الفصل الثاني :التاريخ والرمز في إنجيل يوحنّا

الفصل الثاني
التاريخ والرمز في إنجيل يوحنّا

نتوقّف في هذا البحث عند التاريخ والرمز في إنجيل يوحنّا. وننهي حديثَنا عن الإنجيل الرابع بالتعرّف إلى شخصيّة يوحنّا الرسول، ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبّه.

أ- التاريخ والرمز
أكّدت خاتمتا الإنجيل الرابع (20: 30ي؛ 21: 24ي) إرادة الإنجيليّ في سرد الوقائع التاريخيّة التي توقظ الإيمان وتغذّيه. أمّا التقليد المسيحيّ القديم فم يشكّ في القيمة التاريخيّة للإنجيل. ولكنّ ترتيب حياة يسوع أثار مجادلات منذ اكتشاف قانون موراتوري في القرن الثامن عشر. ثمّ إنّ خصوم المسيحيّة، أمثال سلسيوس وبورفيروس، أبرزوا الخلافات بين الأناجيل الأربعة ليدمّروا شهادتها. فاهتمّ آباء الكنيسة، ولا سيّما أوريجانس وأغوسطينس، بالبرهنة أنّ النصوص تتكامل وتتناسق. أمّا على مستوى اللاهوت، ففرض العرض اليوحنّاويّ (وجود المسيح السابق) نفسه بحيث أهمل الشرّاح السمات البشريّة التي يتحلّى بها يسوع في إنجيل يوحنّا أكثر منه في إنجيل مرقس.
أمّا النقد الحديث فزعزع الثقة بشهادة التلميذ الحبيب. تحدّثنا مثلاً عن محاولة بولتمان (ومدرسة تاريخ الديانات) ليحدّد تبعية الإنجيل الرابع لتيّارات زمنه الدينيّة. وجعل النقّاد الأدبيّون تأليف الإنجيل الرابع يتمّ في القرن الثاني ويرتبط بالإزائيّين. ولنعط مثالاً عن أقوالهم: "ليست اهتمامات الإنجيليّ وإلهامه من نوع التاريخ أو السيرة. هدفه دفاعيّ وتعليميّ ولاهوتيّ. استعمل يوحنّا التقليد الإزائيّ بحرّية وكيّفه حسب الظروف. فجاءت الاختلافات بين الإنجيل الرابع وسائر الأناجيل نتيجة هذه التكيّفات. إنّ خطب يوحنّا تعبّر عن فكر الإنجيليّ (لا عن فكر المسيح). إذن، ليس الإنجيل الرابع يَنبوعًا نستطيع أن نغرف منه لنكتب سيرة يسوع. يجب أن نستعمله مع الإزائيّين مفضّلين الإزائيّين عليه". لن نتوقّف عند هذا الكلام وما يمكن أن يكون فيه من مغالطات.
في الحالة الحاضرة للدراسات اليوحنّاويّة المطبوعة بتجديد الأساليب وتنوّع الوجهات، لا نجد اتّفاقًا في خطّ أو في آخر. ولكنّنا سندرس مسألةَ تاريخيّةِ الإنجيل الرابع بعد أن درسنا في فصل سابق تاريخيّة الأناجيل الإزائيّة. نقدّم بعض المحطّات المنهجيّة، قبل أن نبيّن تجذّر الإنجيل الرابع في تقليد تاريخيّ متين، ونبيّن تنوّع الرموز التي يتضمّن.
الاعتبار الأوّل: إنّ القيمة التاريخيّة للإنجيل الرابع مستقلّة عن الجواب المعطى للسؤال عن كاتبه. هذا معطى عامّ يتعلق بدراسة الأناجيل. فالنظرة الدفاعيّة القديمة المؤسّسة على أنّ الإنجيليّين هم شهود عِيان صادقون قد أعيد النظر فيها على ضوء أعمال المدرسة التكوينيّة: ليس الإنجيليّون كتَّابًا فرديّين يسطّرون مؤلّفاتهم بمعزل عن جماعة تحمل التقليد. كائنًا من كان مؤلّف الإنجيل الرابع، فقد يكون بين يديه وثائق مكتوبة أو تقاليد شفهيّة قيّمة.
الاعتبار الثاني: لا نفهم الواقع التاريخيّ بمعنى العلم الوضعيّ الذي عرفته نهاية القرن التاسع عشر. فطبيعة العلم التاريخيّ تفرض علينا أن نقرّ بأنّه ليس من استعادة للماضي من دون تفسير، وأنّه ليس من مؤرّخ يعمل دون إيديولوجيّة سابقة، وأنّه ليس من نقد للمراجع دون نظرة مسبقة ترتبط بفلسفة عامّة وموقف دينيّ شخصيّ. إذن، لن نقيّم يوحنّا بالنظر إلى موضوعيّة تاريخيّة قادتنا في الماضي إلى مشاريعَ فاشلةٍ حاولت أن تكتب "سيرة يسوع".
الاعتبار الثالث: تركّزت كتب سيرة يسوع على المبدأ التالي: حين ننطلق من مرقس، أقدم الأناجيل وأقلّها لاهوتًا، نستطيع أن نستخلص السمات الأساسيّة لنرسم صورة يسوع. أمّا الشرح المعاصر فأبرز قيمة مرقس الكرازيّة واللاهوتيّة، كما اكتشف قيمة متّى ولوقا. من هذا القبيل، لم يعد يوحنّا معزولاً، وإن توسّع في لاهوت اختلف عن لاهوت سابقيه. إذن، لن نستطيعَ أن نعارضَ الإنجيل الرابع بإنجيل مرقس فنقولَ إنّ يوحنّا هو تأمّل لاهوتيّ، ومرقس هو شهادة غير متقنة عن البداية.
الاعتبار الرابع: هل تكون الرمزيّة الموجودة في الإنجيل الرابع حاجزًا لتجذره في التاريخ؟ سؤال صعب، ولكنّه مهمّ من أجل فهم الإنجيل الرابع بعد أن عارض البحّاثة بين التاريخ والرمز معتبرين أنّهما بُعدان لا يتوافقان. ولكنّ العلوم الإنسانيّة (ومنها التفكير الفلسفيّ) تكشف عن ضرورة الرمز وقيمته: إنّه ترجمة ملموسة لمعطيات وجوديّة يتمّ فيها مصير البشر. ثمّ إنّه لا وجود لواقع إن لم يفسّر، والرمز شرط ضروريّ لتقييم أبعاد واقع في مسيرة التاريخ. فقد يهدف التقديم الرمزيّ إلى اكتشاف كلّ هذه الخلفيّة في حياة القارئ الشخصيّة أو في تاريخ الجماعة.
الاعتبار الخامس: اهتمّ العم الحديث بالجماعة اليوحنّاويّة، وبحث العلماء في النصوص انعكاس اهتماماتها وصراعاتها. هذا البحث هو شرعيّ. ولكن يجب أن لا ينسيَنا أنّ الإنجيل الرابع هو قبل كلّ شيء شهادة عن حياة وتعليم شخصٍ تاريخيّ هو يسوع الناصريّ. فإذا أردنا أن نتعرّف إلى تاريخ الجماعة ننطلق من النصوص.

1- تقاليد يوحنّا التاريخيّة
إذا وضعنا المطلع جانبًا، فالإنجيل الرابع يتميّز جذريًا عن الأناجيل الغنوصيّة التي كانت كثيرة في القرن الثاني (إنجيل توما، إنجيل فيلبّس، إنجيل الحقيقة...). فيوحنّا لا يعرض تعليم يسوع في إطار لا زمنيّ بل خلال حياة مدرّجة في محيط يهوديّ ومطبوعة بصراعات متزايدة مع الخصوم حتّى الالام. حتّى خطبة الوداع التي قيلت أمام التلاميذ وحدهم، ليست تعليمًا سرّيًّا وباطنيًّا محفوظاً لبعض المتدرّجين. نحن أمام تعليم يتوجّه إلى الجميع. فهدف الإنجيل الرابع يختلف عن هدف الغنوصيّين الذين لا يهمّهم إلاَّ مسيرة النفس إلى الله.

أوّلاً: إطار حياة يسوع
يجعل الإزائيّون نشاطَ يسوعَ يبتدئ بعد توقيف يوحنّا المعمدان (مر 1: 14). أمّا الإنجيل الرابع فيختلف عنهم ويشهد لوجود مرحلة معمدانيّة في رسالة يسوع (3: 22- 26؛ 4: 1-2). حدّثنا مرقس عن نداء فجائيّ للتلاميذ الأوّلين (مر 1: 16- 20)، أمّا الإنجيل الرابع فقدّم لنا رسلاً عديدين كانوا تلاميذ يوحنّا القدامى وجعلنا نتعرّف إلى مسيرتهم الإيمانيّة (1: 35؛ 2: 11؛ 6: 67- 71).
يتميّز الإنجيل الرابع بعّدة زيارات ليسوع إلى أورشليم، وبصمته على الرسالة في الجليل (4: 43- 54؛ 6: 1ي). ومع هذه الفجوات الواضحة، فإنّ تسلسل الأحداث يلفت انتباه المؤرّخين ويجعلهم يوزّعون أحداث حياة يسوع العامّة على سنتين ونصف السنة. بينما لا يعرف مرقس إلاّ سنة واحدة من النشاط الإنجيليّ.
وتبقى مسائل معلّقة: مَتَى طُرد الباعة من الهيكل؟ بعد أوّل فصح كما يقول يوحنّا (2: 13- 22). بعد آخر فصح، كما يقول الإزائيّون. ونتوقّف عند زمن الآلام وفيه يختلف يوحنّا عن الإزائيّين. يقول هؤلاء إنّ يسوع احتفل بالعشاء الفصحيّ مع تلاميذه وأعلن فيه حكم الإعدام يوم الفصح. فرجوع سمعان القيريني من الحقل (مر 16: 21) وكلّ البلبلة حول محاكمة يسوع لا معنى لهما إذا كان يسوع قد أوقف يوم العيد. أمّا يوحنّا فيحدّد أنّ يسوع امسك ليلة العيد (18: 28)، في يوم التهيئة.

ثانيًا: التحديدات الطوبوغرافيّة (رسم الأماكن) في الأنجيل الرابع
وإذا أردنا أن نتعرّف إلى التجذّر التاريخيّ للإنجيل الرابع، نتوقّف عند أسماء الأماكن. فيوحنّا يتحدّث عن أمكنة عديدة: يعرف بيت عنيا في عبر الأردنّ (1: 28) وقانا الجليل (2: 1، 11؛ 4: 46) وينابيع عين نون (3: 23) وسوخار في السامرة (4: 4) مع بئر يعقوب (4: 11) وضيعة أفرام حيث يختبئ يسوع (11: 54). وهو يعرف طوبوغرافيّة أورشليم: بركة سلوام (9: 7) وبركة بيت زاتا (أو بيت حسدا) ذات الخمسة أروقة التي اكتشفها علماء الآثار (5: 1- 2). يذكر وادي قدرون (18: 1) والمكان المسمّى في اليونانيّة ليتوس ستروتوس (أو تبليط الحجر) وفي العبرانيّة جباتا (أو المكان العالي، 19: 13). ويسمّي الجلجلة موضع الجمجمة وفي العبريّة (أي الآراميّة) جلجثّة (19: 17). يشير إلى باب سليمان في الهيكل (10: 23؛ رج أع 1: 12) والمكان المسمّى الخزانة (8: 20؛ رج لو 20: 21).
لاشكّ في أنّ تحديد الموضع لا يكفي ليكفل قيمة الخبر التاريخيّة. ولكنّه إشارة تساعدنا مع غيرها من إشارات. أمّا يوحنّا فلا يقدّم التفاصيل بصورة مجّانيّة. إنّه يدمجها في سلسلة من المفاهيم يكشفها الشارح ويستخلص بُعد المشهد اللاهوتيّ. ستَظْهَرُ لنا طريقةُ يوحنّا عندما ندرس تقديمه لمعجزات يسوع.

ثالثًا: تفاصيل مثيرة
ونعطي بعض الأمثلة التي تلقي ضوءًا على البعد التاريخيّ في الإنجيل الرابع. حسب مرقس، أطلق يسوعُ التلاميذَ بعد تكثير الخبز الأوّل (مر 6: 54): لا يشرح مرقس السبب. أمّا في نصّ يوحنّا فنلاحظ أنّ يسوع أراد أن يجنّب تلاميذه مشاركة الشعب في حماسهم (6: 14 ي). حسب قول نقله لوقا (13: 34؛ رج مت 37:23)، أراد يسوع مرارًا أن يجمع أبناء أورشليم، ولكنّه اصطدم برفض سامعيه. يأخذ هذا الإعلان كامل معناه إذا حسبنا حساب الصعودات المتكرّرة إلى أورشليم في الإنجيل الرابع. وهو وحده يجعلنا نرى تزايد عداوة السلطات اليهوديّة ضدّ يسوع. وهكذا تظهر دعوى يوم الجمعة العظيمة خاتمة دراما طويلة. وهناك تفصيل يسترعي الانتباه بصورة خاصّة: بعد قيامة لعازر، تحاشى يسوع أن يروح ويجيءَ بطريقة ظاهرة بين اليهود، فاعتزل في منطقة قريبة من البرّية، في مدينة اسمها أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه (11: 54). في هذا الظرف بدا يسوع كإنسان فرّ وأُجبر على أن يختبئ. ولكنّ هذه الملاحظة تتعارض وميول الإنجيل الرابع الذي يشدّد على مبادرة يسوع في تحرّكاته. وفي الوقت ذاته نفهم موقفه أمام الموت: هو ثابت ولكنّه لا يتحدّى السلطات. ونتوقّف أيضاً عند المثول أمام حنّان (18: 13 ي). هذا المثول يقابل اجتماع المجلس الأوّل المذكور في متّى ومرقس، أمّا الاجتماع الرسميّ فتمّ في الصباح. ويتّخذ مثول يسوع أمام بيلاطس أهمّيّة كبيرة. فإذا أردنا أن نترك جانبًا تفاصيل الاستجواب، لن نستطيع أن ننكر أنّ نصّ يوحنّا يساعدنا على أن نفهم كيف توصّل الوالي ليحكمَ على "يسوع الناصريّ" ويعتبرَه "ملك اليهود" (19: 19). لقد خاف أن يَشِيَهُ اليهود لدى طيباريوس قيصر (19: 12). حين نعرف أنّ الإمبراطور كان ظنونًا وحذرًا، نفهم أساس مخافة بيلاطس. إذًا، يندرج تقديم يوحنّا للأحداث في إطار تثبته سائر الوثائق التاريخيّة المتعلّقة بشخص بيلاطس وولايته.

رابعًا: الخطب اليوحنّاويّة والأقوال الإزائيّة
تدلّ خطبة يوحنّا (3: 1- 21؛ 19:5- 47؛ 10: 1 ي؛ 13: 31- 17: 26) على تأمّل الإنجيليّ. فهناك آيات عديدة يمكن أن تندرج في الرسائل دون أن ننتبه لها. فليس من مؤوّل للكتاب المقدّس يقول إنّنا أمام كلمات يسوع كما تلفّظ بها حرفيًّا. والتشديد على كشف يسوع عن نفسه يتعارض وتحفّظ يسوع في الإزائيّين، كما بيّنّا.
هل نحن أمام نصّ خلقه الإنجيليّ؟ لا بدّ من التوقّف عند النصوص. فهناك أقوال نجدها في يوحنّا وفي الأناجيل الإزائيّة. منها: الأمر الذي أعطاه لفيلبّس: "اتبعني" (1: 43؛ رج أخبار الدعوة في الأناجيل الإزائيّة). والكلمة الني قالها عن الهيكل الذي يعاد بناؤه في ثلاثة أيّام (2: 19؛ رج مر 14: 58. يعود شهود الزور إلى هذه الكلمة). الإعلان عن الجسد الذي يُسلَّم (6: 51؛ رج 1 كور 11: 24)، التعارض بين الحبّ والبغض (12: 25؛ رج مت 10: 39) العلاقة بين السيّد والعبد (13: 16؛ رج مت 10: 24)، الكلمة عن استقبال تلاميذ يسوع (13: 20؛ رج مت 10: 40)0 الحوار مع التلاميذ في 4: 34- 38 يتوازى مع خطبة إرسال التلاميذ (مت 10). والجدالات عن السبت (7: 23ي؛ 9: 14ي) تقابل جدالات مماثلة في الإزائيّين. والوعد بالبارقليط امتداد لما قاله الربّ لتلاميذه بمناسبة الاضطهاد (ق يو 16: 13ي ومت 10: 20؛ مر 13: 11). ونقابل سلطة الحلّ من الخطايا في يو 20: 23 بما نقرأ في مت 19:16؛ 18:18.
إذا كان يوحنّا لم يحتفظ لنا بأمثال يسوع بالمعنى الحصريّ، فهو يستعمل تشابيهَ قريبةً من الأمثال. مثلاً: فرح صديق العريس (3: 29)، تعلّم الابن في مشغل أبيه (5: 19- 20)، المسافر الذي يدهمه الظلام (11: 9 ي)، حبّة الحنطة في الأرض (12: 24)، المرأة التي تلد (16: 21). وما يميّز يوحنّا هو البعد الكرستولوجيّ لهذه الأمثال الصغيرة. كان مثل الزارع يدلّ على كرازة الملكوت عند الإزائيّين، فصارت الحبّةُ في يوحنّا يسوعَ نفسه الذي يرضى بالموت ليحمل ثمرًا كثيرًا.
في لو 15: 1- 7 صوَّر مثلُ الراعي الذي يطلب خروفه الضالّ سلوكَ الله تجاه الخاطئين، وبرّر بالتالي موقف المسيح. أمّا في يوحنّا فيسوع هو الراعي الصالح (10: 1- 18).
إذا قرأنا الخطب بتمعّن اكتشفنا طريقة الإنجيليّ في التأمّل انطلاقًا من إحدى معطيات التقليد. فالكلمة عن الولادة من فوقَ تُقابَل مع النصوص الإزائيّة عن الأطفال: إنّها أحد النصوص النادرة التي تتكلّم عن ملكوت الله في الإنجيل الرابع (ق يو 3: 3، 5 مع مر 10: 15). إنّ كلمة يسوع هذه هي نقطة انطلاق لوحي عن ابن الإنسان الذي يكشف سرّ ملكوت السماوات. وإنّ هذا الأسلوب الجليانيّ يرتبط بالتقليد القديم.
في ف 5 يوصلنا مثل الابن "المتمرِّن" إلى توسّع عن الأعمال التي يوكلها الآب إلى الابن. وإعلان الدينونة المتواترة عند الإزائيّين، يتمّ الآن في حاضر الكلمة. وهنا أيضاً نجد نصوصاً موازية في الإزائيّين: تدلّ أمثال الملكوت على أنّ ملكوت الله يعمل حين يزرع الزارع الكلمة.
بعد الكلمة عن الجسد المسلّم (6: 51) نلاحظ توسّعًا عن نتائج الإفخارستيّا الموحّدة، وهذا ما يقابل توسّعات بولس بعد خبر تأسيس الإفخارستيّا (1 كور 27:11ي). كما يمكننا أن نجد في ف 17 توسّعًا في طلبات الصلاة الربّيّة (ق يو 6:17 مع مت 9:6؛ يو 4:17- 5 مع مت 10:6؛ يو 2:12 مع مت 13:6 أ؛ يو 17: 15 مع مت 6: 13 ب). ويمكننا أن نتابع هذه الأبحاث لنكتشف العلاقة بين خطب الإنجيل الرابع والتقليد القديم عن يسوع.

خامسًا: الشهادة التي تفسّر
إذا أردنا أن نقدّر تاريخيّة الإنجيل الرابع وجب علينا أن نتعرّف إلى هدف الإنجيليّ: أن يقدّم شهادته في الدعوى الكبرى التي تضع العالم أمام المسيح، وهكذا يمرّ أمامنا كلّ الشهود من أجل المتَّهم: يوحنّا المعمدان، الكتب المقدّسة، أعمال يسوع، الآب (5: 31- 47). وشهادة يسوع نفسها قيّمة، لأنّه يعرف من أين جاء وإلى أين يذهب (8: 14). إنّه الحقيقة (14: 6).
في هذا الإطار لا تكون الشهادة فقط بأن نورد واقعًا لاحظناه، بل أن نلتزم شخصيًّا في خدمة الحقيقة. ويجب أن نتذكّر أنّ العالم القديم لم يعرف الحقّ العامّ المسؤول عن اتّهام المجرمين. كان الشهود أو الأهل يتدخّلون ليحكوا للمظلوم. وإذ جمع يوحنّا الذكريات عن يسوع، اهتمّ بأن يبيّن معناها العميق ويدلّ على علاقتها مع حياة التلاميذ الحاضرة.

سادسًا: زمنان للتاريخ
عبّر يوحنّا بوضوح عن المسافة بين زمن الحدث وزمن التفسير الإيمانيّ، وذلك ثلاث مرّات ليفهمنا كيف نقرأ النصوص. مثلاً: حين طرد يسوع الباعة من الهيكل تلفّظ بكلمات سرّية: "اهدموا (بمعنى إذا هدمتم) هذا الهيكل وأنا أُقيمه في ثلاثة أيّام" (2: 19). في الحال لم يفهم أحدٌ التلميح إلى الموت والقيامة ولا التنبّؤ عن الهيكل الجديد الذي فيه يعبد المؤمنون الآب بالروح والحقّ (4: 23). فاهتمّ يوحنّا بأن يقول لنا إن التلاميذ لم يتذكّروا هذا ولم يفهموه إلاّ بعد القيامة. حينئذ آمنوا بالكتاب وبالكلمة التي قالها (2: 22). فالإيمان يتيح لنا بأن نربط الحدث، كلمة يسوع وتمامها، بزمن الحياة الكنسيّة (ق مع 2: 17). فالشهادة تنطلق من التقليد التاريخيّ وتبرز هذه السلسلة من المفاهيم. ونلاحظ الشيء ذاته بمناسبة دخول يسوع إلى أورشليم: "في الوقت الأوّل لم يفهم التلاميذ ما حصل. ولكن حين مُجِّد يسوع تذكّروا أنّ هذا كُتب عنه وأنّ هذا كان ما صنعوه له" (12: 16). هنا تشير شهادة الإنجيليّ إلى العلاقة بين حدث، بين كلمة الكتاب (زك 9: 9)، والتمجيد الفصحيّ. وفي مكان آخر نفهم كيف يتحقّق وعد المياه الحيّة (7: 38) بعطيّة الروح للمؤمنين.
أمّا العامل الذي يجعلنا نتذكّر، والقائد الذي يساعدنا على هذا التعمّق اللاهوتيّ، هو البارقليط كما قلنا آنفًا. إنّه يتيح لنا، كروح حقّ، أن نعود من زمن الآنيّة الكنسيّة إلى زمن المسيح. بما أنّه مساعد قضائيّ للذين سيشهدون بدورهم (15: 27)، فهو يشهد ليسوع فيجعلنا نتذكّر، ويوصل هذا التذكّر إلى الحقيقة كلّها (16: 13). إذن، ليس هناك زمن الروح الذي يحلّ محلّ زمن يسوع. فزمن الروح هو زمن ملء اكتشاف غنى الوحي الذي يتضمّنه جسد الابن. قدّم الغنوصيّون تفسيرًا يفسّر شخص المسيح من واقع بشريّته فجاء عكس القضيّة الأساسيّة التي يدافع عنها يوحنّا. وأفرغ بولتمان الإنجيل الرابع من بُعده لتاريخ الخلاص، فمنع يسوع من الدخول في تاريخ شعب بل في تاريخ البشر. فخلفيّة العهد القديم ليست إطارًا للدراما الإنجيليّة، بل هي تعطيها كلّ كثافة واقعها التاريخيّ. وهكذا يبدو يسوع كمركز التاريخ كلّه منذ إنارة البشر بالكلمة قبل التجسّد (1: 4) حتّى اليوم الأخير، يوم القيامة العامّة (5: 28ي).

2- آيات ورموز
أعلن لنا الإنجيليّ في خاتمته الأولى أنّه اختار بعض الآيات التي اجترحها يسوع ليبرّر لدى قرّائه إيمانهم بمسيح إسرائيل وبابن الله. وكلمة آية خاصّة بيوحنّا، وهي تنطبق على بعض أعمال عجيبة أتّمها المسيح، وتشير في الوقت عينه إلى مدلول تعليميّ.
هناك نصوص مطبوعة باستعمال كلمة آية، ولكنّ كلّ الشرّاح يقرّون بأنّ الإنجيل الروحانيّ له بُعد أعمق من بُعد الخبر البسيط. لهذا يتحدّثون عن بعد رمزيّ للنصّ شبيه بما عند فيلون الإسكندرانيّ وسائر النصوص اليهوديّة. ويترجمون 20: 30: "وصنع يسوع أمام أعين التلاميذ أعمالاً رمزيّة".
إذا أردنا أن نفهم كلمة آية عند يوحنّا، نعود إلى أسفار موسى الخمسة حيث نجد آيات ومعجزات اجترحها الله في زمن الخروج. مثل هذه الآيات تكشف عن مجد إله الآباء. وهكذا، فأناس جيل البرّيّة هم "الذين رأوا مجدي والآياتِ التي صنعتُ في مصر وفي البرّيّة" (عد 14: 22). فالعلاقة دائمة بين المجد والآية. وخبر المَنّ هو أفضل مثال يعبّر عن هذه الحقيقة: "في الصباح ترون مجد الربّ". (خر 16: 7). لم يُتمَّ أيُّ نبيٍّ آياتٍ ومعجزاتٍ كما فعل موسى، "هو الذي عرفه الربّ وجهًا لوجه، هو الذي أرسله الربّ ليتمّ كلّ هذه الآياتِ والمعجزاتِ" (تث 34: 10ي). إذن، اهتمّ يوحنّا بالآيات ليدلّ على أنّ يسوع يتجاوز بوحيه وعجائبه كلّ ما عمله موسى في الماضي.

أوّلاً: من الرمزيّة الكونيّة إلى الرمزيّة التاريخيّة
من السهل أن نعاين بعض الرموز الأساسيّة في كلّ خبرة بشريّة: النور والظلمة، النسمة والحياة، العطش والماء، الخبز والحياة... وهذه الخلفيّة تجعل تعليم يوحنّا سهل المنال لكلّ قارئ. ولكنّنا لن نكتفيَ بمعطيات الرمزيّة البشريّة لنفهم يوحنّا. هناك مواصفة للرمز ترتكز على الخلفيّة الكتابيّة. وإليك بعض الأمثلة:
المقابلة بين النور والظلمة، بين النهار والليل، تدخل في بنية الخبرة البشريّة. فالنور يشير إلى زمن النشاط والأمان، أمّا الظلمة فتثير القلق. نقرأ في الإنجيل الرابع: "أما النهار اثنتا عشرة ساعة؟ فمَن سار في النهار لا يعثر، لأنّه يرى نور هذا العالم. ومن سار في الليل يعثر، لأنّ لا نور فيه" (11: 9- 10). في كلّ التقاليد الدينيّة، يرتبط النور بالخير والظلمة بالشرّ. وهذا التعارض الدراماتيكيّ بين النور والظلمة ظاهر في الديانات الفارسيّة، وهو يشكّل خلفيّة مقالة قمران عن الروحَيْن، روحِ النور وروح الظلمة. ونجد هذه الرمزيّة في يوحنّا: "فمن يعملِ الشرَّ يكرهِ النورَ، فلا يخرج إلى النور لئلاّ تنفضحَ أعمالهُ. ومن يعملِ الحقَّ يأتِ إلى النور" (3: 20- 21). فالابتكار في الرمزيّة اليوحنّاويّة هو أنّ المسيح صار النور شخصيًّا. في الماضي كان عمود الغمام (المظلم في النهار والمضيء في الليل) يقود بني إسرائيل في البرّيّة (خر 13: 21ي). أمّا الآن فالمسيح يقود مؤمنيه: "أنا هو نور العالم. من يتبعْني لا يمشِ في الظلام، بل يكون له النور الذي يقود إلى الحياة" (8: 12). لقد اغتنت رمزيّة النور الأساسيّة بخبرة تاريخيّة، وأتاحت لنا أن نفهم أنّ المسيح هو وحده الذي يقود إلى الحقيقة والحياة (14: 6).
وتحتلّ المياه مكانة هامّة في الإنجيل الرابع. تظهر أوّلاً كشيء يضع حدًّا للعطش ويؤمّن حياة الإنسان. على هذا المستوى الحياتيّ فهمت السامريّة أوّلاً نداء المسيح (4: 13ي). ومِثْل كلّ الرموز الكونيّة، تستطيع المياه أن تكون خيّرة ومدمّرة. حين يشير المسيح إلى المعموديّة التي يجب أن يعتمد بها (مر 10: 39) يعود إلى خطر المياه الغامرة، مياه الموت التي تتحدّث عنها المزامير. أمّا يوحنّا فيحتفظ فقط بالوجهة الخيّرة. فالمياه تبدو دومًا كعطيّة من الله. والمعارضة بين الماء والخمر في قانا تدلّ على تعاقب عهدين: إنّ خمر العهد الجديد وعلامة الفرح المسيحانيّ يقابلان مياه تطهير اليهود. وفي مكان آخر تعني المياه الوحي الذي يشبع جوع الإنسان الدينيّ: "ظمئت نفسي إلى الله الحيّ" (مز 42: 3). وإذ حاول يسوع أن يوقظ الرغبة الروحيّة عند السامريّة، وعدها بماء يفيض بالحياة الأبديّة (4: 14).
ويتوضَّح هذا الرمز العامّ إذا قابلناه بموضوع بئر مريم في العالم اليهوديّ. فالتقاليد اليهوديّة توسّعت بأخبار الصخرة التي أخرج منها موسى المياه الغزيرة، فتحدّثت عن بئر ترافق الشعب في تجواله. واستلهم بولس هذا التفسير حين كتب: "كانوا يشربون من صخرة روحيّة تتبعهم: وهذا الصخر هو المسيح" (1 كور 10: 4). أمّا يوحنّا فرأى في المسيح النبع الذي منه تجري أنهار المياه الحيّة للمؤمن (7: 37ي). وبصورة أخصّ، قابلوا مياه البئر بتعليم موسى أو بتوجيهات الحكمة. والمعارضة بين بئر يعقوب واليَنبوع الذي وعد به يسوع تفترض تعارضاً بين تقاليد الآباء التي نقلها موسى، والوحي الذي حمله يسوع المسيح. إنّه وحده يقدر أن يعطيَ الماء الذي يحيي إلى الأبد: "من يشربْ من الماء الذي أنا أعطيه لن يعطشَ أبدًا" (4: 14). وسيقول فيما بعد إنّ هذا الماء هو علامة الروح الذي سيعطيه المسيح الممجّد (7: 38). فالروح هو ما يتيح للكلمة أن تدخل إلى باطننا وتحيِيَنا (36:6)..
ونقول الشيء عينه عن الروح (أو النسمة). ففي الحديث مع نيقوديمُس رجع يسوع إلى حرّيّة الروح ليتحدّث عن الولادة الجديدة. "فالريح تهبّ حيث تشاء فتسمع صوتها ولا تعرف من أين تجيء ولا إلى أين تذهب. هكذا كلّ من يولد من الروح" (3: 8). نشير هنا إلى حرّيّة الريح كما يقول جا 1: 6: "تذهب الريح إلى الجنوب وتدور إلى الشمال. تدور الريح وتدور وتذهب ثمّ تعود الروح إلى مدارها". ولكنّ الكلمة اليونانيّة التي تترجم الريح هي التي تترجم الروح (بنفما). فالاختبار الكتابيّ للروح الإلهيّ الذي ينزل على القاضي (مثل جدعون او شمشون) أو على النبيّ قد تجاوز اختبار الريح الكونيّ. إنّه أيضاً الروح الإلهيّ الذي يدعوه النبيّ من أربعة أقطار الكون ليعيد الحياة إلى عظام إسرائيل الجافّة (حز 37: 14). هذا هو روح الله الذي يقدر أن يجعل الجسد خليقة جديدة (3: 6). ثمّ إنّنا لا نستطيع أن نعزل إعلان الروح الإلهيّ هذا عن مواعيد الروح بلسان يسوع ولا بنفخ الروح على الرسل (20: 22). نحن بعيدون عن الروح الكونيّة التي كانت في البدايات. نحن أمام روح المسيح الذي، حين يرتفع عن الأرض (3: 14)، يعطي الروح الحيّ للذين يؤمنون به. نحن هنا أمام ثلاثة مستويات: مستوى كونيّ، مستوى كتابيّ، مستوى كرستولوجيّ.

ثانيًا: رمزيّة الأزمنة والأمكنة
رأينا كيف أنّ الإنجيل الرابع ينتظم حول الساعة: فكتاب الآيات يتوزّع حول إعلان أنّ الساعة لم تأت بعد (2: 4؛ 7: 30؛ 8: 20). وكتاب الساعة يبدأ بإعلانٍ احتفاليّ أنّ ساعة يسوع جاءت ليَعْبُرَ من هذا العالم إلى أبيه (13: 1؛ رج 16: 32؛ 17: 1). وبجانب هذه الرمزيّة الكبرى التي تدلّ على ارتباط المسيح الكامل بالنسبة إلى إرادة الآب (14: 31) نستطيع أن نجمع إشارات عديدة عن المعنى الذي يعطيه الإنجيليّ إلى العلامات الزمنيّة في كتابه. حين خرج يهوذا من العلّية كان الوقت ليلاً (13: 30)، بل كان يهوذا نفسه ليلاً، كما قال القدّيس أغوسطينس.
قد لا يكون مدلول خاصّ للساعة العاشرة (الرابعة بعد الظهر) التي فيها طلب التلاميذ يسوع (1: 39). ولكنّنا نستطيع أن نقابل الليل الذي فيه جاء نيقوديمُس إلى يسوع (3: 2) بالساعة السادسة (الظهر) التي فيها تمّ الحوار مع السامريّة (4: 6): إنّها ساعة ملء الوحي (23:4).
ولقد درس أحد الشرّاح رمزيّة الأمكنة في الإنجيل الرابع: فالناصرة خاصّة والجليل عامّة لا يمثّلان فقط معطى طوبوغرافيًّا. فالناصرة تدلّ على عثار التجسد (1: 45ي؛ 6: 38، 42؛ 7: 41، 52). وعلى الجلجلة، إنّ الكتابة التي فوق الصليب تبسط على عيون الكون عثار "الناصريّ ملك اليهود" (19: 19ي). وكما تمثّل السامرة في نظر يوحنّا بلاد اللايهود، فاليهوديّة هي الموضع الذي تكون فيه حياة يسوع في خطر والذي فيه يصعد من أجل ساعته (3: 22؛ 4: 3؛ 7: 1، 3؛ 11: 7- 16). لا تعود هذه الساعة إلى تسلسل زمنيّ، بل تندرج في زمن تحقيق مخطّط الله. وهذا المخطّط يتمّ في أورشليم بوحي يسوع عن نفسه (من هنا أهمّيّة مجادلاته مع السلطات اليهوديّة في حَرَم الهيكل)، وبالحكم على يسوع بالموت بعد هذه المجادلات (11: 45- 52). في هذا المجال صار المثول أمام حنّان وقيافا جلسة تحقيق قضائيّ لتهيئة الاتّهام أمام بيلاطس.

ثالثًا: أعمال المسيح الرمزيّة
حين ندرس إنجيل يوحنّا نرى أنّه يلاحظ بعض التفاصيل ويسجّلها لا كروايةٍ شعبيّة بل لقيمتها في النصّ. ففي خبر تكثير الارغفة، يبارك يسوع وحده الخبزات ويوزّعها (6: 11). ولكنّ التلاميذ مدعوّون لجمع الكسر في اثنتي عشرة قفّة. ويبدو أنّه مهتمّ بهذا الجمع: "اجمعوا ما فضل من الكسر لئلا يضيع منها شيء" (6: 12). إنّ هذا التجميع هو علامة الخلاص، أمّا التبديد فعلامة الهلاك. أجل، لقد كثّر يسوع الخبز مرّة واحدة من أجل حياة العالم، ودور التلاميذ عبر العصور هو أن يعملوا لكي يشارك هذا الخبز في تجميع أبناء الله (رج 52:11).
ويشدّد شفاء المولود أعمى على الوحل الذي صنعه يسوع ببصاقه. فكلمة تراب تعود خمس مرّات في الخبر (مرّتين في آ 6، ثمّ في آ 11، 14، 15). فالكلمة تدلّ على الطين الذي يصنع منه الفخّاريّ آنية (رج روم 9: 21). أما يفكّر يوحنّا بإعادة خلق الإنسان على يد المسيح؟ هذا ما قاله إيريناوس: "رَدَّ النظر إلى الأعمى لا بكلمة بل بفعل. تصرّف هكذا ليعرّفنا إلى يد الله التي جبلت الإنسان في البدء". كان الغنوصيّون ينسبون الخلق إلى العقل الفعّال. أمّا يوحنّا فدلّ على عمل الخلق عند الكلمة الذي صار جسدًا (رج آ 20، 22 مع نفخ نسمة حياة).
ويشدّد خبر غسل الأرجل على أنّ يسوع السيّد والرب خلع ثيابه ثمّ لبسها (13: 4، 12). فالفعلان المستعملان هنا يعنيان في مكان آخر (10: 17، 18): ضحّى بنفسه واستردّها. وإذا تذكّرنا اهتمام يوحنّا بثياب المسيح في وقت الالام (19: 23ي) نفهم أنّنا أمام مثل حيّ. فيسوع يبيّن للتلاميذ موته وقيامته اللذين هما الخدمة العظمى، وينبوع كلّ تطهير، والشرط الضروريّ للمشاركة في الملكوت.

3- آيات عجائبيّة في الإنجيل الرابع
يتكلّم يوحنّا كالإزائيّين عن يسوع الذي صنع معجزات عديدة (2: 23؛ 5: 1ي؛ 6: 1ي؛ 9: 1ي؛ 11: 1ي؛ 20: 30). ولكنّه يتميّز عنهم في مفرداته وتفسيره لدور الآيات في حياة الإيمان.
لا يستعمل يوحنّا كلمة تدلّ على القوّة وعلى تدخّل يسوع العجيب كما يفعل الإزائيّون. إنّه لا يريد أن يظهر قدرته حتّى من أجل مريض أو محتاج. المعجزة عند يوحنّا هي عمل وحي (رج 4:11). فالمعجزة هي كلمة منظورة كما قال القدّيس أغوسطينس.
إذا اقتصرنا على الفصول العشرين الأولى نجد سبع معجزات: آية الماء المحوّل خمرًا. إنّها مبدأ سائر المعجزات. والآية الثانية تمّت أيضا في قانا: شفى يسوع من بعيد ابن الضابط الملكيّ في كفرناحوم (4: 46- 54). الآية الثالثة: شفاء مخلّع بيت زاتا في أورشليم (5: 1- 9: اجترح يسوع المعجزة يوم السبت). الآيتان الرابعة والخامسة: تكثير الخبز في الجليل في زمن الفصح (6: 1- 15) وظهور يسوع خلال العاصفة فوق البحيرة (6: 16- 21). وحصلت الآيتان الأخيرتان في أورشليم: شفاء المولود أعمى في إطار عيد المظالّ (ف 9) وقيامة لعازر (ف 11) قبل الفصح الأخير ببضعة أيّام. وردت هذه الآية من أجل مدلولها الكرستولوجيّ. وزيدت في ف 21 آية الصيد العجيب من أجل بعدها الكنسيّ.

أوّلاً: مقابلة مع الإزائيّين
هناك آيات يوحنّاويّة نجد ما يقابلها في الأناجيل الإزائيّة. مثلاً: تكثير الخبز والسير على المياه (رج مر 6: 30- 52). ولكنّ هذا لا يمنع يوحنّا من أن يقدّمَ نقاط اختلافٍ في التفاصيل. ويمكننا أن نقابل الصيد العجيب (ف 21) بما نقرأه في لو 5: 1- 11 مع أنّ الوضع مختلف (تمّت العجيبة عند لوقا في بداية رسالة يسوع. وعند يوحنّا بعد الفصح). وناقش الشرّاح ليعرفوا هل آية شفاء ابن الضابط الملكيّ في يو 4: 46- 54 تقابل حدث شفاء ابن (أو عبد) الضابط الرومانيّ في مت 8: 5- 13 (ق لو 7: 1- 10): ففي الحالتين نحن أمام قدرة كلمة يسوع التي تفعل عن بعد. إذًا، هناك خبر واحد في الأساس اتّخذ منحيَينِ مختلفينِ. وهناك آيتان خاصّتان بيوحنّا (المخلّع والمولود أعمى) تمّتا يوم السبت فأثارتا جدالاً مع اليهود (5: 10، 16، 18؛ 9: 14، 16). إنّهما قريبتان من معجزات أوردها الإزائيّون (مر 3: 1- 5؛ لو 13: 10- 17). أمّا إقامة لعازر فتتعدّى بقوّتها الدراماتيكيّة وطابعها العجيب معجزات الإزائيّين التي فيها أيقظ يسوع مَن ظَنُّوه ميتًا: ابنة يائيرُس (مر 5: 41)، ابن أرملة نائين (لو 7: 11). أمّا في يو 11 فلم يوضع لعازر في القبر فحسب، بل بدأ الموتُ عملَ الفساد (11: 39: إنّه أنتن). وهناك معجزة تخرج من الفئات التي عرفها الإزائيّون: تحويل كمّيّة كبيرة من الماء إلى خمر (2: 6: ستّ جرار تحتوي كلّ واحدة مكيالين أو ثلاثة). وهناك فئة تظهر عند الإزائيّين ولا تظهر عند يوحنّا: طرد الشياطين. لا تعني هذه الملاحظة أنّ يوحنّا يشكّ بتسلّط سلطان هذا العالم على البشر (12: 31؛ 14: 30؛ 16: 11)، ولكنّ الإنجيل الرابع يعبّر عن الانتصار على الشرّ بتأمّله في ارتفاع المسيح على الصليب (12: 31ي).

ثانياً: خبر المعجزة كفنّ أدبيّ
إذا حلّلنا أخبار المعجزات وجدنا بطريقة عامّة خمسة عناصر أساسيّة. مقدّمة تعرض الحالة (نقص، ضيق)، طلب تدخّل يدلّ على ثقة الطالب أو محيطه، تدخّل يسوع بكلمة قصيرة أو بحركة وعمل، ذكر النتيجة التي تحصل حالاً، ردّة الفعل لدى الحاضرين.
يمكننا أن نحلّل أوّل آية في قانا على ضوء هذه الرسمة: أشارت مريم إلى نقص الخمر (2: 3). أجاب يسوع جوابًا امتحن فيه إيمان مريم فدعت الخدم إلى إطاعة ابنها. أعطى يسوع أمرًا فملأوا الجرار ماء (2: 7). تحوّل الماء إلى خمر أثار الدهشة (2: 9ي)، ظهر مجد يسوع فآمن تلاميذه.
هنا، يجب أن نلاحظ تشديد يوحنّا على مبادرة يسوع. فمخلّع البركة لم يطلب شيئًا. فيسوع هو الذي بدأ فكلّمه (5: 6). وكذا نقول عن المولود أعمى (ف 9)، لأنّ سؤال التلاميذ كان سؤالاً نظريًّا (من أخطأ؟) وما تضمّن طلبًا من أجل العليل. وفي تكثير الخبز اتّخذ يسوع المبادرة (6: 5) في يوحنّا، أمّا في الإزائيّين فالرسل يطلبون إلى يسوع أن يصرف الناس وقد فات الوقت (مر 6: 35ي).

ثالثًا: آيات الإيمان
نجد في الإنجيل الرابع توترا بين المقاطع التي تجعل من الآيات عنصرًا هامُّا يقود إلى الإيمان، وبين المقاطع التي تعتبر الآيات لا تتوافق والإيمان الحقيقيّ.
ولنعطِ بعض الأمثال. تبدو الآية أوّلاً وسيلة تقرّ بصحّة سلطة. هكذا طلبت السلطات اليهوديّة من يسوع أن يعمل آية ليبرّر تدخّله في الهيكل (2: 18). وجموع الجليل من جهتها طلبت آية لتستطيع أن تؤمن (6: 30). وأعلن آخرون أنّ المسيح عندما يأتي لن يعمل آياتٍ أكثرَ ممّا عمل يسوع (7: 31) وهذه الآيات "الشرعيّة" تقابل الآيات التي أعطاها الله لموسى حين أُرسل إلى أبناء إسرائيل (خر 4: 1- 9) في هذا الإطار عينه ترى الخاتمةُ الأولى في الآيات الواردة وسيلةً تقوّي إيمان القارئين (30:20ي).
ومقابلَ هذا، يتشكّى يسوع أمام الضابط الملكيّ: "إن لم تَرَوُا الآياتِ والعجائبَ فلن تؤمنوا" (4: 48). فالإيمان الحقيقيّ هو الذي يستغني عن الرؤية: "طوبى للذين لم يرَوا وآمنوا" (20: 29).
هل من تناقض؟ هناك قول ليسوع يعطينا الجواب: "أنتم تطلبونني لا لأنّكم رأيتم الآيات، ولكن لأنّكم أكلتم خبزًا وشبعتم" (6: 26). هناك انتباه إلى الوجهة الخارجيّة للمعجزة يقف حاجزًا في مسيرة الإيمان. وهكذا يقول يوحنّا إنّ يسوع لم يكن يطمئنّ لأهل أورشليم الذين آمنوا فقط بسبب الآيات (2: 23ي). فالإيمان الحقيقيّ يفترض مداومة ونموًا في قبول الكلمة الخلاصيّة (8: 31ي). والمولود أعمى يعطينا أفضلَ مثالٍ عن هذا. فرغم معارضة الفرّيسيّين له وعزله من قِبَلِ أهله، أكّد الأعمى بوضوح متزايد إيمانه. هذا الرجل الذي شفاه هو نبيّ (9: 17). هو رجل من الله (9: 33). ولمّا التقى بيسوع، خرَّ أمام ذلك الذي قدّم نفسه على أنّه ابن الله (9: 35).
فالتلميذ الحقيقيّ هو الذي يرى في آيات يسوع وأعماله تدخّلاً من الله نفسه. فخطبة ف 5 مركّزة على هذه الفكرة: إنّ شفاء المخلّع الذي تمّ بيد يسوع هو تبيان لما يتمّه الآب (5: 7، 19- 30). وتعود خطبة الوداع إلى هذه الفكرة أيضاً. سأل فيلبّسُ أن يرى الآبَ، فأجابه يسوعُ: "إنّ الآب الذي يقيم فيّ يعمل أعماله الخاصّة. آمنوا أنّي في الآب وأنّ الآب فيّ. وإن لم تؤمنوا بكلمتي فآمنوا أقلّه بسبب هذه الأعمال" (14: 10ي).
وحين أعلن يوحنّا في آخر المطلع "الكلمة صار بشرًا فأبصرنا مجده"، فهو يجمع كلّ ظهورات الكلمة المتجسّد: أقواله، أعماله، عطيّة ذاته على الصليب. ونحن لا نستطيع أن نعزل الآيات عن كلّ هذه المجموعة التي تدلّ على اندراج الكلمة في حياة البشر وتُصوِّر نشاطه الخلاصيّ الممتدّ في الكنيسة. فحين نتأمّل مجد المسيح (2: 11) نكتشف أنّه يفيض دومًا خيرات الخلاص على المؤمنين (1: 16).

رابعًا: تفسير للأسرار في الإنجيل الرابع
اكتشف الآباء منذ القديم الخلفيّة الأسراريّة في الإنجيل الرابع. لنقل أوّلاً إنّنا لا نجد في يوحنّا أمرًا من المسيح لنمنح المعموديّة (كما في مت 28: 19) ونمارس الإفخارستيّا. فبدل الخبر التقليديّ عن العشاء الأخير، يورد يوحنّا غسل الأرجل. فكلمة يسوع هي التي تطهّر (15: 3). ولكنّنا لا نستطيع أن نلغيَ التلميحاتِ إلى المعموديّةِ وهي كثيرة في ف 1- 3: يقابل يوحنّا بين معموديّة الماء التي يمنحها يوحنّا المعمدان، وبين العماد في الروح القدس الذي يمنحه يسوع (1: 33). ويتضمّن الحوار مع نيقوديمس تعليمًا عن الولادة الجديدة من الماء والروح (3: 5)، وهو نصّ طبّقه التقليد على المعموديّة (ق مع تي 3: 5). وهذه الولادة غير ممكنة إلاَّ بارتفاع ابن الإنسان (3: 14)، والإرتفاع هو العلامة الفضلى لحبّ الله للعالم (3: 15). إنّ كلّ هذا الفصل الثالث يحتوي كرازة عن المعموديّة. ثمّ إنّ الإشارة العابرة إلى أنّ يسوع (أو تلاميذه) كان يعمّد (3: 22 و 4: 2) تدعونا إلى التعرّف إلى يسوع الذي يعمّد.
وتُفَسَّرُ معجزة بركة بيت زيتا (ف 5) في معنى عماديّ. ولكنّ هناك اختلافًا عند الشرّاح. فالنصّ يشدّد على قدرة كلمة يسوع (كما في آية قانا الثانية: 4: 46- 54) إلتي تشني العليل دون أن يغطس في البركة. والخطبة التي تلي تدلّ على أنّ الابن يعمل أعمال الآب. وهكذا لا يعود ف 5 إلى علامة أساريّة. أمّا ف 9 فيتضمّن كرازة عماديّة رائعة. فالأعمى اغتسل في البركة التي أنها شيلوحا (أي الرسل: 9: 7). ويعود فعل غسل 5 مرّات. وهو يرتبط باستعادة النظر. وهكذا نفهم أن يكون آباء الكنيسة سمَّوُا المعموديّة سرّ الاستنارة. ومشهدُ غسل الأرجل (13: 1- 20) دلّ أوّلاً على آلام يسوع المطهِّرة. ولكنّ التشديد على الغطس وغسل الأرجل يشير في الدرجة الثانية إلى تفسير عماديّ. أمّا في ما يخصّ الإفخارستيّا، فالكلمة عن الجسد المسلَّم لحياة العالم (6: 51) تقابل الكلمة على خبز الإفخارستيّا. ويمكننا أن نفكّر أنّ الكلمة التي قالها يسوع تقابل "بسر" الآراميّة التي تدلّ على اللحم لا على الجسد. قد نعجب إذ نرى يوحنّا لا يورد خبر العشاء السرّيّ في المكان المخصص له. ولكنّه جعل من ف 6 مجموعة حيث التغذّي من الكلمة يقود إلى التغذّي من جسد المسيح. وإذ أورد خبر غسل الأرجل أفهمنا ينبوع عشاء الربّ ونتيجته. فحين غسل المسيح أرجل رسله أعطاهم أكثر من مثل (13: 15). إنّه علّمهم ممارسة. فالاحتفال الإفخارستيّ الذي لا يقود إلى الخدمة المتبادلة لا معنى له. هذه هي الأمثولة التي يعطينا إيّاها يوحنّا وهو الذي اهتمّ بالمعنى العميق للواقع الأسراريّ أكثر منه بطريقة ممارستها.
وأخيرًا، رأى اللاهوتيّون في الدم والماء اللذَين جريا من جنب المسيح علامة النعمة الأسراريّة. لو فكّر يوحنّا بأسرار التدرّج المسيحيّ أما كان كتب "الماء والدم "؛ ولكنّ النصّ يشدّد أوّلاً على واقع موت المسيح وعلى خصب هذا الموت: فقلبه المطعون هو ينبوع الأنهار الموعود بها لزمن الخلاص (ق يو 7: 37 مع التلميح في حز 47 وزك 13: 1). إنّ هذا التأمّل يتضمّن الأسرار ولكن قي مكانها كآيات لملء عطيّة الروح. وهنا يفرض علينا يوحنّا أن نكتشف الجوهر عبر العلامات الخارجيّة

ب- من كتب الإنجيل الرابع؟
نجد منذ القرن الثاني تقليدًا ثابتًا ينسب الإنجيل الرابع إلى يوحنّا بن زبدى. ولكن جاء من يشكّ بهذه النسبة وللمرّة الأولى سنة 1820. وما زال الجدال قائمًا إلى أيّامنا هذه، فزج الشرّاح مسائلَ متعدّدةً: هُوِيَّةَ الكاتب، جذورَ شهادتِه، القيمةَ التاريخيّةَ لإنجيله.
لقد رأينا كم أن المسألة معقّدة. فالإنجيل الرابع هو في حالته الحاضرة ثمرة نضج بطيء. ذكرْنَا بعضَ النظريّاتِ المتصلّبةِ (بوقان، بوامار). ولكنّ هذا يفهمنا أنّ الإنجيل الرابع عرف مراحل عديدة في تدوينه. وهكذا يمكننا أن نكتشف انعكاساتِ حياةِ الجماعة اليوحنّاويّة: تكوّنت في فلسطين، وانتقلت إلى الشتات (ربّمَا آسية الصغرى)، وانفتحت على الرسالة لدى اليونانيّين. فالإنجيل الرابع لا يهدف فقط إلى أن يبيّن أنّ يسوع هو ملك إسرائيل، بل وأنّه "ابن الله" و "مخلص العالم". وهكذا يتجاوب مع توق الناس إلى الحقيقة والحياة.
كان الشرّاح يعتبرون أنّ برهان التقليد يكفي ليثبّت الأصل اليوحنّاويّ للإنجيل الرابع. أمّا النقّاد فيردّون قول التقليد الذي لم يَظهر قبل نهاية القرن الثاني يوم أكّدت الكنيسة الأصل الرسوليّ للأسفار القانونيّة، في صراعها ضد الغنوصيّة. لا شكّ في أنّ هناك بعض الخلل في شهادات الآباء، ولكنّ هناك توافقًا بينهم. ثمّ إنّنا لا نستطيع أن نرى في شهادة إيريناوس (وهي أهمّ شهادة) اختراعًا دفاعيًّا لا أساس له. في هذه الظروف يبدو من المهمّ أن نقدّم أجزاء الملفّ.

1- الملفّ الآبائيّ
أوّلاً: شهادات آباء آسية الصغرى
ضاع مؤلَّف بابياس، أسقفِ هيرابوليس (حوالي سنة 125). ولكنّ أوسابيوس احتفظ لنا بمقاطع عن أصل إنجيلَيْ متّى ومرقس. وهناك مقطعِ آخر يدلّ على الاهتمام الذي يعلّقه التقليد على أقوال الشيوخ: "إن رافق أحد الشيوخ، كنت استعلم منه عن أقوال الشيوخ: ماذا قال أندراوس أو بطرس أو فيلبّس أو توما أو يعقوب أو يوحنّا أو متّى أو سواهم من تلاميذ الربّ، وما قاله أريستون والشيخ يوحنّا، تلميذا الربّ. لم أكن أعتقد أنّ ما يأتي من الكتب يفيدنا كذاك الذي يأتينا من كلمة حيّة ودائمة".
يستنتج أوسابيوس من هذا النصّ أنّه يجب أن نميّز بين يوحنّا الرسول ويوحنّا الشيخ، وهذا ما يثبّته وجود مدفنين في أفسس كما يؤكّد ديونيسيوس الإسكندرانيّ. يرى أوسابيوس أنّ الرسول دوّن الإنجيل الرابع، وأنّ الشيخ دوّن سفر الرؤيا. وفي نهاية كلامه عن بابياس يزيد تفصيلاً غريبًا عن حادثة المرأة الزانية: "يستعمل بابياس نفسه شهادات مأخوذة من رسالة يوحنّا الأولى ورسالة بطرس الأولى. فيعرض قصّة أخرى عن المرأة المتّهمة بخطايا عديدة أمام الربّ، كما يحتويها الإنجيل حسب العبرانيّين".
فالحادثة المحفوظة في 53:7- 8: 11 (وفي بعض مخطوطات لوقا) وُجدت في إنجيل منحول (يعود إلى محيط مسيحيّ متهّود) يتحدّث عنه إكلمنضوس الإسكندرانيّ وأوريجانس.

إيريناوس
أفضل شاهد عن تقليد أفسس هو إيريناوس، أسقف ليون (في فرنسا)، وتلميذ بوليكربوس الإزميريّ. يشهد ضدّ الغنوصيّين أنّ التقليد الصحيح موجود في الأناجيل الأربعة. ويتحدّث عن أصل كلّ إنجيل. ثمّ يكتب عن الإنجيل الرابع ما يلي: "يوحنّا هو تلميذ الربّ الذي استلقى على صدره. فدوّن هو أيضاً إنجيلاً خلال إقامته في أفسس من أعمال آسية". ثمّ يعطي لصديقه فلورينوس تفاصيلَ عن الغنوصيّة في رسالة بعث بها إليه: "أستطيع أن أحدّد الموضع الذي كان يجلس فيه الطوباويّ ليتكلّم. كيف كان يدخل ويخرج، طريقة عيشه، مظهره الخارجيّ، أحاديثه أمام الناس. كيف كان يورد حواراته مع يوحنّا ومع سائر الذين عرفوا الربّ. كيف كان يذكر أقوالهم وما كانوا يقولونه عن الربّ، عن عجائبه وتعاليمه. بعد أن تقبّل بوليكربوس كلّ هذا من شهود عيان عن حياة الكلمة، كان ينقلها حسب الكتب المقدّسة... أستطيع أن أشهد أمام الله أنّه إن كان هذا الشيخ الطوباويّ والرسوليّ (= بوليكربوس) سمع أيّ شيء مشابهًا لما تقول، لكان أطلق صرخته وسدّ أذنيه".
ويستشهد إيريناوس في حربه ضدّ نظريّات قرنتيس بمعارضة يوحنّا لهذا الهرطوقيّ. وذهب إلى حمّامات أفسس فرأى قرنتيس في الداخل. حينئذ خرج من المكان دون أن يغتسل. قال: لننج لئلاّ تسقط الحمامات لأنّ قرنتيس، عدوّ الحقيقة، هو في داخلها.

بوليكراتيس الأفسسيّ
كانت هناك مجادلات حول الفصح مع البابا فكتور حوالي سنة 190. أراد أن يبيّن شرعيّة الاحتفال به في الرابع عشر من شهر نيسان، كما تفعل كنيسته فأورد أسماء كَافِليه: "نحن نحتفل بدقّة في هذا اليوم فلا نزيد أو ننقص شيئًا. ففي آسية يرقد نجوم كبار... فيلبّس أحد الاثني عشر رسولاً... وأيضاً يوحنّا الذي رقد على صدر الربّ والذي كان كاهنًا وتوِّج شهيدًا ومعلّمًا. فهو أيضاً رقد في أفسس".
يشهد هذا الكلامُ لتركيزِ تقليدِ يوحنّا في أفسس، ويثبّت ما قيل أعلاه عن مدفنه. فالإجلال "للنجوم الكبار" يذكرنا بإجلال الجماعات المسيحيّة المتهوّدة "لعُمُد الكنيسة" (غل 2: 9). ثمّ إنّ مجيء المسيحيّين المتهوّدين إلى مقاطعة آسية بعد سنة 70 هو شبه أكيد، وهو يدلّ على الفنّ الأدبيّ الذي دُوِّن فيه سفر الرؤيا.

ثانيًا: شهادات من مصر
انتشر الإنجيل الرابع سريعًا في مصر كما تشهد بذلك البرديّات التي ذكرناها. فدَرَسه الغنوصيّون باعتناء. وأوّل تفسير لهذا الإنجيليّ يعود إلى غنوصيٍّ من مدرسة ولنطينس، هو هيرقليون. وقد احتفظ لنا أوريجانس ببعض مقاطعَ من كتابه ليردّ عليها. ثمّ إنّ إجلال إكلمنضوس الإسكندرانيّ للإنجيل الرابع معروف وهو الذي سمّاه الإنجيل الروحانيّ. أمّا أوريجانس فيبيّن تفسيره أنّ التلميذ الحبيب هو يوحنّا الرسول. ثمّ إنّ الأصل الرسوليّ لرسالة يوحنّا الأولى لم يكن يومًا موضع بحث في الإسكندريّة. أمّا الرؤيا فنسبها ديونيسيوس الأسقف إلى يوحنّا الشيخ.

ثالثًا: جدال مع الرافضين للكلمة في رومة
في البداية لم يلق استعمال التقاليد اليوحنّاويّة أيّة صعوبة في رومة. جاء يوستينوس من آسية وعلّم في رومة ونسب الرؤيا إلى يوحنّا الرسول. لم تُعطَ له مناسبة ليقول رأيه في أصل الإنجيل الرابع، ولكنّه تعلّق بتعليمه عن اللوغوس (الكلمة). غير أن أناسًا عارضوا المونتانيّين (هرطقة أسسها مونتانوس في القرن الثاني في فريجية من أعمال آسية الصغرى) الذين رفضوا اللوغوس وتعلّقوا بالبارقليط. هؤلاء استبعدوا الأصل الرسوليّ للإنجيل الرابع.
فأجاب قانون موراتوري (نهاية القرن الثاني) على هذه الصعوبات مبرزًا اتّفاق يوحنّا مع التقليد الرسوليّ المشترك وشرعيّة ترتيبه الخاصّ في تنظيم كتابه. قال: "الإنجيل الرابع هو إنجيل يوحنّا أحد التلاميذ. بعد أن حرّضه زملاؤه التلاميذ والأساقفة قال لهم: صوموا معي ثلاثة أيّام منذ اليوم، وسنخبر بعضنا بعضاً بما سيُوحى لكلّ واحد منا. وفي الليلة نفسها أوحي إلى أندراوس أحد الرسل أنّ على يوحنّا أن يكتب كلّ شيء باسمه وبموافقة الجميع. لهذا، ورغم أنّ كلّ إنجيل يبدأ بطريقة مغايرة، فلا فرق بالنسبة إلى إيمان المؤمنين، لأنّ الروح السامي والواحد هو الذي عرض كلّ هذه الأشياء في كلّ واحد منهم".
إذا جعلنا جانبًا مجادلة الرافضين للكلمة، نستطيع القول إنّ هناك توافقًا عامًّا بين مراكز المسيحية الهامّة على أصل الإنجيل الرابع في نهاية القرن الثاني. لا شكّ في أنّ أمورًا تتّصل بالخبر التقوي. نسب بوليكراتيس الأفسسيّ الكرامة الكهنوتيّة إلى يوحنّا، مستندًا إلى ما ورد في يو 18: 16 (التلميذ معروف من قِبَلِ رئيس الكهنة). وخبر الشابّ الذي ردّه يوحنّا ثمّ صار رئيس لصوص يعود إلى إكلمنضوس الإسكندرانيّ ويشهد على عمل يوحنّا الرسوليّ في منطقة أفسس. ولكن لا نستطيع أن نأخذ هذا الخبر على حرفيّته. ويذكر ترتليانس عذاب الزيت المغليّ الذي قاساه يوحنّا، ولكنّ لا شيء يؤكّد هذا الخبر. وهناك أعمال يوحنّا التي أُلِّفت في النصف الثاني من القرن الثاني، ونَسبت إلى يوحنّا تعليمًا غنوصيًّا عن الصلب الذي لم يكن حقيقيًّا. لاشكّ في أنّ هذا التعليم مرفوض.
إذن ما نستنتجه رغم كلّ شيء هو أن الرسول يوحنّا أقام في نهاية حياته في أفسس وأنه هو التلميذ الحبيب الذي يكفل تقاليد الإنجيل الرابع (21: 24).

2- التلميذ الحبيب
لا يُذكر التلميذ الذي كان يسوع يحبّه إلاَّ في ظروف قليلة ولكن مهمّة. يظهر أنّه بدا كصديق حميم ليسوع بعد غسل الأرجل والتنديد بالخائن (13: 23). ونجده عند الصليب (19: 26) فيسلّمه يسوع أمّه. وفي صباح اليوم الأوّل من الأسبوع ركض التلميذ الحبيب إلى القبر مع بطرس (20: 2) وكان أوّل من آمن (20: 8). وهو يحتلّ مكانة هامّة في الملحق (ف 21) ببعده الكنسيّ. هذا التلميذ هو رجل التمييز: كان أوّل من عرف الربّ (21: 7) ودلّ بطرس عليه. وبعد إعلان استشهاد بطرس نقرأ كلمة مهمة تلفّظ بها يسوع فجعل الآخرين يستشفّون أنّ التلميذ سيبقى حيًّا إلى عودة الربّ. فُهمت هذه الكلمة أوّلاً بحرفيّتها، ثمّ دلّت على ديمومة شهادة التلميذ، وهي شهادة تنقلها جماعة يوحنّا إلى سائر الكنائس.
وهناك مقطعان ظلاّ موضع جدال. من هو رفيق أندراوس في 1: 35- 40؟ إذا لاحظنا المقابلة بين الفصول الأولى وخبر الآلام، نفهم أنّ رفيق أندراوس هو ذلك الذي شهد ليسوع عند الصليب. وفي 18: 15 يتحدّث النصّ عن "تلميذ آخر" (بدون التعريف في أفضل المخطوطات) يُدخل بطرس إلى قصر حنّان لأنّه معروف من قبل رئيس الكهنة. استند كثير من الشرّاح إلى علاقة التلميذ ببطرس (رج 13: 23- 25) ففكّروا بالتلميذ الحبيب. ولكنّ النصّ لا يسمح لنا بأن نحدّد. ثمّ إنّنا نعرف أنّه كان ليسوع أتباع في أورشليم وفي المجلس الأعلى مثل يوسف الذي من الرامة ونيقوديمُس (19: 38- 39؛ رج 3: 1، 7: 5). قد يكون أحدهم تدخّل في هذه المناسبة من أجل بطرس. لا يعلّق الإنجيليّ أهمّية خاصّة على هذا التدخّل الذي يهيّئ الدرب لإنكار بطرس خلال مثول يسوع أمام حنّان وقيافا (18: 12- 14، 19- 24).
لن نتوقّف عند رأي القائلين إنّ التلميذ الحبيب هو لعازر (قال 11: 31، 36 إنّ يسوع كان يحبّه) أو يوحنّا مرقس الذي لعب دورًا فاعلاً في الجماعة الأولى. كان شناكنبورغ وبراون قد جعلا التلميذ الحبيب هو نفسه يوحنّا الرسول. ثمّ قالا إنّه أحد أصدقاء يسوع في أورشليم.
ولكنْ يبدو أنّ التلميذ الحبيب هو يوحنّا الرسول نفسه. لماذا نعود إلى شخص مجهول ولا نعود إلى ما يقوله التقليد؟ فعطيات النصّ تقود إلى هذه النتيجة. ففي الظروف العديدة (13: 23- 26؛ 20: 3- 10؛ 21: 7، 20- 23) نجد بطرس والتلميذ الحبيب معًا، وهذا ما يوافق سفر الأعمال (أع 3: 1- 4، 11؛ 4: 13، 19؛ 8: 15، 20). وإنّ بولس يحسب بين أعمدة الكنيسة يعقوب وكيفا (أو بطرس) ويوحنّا (غل 2: 9). وهناك ملاحظة هامّة: إنّ ابني زبدى (يعقوب ويوحنّا) اللذَين احتلاّ مكانة مرموقة في التقليد الإنجيليّ وحياة الكنيسة الأولى حسب الإزائيّين وأعمال الرسل، هما غائبان من يو 1- 20. هذا الإغفال يصبح مفهومًا إذا كان التلميذ الحبيب هو أحد ابني زبدى. يمكننا أن نتصوّره في مشهد 1: 35، 39 حيث نجد تلميذَين للمعمدان: أندراوس وشخص أُغفل اسمه. جاء أندراوس بأخيه سمعان إلى يسوع (1: 40- 42)، وهذا ما يقرّبنا من دعوة يسوع لسمعان وأندراوس وابني زبدى. فالتلميذ الحبيب هو واحد منهم. ولكنّ المشهد يجري على شاطئ البحيرة حيث يصطاد سمعان بطرس ورفاقه. فيوحنّا بن زبدى هو ذلك الذي لعب دور التلميذ الذي كان يسوع يحبّه.
خاتمة: من الرسول يوحنّا إلى التقليد اليوحنّاويّ.
أين دوِّن إنجيل يوحنّا؟ الرأي الأصحّ في أفسس. قال بعضهم: في أنطاكية بسبب التقارب مع موشّحات سليمان (كتاب منحول) واستعمال أغناطيوس الأنطاكيّ للإنجيل الرابع. ولكنّ هذا يعني أنّ الجماعة اليوحنّاويّة انتقلت إلى أفسس، لأنّ تجذّر الرؤيا في آسية الصغرى أمر لا جدال فيه. ثمّ إنّ المعيّدين للفصح في الرابع عشر من نيسان يرجعون إلى يوحنّا، وقد كانوا مسيحيّين من آسية الصغرى (أفسس، سرديس، إزمير). أمّا أنطاكية فلم تتحدّث يومًا عن تعيين الفصح في هذا التاريخ.
"نُشر" الإنجيل الرابع في نهاية القرن الأوّل، فساعد أكثر من كلّ أسفار العهد الجديد على التعمّق في الكرستولوجيا وفي شخص الروح القدس. لا نقدر أن نقول إنّ مدرسة يوحنّا تتفرّد بالحديث عن وجود المسيح السابق. فهذا ما نجده في رسائل الأسر وفي الرسالة إلى العبرانيّين. ولكن. يبقى أنّ الإنجيل الرابع كَشَفَ لنا أنّ يسوع وحده يقدر أن يحمل إلينا ملء الحياة لأنّه هو الكلمة (اللوغوس) وينبوع الحياة. ويُظهر إنجيل يوحنّا عمق الحياة الحميمة التي يقدّمها المسيح للذين ينفتحون عليه بإيمان: "من يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يثبتْ فيَّ وأنا فيه" (6: 56). "أنّا هو الكرمة وأنتم الأغصان. من يثبتْ فيّ وأنا فيه يأتِ بثمار كثيرة لأنّكم بدوني لا تقدرون أن تصنعوا شيئًا" (15: 5). والإنجيل الصوفيُّ يُدخل في قلوبنا ضرورة الحياة في الكنيسة، فعلامة حضور المسيح في العالم هي وحدة تلاميذه (ف 17).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM