛ 10: 34- 43 و17: 22- 31؛ 3:12- 11 و22:16- 26؛ 7:15- 11 و20: 18- 35.
هل تساعد هذه الموازاة بين بطرس وبولس على قسمة الكتاب قسمين؟ ربّما. ولكنّ الكاتب يحتفظ بحرّيّته لينظّم موادّه حسب بعض المبادئ. نجد في الكتاب بعض الوحدة ولكن دون رسمة مسبقة ومع التنوّع في التواصل.

ثانيًا: ثلاثة مبادئ للتنظيم
المبدأ الأوّل: التنظيم الإرساليّ
مبدأ التنظيم الأوّل هو مبدأ لاهوتيّ: ففي هذا التاريخ الذي يوجّهه الروح يُبرِز الكاتبُ الانتشارَ المسكونيّ للبشرى وَسْطَ اليهودِ أوّلاً ثمّ وَسْطَ الوثنيّين. (3: 26). يُحمل الإنجيلُ إلى الأمم، من أورشليم إلى "أقاصي الأرض" (1: 8). لأنّ "خلاص الله هذا قد أرسل إلى الوثنيّين" (14: 27). وهناك نصوص أخرى عديدة تبرز أهميّة هذا الإعلان على أيدي المرسلين (9:2- 11؛ 39:2؛ 9: 15؛ 11: 18؛ 46:13-47؛ 15:14). على كلّ حال، كان لوقا قد شدّد على هذا الموضوع في لو 6:3 و47:24- 48. وينتج عن هذا المبدأ اللاهوتيّ نتيجتان. الأولى: إنّ موضوع انتشار الكلمة الإرساليّ جرّ معه موضوع الموانع التي اصطدم بها الواعظون. ونتيجة ذلك نظّم الكاتب وحدات أدبيّةً ذاتَ فكرةٍ إرساليّةٍ وفكرة هجوميّة. إليك أخبار الإرساليّة: 2: 1- 41؛ 8: 1 ب- 40؛ 9: 1-31؛ 9: 32- 11: 18؛ 13: 1- 14: 28...) وإليك أخبار الدعاوى: 3: 1- 4: 11؛ 5: 17-42؛ 6: 1- 8 أ؛ 12: 1-23؛ 15: 1- 35؛ 21: 17- 26: 29. وإنّ هذه الوحدات الأدبيّة الصغيرة تبدأ مرارًا بخبر معبّر (2: 1- 13؛ 3: 1- 10؛ 6: 1- 7؛ 9: 32- 42).
والنتيجة الثانية: يساعدنا مبدأ التنظيم الأوّل (اليهود أوّلاً ثمّ اليونانيّين) على قسمة سفر الأعمال قسمين، كما اعتاد اليهود أن يقسموا كتبهم. هناك فئة تجعل القسم الأوّل يبدأ بالفصل الأوّل وينتهي بالفصل الثاني عشر، وتجعل القسم الثاني يبدأ ببداية الفصل الثالث عشر وينتهي بنهاية الكتاب. وهناك فئة ثانية تجعل خبر مجمع أورشليم يقسم الكتاب قسمين. قسم أول: 1: 1 15: 35. قسم ثان: 15: 36-28: 31. فهذا المجمع الذي فيه التقى بطرسُ ببولس قبل أن يختفيَ، يشكّل الهدفَ اللاهوتيَّ للقسم الأوّل من سفر الأعمال. ويمكننا أن نعتبر ف 13- 15 كنقطة اتّصال لدرفتي الكتاب.

المبدأ الثاني: جغرافية الكتاب
يهتمّ لوقا بإبراز المراحل الجغرافيّة. في 1: 8: أورشليم، اليهوديّة والسامرة إلى أقاصي الأرض. ثمّ في 9: 31 انتشرت الكنيسة في اليهوديّة والجليل والسامرة. في 19: 21 و23: 11 نجد إعلان سَفَر بولس من أورشليم عبر مكدونية قبل أن يصل إلى رومة.
لقد لعب المقياس الجغرافيّ، دورًا أكيدًا في تنظيم موادّ الكتاب. ولقد لاحظ بعض الشرّاح توازيًا بين الإنجيل الثالث وسفر الأعمال. فبعد عمل الرسل في فلسطين، بدأت أسفار بولس الرسوليّة حتّى توقيفه بسبب موقفه من الهيكل (27:21 ي). وفي الإنجيل هناك رسالة يسوع في الجليل يتبعها الصعود إلى أورشليم (ق لو 9: 51 وأع 15:21) حتّى دخوله إلى الهيكل وتوقيفه. وهكذا يفضّل بعض الشرّاح أن لا يقسموا سفر الأعمال قسمين فقط، بل أكثر آخذين في الاعتبار الأمور الجغرافيّة. إليك مثلاً هذا التصميم في خمسة أقسام: 1: 15- 3:8: أورشليم؛ 8: 4- 18:11: السامرة وساحل فلسطين، يافا وقيصريّة؛ 11: 19- 15: 35: أنطاكية؛ 15: 36- 19: 21: حول بحر إيجيه؛ 19: 21- 28: 31: من أورشليم إلى رومة.

المبدأ الثالث: الأشخاص
يستند المبدأ الثالث إلى أشخاص الخبر. نلاحظ أوّلاً دورة بطرس (ف 1- 12) ودورة بولس (ف 13- 28)، دون أن نتشدّد في عملية الفصل بين الدورتين، لأن ف 9 يتحدّث عن بولس، وف 15 يتحدّث عن بطرس.
ونلاحظ أيضًا بصورة أدقّ حضور أشخاص عديدين يشكّلون في ذاتهم سلسلة من المعطيات الأدبيّة: بطرس ويوحنّا في 3: 1- 4: 31 وبعد الملخّص الأوّل. برنابا مع حنانِيَّا وسَفِّيرة (في موازاة تضاديّة) بعد الملخّص الثاني (36:4- 5: 11). الرسل بعد الملخّص الثالث (5: 17-42)، السبعة ومنهم إسطفانُس (6: 1- 8: 8) وفيلبّس (8: 5- 40). بولس وبرنابا، بولس وسيلا. نحن نرى أنّ المرسلينِ يعملان عادة اثنين اثنين كما أمرهما يسوع (لو 10: 1).
توجّه الكاتب بفكرة لاهوتيّة (الخلاص يعمّ المسكونة) وبقصد جغرافيّ عامّ، فحاول أن يقدّم بناء متماسكًا ومركَّزًا على أمكنة محدّدة وأشخاص معروفين. جمع لوقا موادّه ونظّمها فدلّ كتابه على وحدة التاريخ وتواصله.

ثالثًا: تصميم الكتاب
هناك تصميم في قسمين تحدّثنا عنه.. وهناك تصميم في ثلاثة أقسام، وآخر في أربعة أقسام (1: 1- 8: 3؛ 8: 4- 15: 35؛ 15: 36- 21: 26؛ 21: 27- 28: 31) وفي خمسة أقسام (ذكرناها أعلاه) وفي ستّة أقسام... أمّا نحن فنتوخّى الفائدة التربويّة ونقسم سفر الأعمال قسمين وخمسة أجزاء. نلاحظ في بداية كلّ جزء الإشارات التاريخيّة: 1: 15: وفي تلك الأيّام؛ 6: 1: وفي تلك الأيّام، 27:11: وفي تلك الأيّام؛ 15: 36: وبعد أيّام قليلة، 19: 21: وبعد هذه الأحداث.

- القسم الأوّل: اليهود أوّلاً (1: 1- 11: 26).
الجزء الأوّل: جماعة أورشليم (1: 1- 5: 42).
* من الفصح إلى العنصرة (1: 1- 2: 41).
1: 1- 14: المقدّمة، الصعود، الاثنا عشر.
1: 15-26: متّيّا والاثنا عشر.
2: 1- 41: العنصرة وخطبة بطرس.
* حياة الجماعة الأولى (2: 42- 5: 42).
2: 42- 47: الملخّص الأوّل عن وحدة الجماعة
3: 1- 4: 31: نشاط بطرس ويوحنّا.
4: 32- 35: الملخّص الثاني عن مقاسمة الخيرات.
4: 36- 5: 11: برنابا، حنانيّا وسفّيرة.
12:5- 16: الملخّص الثالث عن نشاط الرسل الخيّر.
5: 17- 42: الاضطهاد الذي احتمله الرسل.

الجزء الثاني: رسالة إسرائيل (6: 1- 11: 26).
6: 1- 8: 1 أ: السبعة وخبر إسطفانس.
8: 1 ب- 40: رسالة في السامرة وخبر فيلبّس.
9: 1- 31: دعوة بولس.
9: 32- 43: نشاط بطرس في اللدّ ويافا.
10: 1- 11: 18: كورنيليوس.
11: 19- 26: تأسيس أنطاكية (رج 8: 1- 4).

- القسم الثاني: ثمّ اليونانيّون (11: 27- 28: 31).
الجز الثالث: رسالة أنطاكية (11: 27- 15: 35).
11: 27- 12: 25: خدمة برنابا وبولس مع مقطع عن الاضطهاد وعن موت هيرودس.
13: 1- 14: 28: بولس وبرنابا في الرحلة الأولى.
15: 1- 35: صراع في انطاكية.
نجد في هذه الأجزاء الثلاثة انطلاقًا من أنطاكية وعودة إليها.

الجزء الرابع: الرسالة الكبرى (15: 36- 19: 20).
15: 36- 17: 15: رسالة بولس وسيلا وتيموتاوس في مكدونية.
17: 16- 18: 23: بولس في اليونان: أثينة وكورنتوس.
18: 24- 19: 20: بولس في أفسس.

الجزء الخامس: من أفسس إلى رومة (19: 21- 28: 31).
19: 21- 23: 11: من أفسس إلى أورشليم.
23: 12- 26: 32: في قيصريّة.
27: 1- 28: 31: في رومة

3- تاريخ ديني
أوّلاً: الآراء المعاصرة
حول الفنّ الأدبيّ وهدف الحب
لماذا كتب لوقا سفر الأعمال ولمن كتبه؟ قال أكثر الشرّاح: ما أراد لوقا أن يعطي كتاب تاريخ بل عملاً تعليميًّا وتقويًّا وجّهه إلى المسيحيّين الهلّينيّين ليذكّرهم بانتشار الإنجيل وامتداد الكنيسة إلى الأمم الوثنيّة. ويوضحون قولهم: ليس سفر الأعمال كتاب تاريخ، لأنّ لوقا لا يريد أن يورد الماضي بحدّ ذاته ولا أن يقدّم صورة موضوعيّة عن بدايات المسيحيّة. ليس سفر الأعمال سيرة بطرس أو بولس كتبها لوقا على الطريقة الهلّينيّة متصرّفًا بحرّيّة بالموادّ التي بين يديه. ولا يريد لوقا أن يجيب على فضوليّة معاصريه أو الأجيال الآتية. أنه يريد أن يبنيَ جماعته الخاصّة. هو لا يهتمّ بسيكولوجيّة الأبطال القدماء من خلال تنظيم دقيق لوقائع التاريخ. أنه يهتمّ بالماضي، وينقل فكره اللاهوتيّ في سفر الأعمال ولا سيّما في الخطب العديدة التي تتوزّع الكتاب. إذًا، نحن أمام كتاب تعليم يقدِّم للمؤمنين إرشادًا دينيًّا.
ويقولون: هناك سببان دفعا لوقا إلى تدوين كتابه: السبب المسكونيّ الذي تحدّثنا عنه أعلاه: إنّ تعليم الخلاص يتوجّه إلى الجميع، وعلى الإنجيل أن يمرّ من اليهود إلى الأمم الوثنيّة. هذا ما أراد لوقا أن يقوله للمسيحيّين الهلينيّين. ولكنّنا نتساءل: لماذا وجب على لوقا أن يذكّر بهذا اليقين مؤمنين من أصل وثنيّ؟ هل ليحميَهم من محاولات يهوديّة على غرار ما حصل لأهل غلاطية؟ ربّما.
والسبب الثاني هو سبب دفاعيّ. أنه أقلّ أهميّة من السبب الأوّل وفيه يعرض لوقا وجه الديانة المسيحيّة للعالم الرومانيّ بطريقة إيجابيّة. يذكّرهم بأنّ المسيحيّين لا يعادون الدولة وأنّهم أهل لأن يتقبّلوا الامتيازاتِ التي تقدّمها الدولة للعالم اليهوديّ وتعتبر ديانته ديانة مسموحًا بها. ولكن إذا كان هذا السبب سائدًا في سفر الأعمال فيكون لوقا قد وجّه كتابه إلى اللامؤمنين وبالأخصّ إلى السلطات الرومانيّة. وهنا نتساءل عن هُوِيَّة تاوفيلوس (1: 1؛ لو 1: 3) دون أن نجد جوابًا لتساؤلنا.
لم يتبع كثيرون من الشرّاح هذا السبب الثاني. وزاد بعضهم: دوَّن لوقا سفر الأعمال ليصالح الكنيسة الكبرى مع المسيحيّين المتهوّدين، فحاول أن يبعد كلّ صراع بين بطرس وبولس. لا شكّ أنّ لوقا كان صاحب طبع مسالم، ولكنّه قدّم لنا بطرس وبولس داخل الكنيسة الكاثوليكيّة دون أن يجعلهما يتضادّان أو يتصلّبان في مواقفه. وقال بعض آخر: كتب لوقا دفاعًا عن بولس ليساعده في دعواه أمام القيصر. ولكن ما هو مصير ف 1- 12 التي تتحدّث عن بطرس؟ وهل ننسى أنّ سفر الأعمال هو اللوحة الثانية وأنّ الإنجيل الثالث هو اللوحة الأولى، فكيف نفصل بين اللوحتين؟ وراح بعضهم ينكر على لوقا الصفة التاريخيّة بسبب التضارب بين سفر الأعمال ورسائل بولس. سنعود إلى هذا الموضوع فيما بعد، ولكنّنا لا نقدر أن ننكر أمرًا واضحًا وهو أنّ لوقا يلقي نظرة إلى ماضي الجماعة الأولى ليجمع المعطيات التي تساعده على بناء نِظرته اللاهوتيّة. فكتابه هو تاريخ قبل أن يكون كتاب تعليم مسيحيّ. ولكن يبقى علينا أن نتساءل: ما هي العلاقة بين كتاب تاريخيّ وبين الحدث الذي دفع الكاتب إلى تدوين كتابه؟

حول الإستولوجيا والتاريخ
لماذا دوّن لوقا هذا التاريخ، وكيف تجرّأ أن يزيد على النصّ الإنجيليّ (كتابِه الأوّل) سفر الأعمال، ويجعل في مجموعة واحدة وعلى مستوى واحد حياة الكنيسة والحدث الخلاصيّ الذي أعلنه الإيمان؟ إنّ الجواب على هذا السؤال يعطينا المفتاح الذي به ندخل إلى سفر الأعمال.
كان المسيحيّون، قبل الجيل الثاني المسيحيّ، ينتظرون رجوع الربّ حالاً. ولكنّ النهاية القريبة التي أُعلن عنها لم تأتِ. فْضُعْفُ انتظار الخلاص الإسكاتولوجيّ أَوْهَنَ قرارَ الإيمان. في قلب هذه الأزمة وعى لوقا مستقبل الكنيسة: إنّ أمامها منذ الآن مستقبلاً غير محدود. فأقامت في "زمن الخلاص" حيث يجب أن تعمل كمؤسّسة خلاص تكفل التعليم الخلاصيّ. أجل، لقد أدخل لوقا التعليم الإسكاتولوجيّ في إطار التاريخ: إنّ الخلاص يأتي منذ الآن من زمن الكنيسة الحاملة الخلاص. أُبعد السبب الإسكاتولوجيّ وبدأ زمن الشهادة: "ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء" (1: 11)؟ هل نقدر أن نكتب تاريخ الكنيسة حين ننتظر كلّ يوم نهاية العالم؟ كلاّ. ولكنّ تأخير المجيء دفع لوقا لأن يتخلّى عن الانتظار القريب لليوم الإسكاتولوجيّ، وأن يُحلّ محلّه رؤية "تاريخ الخلاص" حيث تشكّل حياة يسوع نصف الزمن، بين زمن إسرائيل وزمن الكنيسة.
ولكن تبرز صعوبات بوجه هذا البناء اللاهوتيّ والسيكولوجيّ. ونتساءل: أين تبرز في سفر الأعمال الخيبة أمام تأخّر المجيء؟ هل دفع لوقا الانتظار الإسكاتولوجيّ إلى زمن بعيد ولا أهميّة له في سفر الأعمال، واحتفظ في إنجيله بإمكانيّة دينونة فجائيّة وقريبة (لو 10: 9؛ 12: 35 ي؛ 21: 34- 36)؟ هذا لا يُعْقَلُ. وقال أحدُ الشرّاح: كان لوقا ينتظر الدينونة الأخيرة عندما ينتهي جيله الخاص (لو 9: 27؛ 18: 8؛ 23:21). لقد وعى مستقبل الكنيسة بفضل الماضي الذي مضى. ولكنّه حين ثبّت فكرة بداية جديدة للتاريخ في يسوع المسيح، أكّد النهاية. إذا كان هناك من بداية، فلا بدّ من نهاية.
ومع ذلك، ففي إنجيل لوقا وفي سفر الأعمال، يخفّ الانجذاب الإسكاتولوجيّ (لو 19: 11؛ 8:21؛ أع 1: 6- 8). فهل أراد لوقا أن يحارب النظريّاتِ الرؤيويّةَ التي تهدّد رسالة الكنيسة؟ على كلّ حال، هذا لا يمنعه من النظر إلى الأزمنة الحاضرة كأنّها الأيّام الأخيرة التي دشّنها مجيء الروح (17:2)، ولا من التكلّم عن الملك الآتي في بداية وفي نهاية سفر الأعمال (3:1، 6؛ 23:28، 31) وفي أمكنة أخرى أيضًا (8: 12؛ 14: 22؛ 17: 7؛ 19: 8؛ 20: 25). وهنا نلاحظ فرقًا واضحًا بين إنجيل لوقا حيث يبدو الملكوت حاضرًا في عمل يسوع الخلاصيّ، وبين سفر الأعمال حيث يواصل الروح هذا الحضور الخلاصيّ بانتظار ملكوت سيأتي.
لا يسعي لوقا لأن يفتح التاريخ على زمن غير محدود لتاريخ الكنيسة، بل لأن يجمع زمن الكنيسة الحاليَّ في وحدة الحدث المؤسّس. وإذا قرأنا لو 16: 16 نستطيع أن نميّز زمنين لا ثلاثة أزمنة: زمن إسرائيل إلى يوحنّا وزمن "خلاص الله" (لو 6:3؛ أع 28:28) أي زمن يسوع وزمن الكنيسة معًا بانتظار الملكوت. الكنيسة التي يسمّيها لوقا إسرائيل الجديد تُكوِّن جسدًا واحدًا مع معلّمها. من هذا القبيل يبدو لوقا قريبًا جدًّا من بولس.
إذًا، ما هو الفنّ الأدبيّ؟ دفاع، سيرة، كتابُ تعليمٍ، كتابٌ هجوميّ، كرازة، تاريخ دينيّ، وحتّى إنجيل وخبر طيّب أو إنجيل الروح. نظر الشرّاح إلى كلّ هذه الافتراضات ولم يتّفقوا. وما يمكننا أن نقول هو أنّ سفر الأعمال ارتبط بالإنجيل فكان صدى لبشرى الخلاص. وأنّ إنجيل لوقا اتّخذَ بعدًا تاريخيًّا انطلاقًا من الحدث الخلاصيّ الذي يصل صداه إلى أقاصي الأرض. إنّ تاريخ يسوع هو بداية تاريخ دينيّ جديد يجد امتداده في الكنيسة.

ثانيًا: تاريخ دينيّ
يقدّم سفر الأعمال تاريخًا دينيًّا في خطّ التواريخ الكتابيّة والاستعدادات التاريخيّة التي عرفتها المجامع في القرن الأوّل ب. م. ويورد لوقا نفسه لوحة توراتيّة واسعة يوجّهها قصد لاهوتيّ (إسطفانس: 7: 2- 47؛ رج 13: 17- 22). إنّ تاريخ يسوع وتاريخ الكنيسة يواصلان تاريخ شعب الله. وعبر تسلسل الأزمنة لا نجد انقطاعًا في التاريخ. فكتابة الحدث المسيحيّ تقدّم لنا نصًّا متواصلاً للتوراة ومدوّنًا في أسلوب احتفاليّ لتاريخ جديد يجد كماله في يسوع وفي الجماعة المسيحيّة.

مقابلة بين "القديميّات البيبليّة" وسفر الأعمال
عرفنا في القرن الأوّل المسيحيّ هذه الاستعادات التاريخيّة التي تستعمل التوراة والتقاليد الشفهيّة (من نوع الهاغادا) من أجل بناء الشعب. ونذكر خاصّة كتاب "القديميّات البيبليّة" المنسوب إلى فيلون والذي دوّن في فلسطين حوالي السنة 70 ب. م. يقدّم "فيلون" سلسلة من اللوحات الحيّة المركّزة على شخصيّات بيبليّة (من آدم إلى شاول) مثل يشوع، القاضي والحاكم قناز، صموئيل. في هذا التاريخ الجديد للعهد، وُضعت خطب في أفواه الأشخاص لتذكّرنا بأنّ العهد ثابت دائم. فالله هو وحده سيّد التاريخ. وكلّ شيء يسير حسب قصده، كما أنّ النبوءات تتحقّق دومًا. الله هو وحده يخلّص، والرئيس الذي يعيّنه الله هو أداة هذا الخلاص (عُيِّن قناز بالقرعة مثل متّيّا).
هناك تشابه بين "القديميّات" وكتاب لوقا: خبر البشارات، الصلوات العديدة، الملائكة، الروح القدس والنبوءة، موضوع المرأة، موضوع الشهادة والانفتاح المسكونيّ. يتبع التاريخ اللوقاويّ خطّ "القديميّات" ولكنّه يشدّد على الحدث الخلاصيّ.
وفي سفر الأعمال، يقود الله مسيرة التاريخ بطرق لا ننتظرها، محترمًا تناسق التواصل التاريخيّ. الله سيّد التاريخ وكلّ شيء يتمّ حسب قصده (4: 28)، حسب "مخطّط الله" (20: 27) فلا يعارضه أحد (5: 39؛ 11: 17؛ 26: 14). ويتبع الرسول إرادة الله (5: 29؛ 6:9، 16) لأنّ كلّ شيء سيتحقّق حتمًا (6:1، 22) حتّى "تجديد كلّ شيء" (3: 21). يخدم هذا الخطّطَ الإلهيّ ملائكةٌ (5: 19؛ 26:8؛ 10: 3؛ 7: 22؛ 11: 13؛ 12: 7- 11، 23) ويُعطى للبشر رؤى (2: 17؛ 9: 10، 12؛ 10: 3؛ 16: 9، 10؛ 18: 9؛ 23: 11؛ 26: 16، 19؛ 27: 24). ثمّ إنّ الروح يوجّه الأحداث دومًا منذ فيضان الكلمة يوم العنصرة. فالروح يحمل قوّة الشهادة الرسولية (8:4، 31؛ 5: 32؛ 6: 10) منذ بداية رسالة يسوع (لو 4: 1، 18) إلى عماد الكنيسة (1: 5؛ 2: 4، 18) وطوال رسالتها. أنه يفعل في الرسل (8: 15، 17؛ 13: 2، 4؛ 28:15) في بولس (16: 6- 7: يعارض الروح القدس مشروع بولس وسيلا، 19: 1- 7، 21؛ 20: 22- 23؛ 21: 11). وإنّ جدّة الحدث المسيحيّ منذ العنصرة إلى الرسالة بين الوثنيّين، هي عمل الروح. وبرباط الروح تبان التبدّلاتُ المتواصلة التي تصيب الناس والأحداث، وتواصلُ التاريخ دون أيّ انقطاع للمخطّط الإلهيّ. هذه هي إحدى ميزات التواريخ المقدّسة (ومنها "القديميّات البيبليّة"): فالإعلان النبويّ والتكرارات والرموز تجمع الأحداث في بوتقة تاريخ واحد ومتناسق.

الإيراد الكتابيّ في سفر الأعمال
يلعب الإيراد الكتابيّ في سفر الأعمال دورًا كبيرًا. فالكتب المقدّسة قد عرفت مسبقًا كلّ شيء وأنبأت به (16:1؛ 2: 31؛ 18:3؛ 52:7). كلّ شيء قد قيل مسبقًا حسب عبارة بولس الرسول: "إنّ الأنبياء وموسى قالوا مسبقًا ما يجب أن يحصل، ولا أزيد شيئًا" (26: 22). أمسك تلميذا عمّاوس بمفتاح الكتب المقدّسة (لو 24: 27)، ومثلهما رأى لوقا في الحدث يسوع ولاسيمّا في قيامته، تتمّة الوعد القديم (أع 13: 32- 33). منذ الآن، الكتب المقدّسة تخصّ الكنيسة. لهذا يمكن أن تكون موضوع مدراش كما في المجمع (4: 25- 27). يتأوّن النصّ القديم أو يتعرّف المؤمن إلى معناه، فينطلق من الكتاب ليصل إلى الواقع الجديد (8: 34). وفي 7: 2- 40 تساعد فكرة البارّ المتألم والمخلّص على فهم مجدّد للنصّ المقدّس. وهكذا يصبح النصّ القديم كلمة جديدة تعلن عن وجود الكنيسة (2: 17؛ 13: 47؛ 15: 17). وما زالت النبوءة تتحقّق اليوم في زمن الكنيسة وحياة الجماعة (1: 20: إحلال متّيّا محلّ يهوذا، 17:2 ي: فيض الروح؛ 4: 25: الاضطهاد). أورد لوقا هذه الآياتِ الكتابيّةَ فشدّد على وحدة الأزمنة وتواصلها من إسرائيل إلى يسوع، من يسوع إلى الجماعة الأولى، من جماعة أورشليم إلى الجماعات التي أسّسها بولس. وهكذا يعطي للمسيحيّين الهلّينيّين رسالة اعتراف بهم.

موضوع الوحدة في سفر الأعمال
يحتلّ موضوع الوحدة مكانًا هامًّا في سفر الأعمال، وهذا ما قلناه عندما بيّنا الموازاة بين بطرس وبولس. وبفكرة الوحدة هذه يقيم لوقا موازاة بين الخِدَم والمعجزات وموت يسوع من جهة، وبين موت إسطفانس (7: 56- 60؛ لو 22: 69؛ 23: 34- 36) ومعجزات بطرس وبولس (أع 9: 40 ولو 8: 54؛ أع 28: 7- 10 ولو 4: 38- 39) وسفر بولس إلى أورشليم وتوقيفه وآلامه من جهة ثانية. وينسج لوقا رباطات بين البشر والأحداث في وحدة الجماعة الأولى. هو يحبّ التوافق التامّ (1: 14؛ 2: 1، 46؛ 24:4؛ 12:5؛ 6:8)، ويركّز مثاله الوحدويّ في أورشليم (44:2، 46؛ 4: 32). فَخَبَرُ كورنيليوس (ف 10- 11) ينتهي في أورشليم، وفيها أيضًا ينتهي نزاع أنطاكية (15: 1- 29). واهتمامه بالوحدة كبير بحيث أنه يخفّف من حدّة الاحتكاك بين الناس (ما عدا خلاف مرقس مع بولس: 15: 39). فلو توقّفنا عند سفر الأعمال لجهلنا الاضطرابات والانقسامات التي هزّت الجماعة الأولى. فالخلاف في 6: 1- 6 هو من المتفرّقات العاديّة. وموقف إسطفانس ضدّ الذبائح والهيكل خسر من حدّته (7: 1 ي). وقصّة المسيحيّين الذين جاؤوا من اليهوديّة (15: 1- 5) انتهت بهذا الكلام: لم يكن لهم توكيل منّا (15: 24). والخلاف بين بطرس وبولس في أنطاكية (غل 1- 2) كان وكأنه لم يكن.
في نظر لوقا لا فائدة للكنيسة من النظر إلى الخلافات القديمة، والمتهوّدون غير موجودين مع أنّهم موجودون حقًّا. إن عقليّة لوقا المسالمة تساعدنا على أن نفهم هذا التلطيف للأمور وهذه التسوية للمعطيات التاريخيّة. وهي أيضًا نتيجة اقتناع: إنّ المسيحيّين الهلّينيّين هم المؤتمنون على خيرات الخلاص. ويبرهن لوقا عن هذا الوضع فيبيّن كيف أنّ كنيسة بولس (أي كنيسته) تكوِّن جسدًا واحدًا مع جماعة العنصرة اليهوديّة ومع شعب الوعد الحقيقيّ.

الشريعة في سفر الأعمال
يذكّرنا لوقا بأقوال بولس عن الأمانة نحو الشريعة وعادات شعب إسرائيل (3:22؛ 14:24؛ 8:25؛ 17:28). وهو يستفيد من كلّ مناسبة ليريَنا بولسَ يمارس الشريعة (17:22: صلاة بولس في الهيكل؛ 3:16: ختانة تيموثاوس؛ 18:18: نذر كنخرية؛ 20: 16؛ 23:21- 27). مثل هذا التصرّف يبدو غريبًا ويتعارض مع ما يقوله بولس عن نفسه في رسائله. ولكنّ استعادة إسرائيل في شخص بولس كانت ضروريّة للوقا لكي يبرّر تجذّر الكنائس الهلّينيّة المسيحيّة في الجيل الثاني. بالنسبة إليها، لم تعد مسألة الشريعة ذا بالٍ كما كانت في أيّام بولس. إذًا، لم يعد الأمر بالنسبة إليها أن تتحرّر من الشريعة، بل أن ترتبط بشعب الوعد من خلال الجماعة الأولى، على مثال بولس الذي قبله حنانيّا، وهو "رجل تقيّ ومتمسّك بالشرائع" (22: 12). فالكارزون الأوّلون كانوا من اليهود في اليهوديّة وفي الشتات. والسامعون الأوّلون للكلمة كانوا أيضًا من اليهود، يوم الفصح وفي مجامع الشتات حيث مارس بولس رسالته (9: 20؛ 13: 5، 14؛ 14: 1؛ 17: 1- 2، 10، 17؛ 18: 4، 26). وجماعة أورشليم المتّحدة ببولس كانت يهوديّة، كما أنّ كثيرًا من اليهود تقبّلوا تعليم بولس (9: 19- 21؛ 43:13). ولكن لماذا التشديد على هذه النقاط حين كان لوقا يوجّه كلامه إلى مؤمنين آتين من العالم الهلّينيّ؟

لماذا كتب سفر الأعمال، ولمن كتب؟
توجّه لوقا أوّلاً إلى المؤمنين، لا مباشرة إلى الوثنيّين والسلطات الرومانيّة. لا شكّ في أنّ الكاتب يشير إلى براءة بولس أمام الوثنيّين وتجاه القيصر (16: 39؛ 18: 15- 18؛ 29:23؛ 8:25، 25؛ 32:26) أو تجاه الإلهة أرطميس في أفسس (19: 36- 39). إنّه لا يريد أن يداهن قارئًا آتيًا من الوثنيّة، بل أن يقدّم قواعدَ فَطِنَةً للمسيحيّين المهدّدين بالاضطهاد. يجب أن نحترم سلطاتِ هذا العالم وأن لا نتحدّاهم. قال بولس: "ما أذنبت بشيء لا إلى شريعة اليهود، ولا إلى الهيكل، ولا إلى قيصر" (8:25).
يحدّث لوقا الهلّينيّين المسيحيّين ليبيّن لهم متانة الخلاص الذي أعطته الكنيسة، وليدلّهم على الرباطات العديدة التي تربط كنيستهم بيسوع وبجماعة البدايات. وتستند فاعليّة الخلاص إلى الرباط الحيّ بين الكنيسة الحاليّة، وريثة بولس، وحدث الخلاص الأوّل. لقد كتب لوقا إلى المؤمنين لا ليتحقّقوا فقط من تاريخيّة صحّة الوقائع المَرْوِيّة، بل ليؤكّد لهم شرعيّة وحقيقة التعاليم الحاملة الخلاص. لا يورد لوقا الماضي بما أنه ماضٍ ، ولا يَرْفَعُ من قيمة زمن الكنيسة مع ما فيها من نظم خلاص. إنّه يسعى ليعيد الزمن الحاضر إلى وحدة الحدث المؤسّس. وهكذا يثّبت مطالَبة الكنائس الهلّينيّة بأن تكون في خطّ الجماعة الأولى ومتّحدة بها. احتاجت جماعة المؤمنين إلى الطمأنينة، فكتب لوقا يطمئنها على أنّ خلاص الله دائم.
وخلاصة الكلام، يعتبر لوقا أنّ الكنائس التي تنتسب إلى بولس توحي بالثقة. بعد الآن بقي من جهة جماعةُ المؤمنين الذين ارتّدوا من العالم اليهوديّ أو العالم الوثنيّ، ومن جهة ثانية اليهود الذين لم يؤمنوا والذين يشكّلون شعبًا بين سائر الشعوب فلم يعد لهم أيُّ امتياز (13: 46؛ 18: 6). وينهي لوقا كتابه بعبارة قاسية: "أرسل الله خلاصه إلى الوثنيّين (أي غير اليهود)، وسيستمعون إليه" (28: 28، رج لو 4: 25- 27). صار مستقبل الكنيسة وسط الأمم، غير أنّ الكنيسة تأخذ رسائل كفاءة من ماضي إسرائيل ومن رسالة الجماعة الأولى.

ب- الوجهة الأدبيّة لسفر الأعمال
حوالي السنة 180 نسب إيريناوس سفر الأعمال إلى لوقا، رفيق بولس. وحوالي سنة 150 استعمل يوستينوس براهين مأخوذة من سفر الأعمال. ولكن هل نستطيع أن نعود في الزمن ونتتبّع التاريخ الأدبيّ لسفر الأعمال؟

1- أشكال النصّ المختلفة
في "النصّ المتداول" الذي نجده في أكثر الشهود، يبدو سفر الأعمال في شكلين قريبين الواحد من الآخر: النصّ السوريّ أو الأنطاكيّ، والنصّ المصريّ أو الإسكندرانيّ. نجد هذا النصّ في كلّ من الخطوط الفاتيكانيّ والسينائيّ والإسكندرانيّ والأفراميّ وفي البرديّات 45، 50، 74 وفي نصوص الآباء الإسكندرانيّين. وهناك شكل ثالث للنصّ هو الشكل الغربيّ ونحن نجده في الكودكس البازيّ وفي البرديّات 8، 29، 38، 48، في اللاتينيّة العتيقة، وفي هوامش الترجمة السريانيّة الحرقليّة، في مخطوط سريانيّ فلسطينيّ، وفي تفسير لمار أفرام حُفظ في الأرمنيّة، وبالأخصّ في مخطوط قبطيّ.
النصّ الغربيّ أطول من "النصّ المتداول" (440 زيادة). حسَّن العلائق بين المقاطع وبسّط الصعوبات. تأثّرت اللغة بالنزعة الآراميّة وابتعدت النصوص عن السبعينيّة، وصار بطرس وبولس موضوع إكرام عميق. ومال النصّ إلى مهاجمة الشعب اليهوديّ الذي قتل المسيح.
انتشر النصّ الغربيّ في الشرق وفي الغرب وهو يرجع إلى منتصف القرن الثاني. أيكون هو النصّ الأصليّ؟ لا. والسبب هو أنّه يحاول أن ينسّق النصوص (ق ف 9 وت 22 وف 26) أو يشرحها (16: 35). كما يتجنّب التنافر في التأليف ويقدّم زياداتٍ ليتورجيّةً (37:8) ونظريّاتٍ لاهوتيّةً. توقف العلماء عند 15: 20- 29 التي تقدّم تفسيرًا لقرار أورشليم. ونجد أيضًا إشاراتٍ جغرافيّةً في 12: 10 و20: 15، وإشاراتٍ تاريخيّةً في 19: 9؛ 27: 5؛ 28: 16.

2- متى دوّن سفر الأعمال؟
يقول معظم الشرّاح اليوم إنّ سفر الأعمال دوّن بين سنة 75 وسنة 90، بل بعد سنة 80. هناك من يقول أنه دوّن قبل سنة 70 وآخرون إنّه دوّن في القرن الثاني. ولكنّنا ننتبه إلى أنّ هذا النقاش لا يؤثّر لا في تاريخيّة الكتاب ولا في موضوع الإلهام.
ما هي البراهين التي تدفع إلى القول إنّه كتب قبل سنة 70؟ أنه لا يتكلّم عن موت بولس ولا عن دمار الهيكل.
إذا أردنا أن نحدِّد موقفًا نأخذ بعين الاعتبار العناصر التالية: أوّلاً: هناك مسافة بين بولس وكاتب سفر الأعمال. لهذا فتاريخ قريب من السنة 70 يبدو صعب القبول. ثانيًا: لا نستطيع أن نتعدّى نهاية القرن الأوّل المسيحيّ لأنّ الكاتب يجهل مجموعة الرسائل البولسيّة. ثالثًا: المناخ الهادئ في الكتاب يجعلنا نحدّد موقعه قبل اضطهاد دوميسيان الكبير أي سنة 95. رابعًا: إنّ الأجزاء المدوّنة في صيغة المتكلّم الجمع تلعب دورًا هامًّا في إطار لاهوت سفر الأعمال الذي يشدّد بقوّة على موضوع الوحدة والتواصل التاريخيّ للخلاص. وهذه الأجزاء تعني، على مستوى القرّاء، رباطًا ملموسًا بين الجماعة المتقبّلة وشهادة بولس من خلاله الكرازة الرسوليّة. أن يؤمّن لوقا (أو أحد تلاميذه) رباط الوحدة، كما يقول التقليد القديم، فلا يجب أن تكون المسافة كبيرة بين قرّاء الكتاب وشهود النشاط البولسيّ.
وهكذا نقول إنّ سفر الأعمال دوِّن بين سنة 80 وسنة 95. إذا كان لوقا هو كاتب سفر الأعمال نقول أنه كتب حالاً بعد سنة 85. وإذا قلنا إنّه دوّن في محيط لوقاويّ فنستطيع أن نقول إنّه انتهى من تدوينه في نهاية القرن الأوّل تقريبًا. أمّا أين دوّن الكتاب؟ في أنطاكية؟ في آسية الصغرى؟ في اليونان أو في رومة (بسبب 28: 30)؟ لا جواب.

3- المراجع والتقاليد
أوّلاً: تكوين الكتاب
نلاحظ تنافرًا في لحمة النصّ. والسبب هو أنّ مقاطعَ غريبةً قطعت سياق النصّ. فهذا ما نقولُه عن استشهاد إسطفانس (6: 8- 15 و7: 55- 60) الذي قطعته خطبة طويلة. هذه الحبيسات عديدة في الكتاب: تبشير السامرة بين 8: 1 أ و9: 1 ي والحديث عن بولس المضطهِد. اضطهاد هيرودس وموته بين 27:11- 30 و24:12- 25. تخليص بولس بطريقة عجيبة (25:16- 34). ثورة أفسس بين 19: 20 و20: 2. إقامة أفتيخوس (20: 7- 12) تقطع خبر اجتماع تراوس. ونذكر أيضًا شفاء العاجز في لسترة (8:14- 18) مشيرين إلى ذكر دربة في 14: 6 و14: 20 ب. وفضلاً عن هذه الحبيسات، حوَّل الكاتبُ النصَّ ليربط بين الأقسام ويقدّم لنا كتابًا واحدًا. هذا ما نلاحظه في الإجمالات الثلاث (2: 43، 44-45؛ 4: 33 و5: 12 ب- 14). فيجب أن ترتبط 4: 32 ب 4: 34. ولكن أقحمت 4: 33 لتهيّئ موضوع الملخّص الثالث عن قدرة الرسل العجائبيّة. وهناك زيادات في 16: 32- 33، يجب أن تَتبع 18: 21 ج (وسافر في البحر من أفسس) 18: 19 أ (ولمّا وصلوا إلى أفسس): انفصل بولس عن رفيقيه ليذهب إلى أفسس بحرًا لا ليذهب إلى المجمع كما نفهم من الزيادة في 18: 19 ب، 21 ب. من وضع هذه الزيادات؟ أنه لوقا في الدرجة الأولى، وقد يكون بعض تلاميذه الذين أعادوا قراءة النصّ وزادوا مثلاً 4: 33.

ثانيًا: المراجع
هل استعمل لوقا مراجع؟ هل أدخل في نصّه وثائق خطّيّة أو شفهيّة كاملة؟ هل استفاد من مجموعات لكتابة سفر الأعمال كما استفاد من مرقس لتدوين إنجيله؟ يبقى الجواب صعبًا لأننا لا نملك المراجع.
لا شكّ في أنّ هناك فرقًا في الأسلوب بين القسم الأوّل بطابعه الساميّ والقسمٍ الثاني بطابعه اليونانيّ. ولكنّنا نعرف أنّ لوقا يعرف أن ينوّع أسلوبه ويتبنّى طريقةً قديمة توافق طبيعة الخبر.
قال بعض العلماء إنّ هناك مرجعًا أنطاكيًّا يتضمّن 6: 1- 8: 4؛ 11: 19- 30؛ 12: 25. الافتراض معقول.
وهناك افتراض آخر يستند إلى الأجزاء المكتوبة في صيغة المتكلّم الجمع. قال بعضهم: كان هناك خبر سَفَر يتضمّن 13: 4- 14: 28 و15: 36- 21: 16. وقال آخرون: كان هناك يوميّات بولس... ولكنّ لوقا أدخلها في سياق كتابه فلا نستطيع أن نميّز هذه الأجزاء من سائر موادّ الكتاب.

ثالثًا: التقاليد
ولكنّ لا شكّ في أنّ لوقا رجع إلى الوثائق أكانت خطّية أو شفهيّة. ولقد قال في لو 1: 3 أنه استعلم بدقّة في الكنائس التي زارها ولدى المسيحيّين عن "الأحداث التي جرت بيننا". ففي زمن بولس كانوا ينتقلون من كنيسة إلى كنيسة، ويشدّد صاحب سفر الأعمال على العلائق والاتّصالات بين الجماعات (14: 27؛ 15: 3- 4). ولكنّ هل يمكن أن نجد في النصّ الحاليّ إشارات إلى هذا التكوين الأوّل للنصوص؟ هنا يلجأ الشرّاح إلى معيار التنافر في الأسلوب، في الكتابة، ويتوقّفون عند المعطيات الغريبة أو التي لا فائدة منها أو التي لا تدخل في الإطار العامّ للفكر اللوقاويّ. في الواقع، كلّ مقطع يطرح علينا سؤالاً خاصّة بالنسبة إلى الأخبار القديمة التي نقرأها في القسم الأوّل من الكتاب. وفي خبر السفَر، نستطيع أن نتعرّف إلى طبيعة التوثيق وإلى طريقة عرض المعلومات. مثلاً: اعتاد لوقا أن يقدّم الأشخاص في بداية الخبر. أمّا في 17: 5 فيدخل ياسون في الخبر بطريقة لا ننتظرها. ثمّ إنّ لوقا يشير إلى مدن ومراحل سفر لا فائدة منها في اللحمة الإخباريّة (رج 14: 25؛ 17: 1؛ 20: 13- 15). إن لم يكن له شيء يقوله، يتابع طريقه ولا يقول شيئًا. وهناك مرّات نتساءل إن كان لا يفضّل أن يسكت على قضايا مثل قضيّة أنطاكية (رج غل 2: 1- 4) أو أزمة كورنتوس، لئلاّ يُضْعِفَ فكرتَه الأساسيّة حول الوحدة الكنسيّة. ونتساءل أخيرًا: هل غربل وثائقه؟ أما ترك تقاليد شعبيّة مختلفة القِيَمِ (1: 18؛ 16: 25- 34؛ 19: 14- 16، 20: 7- 12)؟ ولمّة بولس من أجل المسيحيّين في أورشليم لم تكن مفهومة لديه. فهو يتحدّث في 17:24 عن "بعض التبرّعات". غير أنّ تنوّع الأخبار عند لوقا يجعلنا نفهم أنّ لوقا جمع التقاليد المتعدّدة. قالوا أنه لم يسيطر عليها. ولكن لماذا لا نقول أنه خاف أن يضيع أيُّ فتات، فحاول أن يدخل كلّ معلوماته في كتاب أراده أن يكون مرآة كنيسة لجماعته التي تعرف الخلافات الباطنيّة. ولكنّنا نتساءل حينئذ: ما هي القيمة التاريخيّة لهذه التقاليد؟

ج- القيمة التاريخيّة لسفر الأعمال
1- لوقا ونظرته إلى التاريخ
دوّن لوقا تاريخًا دينيًّا انطلاقًا من التقاليد التي لمّها من الجماعات وأدخلها في كتابه حسب حاجة قارئيه. هو الذي كتب، ولكنّنا نحس في كل وقت بقبضة الحدث الذي يرويه التقليد الشفهيّ على مضمون هذا النصّ. من جهة، يشكّل سفر الأعمال وثيقة تاريخيّة رئيسيّة على وضع الفكر المسيحيّ في نهاية القرن الأوّل. ومن جهة ثانية نسمع من خلال النصّ صدى الأحداث الماضية. أراد لوقا أن يثبّت الوحدة الجذريّة الموجودة بين كنائس عصره وجماعة البدايات، فوجب عليه أن يختار ما يوافقه من بين العناصر التي قدّمها له التقليد. ما كان باستطاعته أن يخترع هذه التقاليد وإلاّ دمّر القضيّة التي يدافع عنها في نظره، وفي نظر معاصريه، وفي نظر السلطات التي سمعت ولا شكّ بالأحداث التي جرت في الماضي.
حين عاد لوقا إلى مرقس أَبان في الوقت ذاته عن أمانة كبيرة وحرّيّة مدهشة في عرضه للأمور. هل نستطيع أن نقول الشيء عينه بالنسبة إلى سفر الأعمال؟ فالأخبار والخطب ليست صورة فوتوغرافيّة عن الأحداث أو نسخة كربونيّة عن خطب حقيقيّة. لهذا، حين نقرأ الكتاب أو نشرحه، لن نقف على مستوى الحدث الأوّل لنقدّم البرهانَ على صحّة النصّ. ففي أحد التقاليد الشعبيّة عن يهوذا (18:1)، لا نستطيع أن نفسّر موت الخائن الذي وقع على رأسه بأن نُصعده إلى سطح البيت الذي يتحدّث عنه 1: 20 على خطى مز 26:69. فكلّ مرّة يترك المفسّر النصّ ليعيد بناء الحدث على طريقته، يخلق نصًّا جديدًا وتاريخًا جديدًا. وكذلك كلّ مرّة يرفض الشارح تاريخيّة حدث باسم نِظرة تاريخيّة خاصّة فهو يخطئ أيضًا. فإنّ أحدَ الشرّاح يلغي 1: 19 لأنّ بطرس لا يستطيع أن يتلفّظ بالكلمات "في لغتهم". ثمّ يلغي 1: 18 الذي يتحدّث عن يهوذا لأنّ الرسل كانوا عارفين بهذا الأمر. فينتج عن ذلك أنّ برهان 1: 20 لا يمكن أن يكون صحيحًا. إذًا تسقط 1: 16. وهكذا يهدم كلّ المقطع عن متّيّا... هذا يعني أنّ أخبار لوقا مركّبة تركيبًا متينًا. بحيث إنّنا إذا انتزعنا حجرًا هبط البناء كلّه.
إذًا يجب على شارح القسم الأوّل من سفر الأعمال أن يجعل نفسه على مستوى النصّ لكي يفهمه. هذا لا يمنعه أن يكتشف إشاراتٍ تاريخيّة نوجّهه إلى حدث سابق. في الوضع الحاليّ للتوثيق، لا يقدر المؤوّل أن يعود إلى الحدث ليصوّره من جديد. كل ما يقدر عليه هو أن يتحقّق من قوّة تأثير هذا التذكار أو ذاك في التقاليد التي جمعها لوقا.

2- دورة بطرس والتاريخ
لا نستطيع أن نسبر القيمة التاريخيّة لكلّ حدث في القسم الأوّل من سفر الأعمال. ولكنّنا سنقدّم بعض الملاحظات القصيرة.
أوّلاً: تاريخيّة الخطب
ليست خطب سفر الأعمال ملخّصًا لخطب أوسع، بل وحدات صغيرة منظّمة وكاملة، وإن توقّفت عند الذروة حسب فمن لوقا (7: 53؛ 10: 43؛ 26: 23). يجب أن نتحلّى بالفطنة قبل أن ننسب إلى التقليد القديم العبارات اللوقاويّة أو رسمة الخطبة العامّة. ولكنّنا لن نرفض وجودَ مواضيعَ تقليديّةٍ تُشْبِهُ عناصرَ سابقةً لرسائل مار بولس (1 كور 3:15- 5). بل نلاحظ أنّ لوقا يستعيد عناصرَ أساسيّةً من فكر بولس حين لم تكن نقاط المناقشة في منظوره اللاهوتيّ: مثلاً: التبرير وموت يسوع الخلاصيّ (13: 38- 39؛ 20: 28). وخطبة إسطفانس بأسلوبها اللوقاويّ تحمل عناصر ضدّ الشريعة وذبائح الهيكل، وهي عناصر تعارض فكر لوقا العاديّ. إنّ احترام لوقا لمراجعه يقدر أن يتجاوز بعض المرّات أفكارًا عزيزة على قلبه.

ثانيًا: الأخبار
لأخبار دورة بطرس طابع خاصٌّ يميّزها عن أخبار الأسفار البولسيّة. فبعد 15: 36 يقدّم لوقا خبرَ سفرٍ يحمل بعض المرّات ملاحظات غريبة وعديمة الجدوى، ولكنّ الخبر متماسك. أمّا في القسم الأوّل من سفر الأعمال فنجد فسيفساء من الأخبار والخطب وسلسلة من العناصر المتنوّعة التي لا رابط بينها. نحسّ أنّ لوقا لا يسعى إلى صد التاريخ، بل إلى أن يكشف انطلاقًا من عناصر مختارة ومعبّرة، عن ينابيع الخلاص في فكر الجماعة الأولى وفي ممارستها النموذجيّة. إذًا، لا نستطيع أن نجعل قسمَيْ سفر الأعمال على المستوى التاريخيّ الواحد. في القسم الثاني، ينقل لوقا إلى الجماعات الهلّينيّة بداية تاريخهم الخاصّ على خطى بولس. أمّا في القسم الأوّل فيذكّرهم بالتاريخ القديم للجماعة اللوقاويّة في سلسلة من اللوحات الحيّة والنموذجيّة. إِنّها اعتبارات لاهوتيّة نرجعها إلى زمن البدايات. مثلاً: خبر العنصرة عن ولادة الكنيسة، الإجمالات عن حياة الجماعة المثاليّة، خبر أوّل خطيئة وإخراج حنانِيَّا وسَفِّيرة من الجماعة، أصل الخدَم (6: 1- 7) وأصل الرسالة بين الوثنيّين (كورنيليوس، أنطاكية). إنّ هذه الأخبار القَريبة من التقاليد المتهوّدة تفيدنا على المستوى اللاهوتيّ والتاريخيّ شرط أن نتعلّم كيف نقرأها.

ثالثًا: تسلسل الأحداث
يستعيد لوقا فكرة مر 27:7 وبولس في روم 1: 16 و2: 9 فيقول: أعلن الإنجيل أوّلاً لليهود ثمّ للوثنيّين. إذًا، يمدّ الأحداثَ في تسلسل ظاهر، بينما تبقى الرسالةُ في إسرائيل همَّ بولس بعد ذهابه إلى الوثنيّين. إذا قرأنا غل 2: 9 و1 كور 9: 19- 23 نفهم أنّ الرسالتين تقاسمتا نشاط بولس. وحين يبدأ لوقا بمعالجة موضوع، فهو يحبّ أن ينهيَ منه قبل أن يعود إلى غيره. وهكذا يُكَوِّنُ مجموعاتٍ مرتّبةً (رج قصّة يوحنّا المعمدان في لو 3: 1- 20). وهذا ما صنعه في الأعمال بالنسبة إلى دورة بطرس. إنّ دخول كورنيليوس في الكنيسة (10: 1- 11: 18) يقع في نهاية هذه الدورة كفعل رمزيّ يهيّىء لتأسيس كنيسة أنطاكية ويُعدّ الدرب لعمل بولس. أمّا إذا عدنا إلى المستوى التاريخيّ فقد يكون ارتداد كورنيليوس تمّ فيما بعد. ولكنّ ما يهمّ لوقا هو المستوى الأدبيّ وتنظيم دورة بطرس لا المستوى التاريخيّ لتسلسل الأحداث. وإذا تحدّث لوقا في أع 17:12 عن موت بطرس نستطيع أن نستنتج من هذا التقديم أنّ الأحداث الواردة بعد هذه الآية حدثت بعد موت الرسول (رج 3:15 ي). إذًا، نتجنّب الاعتباراتِ التي تستند فقط إلى المتتالياتِ الإخباريّة. ولنا مَثَلٌ في أسفار بولس الثلاثة إلى أورشليم.

3- بولس وسِفر الأول
هناك فرق حقيقيّ بين صورة بولس كما نراها في سفر الأعمال وصورته كما نراها في رسائله. فراح بعض الشرّاح يقولون إنّ لا قيمة تاريخيّة لسفر الأعمال، ونسبوا تدوين هذا السفر لا إلى لوقا، أحد رفاق بولس، بل إلى شخص غريب. ولكنّ هذا القول مُغَالىً فيه. فسفر الأعمال يرسم المحيط الجغرافيّ والبشريّ الذي عاشت فيه إرساليّات بولس. ثم إنّ الفرق بين الرسائل وسفر الأعمال يدلّنا على تطوّر الفكر في فترة قصيرة من الزمن، وهذا علامة التنوّع في الكنيسة الواحدة.
وها نحن نقدّم بعض الملاحظات حول هذا الاختلاف:
أوّلاً: إنّ إقامة بولس الثانية في أورشليم التي يتحدّث عنها غل 2: 1- 10 تقابل ما نقرأه في أع 15: 4- 29 رغم اختلاف الوجهات. ولكن إذا عدنا إلى أع 9: 26- 30؛ 11: 30؛ 12: 25؛ 15: 4، نجد أنّنا أمام إقامة بولس الثالثة في أورشليم (لا الثانية). ولكن، إلى أيّ مدى نستطيع أن نستند إلى تسلسل الأحداث في القسم الأوّل من سفر الأعمال. وهكذا تحتاج المسألة إلى مزيد من البحث. ثمّ إنّ خبر أع 15 يقدّم لنا الصعوبات. أين نجعل خلاف أنطاكية الذي يحدّثنا عنه غل 2: 11- 14، وأع 3:15، قبل مجمع أورشليم أو بعده؟ ثمّ، ألا يجب أن نفصل الاتّفاق الذي تمّ في أورشليم عن القرارات الطقسيّة التي ترد في الرسالة إلى الكنائس في أع 15: 29- 30؟ ففي مقطع عن لحوم الأوثان (1 كور 10) يجهل بولس هذه القرارات. بل إنّ يعقوب سيخبره بها خلال إقامته الأخيرة في أورشليم حسب أع 21: 25. إذًا، من المفضّل أن نستند إلى عرض الأوضاع حسب بولس لا إلى النظرة الإجماليّة التي يجمع فيها لوقا عناصره من أزمان ومحيطات مختلفة.
ثانيًا: يقول سفر الأعمال إنّ بولسَ كان خطيبًا بارعًا. أمّا في 2 كور 10 : 10؛ 12:12 فهو متواضع. ولكنّ "ترجمان" القدّيس بولس عبّر بهذه الطريقة عن محبّته لمعلّمه واستعاد عباراتٍ عزيزةً على قلب لوقا (هذا ما نقوله عن لقب "ابن الله" في 9: 20) وأدخلها مثلاً في خطبة أثينة (أع 23:17- 27؛ روم 1: 19- 20).
ثالثًا: إذا قرأنا سفر الأعمال نجد أنّ بولسَ متّحدٌ ببطرس ويعقوب. ولكنَّ بولسَ يبدو متحفّظًا (رغم غل 9:2). هل ننسى قضيّةَ الوحدة التي يدافع عنها لوقا؟ لهذا فهو يزيل الخلافاتِ بين المسؤولين في الكنيسة أو يخفّف من حدّتها، وذلك ليثبّت في الوحدة الجماعاتِ التي ورثت تقليد بولس في خطّ المؤسسّين القدماء. وراح موضوع الوحدة يعيد إلى بولس بعض وجهه اليهوديّ. ولكنّ هذا لا يمنع لوقا من أن يذكّر بحرّيّة الوثنيّين تجاه الشريعة (15: 10) أو أن يستعيد عباراتٍ مهمّةً من فكر بولس عن التبرير والنعمة (38:13، 43؛ 3:14؛ 15: 11؛ 20: 24). وقد قلنا أعلاه إنّ لوقا يتطلّع إلى زمن البدايات كمبدأ وحدة أكثر منه إلى المستقبل، وبالتالي إنّه يخفي الموضوع الإسكاتولوجيّ.
رابعًا: إذا قرأنا الأعمال نفهم أنّ الرسل هم الاثنا عشر انطلاقًا من تحديد نقرأه في 1: 21-22. ولكن كيف ينسى رفيق بولس مطالبة رسول الأمم بهذا اللقب؟ فلا ننسى أن 14: 4، 14 تسمّي بولس وبرنابا رسولين. ثمّ إنّ كلمة "رسل" تستعمل في صيغة الجمع كوحدة على مستوى الحلقة الرسوليّة. وإذا كان الرسل يمارسون "خدمة الرسالة" (25:1)، فلماذا لا يعود لوقا يتحدّث عن الاثني عشر بعد 2:6، أي وقت تبدّلت وظيفة الرسل حين تنظّم السبعة؟ يجب إذًا أن لا نعارض بين لوقا وبولس. فما يريد أن يبنيه لوقا هو أنّ بولس يؤمّن رباط الوحدة بين جماعة الرسل الأساسيّة (13: 31- 22) والزمن الحاضر للكنيسة اللوقاويّة.
خامسًا: يختلف لوقا عن بولس في أنّه لا يشدّد على القيمة الخلاصيّة لموت يسوع. ولكنّه احتفظ بهذا الموضوع في فم بولس في 28:20، كما أنّه أدخل لاهوت القيامة. كان لوقا يتوجّه إلى يونانيّين تصدمهم فكرة القيامة، لا إلى يهود يشكّكهم صليب المسيح (1 كور 1: 23) فأجبر على التشديد على لاهوت خلاص مؤسَّس على حدث القيامة (13: 30، 35- 36؛ 17: 17- 18، 31- 32؛ 23: 6؛ 24: 15، 21؛ 26: 23). إنّ لوقا حاول أن يكيّف تعليمه حسب العقليّة الهلّينيّة فقدّم لاهوتًا أوحى به الروح من أجل بناء الكنيسة.

د- قراءة إجماليّة لسفر الأعمال
كان المؤرّخون القدماءُ يقولون: يجب أن نرتّب الموادّ حسب نظام يميّز الأحداث ويحافظ معًا على تواصلها. فنهاية الإنجيل الثالث وبداية سفر الأعمال تدلاّن على أنّ لوقا أخذ بهذه القاعدة. فإن فُرض عليه قاطع بين حياة يسوع ومصير جماعته، وجب عليه أن يقيم رابطًا. فبداية سفر الأعمال تستعيد نهاية لو 24، كما أنّ آيات الإنجيل الأخيرة توجّه أنظارنا نحو الرسالة المسيحيّة.
ولكنّ بداية سفر الأعمال (1: 1- 14) ليست مجرّد تكرار. إنّها توضح أنّ رفقة الرسل الفصحيّة ليسوع دامت أربعين يومًا (تميّز الرسل بهذا وصاروا جديرين بالرسالة)، وتهدم رجاء رؤيويًّا: إنّ الانتصار الفصحيّ لا يقيمُ حالاً ملكوتَ الله. وتؤكّد هذه البداية أخيرًا أنّ فترة ستدشَّن يطبعها مجهود الرسالة ونشاط الروح القدس: هذا هو زمن الكنيسة. بعد هذا يلعب خبر الصعود الثاني دورًا غير الخبر الأوّل: ينطلق من موضوع الارتفاع فيشدّد على غياب المسيح وعلى مسؤوليّة الرسل الذين نبّههم إليها الملائكة.
إذا أخذنا الكلام بحصر المعنى، لم يُرسِلِ القائم من الموت الأحد عشر. إنّه يعلن لهم مهمّة، ويعدهم بالوسائل التي تساعدهم على إتمامها. ليس على الرسل أن ينطلقوا بل أن يبقوا حيث هم. إنّهم لا يتفرّقون بل يبقَون أوّلاً. وأوّل صورة عن التلاميذ يرسمها لنا لوقا، هي صورة جماعة رسوليّة متّحدة في الصلاة تحيط بها بعض النسوة ويتكلّم باسمها بطرس قائدها. إنّ كلمة "رسل" لا تظهر في سفر الأعمال إلاّ في صيغة الجمع.

1- جماعة الاثني عشر في أورشليم (ف 1- 5)
تروي الفصول الخمسة الأولى حياة هذه الجماعة. أعيد تنظيم حلقة الاثني عشر (1: 15-26)، وهذا ما أتاح للوقا أن يعطيَ بفم بطرس تحديدًا للرسالة. إذا أراد الواحد أن يكون شاهدًا، فلا يكفي أن يكون رأى المسيح القائم من الموت، بل أن يكون تلميذه خلال رسالته على الأرض (1: 21- 23). فالاثنا عشر هم كافلون للشهادة قبل أن يكونوا جماعة من المرسلين.
وتحقّق وعد يسوع (لو 24: 49:؛ أع 1: 4- 5) في عيد العنصرة. وإذ أراد لوقا أن يتصوّر قرّاؤه الحدث، استعمل تقاليدَ متعلّقةً بعطيّة الشريعة في سيناء. حقّق أع 2 ما تضمنّه خر 19- 20 وابتدأ الروح والكلمة ينتشران معًا في "الأيّام الأخيرة"، كما قال لوقا ولم يخطئ، مشيرًا إلى نبوءة يوئيل (أع 17:2). هذا حدث في أورشليم كما أنبأ به أش 2: 1- 3. كان لوقا أمينًا لمواعيد العهد القديم. فركّز في المدينة المقدّسة بدايات الكنيسة. ولكنّ هذا لا يعني الأُمَمَ إجمالاً، لهذا قدّم لائحة بالأمم الشتات الذين سيفيدون من إِعلان كلمة الله (2: 9- 11). إذا كان الروح القدس سيعطي التلاميذ الجرأة التي نقَصَتْهُم، فالكلمة المسيحيّة التي أعلنها يسوع أوّلاً (رج لو 7:24، 25- 27، 44- 48) اتّخذت شكل خطبة ستكون نموذجًا لوعظ المرسلين. إنّ الخطب تتركّز على شخص يسوع، فتذكر باقتضاب رسالتَه على الأرض. ثمّ إنّ موته الذي هو انتصار عابر لعنف البشر يترك المكان للقيامة التي هي قلب البشارة. ويستعين الواعظ بالكتب المقدّسة من أجل مصداقيّة أقواله وينهي بتحريض على التوبة.
لم تسجَّل خطب المرسلين حرفيًّا كما قيلت. فالمؤرّخون ينطلقون من فكرة عامّة ويؤلّفون خطب أبطالهم. ولكن هل يعني هذا أنّ لوقا جعل الرسل يقولون ما أراده هو؟ حاشا وكلاّ. إنّه يسطّر ولكنّه لا يخترع. يجعل في فم بطرس ما اعتبره جوهرَ خطبته. إذًا ليست عظة العنصرة كلام بطرس بالذات، وليست كرازة خاصّة بالزمن الذي كتب فيه لوقا. لقد وعى لوقا المسافة التاريخيّة، فميّز بين أوّل التعابير العقائديّة وبين التعابير الكرستولوجيّة في زمانه. كما ميّز بين كرازة رسوليّة وعظة يلقيها في جماعته. لا يظهر معنى الصليب حالاً، ولن تظهر قيمة الموت الخلاصيّة إلاّ في الخطبة الموجّهة إلى مسيحيّين (28:20).
بما أنّ الشهادة هي في نظره، تذكير بتاريخ وكشف لمعنى، فالخطب الكرستولوجيّة هي علامة حضور الرسل ونتيجة فنّ لوقا الإخباريّ. تأتي الخطب في الأوقات الحرجة فتتيح للإنجيليّ أن يلقيَ ضوءًا على التاريخ: العنصرة، موت إسطفانس، ارتداد أوّل وثنيّ، أوّل بعثة بولسيّة، مجمع أورشليم، أسر بولس. كلّ هذا يتّخذ بعدًا ستراتيجيًّا بفضل الخطب.
إنّ خطبة بطرس الأولى (2: 14- 36) حملت ثمارًا فنتج عنها ارتداداتٌ وتكوّنت جماعة انطلاقًا من نواة أولى. وصوّرت الاجمالة الأولى (2: 42- 47) مثابرة المؤمنين على تعليم الرسل (لا تعليم ليسوع دون وساطة الشهود)، على المشاركة الأخويّة (طاعة لمتطلّبات الإنجيل التي تفرض المقاسمة لا الفقر)، على كسر الخبز (أي الإفخارستيّا وعشاء المحبّة)، وعلى الصلوات (وهذا موضوع عزيز على قلب لوقا).
وترافق الكلمة آيات (رج لو 9: 1- 6) منها شفاء الكسيح (أع 3: 1- 10). هذه المعجزة تعطي دفعًا جديدًا للكرازة (كلمة هيكل تربط 3: 1- 10 بـ 42:2- 47). وقدّمت الخطبة الثانية (3: 12- 26) لسكّان أورشليم المناسبة الأخيرة للتوبة عمّا فعلوا يوم قتلوا يسوع. اتّخذوا قرارًا مهمًّا (كما يقول الإنجيل) وها هي أهمّيّته تظهر الآن (في سِفر الأعمال). أطلق لوقا الكلمة الأخيرة عن اعتقاداته الجليانيّة بواسطة تعابيرَ قديمةٍ اختارها بمهارته (3: 19-21).
تتضمّن هذه الآياتُ التأكيداتِ التاليةَ: الارتداد الذي يُدعى إليه السامعون هو رجوع إلى الله، وإعادة العلاقات تطابق المغفرة التي يقدّمها الله. يقابل لوقا نهاية الزمن بزمن الفرج والراحة، وهو يتبع عمل الارتداد. هنا يستند لوقا إلى اعتقاد يهوديّ يعتبر أنّ ارتداد الشعب يسهّل تدخّل الله الأخير.
حسب مخطّط الله، ستظهر هذه النهاية بمجيء المسيح الأخير الذي يُحفظ في السماء بالنظر إلى الصعود. هذا المجيء هو أكيد ولكنّه ليس بقريب. وعندما يحصل تتمّ مواعيد الأنبياء التي تعني تجديد الشعب ومصير الأمم بل مصير الكون كلّه.
انتشر التعليم المسيحيّ ونجحت الرسالة (تجاوز عدد المؤمنين 5000 في 4: 4) فانقسمت الأفكار (جاء يسوع ليحمل الشقاق: لو 12: 51). وكما في الإنجيل، نبتت العداوة من السلطات الدينيّة الذين نسيناهم بعد القيامة. تضامنت الجماعة مع ربّها بأمانتها للإنجيل فأثارت على نفسها الاضطهاد. لقد أكّد برنابا وبولس ما رآه يسوع وعاشه: "يجب أن نمرّ في مضايقَ عديدةٍ لندخلَ في ملكوتِ الله" (14: 22). وإذ كان بطرس في وضع المتّهم ألقى خطبة ثالثة (4: 9- 12) فأعطى فكرة مسبقة عن الدفاعات اللاحقة. تتناوب الرسالة والدفاع في سفر الأعمال وتسندها صلاة الجماعة (24:4- 30). يقدّم إلينا لوقا هذه الصلاة الأولى في شكل احتفاليّ. أمّا بنيتها فبسيطة: دعاء وطلب.
وقبل أن يُحَدِّثَنَاْ لوقا عن توقيف ثان، يوجّه أنظارنا باتّجاه الجماعة (4: 32- 35: إجمالة جديدة). إنّ استعمال المال في محلّه يقابل لا متطلّبات الأخلاق فحسب، بل متطلّبات الإيمان. هنا يتعارض عمل برنابا (36:4- 37) مع عمل حنانِيّا وسَفِّيرة (5: 1- 11). ما فعله بطرس يصدمنا. أمّا لوقا فيستند إلى تقليد متهوّد ويورد ممارسة تأديبيّة عرفها الإسيانيّون، ويعلن أنّ الروح القديس عاقب بواسطة بطرس هذين الزوجين اللذين كذبا عليه.
إذا كانت الأمانة تقود إلى الألم، فالله هو أيضًا إله الخلاص. ولهذا يجعلنا لوقا نرى بأمّ العين هذا اليقين المجذّر في العهد القديم بمعجزة القيود التي تسقط وحدها، وباب السجن الذي ينفتح وحده.
وينتهي زمن أوّل باستراحة. اكتفى المجلس، بعد أن نصحه جملائيل، بمعاقبة الرسل بالجلد. أمّا الرسل فخرجوا من المجلس "فرحين لأنهم وُجدوا أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع" (5: 4). فتابعوا عملَهم الرسوليَّ جهارًا في الهيكل وعلى حدة في البيوت.

2- من بطرس إلى بولس: الهلّينيّون (ف 6- 7)
ينهي ف 6- 7 ما سمّاه لوقا كنيسة أورشليم (6: 1: في تلك الأيّام)، ويدشّنان رسالة الهلّينيّين (أي المسيحيّين المتكلّمين اليونانيّة) ونشر كلمة الله خارج أورشليم.
ويروي لوقا باختصار تأسيس السبعة ويتحدّث مطوّلاً عن استشهاد إسطفانس أوّل السبعة. مع أنّ لوقا اهتمّ بإظهار التناغم بين التلاميذ، فإنّه لم يتورّع عن ذكر حادثة حنانِيّا وسفّيرة وأن يشير إلى أزمة داخل الجماعة أوجبت تأسيس السبعة. إذًا هناك جناح هلّينيّ (9: 29) في جماعة أورشليم. كان الهلّينيّون أتقياء أقاموا في أورشليم في أواخر أيّامهم ليكونوا قريبين من المكان الذي تتمّ فيه قيامة الموتى. شعروا بأنّه يجب أن تكون الديانةُ اليهوديّةُ مسكونيّةً شاملةً وأدركوا حدود عبادة طقسيّة ضيّقة. مهما يكون من أمر، يقول ف 6 إنّ كثيرًا من هؤلاء الهلّينيّين ارتدّوا إلى الإيمان المسيحيّ.
ولكنّ ف 6 يقدّم لنا بعض الصعوبات. هل يخدم السبعةُ الهلّينيّين فقط؟ ليس من جواب واضح. لماذا اهتمّ لوقا فقط بإسطفانس وفيلبّس؟ وهل كانا مرسلَيْنِ أم شمّاسَيْنِ؟ ما هي خدمة الأرامل اليوميّة؟ هل هي ما يقابل الإسعافات المعروفة لدى اليهود؟
غير أنّ لوقا يهتمّ بأمور غير هذه. بعد أن ثبّت حقيقة الإنجيل بواسطة الرسل، لجأ إلى الهلّينيّين ليدلّ على انتشار الكلمة في السامرة ثمّ في أنطاكية.
ويشير استشهاد إسطفانس إلى انقطاع آخر: رسم أوّل السبعة لوحة تاريخيّة كبيرة، فقابل بين موسى ويسوع، ثمّ دلّ على تصلّب رؤساء إسرائيل الروحيّين. هذا الاتّهام يفترض وجود أشخاص آخرين من ذوي النيّات الطيّبة، عَنَيْتُ بهم الوثنيّين. وهكذا يتابع لوقا، من خلال الأخبار، تأمّله في مصير إسرائيل ومصير الأمم. شكر الله لأنّ قسمًا من شعب إسرائيل آمن فساعد على انتشار الإنجيل الموعود إلى كلّ الأمم. ولكنّ معارضة القسم الآخر، ولا سيّما الرؤساء، سبّبت الألم والتشتّت للهلّينيّين الذين حملوا شهادتهم بين الأمم الوثنيّة.
ويشدّد لوقا على أنّ الله برَّأ ساحة إسطفانس. بدا وجهه أمام المجلس كوجه ملاك (6: 15) على مثال وجه موسى (خر 34: 29-35). وحين رجموه رأى مجد الله وابن الإنسان جالسًا عن يمين الله (7: 55-56). كلّ هذا يلمّح إلى آلام يسوع (لو 22: 69). لقد أقام الإنجيليّ موازاةً بين استشهاد يسوع واستشهاد إسطفانس: كانا كلاهما من بني إسرائيل. قال الرؤساء عنهما إنّهما هاجما موسى والشريعة والهيكل، ولكنّهم افتروا عليهما. فالكنيسة (كنيسة لوقا هي المتفرّعة من الهلّينيّين) هي المؤتمنة على ميراث إسرائيل، على الشريعة وعلى مواعيد الله.

3- من أورشليم إلى أنطاكية عبر السامرة (ف 8-12)
ترتبط نهاية ف 7 ببداية ف 8: يشير النصّ مرّتين إلى شاول الذي سيصبح بولس في إطار استشهاد إسطفانس (7: 58؛ 8: 1)، ويصير مضطهِدًا (8: 3). تأخّر الحديث عن دفن إسطفانس (8: 2) بين ذكر الاضطهاد (8: 1) ونتائجه (8: 4). يدلّ هذا التشابك على أنّ الخبر يجتاز هنا مرحلة هامّة. والمعطيات الجغرافيّة (عن اليهوديّة والسامرة) تُثْبِتُ هذا القول، إذا تذكّرنا برنامج الرسالة الذي رسمه القائم من الموت في بداية سفر الأعمال (1: 8).
ينتقل القارئ من إسطفانس إلى فيلبّسَ ثمّ إلى شاولَ فيتركُ أورشليم آخذًا طريق السامرة. وإنّ أسطورة فيلبّس وسمعان تبرز الصراع الذي ستواجهه الديانة الجديدة على حدود العالم اليهوديّ أو في خارجه. بيَّن فيلبّسُ تفوّقَ ديانته بتجرّده (كان الناس يدفعون المال في هذه العبادات الجديدة). لم يشارك بطرس ويوحنّا في الخبر منذ البداية، ولكنّهما جاءا فيما بعد ليشدّدا الروابط بين الاثني عشر والسبعة.
وخبر خصيّ (وزير) ملكة الحبشة يقدّم لنا خبرًا نموذجيًّا عن ارتداد فرديّ. كان ذاكَ الحبشيُّ من فئة الدخلاء أو الخائفي الله. ثمّ كان كورنيليوس أوّل وثنيّ ارتدّ وتعمّد على يد بطرس. وحادثة المركبة أتاحت للوقا أن يستعمل أش 53 كبرهان كتابيّ.
من إسطفانس إلى فيلبّس ومن فيلبّس إلى شاول. هل رتّب لوقا مادّة كتابه أم استلم وثائق من أصل هلّينيّ؟ فبعد السامرة والشاطئ (غزّة)، حملَنا لوقا إلى سورية، على طريق دمشق. إنّ ارتداد شاول (الذي رواه لوقا ثلاث مرّات) يلعب دورًا هامًّا كتهيئة لما سيأتي. فإلى هذا الرجل، إلى هذا الهلّيني، سيسلّم الربُّ تبشيرَ الأمم (9: 15). لأعمال الرسل قطبان: أورشليم حيث يعمل الاثنا عشر حول بطرس، والشتات حيث يعمل السبعة ثمّ بولس. وسيكون لوقا الشاهد للمسيحيّة التي ستفرض نفسها في رومة بصورة خاصة، وعلى حساب المتهوّدين في فلسطين، وفي الجماعات اليوحنّاويّة في آسية الصغرى أو مصر.
ستساعدنا الرسالة إلى غلاطية لنقيِّم عمل لوقا التأليفيّ. فهو لا يخترع ارتداد بولس على طريق الشام، ولكنّه يكيّف الوقائعَ حسب مخطّطه الأدبيّ. وتثبت الرسالة الثانية إلى كورنتوس (33:11) حادثة القفّة التي دلَّوه فيها من السور (9: 25). ولكن يبدو أنّ لوقا لم يستق معلوماتِه من رسائل بولس، بل من أخبار تناقلها الفريق الرسوليّ أو الجماعات البولسيّة.
وتأتي إجمالة مهمّة (9: 31) فتحدّد وضع الرسالة وتلاحظ وجود الكنيسة (في المفرد، وهي تدلّ على جماعات عديدة) في اليهوديّة والجليل (هي المرّة الوحيدة تذكر فيها جماعة الجليل) والسامرة. لقد اتّسع الأفق ولكنّ حاجز الوثنيّين لم يُعبَر بعد.
وسيكلّف الربّ بطرسَ بهذه المهمّة. هنا تبدأ دورة بطرس التي تتضمّن ثلاث وحدات تقودنا إلى شاطئ البحر المتوسّط: خبر معجزتين (شفاء أينياس وإقامة طابيتا: 9: 32-43)، ثمّ خبر كورنيليوس الطويل (10: 1- 11: 18). مزج لوقا ثلاثة تقاليد (واحد عن ارتداد الضابط، وآخر عن رؤية بطرس، وثالث عن الخطبة الكرستولوجيّة) فجعل من ف 10 إحدى قمم سفر الأعمال. ضغط الله على بطرس فقبل وثنيًّا في الكنيسة. هذه السابقة جعلت جماعة أورشليم تتذمّر ثمّ تقبل ببراهين بطرس.
ونجد الهلّينيّين مشتّتين من جديد (11: 19). ويروي الكاتبُ بتحفّظٍ تأسيسَ كنيسة أنطاكية والخطر الذي واجهه بعضُ الهلّينيّين حين حملوا البشرى إلى اليونانيّين. نفهم هذا التحفّظ باهتمام لوقا أن يوكِل إلى بطرس باكورة دعوة الأمم، وأن لا يترك الهلّينيّين يتحرّرون بسرعة. لهذا يجعل الكنيسة ترسل برنابا إلى أنطاكية ليؤمّن التواصل مع أورشليم.
إنّ لوقا يمتلك معلوماتٍ عديدةً عن أنطاكية: المشاركة في الرسالة بين برنابا وشاول (تركه لوقا في طرسوس في أع 9: 31)، إعطاء اسم "المسيحيّين" للتلاميذ (26:11)، اللمّة من أجل القدّيسين.
ويعود بنا لوقا من أنطاكية إلى أورشليم فيقحم في ف 12 مواجهة بين هيرودس أغريبا الأوّل (ابن أخي هيرودس أنتيباس الذي ملك على كلّ فلسطين سنة 41-44) وبطرس الرسول. يقسم الخبر ثلاثةَ أقسام: الأوّل يشير إلى مقتل يعقوب بن زبدى. الثاني يتحدّث عن موت المضطهد (رج 2 مك 9: 1-28 عن موت أنطيوخس إبيفانيوس). الثالث يتحدّث عن خلاص بطرس بطريقة عجيبة. خُلِّص الرسول بطرس فأفلت من يد هيرودس وذهب إلى مكان آخر (أو اتّجاه آخر أو مصير آخر: 12: 17)، ولن نعود نراه إلاّ في مجمع أورشليم (15: 7- 11). هل يريد لوقا أن يحدّثنا بهذه العبارة عن استشهاد بطرس؟ لا شكّ في ذلك، وموت بطرس يشبه موت يسوع، وخلاصه من السجن ترجيع لقيامة يسوع من سجن الموت.
ويشير لوقا إلى اللمّة (12: 25) ويعود بنا إلى أنطاكية.

4- أوّل بعثة رسميّة من أنطاكية (ف 13-14)
هل نَعُدّ برنابا بين الهلّينيّين؟ أصله من قبرس، ولكنّه متجذّر في أورشليم لأنّه من اللاويّين. أُرسل إلى أنطاكية كموفد من أورشليم، من قبل الرسل. اختاروه لأنه يتكلّم الآراميّة واليونانيّة. ولكنّ بولس يجيد اليونانيّة أفضل منه، ولهذا حسبه أهل لسترة "هرمس" رسول الآلهة، لأنّه كان يتولّى الكلام (14: 12) كان الثنائيُّ برنابا وبولسُ ثمرةَ تعاون بين العبرانيّين والهلّينيّين. في لائحة الأنبياء والمعلّمين في أنطاكية، يبدو برنابا في أوّل اللائحة وشاول في آخرها (13: 1-2). وسيبقى شاول في الدرجة الثانية حتّى 13: 9 (يُذكر برنابا ثمّ شاول). ولكن حين صار شاول بولس، حلَّ في الدرجة الأولى وجاء بعده برنابا. أجل، سيعود إلى بولس الدور الأوّل في تبشير الوثنيّين.
اختلفت الحال هنا عن الرسالات السابقة: نحن أمام رجلين انتدبهما الروح القدس في إطار ليتورجيّة جماعة أنطاكية. كانت أنطاكية نقطة الإنطلاق، وستكون نقطة الوصول لرسالة كانت مراحلها: قبرص، بمفيلية، بسيدية، ليكونية (ف 13- 14).
أمّا أسلوب الرسالة فهو هو منذ زمن يسوع (لو 16:4 ي) وبطرس (أع 2: 14 ي): يبدأ الرسول فيعظ في المجمع، فينقسم السامعون، وتأتي آية فتكمّل عمل الكرازة. وتتكوّن جماعة. إلاَّ أنّ العداوة تدفع المرسلين إلى الذهاب. ومثال الكرازة الرسوليّة ليس فقط ملخّصًا عن قانون الإيمان. إنّه يذكّر ويكمّل خطبة إسطفانس الدفاعيّة (ف 7). تشدّد اللوحة التاريخيّة على المُلك في إسرائيل، على النبؤات المسيحانيّة التي تحقّقت بقيامة يسوع. فإنْ رَفَضَ اليهودُ أن يؤمنوا حكموا على نفوسهم. وعليهم أن يقبلوا بتبشير الوثنيّين. هذا اليقين عبّر عنه لوقا بوضوح وسيعبّر عنه حتّى نهاية الكتاب (18: 6؛ 28: 17، 28). يَحُقّ للشعب اليهوديّ أن يكون الأوّل تجاه البشارة، ولكنّ البشارة لا تنحصر فيه. إنّ المسيحيّين يتصرّفون منذ الآن بالكتب المقدّسة بعد أن قبلوا الكلمة. ويتوصّل لوقا إلى إضفاء مسحة بولسيّة على خطبة أنطاكية بسيدية فيلمّح إلى التبرير بالإيمان (13: 38-39). ونقدر أن نستنتج أنّه حاول أن يضني على خطب بطرس سمة بطرسيّة وعلى خطبة إسطفانس شيئًا من روحه.
تسبق خطبة بولس معجزة يعاقب فيها بولس ساحرًا يهوديًّا في بافوس (قبرص: 13: 6- 12) وتتبعها معجزة شفاء في لسترة (ليكونية: 14: 8- 18). وننتقل من إيقونية إلى دربة دون أن ينقل إلينا لوقا شيئًا جديدًا (14: 1- 20- 21).
خُصِّصَتْ طريقُ الرواح للرسالة، أمّا طريقُ الرجوعِ فللبنيان (أقاموا مسؤولين من شيوخ أو قسوس: 23:14). وكانت النتيجة أنّ الله فتح باب الإيمان لغير اليهود (14: 27).

5- بولس المرسل (ف 15- 21)
أوّلاً: مجمع أورشليم
يشكل ف 15 قِمَّةً ومنعطفًا. هنا يُظْهِرُ لوقا أمانَتَهُ للحقيقة وحرّيّته في ترتيب الموادّ. نجد جوهر غل 2 في أع 15. ولكنّ لوقا يروي، ويريد أن تكون روايته شيّقة ودراماتيكيّة: صعد بولس إلى أورشليم (تقول غل 2: 2 إنّه صعد بوحي)، ولكنّ هذا يفترض أنّه نزل إلى أنطاكية أناس مقلقون (تقول غل 2: 4: "دخلاء دسُّوا أنفسهم بيننا")، فأثاروا جدالاً أوّل في هذه المدينة، وهذا ما دفع الرسل إلى الالتئام في مجمع أورشليم.
فسرّ لوقا التاريخ على طريقته، فحوَّل الى وفاق ما كان مواجهة بين ممارستين رسوليّتين ونظرتين إلى الهويّة المسيحيّة، ماكان مواجهة بين أورشليم وأنطاكية، بين بطرس وبولس. منذ البداية قاسم الرسل موقف بولس وحذّروا الفئة المتأخّرة في كنيسة أورشليم (15: 5). فلم يبق لبولس ان يدافع عن نظرته. فاكتفى بأن يرويَ مع برنابا المعجزات التي أتمّها الله على يدهما وسط الوثنيّين. وتستند خطبة بطرس إلى حادثة كورنيليوس التي أبرزها لوقا (ت 10)، وتثبت أقوالُ يعقوب، بواسطة الكتاب، اختيارَ الأمم. إنّ يعقوب يمثّل تاريخيًّا الجناح المتعلّق بالشريعة في المسيحيّة الأولى. ولكنّ لوقا ضمّه إلى نفسه وإلى نظرته الخاصّة. والبرهان على ذلك نصّ عاموس (9: 11 ي) الذي لا يفيد قضيّة الشمول والمسكونيّة إلاّ إذا قرأناه في الترجمة السبعينيّة.
لا يذكر بولس في رسائله أن نتائج مجمع أورشليم دوِّنت. أمّا لوقا فيتحدّث عن تدوين رسالة وإرسال وفد. واختار كمضمون لرسالته تنظيمًا كنسيًّا يتعلّق ببعض الممنوعات في أورشليم (21: 25). وإنّ بولس يجهل في رسائله كلّ شيء عن هذا القرار الرسوليّ، كما لا يعرف عنه شيئًا كلُّ الأدب المسيحيّ، حتّى جُعل سفر الأعمال في عداد الأسفار القانونيّة.
وف 15 هو منعطف هامّ. ترك بولس أنطاكية وانطلق إلى عمل الرسالة بعد أن انفتحت أمامه كلّ الأبواب. اهتمّ لوقا حتّى الآن بحلقة أورشليم الرسوليّة. ثمّ وجد في جماعة أنطاكية، التي أسّسها الهلّينيّون، نقطة انطلاق وقوى بشريّة من أجل أوّل بعثة رسميّة (ف 13-14). ولكنّه لن يتوقّف لا في أنطاكية ولا في أورشليم، بل سيرافق بولس الذي تمتّع بسند الجماعتين (أورشليم مركز المتهوّدين، أنطاكية عاصمة المسيحيّين الأمميّين) وانفصل عن برنابا وقام بعملين أخيرين: الأوّل، تبشير حوض بحر إيجيه (اليونان وآسية الصغرى)، الثاني، تحمّلُ الاضطهاد من أورشليم إلى رومة. وهكذا ترك لوقا بطرس ويعقوب وفيلبّس وبرنابا وسائر الاثني عشر والسبعة. أهمل مصير الجماعة لأنّ ما يهمّه هو الرسالة لبناء الكنائس.
يرتبط ت 15 بما سبق. وإن آ 3-4، 12 تتيح لبولس وبرنابا أن يتذكّرا نجاحها (ف 13-14) الذي تحدّثنا عنه في أنطاكية (14: 27). وآ 1-2، 5-7 آ تهيّئ الطريق أمام مشاورات المجمع (آ 7 ب-19). وفي نهاية النصّ، يبدو الوفد المؤلّف من يهوذا وسيلا (15: 30- 31) تطبيقًا لتدابير القرار الرسوليّ. وإن إجمالة ملخّص 15: 35 تستعيد اجمالة 28:14 وتسجّل استراحة.
ثمّ إنّ 36:15-16: 5 تسجّل انتقالاً: لا يعلن بولس عن مشاريع رسوليّة جديدة، بل هو يريد أن يزور الجماعات التي أسسّها في رحلته الأولى. ويأتي الخلاف مع برنابا بسبب يوحنّا مرقس، وانفصال الرسولين (اختار بولس سيلا ثمّ تيموثاوس). وتُذكر تدابير القرار مرة أخرى (16: 4) بانتظار أن نستريح مرّة أخرى في إجمالة 16: 5.
وتدخّل الروح القدس. منع بولس من الذهاب إلى آسية وبيتينية، ثمّ أظهر مشروعه من خلال رؤية ذلك المكدونيّ: "أُعبرْ إلى مكدونية وساعدنا" (16: 9). إنّ الشعوب المحرومة من الإنجيل تعيش وضعًا دراماتيكيًّا.

ثانيًا: رحلة رسوليّة في اليونان
يتوقّف لوقا في هذه الرحلة على ثلاث مراحل: فيلبيّ، أثينة وكورنتوس (في ما يخصّ تسالونيكي وبيرية: رج 17: 1- 15).
ثلاث نقاط تلفت انتباهنا في فيلبيّ: الأولى، ظهور صيغة المتكلّم الجمع (نحن) في خبر مدوّن إلى الآن في الغائب (رج 16: 10-17؛ 20: 5-15؛ 21: 1-18؛ 27: 1-16:28)0 الثانية، تداخل خبر تخليص عجائبيّ (25:16-34) في خبر تقسيم (16: 6-24، 35-40). الثالثة، معرفة الكاتب بمؤسسّات المدينة.
لم يرافق العبورَ في أثينة أيّةُ معجزة (17: 16-34). أمّا الخطبة المشهورة فتقدِّم إلى القارئ تعبيرًا عن الإنجيل موجَّهًا إلى مستمِعين وثنيّين. هيّأ لوقا الدرب لهذه الوعظة بنزهة بولس في شوارع أثينة. تستند الخطبة إلى رسمة كرازة يهوديّة ثمّ مسيحيّة موجّهة إلى الوثنيّين، وهي تدعو السامعين إلى أن يميلوا عن الأصنام وأن يوجّهوا قلوبهم نحو الله في لغة نقرأها في منظور بيبليّ كما في وجهة فلسفيّة. أراد لوقا قراءة تجعل الإنسان يتّصل بالله الحيّ وتدعوه إلى التوبة. ولكي يوجّه القارئ أقحم ذكر ابن الله. وانقسمت الجماعة. ولم يبق مع بولس إلاّ ديونيسيوس الأريوباجيّ وداماريس وسواهما. انضمّوا إلى بولس وشكّلوا "الصغار" (لو 10: 21) تجاه الحكماء والفهماء.
وستجعل مرحلة كورنتوس (18: 1-17) لوقا ينقل إلينا بعض المعلومات القريبة من الواقع: كرازة في المجمع، انقسام الناس، عداء ضدّ بولس. ولكنّه رأى في الليل رؤية تشجّعه: "لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت، فأنا معك ". وسيحصل بولس على رؤى أخرى في القسم الثاني من سفر الأعمال (9:16- 15، 22: 17- 21؛ 23: 11 ؛ 23:27-24) ذكرها لوقا ليدلّ على أنّ رسالة بولس توافق نحطّط المسيح.
استفاد بولس من عداء يهود كورنتوس فتوجّه إلى الوثنيّين (6:18)، وستفهم السلطة الرومانيّة أن ليس في الإيمان الجديد ما يؤذيها.

ثالثًا: أفسس: كلمة الله تصحّح الأخطاء
سيركّز لوقا انتباهه على أفسس آخر مرحلة رسوليّة من عمله. ولكنّه يقحم تحرّكًا إلى قيصريّة وأورشليم ثمّ أنطاكية، وسفر عبر غلاطية وفريجية، أي رواح في البحر ورجوع بطريق البرّ (18: 18-23). لم يكن للوقا معلومات فاكتفى بالقول: سلّم الرسول على كنيسة أورشليم.
لا تبدو أفسس من خلال سفر الأعمال مركز رسالة وبناء بل موضع تصحيح أخطاء. حصل أبلّوس من برسكلّة وأكيلا على تعليم كان ينقصه (24:18-28). اكتشفت تلاميذ يوحنّا المعمدان الروح القدس، ودخلوا بفضل بولس في حضن الكنيسة (19: 1-6). حلّ العقاب بالمُقسِّمين اليهود (19: 13-17)، وأحرقت كتب السحر (19: 19-20). هذا يعني أنّ أفسس تمثّل الموضع الذي فيه كلمة الربّ تصحّح وتؤدّب (19: 11-12)، 17- 20). وقدرة أرطميس وهيكلها وعبّادها، لا يقدرون أن يتغلّبوا على الكارزين بالإنجيل (مع هذا يشير لوقا إلى نشاط المرسلين بعبارات اصطلاحيّة لا ابتكار فيها: 8:19- 10). لا شكّ في أنّ الوضع السوسيولوجيّ للمسيحيّة لا يسمح لأحد بتدمير هيكل إلهة أفسس.
وأقحم لوقا في خبر الإقامة في أفسس آيتين (19: 21-22) تهيّئان المستقبل وتعدّان الطريق للقسم الأخير من سفر الأعمال. وتأتي اجمالتان (19: 10 و19: 20) فتدلاّن أنّنا في وضع استراحة وعلى مفترق طرق.

رابعًا: الصعود إلى أورشليم
ألهم بولسَ الروحُ فأراد الصعودَ إلى أورشليم (19: 21؛ 20: 16، 22). انطلق بولس من أفسس فاجتاز مكدونية واليونان. نلاحظ أنّ لوقا لم يقل كلمة عن الأزمات التي مزّقت جماعة كورنتوس، ولا عن سبب سفر بولس الذي هو تأخير اللمّة (سيشير إليها فيما بعد: 17:24)، ولا عن تدوين الرسالة إلى رومة خلال إقامته مدّة ثلاثة أشهر في اليونان (20: 3). ما يهمّ لوقا هو السفر وتأليف المجموعة التي ترافق الرسول. كان معظم هؤلاء الأشخاصِ موفدين من قبل جماعاتهم ليحملوا ثمرة اللمّة ويوصلوها إلى هدفها. ذكرهم لوقا ثمّ نسِيَهم.
ومرّت طريق بولس في ترواس وميليتس وصور وقيصريّة قبل أن تصل إلى أورشليم. كان لوقا راويًا ولاهوتيًّا فقدّم لنا بولسَ في وجهتين: في ترواس أعاد بولسُ الحياةَ إلى الفتى أفتيخوس (7:20-12). وهكذا دلّ لوتا على أنّ بولس يستطيع أن يجترح عجائب مذهلة مثل يسوع (لو 7: 11-17) ومثل بطرس (36:9-43)، ورمز بالإطار الذي أحاط بالحدث إلى تجديد الحياة في الكرازة والإفخارستيّا. وفي ميليتس يظهر بولس كبطل أنهى مهمّته فاستأذن من أحبّائه (20: 17-38). ومن خلال شيوخ أفسس المدعوّين إلى ميليتس، ودّعت كلُّ الرسالة البولسيّة بولسَ الرسول. كان لوقا أمينًا لفنٍّ أدبيٍّ هو خطبة الوداع (استعمله مع يسوع في لو 22: 25-37)، فقدّم في هذا المقطع ثلاثةَ مواضيع: الأوّل: نظرة دفاعيّة عن خصومة بولس (25: 18- 21، 26-27، 31، 33-35)، صورة عن وضع بولس الحاضر وعن نواياه (20: 22- 25)، تحريض للخدّام المحلّيّين أمام مستقبل يكدّره موت الرسول وهجمة الهراطقة (20: 25، 28-22، 35).
وصوّر لوقا بصورة دراماتيكيّة حزن الكنائس التي ستنفصل عن حضور الرسول حاميها. وبكى المؤمنون في ميليتس وصور وقيصريّة، وحاولوا أن يمنعوا الرسول من الخضوع لقاعدة سامية، لإرادة الربّ. وهكذا حوّل لوقا موضوع اللمّة إلى مسيرة نحو الاستشهاد كما أنبأ الروح إلى الرسول (23:20) وإلى الجماعة بواسطة النبيّ أغابوس (21: 11).
ظلت النظرة رسوليّة ولم تصبح حقًّا كنسيّة: فلوقا لا يهتمّ ببناء الجماعات بقدر ما يهتمّ بمصير البشر. لقد مات بولس الرسول وُولد بولس الشهيد الذي بدأ درب صليبه.

6- بولس يلقى الاضطهاد. مستقبل التعليم (ف 21-28)
لا يحدّثنا لوقا في هذه المرحلة الأخيرة إلاّ عن وجهة واحدة هي الاتّهام للشاهد للمسيح والدفاع عن نفسه. ولكنّه لا يقول شيئًا عن تنفيذ الحكم. إذا كانت الرسالة تنتهي في الاضطهاد، فلوقا يجعل مستقبل التعليم يمرّ قبل المعلّم. فرغم ضغط الخبر الذي يدفع الأشخاص إلى الواجهة، فاللاهوتيّ لوقا يجعل التعليم في قلب الفصول الأخيرة. أُوقف بولس في أورشليم واتّهم أنّه تعدّى على الشريعة. ولكنّه سيدافع عن موقفه وعن المسيحيّة أمام جهات عديدة، أمام واليَين وملك وملكة.

أوّلاً: إنّ إرادة الله تمرّ عبر مقاصد البشر
لا يصوّر لنا لوقا توقيف بولس مثل الإمساك بمجرم، بل بشكل حماية تقدمها الشرطة الرومانيّة لبائس هجمت عليه الجموع الهائجة (21: 7- 36). ويبيّن لنا منذ البداية ضعف إتّهامات اليهود لبولس وتعريضهم له (22: 1- 21). انطلق من مسيرة حياته فردّ اتّهامهم له بأنّه خائن للشريعة: كان يهوديًّا مضطهِدًا فاتّبع "الطريق" التي دلّته عليها رؤية من السماء. وذكّرنا لوقا من جديد بحادثة طريق دمشق وإقامة بولس الأولى في أورشليم. وقدّم لنا تفاصيلَ جديدةً تُجَنّ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM