الفصل الأول :الإنجيل بحسب يوحنّا

الفصل الأول
الإنجيل بحسب يوحنّا

تعوّد التقليد المسيحيّ أن يشبّه يوحنّا بالنسر الذي يحدّق ببهاء الشمس بعينيه الثاقبتين. إنّ يوحنّا ينقلنا منذ الصفحة الأولى من إنجيله إلى التأمّل في الله وسرّه الأزليّ. ولكنّه في الوقت ذاته يشير إلى البحث الصوفيّ كما يدلّ على ذلك استعمال فعل طلب في إنجيله. فأوّل كلمة قالها يسوع لتلميذيه العتيدين: "ماذا تطلبان" (1: 38)؟ والسؤال الذي وجّهه إلى مريم المجدليّة في صباح الفصح كان: "من تطلبين" (20: 15)؟ وكما دعا المسيح تلميذيه لأن يأتيا وينظرا (1: 39)، هكذا يدعو يوحنّا قراءه إلى أن يقتربوا بإيمان متجدّد من ذلك الذي سمّى نفسه "الطريق والحقّ والحياة" (14: 6). هذا هو الشرط لنحمل ثمرًا يثبتُ في الحياة الأبديّة.
إلى هذا الإنجيل سنتعرّفُ فندرسُ الوجه الأدبيّ للإنجيل الرابع وتكوينه وخلفيّته الدينيّة. وبعد أن نتوقّف عند لاهوت إنجيل يوحنّا نعالج العلاقة بين الحقيقة التاريخيّة والتفسير الرمزيّ.

1- الوجه الأدبيّ للإنجيل الرابع
عندما نقرأ الإنجيل الرابع قراءة إجماليّة نشعر أوّلاً أنّه يختلف عن الأناجيل الإزائيّة حيث تبرز المعجزات والمجادلات والأمثال وتبدو وكأنّها وضعت من دون ترتيب: أمّا إنجيل يوحنّا فيتضمّن مجموعاتٍ مبنيّةً بناءً محكمًا. هناك المقدّمة (1: 1- 18)، حوار يسوع مع السامريّة (4: 1- 42)، خطبة خبز الحياة (ف 6) وحدث شفاء الأعمى (ف 9) وقيامة لعازر (ف 11)، وخبر الالام (ف 18- 19).

1- تصاميم ممكنة
قدّم الشرّاحُ تصاميمَ عديدةً، فشكلّ كلّ تصميم لقطة عن مجمل الإنجيل. لكلّ تصميم حقيقته النسبيّة، ولكن كل هذه التصاميم لا تقود بالقدر عينه إلى فهم النصّ فهمًا وافيًا.
اهتمّ المفسّرون الأقدمون بكتابة حياة يسوع فتوقّفوا عند إشارات الزمان والمكان فأبرزوا إحدى ميزات يوحنّا: إنّه الإنجيل الوحيد الذي يساعدنا على تحديد زمن رسالة يسوع العلنيّة. وبيَّن أحد الشرّاح أهمّية الأعياد التي تتوزّع مسيرة الإنجيل: أوّل عيد للفصح في أورشليم (2: 13)، عيد آخر في أورشليم (5: 1)، الفصح في الجليل (6: 4)، عيد المظالّ (7: 2) الذي صعد فيه يسوع إلى أورشليم صعودًا مستترًا، عيد التجديد (10: 22)، فصح الصلب (11: 55- 19: 42) والقيامة (ف 20). وهكذا نستطيع أن نقدّم تصميمًا على أساس سباعيّة الأعياد أو الاسابيع. انطلق يوحنّا من رمز العدد 7 فدلّ على أنّ الملء المسيحانيّ قد تمّ في حياة يسوع ونشاطه الرسوليّ. واقترح شارح آخر أن يقسم إنجيل يوحنّا قسمين، على أن يقسم كلّ قسم جزئين. القسم الأوّل: يوم يسوع، حياته العلنيّة، كشف خفيّ لمجده (1: 19- 12: 50). ويتضمّن هذا القسم كتابَ الآيات (ف 2- 4) وكتابَ الأعمال (ف 5- 12). القسم الثاني: ساعة يسوع، كشف مجده. ويتضمّن هذا القسم كتاب الوداع (ف 13- 17) وكتاب الآلام (ف 18- 20) يتبعه ملحق. يشدّد هذا العرض على موضوع الكشف والوحي وعلى كلمات يوحنّاويّة هامّة: المجد، الآية، العمل، والساعة. ولكنّنا نتساءل عن الفرق بين العمل والآية. ونقول إنّ كلمة "الآلام" لا توافق الطريقة التي بها يعرض يوحنّا دراما الجلجلة.
وأبرز شارح ثالث أهمّية 13: 1- 2: "وكان يسوع يعرف، قبل عيد الفصح، أنّ ساعته جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، وهو الذي أحبّ أخصّاءه الذين هم في العالم، أحبّهم منتهى الحبّ". فبعد نهاية ف 12 التي تشكّل 12: 37- 50 يبدأ ف 13 في صيغة متوازية لبداية الإنجيل (في البدء كان الكلمة). وهكذا يُقْسَمُ الكتاب قسمين: كتاب الآيات وكتاب الالام. ويتميّز كتاب الآيات بسبع حلقات. نلاحظ أنّ خبر عدد من الآيات ينتهي بخطبة طويلة وهكذا يتوحّد العمل والكلمة في القسم الأوّل. أمّا القسم الثاني فمن المفضّل أن نسمِّيَه كتاب الساعة (13: 1) أو كتاب المجد.
إنّ كلمة "الحياة" تسود في ف 1-6 (42 مرة من أصل 56). وينتهي ف 6 بشكل دراماتيكيّ حين يبتعد التلاميذ ويعلن بطرس إيمانه وينبى يسوع بخيانة يهوذا. إذًا لا بدّ من إبراز هذا الفاصل الهامّ. ونبدأ مع ف 7 بمجموعة تسود فيها كلمة موت (24 مرة من أصل 35): "ما شاء يسوع أن يسير في اليهوديّة لأنّ اليهود كانوا يريدون أن يقتلوه " (7: 1). مجادلات عن أصل يسوع، إعلانات تتبعها تهديدات بالموت خلال عيد الفصح وعيد التجديد حتّى قيامة لعازر.
أمّا مفردات الحبّ فلا تسيطر إلاَّ بعد ف 13 وحتى ف 21 ضمنًا (32 مرة من أصل 40). وهناك ملاحظات أخرى تجدر الإشارة إليها. لا يظهر موضوع النور إلاَّ في ف 1- 12. إذ يبدو اليهود عادةً خصوم يسوع، فخطبة الوداع (ف 13- 17) تبيّن لنا، أنّ العالم هو خصم يسوع وأخصّائِهِ.
على أساس هذه الملاحظات نقدّم الأقسام التالية:
(1: 1- 18) مطلع الإنجيل.
(1: 9- 12: 55) كتاب الآيات.
(1: 9- 6: 71) إعلان الحياة.
(7: 1- 12: 50) رفض الحياة وتهديد بالموت.
(13: 1- 25: 31) كتاب الساعة.
(13: 1-17: 26) وصيّة يسوع، العشاء الأخير وخطبة الوداع.
(18: 1-19: 42) ساعة التمجيد على الصليب.
(20: 1- 31) يوم الرب.
(21: 1-25) خاتمة: تعليمات القائم من الموت لكنيسته.
قبل آن نقدّمَ إيضاحاتٍ عن ديناميّة البناء اليوحنّاويّ يجدر بنا أن نتعرف إلى عناصرَ عديدةٍ تبلبل التنسيق العامّ. مثلاً: لماذا يُذكر يوحنّا المعمدان مرتين في قلب المطلع (1: 6- 8، 15). ثمّ إنّ شهادة المعمدان الأخيرة تنتهي بقطعة عقائديّة من الصعب أن يكون قد تفوّه بها (3: 31- 36). ونقابل هذا الملخّص للاهوت اليوحنّاويّ مع قطعة أخرى ليست في محلّها (12: 44-50). وهناك صعوبة كلاسيكيّة في ترتيب ف 4، 5، 6. فنهاية ف 4 تتمّ في الجليل (آية قانا الثانية). وهكذا نقول عن نهاية ف 6. أمّا آية الخلعّ (ف 5) فتتمّ في أورشليم. ولكنّ يوحنّا لم يشر إلى تنقّل يسوع من الجليل إلى أورشليم، ومن أورشليم إلى الجليل، كما اعتاد أن يفعل. أما نكون أكثر منطقيّين إن عدنا إلى الترتيب المنطقيّ: ف 4، 6 (السامرة، الجليل)، ف 5 (أورشليم). وهكذا يكون التلميح إلى الخلعّ (7: 15- 24) في محلّه. ولكن ماذا نفعل ببداية ف 7 التي تتكلّم عن صعود سرّيّ ليسوع إلى أورشليم في عيد المظالّ؟ نرى أنّنا إذا أردنا أن نجيب على صعوبة تطلّ صعوبات أخرى. وهذا ما نراه أيضاً في ف 10. إن أردنا أن نقوم بالتنقيلات المقترحة نشير إلى هذه الصعوبات (وهناك غيرها) لنلفت الانتباه إلى الطابع التدريجيّ في تأليف الإنجيل الرابع. فعمل المراجعة النهائيّة لم يتمّ، وهذا ظاهر من التنافر في موضوع المعموديّة التي يمنحها يسوع (3: 22) أو تلاميذه (4: 2).

2- تحليل المضمون
أوّلاً: المطلع (1: 1- 18)
قلنا إنّ هذا المقطع يَذْكُرُ يوحنّا المعمدان مرّتين. ونزيد فنقول إنّه يبدو متعدّد العناصر. فالبداية تبدو كنشيد إلى اللوغوس (الكلمة)، والنهاية كاعتراف إيمان (1: 14ي). الأسلوب إيقاعيّ في البداية، ولكنّنا نجد في آ 12- 13 زياداتٍ وإضافاتٍ . إذًا هناك محاولات عديدة لإعادة النظر في النصّ الأوّل. ومع هذا يبدو الترتيب الحاليّ بشكل نوع من البديع يقوم بقلب العبارة وهو أسلوب عرفته الآداب اليهوديّة (رج حك 9: 1 ي). فكيف نستطيع أن نبرّر هذه البنية؟
آ 1-2: اللوغوس متّجه نحو الله. آ 18: الابن يوحي لأنّه في حضن الآب.
آ 3 اللوغوس وسيط بالنسبة إلى الكون. آ 17: وسيط بالنسبة إلى الخلاص.
آ 4-5: الخيرات التي منحها اللوغوس. آ 16: ملء النعمة.
آ 6- 8: شهادة المعمدان. آ 15: شهادة المعمدان.
آ 9: حضور اللوغوس في العالم. آ 14: سكن اللوغوس المتجسّد.
آ 10- 11: عدم إيمان العالم وإسرائيل. آ 12- 13: قبول بالإيمان يتيح لنا
أن نصير أبناء الله.
سندرس فيما يبعد أصل ومضمون لقب اللوغوس المعطى للمسيح الموجود قبل الزمن.

ثانيًا: كتاب الآيات (1: 19- 12: 50)
إعلان الحياة (1: 19- 6: 71)
هناك طرق عديدة تفسّر ترتيب البداية. يحاول البعض أن يجد رسمة أسبوع في اللقاءات الأولى مع يسوع وأوّل آية في قانا الجليل (2: 1- 11). أمّا الصعوبة الكبرى فتأتي من إعلان يسوع في 1: 51 (سترون السماء مفتوحةً وملائكةَ الله صاعدين ونازلين فوق ابن الإنسان) الذي يشكلّ قمّة سلسلة من الإعلانات عرّفتنا تدريجيًّا إلى ذلك الذي شهد له المعمدان.
هناك رباطات عديدة تجمع بين آية قانا وطرد الباعة من الهيكل (2: 13- 22). "فاليوم الثالث" في 2: 1 يشير إلى الفصح، ويقابل الكلام عن عيد الفصح في آ 13. ونجد مقابلاتٍ عديدةً تقرّب هذين الحدثين من خبر الجلجلة: لا تُذكر أمّ يسوع إلاَّ في قانا وعند صليب يسوع (19: 37) الذي من جنبه خرج دم وماء الأسرار (19: 34). والكلمة السرّيّة عن الهيكل الذي سيُرفع في ثلاثة أيّام (2: 19 ي) ستجد كامل معناها في خبر الآلام. أجل، لقد ألّف يوحنّا بفنّ بدايةَ إنجيله ونهايته.
وبعد العملين (اللذين يشكلان برنامجًا) في ف 2، نقرأ حوارين، يدلّ الواحد على مسيرة الإيمان المتردّد والناقص (نيقوديمس) والثاني على ارتداد امرأة ستصبح مرسلة (السامرة). أمّا آية قانا الثانية فتبرز إيمان الضابط الملكيّ (4: 43- 54) وتشكّل نهاية هذه المجموعة. يبدأ كلّ من ف 5 و 6 بخبر آية، ثمّ يتضمّن خطبة طويلة ليسوع. فشفاء المخلعّ قرب البركة ذات الخمسة أروقة يدلّ على أنّ يسوع نال من الآب السلطان ليحييَ من يشاء (5: 21). بعد هذا نقرأ خطبة تبرّر الشهاداتِ من أجل الابن (5: 31- 47). وآية تكثير الخبر التي يتبعها السير على المياه، تؤّدّي إلى خطبة طويلة عن هُوِيَّة خبز السماء الحقيقيّ. وينتهي الفصل بشكل دراماتيكيّ: ترك يسوعَ كثيرٌ من التلاميذ. إنّ الدراما التي تصل إلى الصليب تقوم على تعلّقٍ بكلام يسوع لا تحفّظَ فيه.

رفض الحياة وتهديد بالموت (7: 1- 12: 50)
تتكوّن ف 7- 12 من سلسلة مجادلات في الهيكل تتوزّعها محاولات رجم ينجو منها يسوع، لأنّ ساعته لم تأت بعد (7: 30، 8: 20). دُعي يسوع بطريقة هازئة لأن يكشف عن نفسه في عيد المظالّ، فأجاب أوّلاً بالرفض. ثمّ صعد إلى أورشليم صعودًا خفيًّا. وأكّد أمام اليهود المتردّدين أو المعادين له أنّه وحده يعرف من أين جاء وإلى أين يذهب (7: 27- 29). ويقدّم نفسه على أنّه يَنبوع الماء الحيّ (7: 37 ي) ونور العالم (8: 12). ثمّ أعلن أمام اليهود المفتخرين بأنّهم من نسل إبراهيم، أنّه وحده يقدر أن يخلّصهم من موت الخطيئة، وأوضح أنّه أسمى من إبراهيم: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (8: 38). وتبيّن علامة المولود أعمى كيف تنقلب الأدوار: استعاد المولود أعمى النظر، أمّا الفرّيسيّون فانهمكوا في خطيئتهم (9: 41). ويرتبط مثل الراعي الصالح (ف 10) بالموضوع عينه: يسوع هو غير الرعاة الأردياء الذين يسبّبون دمار القطيع. إنّه وحده يعطي الحياة بوفرة (10: 10) بذبيحة حياته الإراديّة (10: 15- 18). أمّا الحديث عن عيد التجديد فلا يقطع التوسيع، بل يدعونا لنفهم أنّ تجديد العهد لا يأتي إلاّ مع يسوع الذي هو واحد مع أبيه (10: 30).
يسود ف 11- 12 موضوع الموت وموضوع القيامة، فيُعِدَّانِ الطريق لكتاب الساعة. فقيامة لعازر تشكّل "مثلاً تاريخيًّا" فيه يواجه يسوع الموت ويكشف عن نفسه أنّه "القيامة والحياة" (11: 20) للذين يؤمنون به. ودلّت المشاورة عند قيافا (11: 46- 54) أنّ كلّ شيء قد تمّ مسبقًا. لقد تنبّأ رئيس الكهنة من غير أن يدريَ أن يسوع سيموت من أجل خلاص الشعب اليهوديّ وجماعة البشر (11: 50 ي). ثمّ وضع يوحنّا سكب الطيب (12: 1- 11) قبل دخول يسوع إلى أورشليم، فدلّ على أنّ هذا العمل هو مدخل إلى الدفن، بينما أبرز الدخولُ الاحتفاليُّ إلى المدينة المقدّسة كرامةَ يسوع المسيحانيّة (12: 12- 19)، وطلبُ اليونانيّين الذين يريدون أن يرَوا يسوع أدّى إلى إعلان أخير للساعة التي فيها يجتذب يسوع إليه كلّ البشر من على صليبه (12: 32).
وينتهي كتاب الآيات بخاتمتين اثنتين (12: 37- 43 و 44- 50): اعتبار على عدم إيمان اليهود حسب نبوءة أش 6: 9 ي، ملخّص لكرازة يسوع: "ما جئت لأدين العالم، بل لأخلّص العالم" (12: 47).

ثالثًا: كتاب الساعة (13: 1- 20: 31)
وصيّة يسوع (ف 13-17)
وينفتح الكتاب الثاني بآية جليلة تعطيه طابعًا خاصًّا (13: 1- 2): إنّه كتاب الساعة التي فيها يقوم يسوع بعمل حبّ سامٍ فينتقل من هذا العالم إلى أبيه. لم يكن حاضرًا هنا إلاّ التلاميذ. سيختفي الخائن بعد قليل في الليل، ويُذكر للمرة الأولى "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه" (13: 23- 26).
يبدو غسل الأرجل (13: 1- 20) علامة نبويّة بها يدلّ يسوع على معنى موته القريب ويبرز بُعدَه من أجل حياة تلاميذه الملموسة.
بعد التشهير بالخائن (13: 21- 30) تبدأ سلسلة أحاديث اعتاد الشرّاح أن يسمّوها "خطبة بعد العشاء الأخير". ولكنّ يسوعَ لا يتحدّث هنا عن تأسيس الإفخارستيّا. لهذا يُفضَّل أن تسمّى "خطبة الوداع" المؤلّفة حسب فنّ أدبيّ معروف في اليهوديّة، هو فنّ الوصيّة التي يتلوها الإنسان قبل موته.
ينتهي حديث أوّل في 14: 31: قوموا نذهب من هنا. ويبدأ حديث ثان بمثَل الكرمة الحقيقيّة (15: 1 ي). وتختتمُ هذه المجموعةَ الصلاةُ الكهنوتيّة (ف 17) فتحدّد نيّة يسوع الذاهب إلى ساعته: ليكون التلاميذ واحدًا كما أنّه والآب واحد. وتتميّز ف 14- 16 بإعلان مجيء الروح المؤيّد.

ساعة التمجيد على الصليب (ف 18-19)
يتبع خبر الالام في خطوطه الكبرى الترتيب الذي نجده عند الإزائيّين. ولكنّ يوحنّا يطبعه بطابعه الشخصيّ بواسطة قوّة التأليف الدراماتيكيّة وغنى الرموز.
نجد هنا ثلاثة أقسام تكاد تكون متوازية. يروي القسم الأوّل (18: 1- 27) كيف سلّم يسوع نفسه لجلاّديه وكيف استُجوب في دار حنّان خلال الليل. ويخصَّص القسم الثاني (18: 18- 19: 16) لمحاكمة رومة ليسوع عبر شخص بيلاطس. هناك حركة دخول وخروج تساعدنا على تحليل النصّ إلى سبعة مشاهد، يمثّل فيها المشهد الأوسط إكليل الشوك.
في الخارج: طلب اليهود موت يسوع في الخارج: إذا أطلقته فأنت عدوّ قيصر.
29:18- 32. حينئذ أسلم بيلاطس إليهم يسوع 13:19- 16.
في الداخل: حوار أوّل: هل أنت في الداخل: حوار ثان، من أين أنت؟
ملك؟ لم يكن لك سلطان عليّ لو لم يُعْطَ لك
جئت لأشهد للحقّ 18: 33- 38 أ. من فوق 19: 9- 12
في الخارج: لا أجد سببًا للحكم. في الخارج: ما وجدت سببًا للحكم.
برأبّا أو يسوع؟ ها هو الرجل! إصلبه!
18: 38 ب- 40. 19: 4- 8.
في الداخل: جلَدَ الجنودُ يسوع وكلّلوه بالشوك 19: 1- 3.
ونستطيع أن نحلّل القسم الثالث (19: 17- 42) إلى سبعةِ أحداثٍ ، وكلُّ حدث يحمل معنى عميقًا: كتابة الصليب التي تبيّن للجميع أنّ يسوع هو ملك اليهود. الثوب غيرُ المخيط الذي لم يمزّقه الجنود. تسمية مريم أمّ التلميذ. لقد تمّ كلّ شيء. الدم والماء يجريان من القلب المطعون. دفنة ملوكيّة تُمنح ليسوع.

يوم الربّ (ف 20)
أراد يوحنّا أن يبيّن انتصار يسوع على الموت فأورد أربعة أحداث جرت في أورشليم في اليوم الأوّل من الأسبوع (20: 1، 9، 26). دفع مجيءُ مَرْيَمَ المجدليّة إلى القبر بطرسَ والتلميذ المحبوب أن يركضا، ولكنّ التلميذ المحبوب وحده آمن (20: 1- 10). ثمّ تلا ذلك ظهورٌ تعرّفت فيه مريم المجدليّة إلى يسوع (20: 11- 18). في العلّيّة نال التلاميذ عطيّة الروح وأُرسلوا إلى العالم (20: 19- 23). ظلّ توما غيرَ مؤمن فحظي بظهورٍ يشهد أنّ مَنْ قام اليوم هو مَن صُلب بالأمس. وجاءت خاتمة أولى تبيّن لماذا اختار الإنجيليّ هذه الآياتِ ورواها.

خاتمة: تعليمات القائم من الموت لكنيسته (ف 21)
زيد ف21 فيما بعد وسُطِّرَ في إنشاء يختلف عن إنشاء سائر الإنجيل ولكنّ هذا لا يعني أنّنا نستطيع أن نستغنيَ عنه. فكما أنّ المطلع جعلنا نستشفّ سرّ شخص يسوع، فإنّ ف 21 يدخلنا في زمن الجماعة ويسمعنا توجيهات المعلّم للذين يتابعون عمله.
إنّ خبر الصيد العجيب (21: 1- 11) يجد ما يوازيه في لو 5: 1- 11 في إطار دعوة الرسل. أمّا هنا فيشدّد الإنجيليّ على أنّ الشبكة لم تتمزق رغم وجود 153 سمكة كبيرة. وتأتي نظرة إلى المستقبل (21: 12- 23): تعرّف التلاميذ إلى يسوع خلال غذاء يذكّرنا بغداء عمّاوس. بعد هذا حدّد يسوع وظيفة بطرس (إرع خرافي) وأشار إلى موته العتيد وإلى مصير التلميذ الذي يحبّه. وتبيِّن الخاتمة الثانية (21: 24- 25) نشاط الجماعة اليوحنّاويّة في تأليف الإنجيل الرابع.

ب- تكوين الإنجيل الرابع
1- لماذا كُتب الإنجيل الرابع ولمن كتب؟
يدلّنا إهداء إنجيل لوقا إلى أنّ كاتبه توجّه إلى جمهور متعلّم من أصل يونانيّ، أمّا الإنجيل الرابع فلا يحدّد جمهوره: هل يتألّف من يهود ووثنيّين يريد الإنجيلي أن يجتذبهم إلى الإيمان، أو من مسيحيّين يريد أن يثبّتهم في الإيمان؟ من الضروريّ أن نجيب على هذا السؤال لنفهم النصّ فهمًا وافيًا. هنا نعود إلى الخاتمتين (20: 30 ي؛ 21: 24 ي) فنجد فيهما اقتراحات عديدة.
نتوقّف أوّلاً على الافتراضات ثمّ نستخلص بُعْدَ هذين المقطعين قبل أن نتعرّف إلى الخصوم الذين يهاجمهم الكاتب أو إلى الضلال الذي يفنّده.

أوّلاً: الافتراضات
إفتراض أوّل قدّمه دود: أراد يوحنّا أن يجتذب إلى المسيحيّة يونانيّين "متصوّفين، يبحثون عن الحقيقة والنور في حياتهم". قال: "يتوجّه الإنجيليّ إلى جمهورٍ غيرِ مثقّف... ويستطيع أن يقرأ الإنجيل شخص يهتمّ بالديانة ويتحلّى ببعض المعرفة للديانات السرّيّة".
افتراض ثان (جاء بعد نشر نصوص قمران) قدّمه فان اونيك: "هدف الإنجيل الرابع إلى أن يقود اليهود وخائني الله إلى الاعتقاد بأنّ يسوع هو المسيح".
افتراض ثالث: ميّز روبنسون بين الإنجيل الرابع (وهو ذو بعد إرساليّ) ورسالة يوحنّا الأولى التي تهدف إلى تثبيت المسيحيّين في إيمانهم وإلى تحذيرهم من الهراطقة.
افتراض رابع. قال مارتين: اهتمّ يوحنّا بمثال الجماعة اليوحنّاويّة التي تواجه معارضة واضطهادات من السلطات اليهوديّة، فأراد أن يثبّت المسيحيّين الذين هم من أصل يهوديّ.
افتراض خامس قدّمه فوغا: هناك هدفان للإنجيل الرابع: الردّ على البلبلة التي تلت فصل المسيحيّة عن اليهوديّة، تشجيع الذين يخافون اضطهاد دوميسيان الإمبراطور. "كانت الكنيسة مصدومة ومتردّدة ويائسة فانبرى يوحنّا اللاهوتيّ يحدّث المؤمنين ويطلب مدنهم أن يلتزموا بالتاريخ الذي يصنعه اللّه معهم. ويشجّعهم لكي يواجهوا حالة الألم والفشل".

ثانيًا: الخاتمة الأولى (20: 30- 31)
"وصنع يسوع أمام تلاميذه آياتٍ أخرى غيرَ مدوّنةٍ في هذا الكتاب. أمّا الآيات المدوّنة هنا فهي لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح، ابن الله. فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة".
حدّد يوحنّا أسلوبَ عمله وهدفَه. كان لوقا (1: 1- 4) المؤرّخ قد أكّد أنّه جمع الوثائق الضروريّة ورتّب خبره باعتناء. أمّا يوحنا فأعلن أنّه قام بعمليّة اختيار في التقليد الإنجيليّ الواسع من أجل هدف معيّن: تثبيت الإيمان.
كلمة آية مهمّة جدًّا في الإنجيل الرابع حيث نعدّ سبع آيات. والعلاقة بين الآية والإيمان ظاهر بمناسبة آية قانا الأولى (2: 11) وفشل عمل يسوع مع اليهود (12: 37). فيوحنّا لا ينظر إلى المعجزة في وجهتها الماديّة فحسب، بل مع تفسيرها (6: 26). إنّ الخطبة ترتبط نخبر الآية ارتباطًا وثيقًا. أمّا الآية العظمى فهي الصليب. وإن 20: 30 التي تبدو وكأنّها لا تدلّ إلاّ على كتاب الآيات (ف 1- 12) تدلّ أيضاً على كتاب الساعة (ف 13- 20).
وتدخلنا 20: 31 في قلب إنجيل يوحنّا. ففعل آمن مهمّ جدًّا ويستعمله يوحنّا 98 مرّة. يستعمله يوحنّا بمعنى التعلّق الشخصيّ (9: 35: هل تؤمن بابن الإنسان؟)، أو يجعله يدلّ على غرض اعتراف الإيمان. حين أعلنت مرتا إيمانها قالت: "أؤمن أنّك المسيحُ، ابن الله، الآتي إلى العالم" (11: 35).
"فإذا آمنتم". هل نفهم: لكي تقتنوا الإيمان، وهذا ما يدلّ على هدف إرساليّ.
أو: لكي تنموا في الإيمان، وهذا يشير إلى جمهور مسيحيّ. إذا قرأنا النصّ نستطيع أن نأخذ بالاحتمالين. ولكنّ الفحوى الإجماليّ يقودنا إلى الاحتمال الثاني: ماذا يستطيع القارئ أن يفهم من هذا الإنجيل إن لم يكن تَدَرَّجَ حقًّا في الإيمان المسيحيّ؟ إذًا يريد يوحنّا أن يقوّيَ إيمانَ المسيحيّينَ الخاضعينَ للمحنةِ. هنا نشير إلى فعل "ثبت". يجب أن تثبت كلمات يسوع في المؤمنين (8: 31؛ 15: 7) ليشاركوا في حريّة الابن (8: 35) ويحملوا ثمارًا وافرة. ويدعونا مثل الكرمة لنثبت في المسيح كما يثبت هو في المؤمنين (4:15، 10).
ونحافظ في 20: 31 على قيمة كلّ كلمة: المسيح وابن الله. إهتمّ يوحنّا بأن يدخل وحي يسوع في تاريخ الخلاص، فبيّن أنّه مسيح إسرائيل المنتظر مع ما في هذا القول من مفارقة.
في ف 1 يعدّد يوحنّا الألقاب المسيحانيّة: حمل الله، ابن (أو مختار) الله، المسيح، ملك إسرائيل، ابن الإنسان (1: 29- 51). وتُظهر طبيعة ملكوت المسيح في وجهها الظاهريّ التناقض في الالام (رج 19: 1- 3: التكليل بالشوك). والكتابة فوق الصليب أعلنت للكون أنّ يسوع هو ملك (19: 20: كانت في ثلاث لغات). وهكذا يُتمّ يسوع انتظار إسرائيل الطويل في شكل شاملٍ وسامٍ.
لو لم يقل يوحنّا "ابن الله" لظلّ التعبير الإيمانيّ ناقصاً. لقد اهتمّ يوحنّا أكثر من أيٍّ كان في إظهار العلاقة الوثيقة بين الابن والآب. وخبر الظهورات الفصحيّة له معناه وهو الذي ينتهي بأوسع اعترافِ إيمان: "ربّي وإلهي" (20: 28).
ليست الإيمان في نظر يوحنّا شيئًا مجرّدًا. إنّه انفتاح على الحياة. إنّه الحياة بالذات. كلمة حياة مهمّة جدًّا (36 مرة) وهي ترتبط بمعرفة الإيمان: "من يؤمن كان له فيه (في المسيح) الحياة الأبديّة" (3: 15). "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك والذي أرسلته، يسوع المسيح" (17: 3). فكلّ الرموز التي بها كشف يسوع عن نفسه ارتبطت بالحياة (الخبز في ف 6، النور في 8: 12، الراعي في 10: 10، الطريق في 14: 6...). فالحياة والموت يتعلّقان بقبولنا أو رفضنا لكلمة المسيح (8: 12، 24...). فالإنجيليّ يحدّد لنفسه غاية ويحاول أن يصل إليها بكلّ الوسائل: أن يوقظ إيمانًا واعيًا يحصل على الحياة. هنا نقرأ خبر المولود أعمى فيبدو نموذجًا لنا: ينتقل هذا الأعمى من مرحلة إلى مرحلة حتّى يصل إلى فعل العبادة: "أؤمن يا ربّ، وسجد أمامه" (9: 38). إذًا، يتوسعّ يوحنّا في لاهوت لا ينفصل فيه الإيمان عن الحياة. لا يهتمّ يوحنّا بحياة يسوع كماضٍ قد عبر، بل كحاضر حقيقيّ يعطي حياةَ المؤمنين معناها ويساعدهم ليصيروا أبناء الله (1: 12).

ثالثًا: الخاتمة الثانية (21: 24- 25)
"وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدوّنها، ونحن نعرف أنّ شهادته مطابقة للحقيقة. وهناك أمور كثيرة عملها يسوع، لو كتبها أحد بالتفصيل، لضاق العالم كلُّه، على ما أظنّ، بالكتب التي تحتويها".
يحدّد ملحق الإنجيل الرابع موقع التلميذ الذي كان يسوع يحبّه بالنسبة إلى الجماعة اليوحنّاويّة. سنعود إلى الحديث عن هذه الجماعة. ولكنّنا نقول الآن إنّ الجماعة اهتمّت بنشر الكتاب وختمته بخاتمها معلنة أنّه صادق وموافق للحقيقة.
إذًا، لسنا أمام كتاب يبقى داخل المجموعة التي فيها رأى النور، بل أمام كتاب يتوجّه إلى كلّ الذين ينتمون إلى القطيع الذي سلّم المسيح إلى بطرس مسؤوليّة العناية به. ويتذكّر النصّ بجلال استشهاد بطرس (21: 19). إنّ الجماعة اليوحنّاويّة تعي خصائصها، ولكنّها تحسّ أنّها متضامنة مع الكنيسة الواحدة وتريد أن تشارك في الخير العامّ فتنشر المؤلَّف الذي يرتكز على شهادة التلميذ الحبيب.
نلاحظ هنا أهمّيّة مفردة الشهادة. نقرأ الفعل 33 مرّة في الإنجيل الرابع ومرّتين عند الإزائيّين، والاسم 14 مرّة عند يوحنّا وأربع مرّات عند الإزائيّين. ويتذكّر الإنجيل شهادة التلميذ بإجلال في وقت الآلام: "الذي رأى شهد، وشهادته هي موافقة للحقيقة. وهَذا (أي المسيح) يعرف أنّه يقول الحقّ حتّى تؤمنوا مثله".
نستشفّ مرحلة طويلة من الكرازة الشفهيّة قبل أن تدوّن شهادة التلميذ. ولقد ألقى موت التلميذ البلبلة في جماعته، كما يدلّ على ذلك التفسير المعطى لكلمة الربّ الغامضة: "إن شئت أن يثبت إلى أن أجيء" (21: 22 ي). انتظر البعض حضورًا جسديًّا حتّى مجيء الربّ، فإذا هو حضور شهادة بفضل الكتاب. هكذا يبين لنا ناشرو الإنجيل الرابع أصل التقاليد الخاصّة التي يتضمّن والأهمّيّة التي يعلّقون عليها.

رابعًا: هل لإنجيل يوحنّا هدف هجوميّ؟
شدّد بعض الشرّاح على حرب الإنجيل الرابع على جماعة المعمدان، أي تلاميذ يوحنّا المعمدان الذين يشير سفر الأعمال (18: 25 ؛ 19: 2- 4) إلى حضورهم في أفسس حيث ألِّف الإنجيل، كما تقول التقاليد. إنّ المقطعَين المتعلّقَين بيوحنّا في مطلع الإنجيل (1: 6- 8، 15) يدخلان في التوسعّ ويحاربان فكرة خاطئة عن شخص السابق ورسالته. ولكن يجب أن لا نشدّد على العنصر الهجوميّ هذا. فإن شدّد الإنجيليّ على المسافة بين المعمدان ويسوع (1: 6- 8، 15، 20؛ 10: 41) وأشار إلى المزاحمة بين تلاميذ يسوع والمعمدان (3: 25، 4: 2)، فهو لا يجعل يوحنّا مسؤولاً عن هذا الواقع، بل يُبرز تجرّده البطوليّ: "له هو أن ينموَ ولي أنا أن أنقصَ" (3: 30). إنّ المعمدان هو في الإنجيل الرابع مثال المرسل المسيحيّ. وهكذا يوجّه الإنجيليّ نداءً إلى أتباع المعمدان ليكونوا أمناء لشهادة معلّمهم.
هل هناك حرب ضدّ المسيحيّين الذين من أصل يهوديّ؛ هناك ولا شكّ مقاطع في الإنجيل الرابع تصيب هؤلاء المسيحيّين المتهوّدين الذين لم يتوصّلوا إلى التعلّق الكامل بالمسيح لئلاّ يطردوا من المجمع. هل يكون "إخوة يسوع" المذكورون في 7: 3- 5 الممثّلين لهذه المجموعة؛ حين دعا يسوع الناس ليثبتوا في كلمته ويصلوا إلى الحرّيّة (8: 31 ي)، فهو يعني هؤلاء اليهود الذين بدأوا يؤمنون ولكنّهم لم يذهبوا إلى النهاية في إيمانهم. فيؤكّد لهم يوحنّا في إنجيله أنّ عليهم أن يؤمنوا أنّ يسوع هو حقًّا ابن الله لكي يخلصوا.
يعتبر إيريناوس أنّ يوحنّا أراد أن يقتلع ضلال قرنتيس والنقولاويّين. وزاد إيرونيموس أنّه حارب الأبيونيّين. كان قرنتيس يمزج نظريّاتٍ غنوصيّةً بتعلّقٍ بالشريعة اليهوديّة. وارتبط الأبيونيّون بالمتهوّدين فمارسوا شريعة موسى (ما عدا تقدمة الذبائح الدمويّة)، ورأوا في يسوع النبيّ المعلن عنه في تث 18: 15، ورفضوا أن يعترفوا ببنوّته الإلهيّة.
وحارب الإنجيل الرابع الظاهريّين (لم يتّخذ المسيح إلاَّ ظاهرَ الجسد لا حقيقة الجسد). شجب أغناطيوسُ الأنطاكيُّ في بداية القرن الثاني الهراطقة الذين يرتابون بحقيقة التجسّد. لقد قصدت رسائل يوحنّا الظاهريّة بطريقة واضحة. ونستطيع أن نجد بعض الحرب على الظاهريّين في مقاطع من إنجيل يوحنّا: الإعلان أنّ الكلمة صار بشرًا (1: 14)، العظة على ضرورة أكل الجسد وشرب دم ابن الإنسان (6: 51- 58)، الشهادة الاحتفاليّة عن الدم والماء اللذين سالا من جنب الخلّص (19: 34 ي)، الظهور لتوما مع التشديد على جراحات القائم من الموت (20: 24- 29).

خامسًا: البعد الإرساليّ للإنجيل الرابع
نودّ أن نبيّن الديناميّة الإرساليّة التي نكتشفها لدى قراءة الإنجيل الرابع. إذا توقّفنا عند ظاهر الأمور نشعر أنّ كلّ شيء قد انتهى: من الناس مَنْ ينتمون إلى العالم السفليّ (8: 23)، مَن يُدخ لأنْ يحكم بحسب الجسد (8: 15)، مَن يعجز أن يسمع صوت حامل الوحي لأنّ إبليس هو أبوه (8: 44). إنّهم يميلون عن النور لأنّ أعمالَهم شرّيرة (3: 19 ي)، فهم ينتمون إلى هذا "العالم" الذي لا يصلّي المسيحُ من أجله (17: 9).
لا نُصَلِّبْ هذهِ العباراتِ التي ترتبط بالحرب الكلاميّة. فمن بداية الإنجيل إلى نهايته يدوّي نداء المسيح مقدّمًا الحياة بوفرة: "أنا هو خبز الحياة. من يأتِ إليّ لا يَجُعْ، ومن يؤمنْ بي لا يعطشْ أبدًا" (6: 35، رج 4: 10؛ 7: 37، 2: 44- 47). لا معنى لمثل هذا الكلام إن لم يكن للسامعين إمكانيّة العبور من الظلمة إلى النور بفضل الإيمان.
إذا وضعنا جانبًا المطلع الذي يشدّد على عمل اللوغوس (أو الكلمة) الشامل، فهناك أحداث تدلّ على اهتمام يوحنّا بالرسالة. تفرّد مع لوقا بالحديث عن السامرة: ففي القسم الأوّل المركّز على إعلان الحياة، لا تمثّل امرأة سوخار أبناء قريتها فقط بل كلّ الذين يطلبهم الآب (4: 23) ليجعلهم عبّادًا بالروح والحق. والحديث مع التلاميذ (4: 34- 38) يشكل موازاة لخطبة الإرسال التي نقرأها عند الإزائيّين (مت 10: 5 ي، مر 6: 7 ي، لو 9: 2 ي، 10: 3 ي). وتنتهي هذه الحادثة بإعلان أهل السامرة بصوت واحد: "نحن نعرف أنّه حقًّا مخلّص العالم" (4: 42). ويضع المشهد التالي أمامنا ضابطاً ملكيًّا (4: 46- 54) سينتقل إيمانه كالعدوى إلى كلّ أهل بيته (4: 53، رج أع 10: 44- 48، 16: 15، 31 ي). غاب يسوع عن عيد المظالّ فظنّ الناس أنّه ذهب يعلّم اليونانيّين (7: 35). وسيظهر هؤلاء اليونانيّون من جديد عند اقتراب عيد الفصح فيدلّ مسعاهم على مجيء الساعة (12: 20، 23).
إهتمّ يوحنّا بالمعطيات التي تلقي ضوءًا على معنى الآلام فأشار إلى أنّ الكتابة سطّرت في ثلاث لغات: العبرانيّة واللاتينيّة واليونانيّة. قرأها اليهود فاشمأزّوا. أمّا يوحنّا فرأى في هذه الكتابة علامة شمول الفداء.
إنّ يوحنّا يؤسسّ في سيرة يسوع دعوة الكنيسة إلى عمل الرسالة. فيسوع نفسه صلّى من أجل الذين يؤمنون بواسطة تلاميذه (17: 20) لتكون وحدتهم علامة الإرادة الخلاصيّة التي أُوحي بها على الصليب (3: 16). وحين ظهر المسيح على التلاميذ في العلّيّة بعثهم إلى الرسالة وأعطاهم الروح القدس ليغفروا للمؤمنين خطاياهم (20: 21- 23). وهكذا تتمّ رسالة الحمل الإلهيّ الذي جاء ليرفع خطيئة العالم (1: 29).

2- ينابيع الإنجيل الرابع
منذ القرن التاسع عشر بدأ الشرّاح يبحثون عن الينابيع التي استقى منها الإنجيليّون. أعلن لوقا نفسُه (لو 1: 1- 4) أنّه أخذ من سابقيه ولاسيّما من مرقس. ثمّ إنّنا نجد قسمًا من وثائق لوقا في إنجيل متّى وهذا ما دفع البحّاثة إلى الكلام عن "معين" أقوال يسوع. ولكنّ الأمرَ يختلف في ما يخصّ إنجيل يوحنّا الذي لا يوافق الإزائيّين إلاَّ في بعض مقاطع. يسير يوحنّا وحده، فلا يشبه كتابُه كتابًا آخر. فإذا أردنا أن نتعرّف إلى ينابيعه، ننطلق من إنجيله نفسه.
نبدأ فنتعرّف إلى المعايير التي تساعدنا على اكتشاف الينابيع، ونقابل بين يوحنّا والإزائيّين قبل أن نقدّم بعض الافتراضات الحديثة.

أوّلاً: معايير التمييز
عرض الأب بوامار المبادئ التي تتيح لنا أن نتعرّف إلى الينابيع التي استقى منها يوحنّا.
هناك الزيادات: نجد مقاطعَ متعدّدةً تشبه حواشيَ زيدت فيما بعد لكي توضح النصّ أو لتزيل منه بعض التنافر. مثلاً: تُشرح كلمة "ماشيح" (1: 41)، ولقب "كيفا" المعطى لسمعان (1: 42)0 الإشارة في 4: 2 توضح ما قيل في 3: 22، 26 و 4: 1 من أنّ يسوع كان يعمّد. ويشرح لنا النصّ دهشة السامريّة: "لأنّ اليهود لا يخالطون السامريّين" (4: 9).
هناك استعادة نصّ قطع الكاتب سياقه. إذًا، مع الحواشي التفسيريّة هناك زيادات خطيرة تبلبل نظام الأفكار أو تبدّل الفكرة. في 14: 1- 3 نقرأ وعد يسوع عن رجوعه (ومجيئه)، ولكن بعد آ 4 نقرأ شرحًا يعني الزمن الحاضر. قابل بوامار 18: 33- 37 مع ما يقابله في الإزائيّين فرأى في تكرار سؤال بيلاطس (أأنت ملك اليهود: آ 33، 37) برهانًا عن استعادة اليَنبوع الذي تركه الكاتب حين زاد آ 34 و 36.
هناك الفكرة التي تعود مرّتين أو ثلاثة. مثلاً: نجد خاتمتين لكتاب الآيات (12: 37- 40 و 12: 44- 50)، وتفسيرين لغسل الأرجل (13: 6- 11 و 13: 12- 17)، وخطبتي وداع (13: 31- 14 و 15: 1- 16: 33)، هذا إذا م نحسب الصلاةَ الكهنوتيّة (ف 17). زيدت الثانية إلى الأولى لأنّ الدعوة إلى الذهاب (14: 31) تجد كمالها في الانطلاق إلى جتسيماني (18: 1).
وهناك تعابير إنشائيّة ومعايير لاهوتيّة. ولكن نحتاج إلى إشارات عديدة لنتعرّف إلى ينابيع متواصلة في داخل الإنجيل الرابع.

تانيًا: يوحنّا والإزائيّون
إليك مقاطع يوحنّا المتوازية مع التقليد المشترك: عماد يسوع على يد يوحنّا المعمدان ونداء التلاميذ الأوّلين. طرد الباعة من الهيكل. تكثير الخبز والسير على المياه. اعتراف بطرس بالمسيح. المسح بالطيب في بيت عنيا. دخول يسوع إلى أورشليم دخولاً احتفاليًّا. التشهير بالخائن. خبر الالام بعد توقيف يسوع في جتسيماني. مجيء النسوة إلى القبر.
إذا وضعنا جانبًا متتالية الآلام، نلاحظ بصورة خاصة رسالة يسوع في الجليل حسب ف 6: تكثير الخبز، السير على المياه، الخطبة على خبز الحياة والقريبة من "مجموعة الخبز" عند الإزائيّين، اعتراف بطرس بالمسيح (ق مع مر 6: 34- 8: 30).
ولكن يجب على المشابهات ألاّ تنسيَنا الاختلافاتِ. لنأخذ مثلاً عماد يسوع الذي يرد عند الإزائيّين في إطار خبر. أمّا يوحنّا فلا يلمّح إلى المعموديّة إلاّ في إطار شهادة يوحنّا (1: 32- 34). إذًا، نحن أمام تحوّل عميق لا يفسّره فقط إرتباط أدبيّ. ولنأخذ مشهد الباعة المطرودينَ من الهيكل: نلاحظ أنّ مرقس يعطيه معنى شموليًّا: "سيدعى بيتي بيت صلاة من أجل كلّ الشعوب" (مر 11: 17). كيف نفسّر أن يهمل متّى العبارة الأخيرة (من أجل كلّ الشعوب) لو كان نصّ مرقس أمامه. أمّا يوحنّا فأعطى الحدث معنى كرستولوجيًّا. إنّ طرد حيوانات الذبائح (2: 15) تدلّ على نهاية الهيكل الأوّل وتهيّئ لبناء هيكل جديد هو المسيح القائم من بين الأموات (2: 19- 22).

ثالثًا: ينابيع الإنجيل الرابع حسب بولتمان
يبدأ بوقان فيبعد تصليحات منسوبة إلى الكاتب الكنسيّ (ذكر الماء في 3: 5، النصوص عن الإسكاتولوجيا التقليديّة في 5: 28 ي أو عن الأسرار في 6: 52- 58 ؛ 19: 34 ب- 35). ثمّ يميّز في الإنجيل الرابع ثلاثة ينابيع. الينبوع الأوّل: خطب وحي من أصل غنوصيّ نسبت إلى يسوع. أوّلها هو المطلع. ثمّ توزّعت سائر الإعلانات في الإنجيل ولا سيّما تلك التي تبدأ: أنا هو الخبز الحق والحياة والراعي والحقيقة. إنّ هذا اليَنبوع يقدّم النصّ الذي انطلق منه الإنجيليّ فتوسعّ في كرازته الخاصّة. ولكن بفعل خدعة أدبيّة وُضع النصّ والكرازة في فم يسوع نفسه. الينبوع الثاني: إنّ الأقسام الإخباريّة في ف 1- 12 ولا سيّما أخبار العجائب أخذت من "مجموعة الآيات" التي تنتهي مع الخاتمة في 20: 30- 31. لم يأخذ يوحنّا معطياته الإخباريّة من الإزائيّين بل من مجموعة الآيات. ويتألّف اليَنبوع الثالث من خبر الآلام وظهورات المسيح القائم من الموت. لن نتوقّف عند هذه النظريّة وما فيها من أخطاء.

3- مراحل التأليف
سنقدّم هنا ثلاثَ نظريّات.

أوّلاً: نظريّة شناكنبورغ الألمانيّ
حاول أن يحدّد الخلفيّة الدينيّة والمضمون اللاهوتيّ للإنجيل الرابع. المرحلةُ التأليفيّة الأولى تقابل مرحلة التقاليد السابقة ليوحنّا: أخبار على مثال ما نرى عند الإزائيّين، مجموعة الآيات، أقوال يسوع التي نُقلت بطريقة شفهيّة أو دُمجت في قطعة ليتورجيّة. قال شناكنبورغ أوّلاً إنّ الرسولَ يوحنّا كان كفيلَ هذه المعطياتِ التقليديّةِ، ثمّ تحدث عن التلميذ الحبيب الذي كان من أهل أورشليم ومن أخصّاء يسوع دون أن ينتميَ إلى حلقة الرسل الاثني عشر. وتتمثّل مرحلة التأليف الجوهريّة بعمل الإنجيليّ الذي هو تلميذ الرسول والذي طبع بطابعه الخاصّ كلّ الموادّ التي استعمل. لهذا نجد وحدة أدبيّة ولاهوتيّة في الإنجيل الرابع. ولكنّ الكاتب لم يُنهِ كتابه، فجاء الناشر فاستعمل معطيات متبقّية (مثلاً 13:3- 21، 31- 36، 44:12- 50، 15: 1-17: 26) ولاسيّما ف 21 وقلب النظام الأوّل ولاسيّما ف 5 وف 6.

ثانيًا: نظرّية براون الأميركانيّ
وزّع على خمس مراحل تاريخ تدوين الإنجيل الرابع.- المرحلة الأولى: نقطة الانطلاق: كرازة شفهيّة قام بها يوحنّا بن زبدى.- المرحلة الثانية: جمع تلاميذُ يسوعَ ذكرياتِ معلّمهم. نجد في هذه المرحلة من التكوين تأليف الأخبار والخطب الكبرى. دَوَّنَتْ هذه العناصرَ المتنوّعةَ أيدٍ عديدةٌ . لهذا نجد اختلافات في الإنشاء ولا سيّما في ف 21.- المرحلة الثالثة: وبعد الوعّاظ اللاهوتيّين جاء الإنجيليّ وهو التلميذ البارز في الحلقة اليوحنّاويّة. كتب في اليونانيّة فألّف مجموعة تضمّ الرسالة في الجليل والرسالة في اليهوديّة. ولكنّه أغفل بعض العناصر التي تنتمي إلى التقليد اليوحنّاويّ.- المرحلة الرابعة: ظهرت بعض هذه العناصر في "طبعة" ثانية نجد فيها حربًا على تلاميذ المعمدان أو على اليهود الذينَ يطردون من المجمع أبناءَ دينهم المتعلّقين بالإيمان المسيحيّ (9: 22 ي ؛ 16: 2).- المرحلة الخامسة: استعاد المؤلّف الأخير عناصر المرحلة الثانية التي تركها الإنجيليّ جانبًا حين قدّم "طبعتي" مؤلَّفه.

ثالثًا: نظريّة بوامار الفرنسيّ
وزّع تكوين الإنجيل الرابع على أربعِ مراحل.
التدوين الأوّل ويسمّيه بوامار الوثيقة (ج) ليحدّد موقعه بالنسبة إلى التقليد الإزائيّ. شكّل هذا التدوين إنجيلاً كاملاً يبدأ بشهادة يوحنّا وينتهي بظهورات القائم من الموت، ولكنّه لم يضمّ واحدة من الخطب الكبرى. أورد خمس معجزات وتحدّث عن فصح واحد. احتلّت السامرة في هذا التدوين مكانة هامّة. سُطّر حوالي السنة 50 في فلسطين فمثّل تقليدًا مستقلاً عن تقليد الإزائيّين. كاتبه هو يوحنّا الرسول أو لعازر من بيت عنيا.
التدوين الثاني: حوالي السنوات 60- 65 استعاد كاتب آخر (يوحنّا 2 أ) نصّ الوثيقة (ج) وزاد عليها أخبارًا تخصّ التقليد الإزائيّ كما زاد بعض خطب يسوع. ظلّ التصميم هو هو تقريبًا. يحتوي هذا التدوين سبع معجزات ويتوسّع في الجدال مع اليهود في إطار عيد المظالّ.
التدوين الثالث: حوالي نهاية القرن الأوّل استعاد الكاتب نفسه في آسية الصغرى عمله السابق ليجعله يلائم المشاكل الجديدة (يوحنا 2 ب): خلافات داخليّة مع خطر انشقاق (1 يو 2: 18 ي؛ 2 يو 9- 11)، صعوبة الإيمان لدى مسيحيّي الجيل الثاني، هجومات المحيط اليهوديّ على المسيحيّين. وزّع الكاتب حياة يسوع على ثمانية أسابيع وشدّد على ثلاثة أعياد الفصح. فمن الوجهة التعليميّة، تميّزت هذه المرحلة بالتوسيع في التعليم عن يسوع المسيح والروح المعزّي في خطبة الوداع. وصارت الحرب أعنف على اليهود بسبب الحرم الذي أعلنته يمنية على المسيحيّين.
التدوين الرابع: في بداية القرن الثاني دمج مسيحيّ من آسية الصغرى التدوين الثاني (يوحنّا 2 أ) والتدوين الثالث (يوحنّا 2 ب) بطريقة تخلو من الفهم. لهذا وجب على الشارح الحديث أن يكتشف الترتيب الأوّل. ويبدو أنّ التدوين الثالث (يوحنا 2 ب) هو الأهمّ وإلى كاتبه ننسب الشميلة اللاهوتيّة التي تميّز الإنجيل الرابع.
جعل بوامار التدوين الثاني في فلسطين والتدوين الثالث في أفسس (وهما المرحلتان الجوهريّتان) ليبين التجذّر اليهوديّ والتجذّر الهلّينيّ في إنجيل يوحنّا.
نقول في الختام إنّ لا اتّفاقَ في ما يخصّ ينابيعَ الإنجيل الرابع ولا مراحلَ تكوينه. ولكنّ هذا يعني أنّنا أمام تعميق متواصل لكلمة الله. فالقراءة اللغويّة تساعدنا على استشفاف مراحلها. وأهمّ معيار يبقى التكرار. فالخطبة الإفخارستيّة في 6: 51 ب- 58 تكمّل التوسيع الأول وتقابل مرحلة ثانية تشدّد على واقعيّة التجسّد. وخطب الوداع تتوزّع على ثلاث أو أربع مراحل: دوّنت الخطبة الأولى (13: 31- 14: 31) قبل أن يُطرد المسيحيّون اليوحنّاويون من المجمع. وتجيب الخطبة الثانية (15: 1- 16: 14 أ) على عثار الحرم الذي أعلنه اليهود، وتكشف أنّ يسوع هو الكرمة الحقيقيّة التي نتحدّ بها لنكون شعب الله. وتعالج الخطبة الثالثة (16: 4 ب- 33) التي تقابل خطبة الإزائيّين الإسكاتولوجيّة (مر 13: 3 ي، مت 24: 3 ي؛ لو 21: 7 ي)، عداوة العالم ضدّ التلاميذ وتتوسعّ في دور الروح المؤّيد في هذه الظروف. ويمكن أن نرى في ف 17 الخطبة الرابعة التي هي جواب على التوتّر الموجود داخل الجماعة بسبب المتطرّفين (2 يو 9) الذين يستعدّون "ليخرجوا من بيننا" (1 يو 2: 19).
ويجب أن نهتمّ بالفصل 21 وبالمكانة التي يعطيها للتلميذ الحبيب. إنّه يفتح أمامنا منظوراتٍ هامّةً عن حياة الجماعة اليوحنّاويّة، ويساعدنا على تحديد موقعها بالنسبة إلى الكنائس التي ترتبط ببطرس.

4- تاريخ الجماعة اليوحنّاويّة
كان الشرّاح يهتمّون قبل كلّ شيء بإنجيل يوحنّا على أنّه عمل لاهوتيّ كبير. ولكن منذ بعض الوقت انصبّ الاهتمام على العلاقة بين هذا الإنجيل والجماعة التي فيها تكوّن. يرتبط هذا البحث، ولا شكّ، بتحليل الينابيع، ولكنّه يتميّز أيضاً لأنّه يُدخِلُ عواملَ جديدة مثل موقع هذه الجماعة بالنسبة إلى سائر المجموعات المسيحيّة، ويستعمل معطياتِ رسائلِ يوحنّا وسفر الرؤيا التي ترتبط بقرابة بالإنجيل الرابع.
ويجدر بنا أن نميّز هنا بين الجماعة اليوحنّاويّة والمدرسة اليوحنّاويّة. فالجماعة هي مجموعة المؤمنين الذين يتأثّرون بيوحنّا. أمّا المدرسة فتدلّ على مجموعة محصورة من التلاميذ تربَّوا على يد يوحنّا واهتمّوا بأن ينشروا تعليمه.
نتوقّف هنا على محاولتين حول تاريخ الجماعة اليوحناويّة. الأولى تشدّد على علاقة التاريخ باللاهوت، والثانية تقدّم لنا صورة عن جماعة التلميذ الحبيب.

أوّلا: التاريخ واللاهوت في الإنجيل الرابع
قال مارتين: يجب أن نقرأ أخبار الإنجيل الرابع على مستويَين: مستوى تاريخ يسوع، ومستوى الجماعة التي دوّن فيها هذا الإنجيل.
في البداية تكوّنت الجماعة من يهود يتردّدون على المجمع. ولكنّهم عرفوا أنّ يسوع هو المسيح. فأُجبروا على أن يختاروا بين انتمائهم إلى العالم اليهوديّ وبين إيمانهم المسيحيّ. استند مارتين إلى ذكر الحرم ثلاث مرّات في يوحنّا: مرّة أولى خلال الحديث عن المولود أعمى (9: 22: "اتّفق اليهود أن يطردوا من المجمع كلّ من يعترف بأنّ يسوع هو المسيح")، ومرّة ثانية حين قال إنّ الزعماء لم يتجرّأوا على الاعتراف بيسوع لئلاّ يُطردوا من المجمع (12: 42: "آمن رؤساء اليهود، ولكنّهم ما أعلنوا إيمانهم مسايرة لليهود، لئلاّ يُطرَدوا من المجمع")، ومرّة ثالثة في خطبة الوداع (16: 2: "سيطردونكم من المجامع"). وقوّة البرهان هي أنّ الكلمة اليونانيّة (طرد من المجمع) لا ترد إلاّ في هذه المقاطع الثلاثة من العهد الجديد.
نفسّر هذا الطرد بتصرّف جماعة يمنية (حوالي السنة 90 ب م) الذين أدخلوا في صلاتهم الرسميّة لعنة "المينيم" (أو الهراطقة) على المباركات (مبارك أنت يا ربّ) الثماني عشرة وأجبروا الجماعة على التلفّظ بها بصوت عال. فأجبر هذا الإجراءُ المسيحيّين الذين من أصل يهوديّ على طرد نفوسهم من المجمع لئلا يُنكروا إيمانهم. ولكن رفَضَ بعض المؤمنين أن يتخلَّوا عن المجمع. فكانوا مسيحيّين في الخفاء وإليهم توجّهت بعضُ المقاطع في الإنجيل الرابع (8: 31- 32: "قال يسوع لليهود الذين آمنوا به: إذا ثبتمّ في كلامي، صرتم في الحقيقة تلاميذي: تعرفون الحقَّ، والحقُّ يحرّركم"، رج 12: 42). وأصابت الجماعةَ اليوحنّاويّة صدمةٌ ثانية: التهديد بالموت والاضطهاد المفتوح (10: 28- 29؛ 15: 18: "إن أبغضكم العالم، فتذكّروا أنّه أبغضني قبل أن يبغضكم"). اكتشفت الجماعة أنها ليست من هذا العالم فتوسّعت في كرستولوجيا تمثّل يسوع كالغريب الآتي من عالم آخر.
وفي مرحلة أخيرة استعادت الجماعة أنفاسها ووثقت بنفسها. فتوجّهت إلى مسيحيّي الخفاء الذين لبثوا في المجمع وطلبت منهم أن ينضمّوا إلى صفوفها وأن يقيموا علاقاتٍ مع سائر الجماعات المشتّتة (10: 16) لتؤلّف معها الرعيّة الواحدة للراعي الواحد.

ثانيًا: جماعة التلميذ الحبيب
رسم الأب براون تاريخ الجماعة اليوحنّاويّة منذ بدايتها إلى زوالها خلال القرن الثاني المسيحيّ. انطلق براون ممّا لاحظه مارتين ووصفه بالمسيحيّة الوضيعة الإيمان في مسيحانيّة يسوع فقط. واختلف عن مارتين فاعترف بتأثير التلميذ الحبيب الذي لم يكن من مصافّ الاثني عشر بل من جمهور التلاميذ. هذا التلميذ هو الذي أمَّن علاقة الجماعة بأصولها. واهتمّ براون بارتداد السامريّين (يو 4) الذين لم يستطعوا أن يفهموا الكرستولوجيا التقليديّة التي تتحدّث عن يسوع ابن داود. فحملوا نِظرتهم الخاصّة إلى المسيح على أنّه موسى الجديد وتعمّقوا في كرستولوجيا ستقودهم إلى الانفصال عن العالم اليهوديّ. وإنّ قساوة المجادلات في ف 7- 8 تعكس التوتّر القائم بين اليهود والمسيحيّين. ونلاحظ الاهتمام بمسألة الجذور (8: 14). يعلن يسوع أنّه أعظم من إبراهيم (8: 58).
طُردت الجماعة اليوحنّاويّة من المجمع، فتوجّهت إلى العالم الهلّينيّ كما تَشهد بذلك الأحداث التي تتكلّم عن اليونانيّين (7: 35؛ 12: 20). وحمل التشديد المتزايد على ألوهيّة المسيح خطر التقليل من ناسوته. من هنا التوترات الحادّة التي تتكلّم عنها 1 يو 2: 19؛ 4: 1- 6.
بدت شميلة براون أقوى من شميلة مارتين لأنّها تسيطر على مجمل المسائل التاريخيّة والأدبيّة واللاهوتيّة. ولكن هل هذا يعني أنّنا في اليقين التامّ؛ كلاَّ. فالأب براون يعتبر نفسه سعيدًا إن استطاع أن يقنع ستّين في المائة من القرّاء. كان يتساءل عن تاريخ الجماعة اليوحنّاويّة فتوصّل إلى طرح أسئلة تخرج من منظور كاتب الإنجيل الرابع. ما يهتمّ به يوحنّا ليس المؤسّسة (أكانت جماعة أو شيئًا آخر) بل التعلّق الشخصيّ بيسوع المسيح والحياة الصوفيّة. فإذا أردنا أن ندخل في حياة الجماعة يجب أن نقرأ بين السطور مع كلّ ما تتضمّن هذه القراءة من مخاطر.

ثالثًا: المدرسة اليوحنّاويّة في أفسس
ماذا نستطيع أن نستنتج؛ أوّلاً: إنّ جذور الجماعة اليوحنّاويّة هي في فلسطين. لقد تبع التلميذ الحبيب (الذي نعتبره مؤسّس الجماعة اليوحنّاويّة) يوحنّا المعمدانَ وظلّ على اتّصال بالحلقات المعمدانيّة وسعى إلى ردّ رفاقه القدامى إلى الإيمان المسيحيّ. لا يجب أن نشدّد على تأثير العالم اليهوديّ "المهرطق". فجمل المجادلات مع اليهود التي نقرأها في الإنجيل الرابع قد جرت في هيكل أورشليم نفسه وبمناسبة الأعياد. ثمّ إنّ معنى السبت ويوم ظهور عمل الله (ف 5) يذكّرنا بالمجادلات التي نجدها عند الإزائيّين (مر 2: 22- 28؛ لو 13: 10- 17). ولكنّ ما يميّز هذه المجادلات هو وحي يسوع عن نفسه. إنّ اهتمامات يوحنّا في هذا المجال هي اهتمامات تعليميّة. فجيء السامريّين إلى الإيمان يشكّل قِمَّةَ القسم المركّز على الحياة التي يعطيها يسوع. فلا حاجة إلى تقديم النظريّة عمّا حمله السامريّون الذين دخلوا في الجماعة اليوحنّاويّة لأنّنا نجهل لاهوتَهم في القرن الأوّل.
ونودّ أن نعرف متى ترك التلميذ الحبيب فلسطين وذهب إلى أرض الشتات، إلى سورية أو بالحريّ إلى أفسس. يتحدّث أوسابيوس عن هرب المسيحيّين من أورشليم إلى بلاَّ في السنوات 66- 70 وقبل ثورة اليهود على الرومان. ثمّ إنّه من الثابت أنّ مسيحيّين متهوّدين قد أقاموا في ذلك الوقت في أفسس أو في جوارها. حينئذ يمكننا أن نتكلّم عن مدرسة يوحنّاويّة بالمعنى الحصريّ، يوم كانت جماعة تدلّ على تيّار ووجهة تفكيريّة أكثر منها على مجموعة محدّدة. وكان اليهود عديدين في أفسس (كما في المدن المجاورة) وكانوا فاعلين. فما طُرد المسيحيّون المتهوّدون من المجمع جُرحوا في الصميم ولهذا سيتكلّم سفر الرؤيا (2: 9) عن "مجمع الشيطان". ومقابل هذا انفتح التلميذ الحبيب (مؤسسّ المدرسة اليوحنّاويّة) على الأسئلة الدينيّة التي طرحتها النخبة الهلّينيّة، وحاول أن يبيّن كيف أنّ الإيمان المسيحيّ يتجاوب مع الرغبة بالحقيقة الكامنة في كلّ إنسان مستقيم؛ كلّنا يعي أهمّيّة موضوع الحقيقة وموضوع الكلمة (لوغوس) عند السامعين اليونانيّين. وما يلفت النظر هو أنّ يسوع، حين توجّه إلى بيلاطس، كلّمه بكلام يدركه الجميع: "وُلدت وجئت إلى العالم لأشهد للحقّ" (18: 37). أمّا جواب بيلاطس ("وما هو الحقّ؟") فلا يعكس الحالة الفكريّة لدى كلّ الوثنيّين.

ج- الخلفيّة الدينيّة في الإنجيل الرابع
تميَّز الإنجيل الرابع عن سائر أسفار العهد الجديد، واستقلّ بالنسبة إلى التقليد الإزائيّ. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن أصل النظريّات الخاصّة به. هذا ما يفرض علينا أن نتعرّف إلى التيّارات الدينيّة التي التقت في العالم الذي دوّن فيه هذا الإنجيل. نشير هنا إلى أنّ الجماعة اليوحنّاويّة تجذّرت أوّلاً في العالم اليهوديّ قبل أن تجتذب العديدين من العالم الهلّينيّ.
طُرحت مسألة الخلفيّة الدينيّة منذ القرن التاسع عشر بتأثير من مدرسة تاريخ الديانات. وما عادت القضيّة فقط تساؤلات عن تجذّر يهوديّ أو هلّينيّ. فالمسألة أكثر تعقيدًا. فهناك الغنوصيّة المرتبطة بتيّارات فارسيّة. واليهوديّة المنقسمة إلى يهوديّة فلسطينيّة ويهوديّة هلّينيّة تنوّعت جدًّا بعد دمار الهيكل سنة 70 ب م. ثمّ إنّ دخول العالم الهلّينيّ إلى أرض فلسطين كان أعمقَ ممّا تصوّره كثير من العلماء. واليهوديّة الإسكندرانيّة (فيلون هو أعظم ممثّليها) ظلّت على اتّصال باليهوديّة التقليديّة. وأخيرًا سنجد قرب الفرّيسيّين والصادوقيّين فئة الإسيانيّين الذين عرّفتنا بهم نصوص قمران.
لن نستطيع أن نستنفد هذا الموضوع الواسع. ولكنّنا نقدّم النماذج الرئيسيّة التي تساعدنا على اكتشاف الخلفيّة الدينيّة لإنجيل يوحنّا.

1- الغنوصيّة
اختلفت الغنوصيّة عن الرواقيّة. علّمت الرواقيّة تماسك الكون الذي يلجه اللوغوس الإلهيّ، ودعت الإنسان ليتصرّف كمواطن العالم (لا مواطن مدينة خاصّة وحسب). أمّا الغنوصيّة فولدت من نِظرة تشاؤميّة إلى الكون: يحسّ الإنسان أنّه غريب في الكون، ويشعر بهذا الانقسام المؤلم بين المادّة والروح. أمّا السؤال الأوّل الذي يطرحه فهو مسألة وجوده الشخصيّ. يئس من اكتشاف معنى لوجوده فحاول الإفلات من عالم تسيطر عليه قوى شرّيرة وعمياء.
وإليك مقطعًا لتيودوتيس احتفظ به إكلمنضوس الإسكندرانيّ وهو يدلّ على الأسئلة التي تعذّب الغنوصيّين: ماذا كنّا؟ ماذا صرنا؟ أين كنّا؟ أين رُمينا؟ إلى أيّ هدف نسرع؟ من أين نجونا؟ ماهي الولادة؟ ما هي الولادة الجديدة؟
تذكّرنا كلمة الولادة الجديدة بحوار يسوع مع نيقوديمس (3: 3، 5). أمّا السؤال: من أين؟ فنقرأه في خطب يسوع أو في الأقوال التي تتكلّم عنه (7: 11، 27- 28 ؛ 8: 14 ؛ 9: 29- 30؛ 13: 36؛ 14: 5؛ 16: 5).
قال بعض العلماء إنه وجد في أساس الغنوصيّة الإيرانيّة فكرة المخلّص الذي يحصل على الخلاص. تمزّق الإنسان الأوّل ليولد الكون. ثمّ جاء ليجمع نتف النور الخفيّة في عالم المادّة. والإنسان سيحصل على الخلاص بالمعرفة (غنوسيس أو العرفان). فعليه أن يكتشف ما هو في الحقيقة أو يستيقظ من رقاد الجهل الطويل.
ولكنّ هذا الخلاص لا يدركه الجميع، لأنّه حسب المفردات الغنوصيّة في القرن الثاني، هناك ثلاث فئات: الروحيّون، (يرتبطون بالروح)، النفسانيّون (يرتبطون بالنفس)، الهيوليّون (يرتبطون بالمادّة): فالروحانيّ ينجو بطبيعته، والنفسانيّ الذي يتمتعّ بالحرّيّة، يقدر أن يذهب إلى الإيمان والخلود، كما يقدر أن يذهب إلى اللا إيمان والفساد، حسب اختياره. أمّا الهيوليّ فهالك بطبيعته. حين نقرأ هذه النصوص نفكّر بأقوال يسوع التي يمكنها أن تعنيَ أنّ البعض لا يقدرون أن يسمعوا صوته (23:8- 24 ؛ 10: 26).
كان بولتمان أكثر الشرّاح الذين استندوا إلى الغنوصيّة (ولا سيّما المندعيّة. مندع = معرفة. رج السريانيّة يدع) ليتحدثّوا عن إنجيل يوحنّا. قال: "تميّز دور يسوع الفدائيّ في إنجيل يوحنّا بمعونة المفاهيم الغنوصيّة: يسوع هو ابن الله الموجود قبلاً، إنّه الكلمة الموجودة قبل الزمن. حمل مع الوحي الحياة والحقيقة، ودعا إليه أخصّاءه الذين هم كذلك بالحقّ. وبعد أن يتمّ العمل الذي حدّده له الآب، سيرتفع من جديد عن الأرض ويفتح لأخصّائه الطريق الذي يقود إلى المنازل السماويّة (14: 6). إذًا، هي الغنوصيّة التي أتاحت ليوحنّا أن يدرك الطبيعة الحقيقيّة للفداء إلى أن يرى حضور الخلاص المعطى لنا في شخص يسوع وعمله. وبالتالي أن يفهم أنّ التاريخ الإسكاتولوجيّ يبدأ في الزمن الحاضر". ويزيد بولتمان أنّ الإنجيليّ قد أنقذ فكرة المخلّص ممّا فيها من أسطورة، واحتفظ بضرورة الإيمان في النداء الذي يوجّهه إلينا صليب المسيح.
ماذا نقول في هذه النظريّة؟ أوّلاً: إنّ الغنوصيّين قد قرأوا بشغف إنجيل يوحنّا ولا سيّما مطلعه وخطبه. ولكن هل سبقت الغنوصيّة (كنظام ثنائيّ ظهر في القرن الثاني فنسب العهد القديم إلى إله أدنى من إله العهد الجديد) ظهور إنجيل يوحنّا أم جاءت بعده؟ قال الغنوصيّون: إنّ الشرّ الذي نتخلّص منه هو الضلال والنسيان واللاوعي تجاه الأنا الحقيقيّ. أمّا في نظر يوحنّا وسائر كتّاب العهد الجديد، فالشرّ يأتي من الخطيئة وهو موقف ترفض فيه إرادتُنا إرادة الله. والخطيئة الكبرى في نظر يوحنّا هي اللا إيمان ورفض المجيء إلى النور (3: 20) لا الجهل فقط. وهكذا نقول إنّ فكر يوحنّا يقف على مستوى غير مستوى الغنوصيّة.

2- الهرمسيّة
الهرمسيّة تيّار باطنيّ بمثّل ديانة النخبة المتعلّمة في الحضارة الهلّينيّة. جُمعت كتاباتُ هرمس بعد زمن تدوين إنجيل يوحنّا، ولكنّها تعود إلى زمن قديم. تدعو أحد النصوص الهرمسيّة الناس إلى التوبة فتذكّرنا بأقوال الإنجيل: "أيّها الأرضيّون، لماذا استسلمتم إلى الموت وأنتم تقدرون أن تشاركوا في الخلود؟ توبوا يا من جعلتم من الضلال رفيق طريقكم ومن الجهل شريككم. أتركوا هذا النور الذي هو ظلمة. تخلَّوا عن الفساد ليكون لكم الخلود". ولكنّ هذهِ النظريّةَ تتحدّث عن انحدار المادّة وعن إله ذكر وأنثى. ثمّ إنّ بين الله السامي والعالم وسطاء عديدين. كم نحن بعيدون عن مطلع إنجيل يوحنّا حيث الكلمة وحده يصنع كلّ شيء، حيث الكلمة يصير جسدًا. ولا يستنكف من أن يأخذ جسدًا مادّيًّا.
قرَّب بعض البحّاثة مقالة في الولادة الجديدة من نصوص يوحنّا عن الولادة الثانية بالمعموديّة (3: 3- 5). ولكنّ كتاب هرمس يحدّثنا عن أمّ هي الحكمة، وعن بذار هو الخير الحقيقيّ، وعن زارع هو إرادة الله الفاعلة بواسطة هرمس الرسول السماويّ. هذه الولادة تعطي المعرفة الخلاصيّة وتقود إلى الانخطاف بواسطة تقنيّات جاءت من الهند فيَضيع الإنسان في الكلّ. كم نحن بعيدون عن الصوفيّة اليوحنّاويّة التي تشدّد على الطابع الشخصيّ للاتّحاد بين المؤمن والله (رج 6: 56 ؛ 15: 4- 7؛ 17: 20- 23). والمحبّة التي هي أساسيّة في يوحنّا غائبة عن الهرمسيّة.
لا شكّ في أنّه كان هناك توق لدى النخبة الهلّينيّة. أخذ يوحنا عناصره وحوّله تحويلاً جذريًّا قبل أن يقدّمه في إنجيله.

3- فيلون الإسكندرانيّ
كان فيلون معاصرًا للمسيح وهو أعظم ممثّل لليهوديّة في العالم الهلّينيّ. ترك لنا المؤلّفاتِ العديدةَ ولا سيّما تفاسير رمزيّة لشريعة موسى. عاد فيلون إلى الفكر الفلسفيّ اليونانيّ ليبرّر فرائض الشريعة وليرسم خطًّا صوفيًّا يقود إلى التأمّل في الله. مثلاً: أخبار الآباء هي محطّات في تقدّم النفس. إبراهيم هو صورة الإيمان، يعقوب هو صورة النسك، إسحق هو صورة الكمال. هذا لا يعني أنّ فيلون يرتاب في حقيقة الخبر الكتابيّ. بل، إنّه يحاول أن يكتشف بواسطة الرموز، معنى أعمق للنصوص. أمّا موسى فهو الملك والمشترع والكاهن الأعظم والنبيّ.
اهتمّ الشرّاح بالنصوص المتعلّقة باللوغوس (الكلمة) الإلهيّ كعامل الخلق. وقالوا: هنا نجد يَنبوعَ تعليمِ مطلعِ الإنجيل عن دور الكلمة الكونيّ، عن دور الابن الوحيد (1:1، 18).
يصعب علينا أن نقابل فيلون مع يوحنّا في هذا المجال لأنّ فيلون يستعمل كلمة "لوغوس" 1300 مرّة في كتبه فتعني العالم المعقول أو قوّة الله السامية (مثل الحكمة في الخلق) أو الوسيط بين تسامي الله وحنانه، أو الكاهن الأعظم في الخيمة الأرضيّة (رج الرسالة إلى العبرانيّين). أمّا يوحنّا فيعتبر أنّ اللوغوس نصب خيمته بيننا (1: 14) بالتجسّد ليلعب دور المتشفّع للذين يلجأون إليه بإيمان. إنّه الهيكل الحقيقيّ (2: 19- 21) لأزمنة الخلاص.
ويمكننا أن نتاج المقابلة بين يوحنّا وفيلون. فالتسمية "إسرائيليّ حقيقيّ" المعطاة لنتنائيل في 1: 47 تفترض اشتقّاقًا لكلمة إسرائيل (= الذي يرى الله) عزيزة على قلب فيلون. والعظة على المنّ التي نستشفّها في يو 6 تعود إلى نموذج نقرأه عند فيلون وفي العالم اليهوديّ الفلسطينيّ. والتوسّعات الرمزيّة عن الماء والنور والكرمة ليست غريبة عن فيلون. ولكنّ فيلون يتطلّع إلى مسيرة النفس الصوفيّة، أمّا يوحنّا فيطبّق هذهِ الرموزَ على شخص المسيح، على الكلمة الذي صار جسدًا. بعد هذا يختلف فيلون عن يوحنّا لأنّ مسيحانيّته تسير في طريق التلاشي والفناء. تأثّر بأفلاطون فبيّن أنّ الخلاص يعني النفس التي تتحرّر من ثقل رغباتها اللحميّة. أمّا يوحنّا فينظر إلى يسوع المسيح ويجعل فيه كلّ أبعاد الوجود البشريّ.
إذن، لا نستطيع أن نقول إنّ فيلون أثّر على يوحنّا. ولكن يبقى فيلون شاهدًا على التوق الدينيّ لدى اليهود العائشين في العالم الهلّينيّ. وقد يكون يوحنّا التقى بعض هؤلاء اليهود في أفسس فبيّن لهم أنّ المسيح جاء يتجاوب مع توقهم إلى الله.

4- اليهوديّة المنشقّة
ميّز كولمان شكلين في العالم اليهوديّ الفلسطينيّ في القرن الأوّل المسيحيّ: العالم الرسميّ والعالم المنشقّ الذي أدخل إلى فكره عناصر غريبة. فجعل خلفيّة إنجيل يوحنّا العالم اليهوديّ المنشقّ وجذَّر المسيحيّة العاديّة في العالم اليهوديّ الرسميّ. وهكذا تكوّنت علاقة بين الهلّينيّين في سفر الأعمال (ف 6- 8) الذين كانوا أوّل من بشرّ السامرة، وبين محيط إنجيل يوحنّا. تميّز الهلّينيّون بعداوتهم لهيكل أورشليم وكانوا قريبين بجذورهم من الإسيانيّين، من جماعة قمران.
ولكنّنا نتساءل: أين نجد اليهوديّة الرسميّة؟ عند الفرّيسيّين أم عند الصادوقيّين حيث يتمّ اختيار رؤساء الكهنة؟ وبين الفرّيسيّين، هناك الخطّ المتصلّب (شمعي) والخطّ المنفتح (هلال). أمّا اليهوديّة المنشقّة فتبرز في صور عديدة تشترك كلّها في أنّها تعارض شعائر العبادة الرسميّة. وها نحن سنتحدّث عن فئتين: المعمدانيّون والإسيانيّون.

أوّلاً: المعمدانيّون
هم أصحاب تيّاراتِ يقْظةٍ دينيّة. عملوا في وَسَطٍ شعبيّ فأعلنوا قرب الدينونة الإسكاتولوجيّة ودعَوُا الناس إلى الخلاص بتوبة القلب وطقس العماد في الماء من أجل مغفرة للخطايا. توجّه طقس العماد إلى الجميع وكان في متناول الجميع بمعزل عن حواجز الطهارة.
الإنجيل الرابع هو الإنجيل الوحيد الذي يقدّم الرسلَ الأوّلين على أنّهم كانوا تلاميذَ قدماء ليوحنّا المعمدان. وأشار الإنجيل أيضاً إلى الأمكنة التي كان يوحنّا يعمّد فيها ومنها بيت عنيا في عبر الأردنّ (1: 28) وعين نون (3: 23). وأبرَزَ مرحلة معمدانيّة في رسالة يسوع (3: 26؛ 4: 1- 2)، وهذا معطى مهمّ لنقدّر تاريخيّةَ الإنجيل الرابع ونكتشف تاريخ الجماعة اليوحنّاويّة. ولكن لا ننسَ أنّ الإنجيل الرابع لا يقول شيئًا عن كرازة المعمدان الإسكاتولوجيّة. كلّ ما يهمّه هو الشهادة التي قدّمها السابق لحمل الله.

ثانيًا: الإسيانيّون.
نجد في نصوص قمران العباراتِ عينَها التي نجدها في إنجيل يوحنّا: التعارض بين الحقيقة والكذب، بين النور والظلمة... روح الحقّ، يسير في الظلمة، ابن الهلاك... وهناك نصّ في "قاعدة الجماعة" مُعَنْوَنٌ : قاعدة الروحَيْنِ، روحِ الحقيقةِ وروحِ الضلالِ: "الله خَلَقَ روحَ النور وروحَ الظلمة وأسسّ عليهما كلّ ما عمله. واحد يحب الله والآخر يكره مشورة الله ويبغض طرقه". "يتصارع هذان الروحان في قلب البشر... وسيتدخّل الله قريبًا ليطهّر العالم من الكبرياءِ وتَرَفُّعِ القلب والجشع والكذب والرياء، وليُظْهِرَ التواضعَ وطولَ البال والرحمةَ والفطنةَ..."
هناك موازاة بين هذه الوثيقة وثنائيّة القدّيس يوحنّا. ويمكننا أن نتوقّف أيضاً عند مفهوم الحقيقة في إنجيل يوحنّا ونصوص قمران... ولكن رغم هذه التشابهات فهناك اختلافات في العمق. فإصلاح معلٍّم البرّ (عند جماعة قمران) يرتكز على شريعة موسى التي نمارسها بدقّة. وهكذا تتكوّن جماعة من "الأنقياء" الذين ينعزلون عن جمهور أبناء الإثم وينتظرون الدينونة المقبلة والحكم على الخطأة. أمّا مكانة المسيح فهي متواضعة في هذه النظرة المستقبليّة. ولكنّ إنجيل يوحنّا يتركّز على شخص يسوع الذي أوحى إلينا بأبوّة الله. وما يفرضه هو الإيمان به والمحبّة المتبادلة بين التلاميذ.

5- تجذُّر الإنجيل الرابع في الكتاب المقدّس
ارتبط إنجيل يوحنّا بالتوق الدينيّ لدى العالم الهلّينيّ كما ارتبط بالتيّارات الهامشيّة في العالم اليهوديّ. ولكنّ له خلفيّةً يهوديّة. لقد أعلن يسوع للسامريّة: "الخلاص يأتي من اليهود" (4: 22). لسنا أمام اعتبار ثانويّ، بل أمام يقين عميق. لا شكّ في أنّ اليهود لم يقبلوا يسوع، ولكنّه جاء إلى أخصّائه (1: 11). إذا كانوا لم يقبلوه، فهل نلغي كلّ تيّار التهيئة لمجيئه ونعتبر أنّ لا قيمة لهذا التيّار بعد أن ظهر النور الحقيقيّ؟ كلاَّ. فالإنجيل يهتمّ بأن يبيّن أن يسوع هو حقًّا مسيح إسرائيل.
يتوزّع الحجّ إلى أورشليم حياة يسوع. إن كان المعلّم طرد حيونات الذبيحة (2: 14 ي)، فهو يحب أن يعلّم في الهيكل المقدّس. وفي الهيكل يجادل اليهودَ المتكلّمين باسم الإيمان الرسميّ، ويحاول أن يقنعهم بأنّ الآب أرسله حقًّا. ويدعو موسى ليشهد له: "لو آمنتم بموسى لآمنتم بي أيضاً، لأنّه كَتَبَ عنّي" (5: 46).
إذًا سنبيّن هذا التجذّر في الوحي الكتابيّ فنعدِّد الإيراداتِ والتلميحاتِ إلى النصوص المقدّسة ثمّ نبيّن كيف تنغرز هذه الممارسةُ في التأويل اليهوديّ التقليديّ.

6- إيرادات النصوص الكتابيّة
لا نجد إلاَّ 19 إيرادًا صريحًا للكتاب المقدّس في الإنجيل الرابع. فإذا زدنا على هذا الرقم التلميحات التي لا نقاش فيها، يبقى العدد أقلّ ممّا نجد في الإزائيّين ولا سيّما في إنجيل متّى.
إذا قابلنا يوحنّا بالإزائيّين، اكتشفنا استقلاليّة يوحنّا في استعمال الكتاب المقدّس. فهو يهمل إيراداتٍ لها أهمّيتُها في التقليد المعروف. مثلاً: "اسمع يا إسرائيل" وهي ترتبط بوصيّتَيْ محبّةِ اللهِ والقريب (تث 6: 4- 5؛ لا 19: 18؛ مت 22: 37- 39؛ مر 12: 29- 33؛ لو 10: 27). وإيراد مز 110 عن المسيح الذي هو أكبر من داود (مت 22: 44؛ مر 12: 36؛ لو 20: 42- 43)، والنصّ المتعلّق بالحجر الذي رذله البنّاؤون فصار رأس الزاوية (مز 18: 22؛ مت 21: 42؛ مر 12: 10- 11؛ لو 20: 17). وإنِ استعمل يوحنّا نصًّا استعمله الآخرون، فهو يبتكر في استعماله. فنصّ أشعيا (40: 3): "صوتُ صارخٍ في البرّية: أعدّوا طريق الربّ" يطبّقه الإزائيّون على يوحنّا المعمدان (مت 3: 23؛ مر 1: 3؛ لو 3: 4)، أمّا في إنجيل يوحنّا فالمعمدان يتلفّظ به (1: 23). ويذكر الإزائيّون تقسية إسرائيل (أش 6: 9 ي) في إطار الأمثال (مت 13: 14 ي ؛ مر 4: 12؛ لو 8: 10) أمّا يوحنّا فيجعلها في نهاية كتاب الآيات (12: 4). كلّ هذا يدلّ على استقلاليّة يوحنّا.
أخذ يوحنّا إيراداتِه وتلميحاتِه بصورةٍ خاصّةٍ من أسفار موسى (خاصّة الخروج والتثنية) ومن أشعيا (خاصّة القسم الثاني) ومن المزامير. ومِثْلَهُ عَمِلت نصوص قمران.
غير أنّ نصوص قمران قدّمت تفسيرًا قانونيًّا للشريعة، أمّا يوحنا فقرأ الكتاب المقدّس في منظور رمزيّ محاولاً أن يصل من خلالها إلى شخص يسوع المسيح.
شريعة موسى

يتحدّث الإنجيل الرابع مرارًا عن الشريعة (ترد كلمة ناموس 14 مرة)، ولكنّه يعتبرها توطئةً للوحي النهائيّ في يسوع المسيح، لا نظامًا خلاصيًّا. وإذ يشير يوحنّا إلى وحي اسم الله في سيناء (خر 34: 6)، يكتب في مطلع إنجيله: "إذا كانت الشريعة قد أعطيت لنا بواسطة موسى، فبواسطة يسوع المسيح جاءتنا النعمة والحقّ " (1: 17). وهذه الشريعة لا تنفصل عن أسفار الأنبياء كما أعلن فيلبّس: "إنّ الذي كُتب عنه في شريعة موسى والأنبياء، قد وجدناه " (1: 45). ولقب نبيّ الذي يُعطى مرارًا ليسوع (6: 14، 7: 40، 52)، وإن لم يعبّر إلاَّ بطريقة ناقصة عن سرّ شخصه، يدلّ على وجهة حقيقيّة من رسالته ويتأمّل في تأويل قمرانيّ وسامريّ (4: 25) لنصّ تث 18: 15 عن مجيء نبيّ شبيه بموسى.
ومقابل هذا، نجد نصوصاً متعدّدة تخلق تباعدًا ليسوع والجماعة اليوحنّاويّة من "شريعة اليهود". فيسوع يستند إلى أمر قانونيّ في سفر التثنية فيعلن: "كُتب في شريعتكم أنّ شهادة رجلين مقبولة" (8: 17؛ 10: 34). والانفصال واضح خاصّة في ما يتعلّق بالسبت. فيسوعُ يتمّ الأشفية في هذا اليوم (5: 9؛ 9: 14). يقدّم يسوع براهينه في الإزائيّين منطلقًا ممّا يفعله سامعوه (من منكم له خروف واحد ووقع في حفرة يوم السبت، لا يمسكه ويخرجه؟ مت 12: 12)، أمّا في يوحنّا فيعود إلى ما يعمله الآب: "أبي يعمل إلى الآن، وأنا أيضاً أعمل" (5: 17).
حين نتبعُ ترتيب العهد القديم نلاحظ المقابلاتِ بين المرحلة الأولى من تاريخ الخلاص وكمالها في يسوع المسيح.
نصوص البدايات (تك 1- 11). بداية مطلع يوحنّا تستعيد تك 1: 1 كما فسّره أم 8: 22. فكلمة الله المماثلة لحكته (سي 24: 3 أ) نصبت خيمتها هنا في جسد يسوع (1: 14 مع تلميح إلى سي 24: 8). ونفخة المسيح القائم من الموت للروح على تلاميذه (20: 22) تقابل نفخة الخالق لنسمة الحياة في تك 2: 7 (الفعل هو هو في المقطعين) ونرى في تسمية يسوع لأمّه "يا امرأة" (2: 4؛ 19: 26) تلميحًا إلى تك 2: 32، وفي كلمته عن ساعة المرأة (16: 21) إشارة إلى حوّاء، أمّ الاحياء (تك 4: 1).
يذكر يوحنّا دورة إبراهيم خلال مجادلة عاصفة (8: 31- 59). افتخر اليهود بنسل لحميّ (8: 33، 59) فحدّثهم يسوع عن أعمال إبراهيم (8: 39 ب- 40) التي تقود إلى الإيمان به، عكس أعمال الشيطان الذي هو قاتل منذ البدء (8: 44 مع تلميح إلى ترجوم تك 4: 3- 16). كان إبراهيم يتوق إلى يوم يسوع (8: 56 مع تلميح إلى التقاليد الترجوميّة عن مولد إسحق: تك 17: 17 أو عن رؤية إبراهيم: تك 15: 12- 21). ويعود ذكر ذبيحة إسحق (العقدة والرباط: تك 22: 1- 19 كما في الترجوم الفلسطينيّ) في خلفيّة التعليم عن الفداء في ما عمله الله "الذي يبذل ابنه الوحيد" (3: 16)، وفي لقب حمل الله الذي يشير إلى إسحق "الحمل من أجل المحرقة" (تك 22: 8 وترجوم فلسطين). ويذكر يوحنّا حلم بيت إيل (تك 28: 2) في 1: 51: بعد اليوم لن يكون اتّصال بين السماء والأرض في مكان محدّد، بل في شخص ابن الإنسان. وفي خلفيّة الحوار مع السامريّة نعيش في جوّ التقاليد الآبائيّة (4: 5، 6، 12). إنّ يسوع أعظم من "أبينا يعقوب".
وتحتلّ دورة الخروج مكانة هامّة مع التوسيعات التقليديّة التي قام بها التفسير اليهوديّ. فالآيات والمعجزات التي أتمّها موسى في أيّام الخروج والبرّيّة (رج تث 34: 11) تتيح لنا أن نفهم معنى الآيات التي أتمّها يسوع: إنّه ليس فقط نبيًّا لا مثيل له (تث 34: 10) بل المرسل الوحيد والنهائيّ. وسنجد في هذا الإطارِ توازياتٍ عديدةً: مَنُّ موسى والخبز النازل من السماء (6: 30- 33)، معجزة الماء والوعد بالمياه الحيّة (4: 10؛ 7: 37 ي)، إرتفاع الحيّة النحاسيّة وارتفاع ابن الإنسان (3: 14). ولكن في كلّ هذه الحالات، يسوع هو الآية: إنّه خبز الحياة (6: 51)، الماء خرج من جنبه (19: 34). رُفع على الصليب (3: 14 ي، 12: 32 ي) ليجتذب إليه كلّ الناس في نظرة إيمان (19: 35).
يسرد يوحنّا أعياد اليهود باهتمام، ولكنّه يهتمّ أكثر ما يهتمّ بعيد الفصح. إنّه يختلف عن الإزائيّين الذين لا يعرفون إلاّ عيدَ فصحٍ واحدًا في نهاية رسالة يسوع. أمّا يوحنّا فيوزع حياة يسوع العلنيّة على فترة تتميّز بثلاثة احتفالات فصحيّة. ففي الفصح الأوّل، طرد يسوع الباعة من الهيكل وأفهمنا أنّه هو نفسه الهيكل الحقيقيّ (2: 13- 22)؛ وفي الفصح الثاني نرى يسوع في الجليل يكثّر الخبز علامة عطيّة جسده لحياة العالم (ف 6). وفي الساعة التي تذبح فيها حملان الفصح في الهيكل أسلم يسوع الروح على الصليب (19: 36) فحمل الخلاص النهائيّ والشامل الذي يرمز إليه الطقس القديم.

قراءة أشعيا قراءة كرستولوجيّة
هذا ما نكتشفه في 12: 37- 42. يستعمل الإنجيليّ نصّين يتعلّقان بلا إيمان إسرائيل (الأوّل أش 53: 1: من نشيد عبد الله المتألّم. الثاني أش 6: 9 ي من دعوة أشعيا) ويعلن: "قال أشعيا هذا الكلام حين رأى مجده وتحدّث عنه" (12: 41). فَمَجْدُ يهوه (الربّ) صار مجدَ المسيح. وما يبرّر هذا الانتقال هو أنّ أشعيا كان النبيّ المسيحانيّ الأكبر. والتشديد على مُلْكِ المسيح ولا سيّما في بداية الإنجيل (1: 49) وخلال الالام، يتجذّر في حضور الروح الدائم على يسوع بعد المعموديّة (1: 32).
وتوقّف يوحنّا، كما توقّف غيره من كتّاب العهد الجديد، على الأقوال المتعلّقة بعبد الله (عبد يهوه) المتألّم. فإعلان يسوع "أنا هو نور العالم" (8: 12) يقابل قول أش 42: 6؛ 49: 6 عن أنّ العبد سيكون نورَ الأمم. وفي بداية نشيد عبد الله الأخير نقرأ: "هذا هو عبدي: إنّه يُرفع ويتمجّد جدًّا" (52: 13). فاستعمال هذين الفعلين هو في أساس أقوال يوحنّا عن ارتفاع (3: 14؛ 8: 28؛ 12: 32- 34) المسيح على الصليب وتمجيده الذي لا ينفصل عنه (7: 39؛ 8: 54؛ 12: 16- 23، 38؛ 13: 31 ي،17: 1، 5، 10).
وسيحصل وحي مجد الله حين يرى الناسُ مجدَ الكلمة الذي صار بشرًا (1: 14). يصل إلينا هذا المجد عبر الآيات التي يُتِمُّها يسوع (2: 11؛ 11: 4، 10) ولا سيّما عبر عمله السامي (17: 4). ولكنّ يوحنّا يحوّل هنا تعليم النبيّ فيُدخل فيه موضوع المحبّة: محبّة الله للعالم (3: 16)، محبّة الابن لأبيه (14: 31). ويجعل هذا التعليمَ يمتدُّ إلى اللامحدود: فالإله الذي لا يريد أن يعطي مجده لأحد (أش 41: 8 ؛ 48: 11) أعطاه للابن بحيث استطاع الابن أن يستعيد عبارة الوحي الإلهيّ: أنا هو (8: 24، 28، 58؛ 13: 19). وحين قدّم لنا يوحنّا لوحة الصليب ضمّ تأمّل عبد الله المذبوح كشاة لا تدافع عن نفسها (أش 53: 7) إلى تأمّل الابن الوحيد المطعون (19: 37، رج رؤ 1: 7) حسب نبوءة زك 12: 10.

قراءة المزامير قراءة كرستولوجيّة
يرد مز 22: 9 بمناسبة اقتسام ثياب يسوع (19: 24). وينطلق يوحنّا من مز 41: 10 ليعلن خيانة يهوذا (13: 18؛ رج 17: 12). ويوضح مز 69: 10 السبب العميق لذبيحة يسوع (17:2). وترجمت آ 5 من مز 69 بغض اليهود ليسوع (15: 25)، ووردت آ 22 في صرخة يسوع على الصليب. وأخيرًا دُمج مز 34: 21 مع خر 12: 46 فجمع صورة البارّ المتألّم إلى صورة الحمل الفصحيّ (19: 36).
ويمكننا أن نتابع هذا البحث فنذكر التلميحات إلى دا 7 في المقاطع المتعلّقة بآبن الإنسان، والتلميحات إلى النصوص الحكميّة التي نستشفّها خلف مطلع الإنجيل وخطبة خبز الحياة: "من يأتِ إليّ لا يَجُعْ، ومن يؤمنْ بي لا يعطشْ أبدًا" (6: 35؛ رج أم 9: 1- 6؛ سي 24: 19-22). وهكذا يَتمُّ وعدُ الله للأنبياء: "يكونون كلهم تلاميذ الله" (6: 45؛ رج أش 54: 13).

7- التأويل عند يوحنّا والتأويل اليهوديّ
هناك طرائق متعدّدة لقراءة الكتاب المقدّس: قراءة الرابّانيّين، قراءة محيط الإسكندريّة، قراءة جماعة قمران. وهناك القراءة الجارية في المجامع يوم السبت التي نجدها خاصّة في التراجيم والأسفار المنحولة. سنتوقّف عند هذه القراءة الأخيرة ونعطي بعض الأمثلة.
المثل الأوّل: الحوار بين يسوع والسامريّة على بئر يعقوب. إنّه يحمل كخلفيّة التوسّعات المدراشيّة عن بئر البرّيّة التي أخرج منها موسى الماء بطريقة عجائبيّة. ويقول التأويل اليهوديّ إنّ هذه البئر الفائضة بالمياه تدلّ على الشريعة. ويتوسّع الترجوم في نشيد البئر في عد 21: 18: "البئر التي حفرها سابقًا أسياد العالم إبرام وإسحق ويعقوب، وأكملها أناس فطنون من الشعب هم السبعون حكيمًا الذين وضعوا جانبًا. ثمّ جاء سيّدا إسرائيل، موسى وهارون، فقاساها بعصيّهما. ومنذ زمن البرّيّة أعطيت لهما كموهبة".
نجد التفسير عينه في نصوص قمران، وهذا ما يدلّ على أنّنا أمام تقليد قديم. وهكذا يتّخذ يو 4 وجهًا جديدًا حين نقابل الماء الحيّ الذي وعد به يسوع بماء الشريعة، والتعلّم عن العبادة بالروح والحقّ بالممارسة اليهوديّة أو السامريّة المركّزة على موضع للعبادة منظور، أورشليم أو جبل جرّزيم.
المثل الثاني: يو ف 6 والخطبة عن خبز الحياة. نحن نفهم بطريقة أفضل أهمّيّة المنّ في الخطبة عن خبز الحياة إذا قابلنا هذا الفصل بالشروح اليهوديّة المستوحاة من هذا الحدث. لقد لاحظ المفسّرون أنّ حركة النزول والصعود قد عُكست: "في الماضي كان المنّ يصعد من الأرض والندى تنزل من السماء كما قيل: أرض حنطة وخمر. السماء أمطرت الندى. أمّا الآن فتبدّل الوضع: بدأ الخبز ينزل من السماء والندى تصعد من الأرض لأنّه كتب: ها أنا أمطركم خبزًا من السماء. وكتب أيضاً: وصعدت طبقة من الندى". نقابل هذا التفسير بالإشارات إلى نزول خبز السماء (يرد فعل نزل 7 مرّات: 6: 33، 38، 41، 42، 50، 51، 58) وإلى صعود ابن الإنسان (6: 62).
ولا نفهم النداء الذي أطلقه يسوع في يوم العيد "إن عطش أحد فليأت إليّ" إلاّ في علاقته بانتظار يَنبوع الهيكل (حز 47؛ زك 13: 1) وبليتورجيّة يوم العيد: إذ كانوا يحملون باحتفال مياه شيلوح، كانوا ينشدون هذه الآية من أشعيا (12: 3): "تستقون بفرح من مياه الخلاص". إنّه يسوع يقدّم نفسه على أنّه هيكل الخلاص النهائيّ.

د- اللاهوت في الإنجيل الرابع
اعتُبر يوحنّا اللاهوتيَّ منذ العصور المسيحيّة الأولى، والضيعة التركيّة التي تحتفظ بقبره قرب أفسس تشهد بذلك: "أَيَّا سوليك" أي القدّيس اللاهوتيّ. وتؤكّد هذه التسمية كتابة وَجَدَها علماء الآثار: أيّها الربّ، أنت الله مخلّصنا، ويوحنّا هو الإنجيليّ واللاهوتيّ، ارحم عبدك الخاطئ.
نفهم هذا اللقب الجليل من اتّساع مطلع الإنجيل الذي انطلق منه يوحنّا للتأمل في السرّ المشعّ لحياة الله. إذا اقتصرنا على معطيات الإنجيل الرابع نلاحظ أنّ التلميذَ الحبيب هو في نظر الجماعة اليوحنّاويّة الشاهدُ الأوّل (19: 35؛ 21: 24). فموضوع الشهادة سيوجّهنا شطر أحد الأبعاد الجوهريّة في الإنجيل الرابع: ففي الدعوى التي تجعل عالم الظلمة يقف في وجه المسيح النور، يقدّم يوحنّا شهادة: يسوع هو المسيح وهو ابن الله (20: 31). وهذه الشهادة تصل إلينا بتأثير الروح الحقّ، المؤيّد الذي يوبّخ العالم على خطيئة الكفر واللاإيمان (16: 8 ي)، وتدعو التلاميذ إلى الوحدة. فبعد أن نتوقَّف عند موضوع الدينونة، نلقي ضوءاً على الشهادة عن المسيح. وبعد أن نحدّد دور الروح القدس، نتطلّع إلى صورة الكنيسة التي نستشفّها من إنجيل يوحنّا.

1- الدينونة الحاضرة
يحتلّ إعلان الدينونة موضعًا هامًّا عند الأنبياء وفي الأسفار الجليانيّة. كان الأنبياء يعتبرون أنّ الدينونة تتمّ في قلب التاريخ. أمّا أصحاب الرؤى، فبعد أن يئسوا من الضيق الحاضر، انتظروا كلّ شيء من تدخّل صاعق لله في نهاية هذا الزمن الحاضر. ويدخل يوحنّا المعمدان في هذا المجال، كما أنّ هناك كلمات عديدة (أوردها الإزائيّون) تشير إلى هذا اليوم الرهيب. فالخطبة الجليانيّة في مر 13 تدلّ على أنّ القلق أمام اليوم القريب شغل بال الجماعات الأولى. ولكنّ يسوع أعلن أمام الذين أرادوا أن يحسبوا الأيّام والسنين، أنّ اليومَ والساعةَ سرٌّ من أسرار الآب (مر 13: 32). وهكذا علّم يسوعُ الخائفين من طلائع هذا اليوم الرهيبة أن يتحلَّوا بالشجاعة والرجاء (مر 13: 20 ؛ لو 21: 28). أمّا في الإنجيل الرابع فالمناخ مختلف عن هذا الجوّ. لا شكّ أنّنا نجد مفردات الدينونة في كلّ الكتاب، ولكنّها دينونة في الزمن الحاضر. نقرأ 29 مرّة بطريقة احتفاليّة كلمة "الآن": "الحقّ الحقّ أقول لكم: ستأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الموتى صوت ابن الله والذين يسمعونه يحيَون" (5: 25). وإذْ أعلنت مرتا إيمانها بالقيامة في اليوم الأخير، أجابها يسوع: "أنا القيامة والحياة: من يؤمن بي وإن مات فسيحيا" (11 : 25). والآلام التي تبدو فشلاً، تشكّل في الواقع ساعة الدينونة الإسكاتولوجيّة ضدّ رئيس هذا العالم الذي ضلّل البشر مدّة طويلة: "الآن دينونة هذا العالم. الآن يُرمى سيّد هذا العالم خارجًا" (12: 31). وكلٌّ مِنَّا مدعوّ أمام المسيح لكي يتّخذ موقفًا، لكي يوافق: هل هو من حزب النور، هل هو من حزب الظلمة (3: 19- 21)؟ ويسوع يمتنع حسب الظروف أن يدين أيًّا كان (8: 15؛ 12: 47) ويترك الحكم للآب أو هو يقدّم كلمته كديّان: "من رذلني ولم يقبل كلامي فله دينونة: الكلمة التي قلتها تدينه في اليوم الأخير" (12: 48). إنّه ابن الإنسان ولقد نال السلطان ليدين (5: 27). فبكلمته وعمله تنقلب الأوضاع: حُسب المولود أعمى خاطئًا ولكنّه توجّه نحو النور. أمّا الذين حسبوا نفوسهم تلاميذ أمناء لموسى فانغمسوا في خطيئتهم (9: 40- 41).
لا نستطيع أن نعزل هذا التشديد الدراماتيكيّ على الدينونة، عن إعلان حبّ الله الخلاصيّ. "لقد أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه ووحيده لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (3: 16 ؛ رج 1 يو 4: 9- 10). فوحي يسوع لا يوصلنا إلى إله يعاقب بلا شفقة، بل إلى أب يعمل دومًا من أجل خلاص البشر (5: 17). وما يحمله يسوع إلى سامعيه هو الحياة والحياة بوفرة (10: 10). أمّا الدينونة فهي الوجه السلبيّ لجدّيّة الحبّ الإلهيّ، وهي العلامة أنّ رسالة الابن هي آخر محاولة من قِبَلِ الله نحو البشر. فلا ننتظرْ بَعْدُ شيئًا. فمع الابن أعطي لنا كلّ شيء، أعطيت النعمة والحقّ (1: 17).
وما يطلبه الله هو أن نقبل عطيّته بالإيمان (1: 12).
إنّ التشديد على الزمن الحاضر كزمن قرار، يرافقه تركيز تعليميّ على فعل الإيمان. كان الإزائيّون قد أوردوا كلمات يسوع على القيمة الخلاصيّة للإيمان والثقة: "اذهبي، إيمانك خلّصك" (لو 7: 50؛ رج 8: 48؛ 17: 19). أمّا يوحنّا فتجنّب الكلمة المجرّدة "إيمان"، واستعمل الفعل "آمن" الذي يشدّد على الطابع الفاعل للإيمان، على تحرّك الإنسان الداخليّ باتّجاه المسيح، على خروج المؤمن من ذاته من أجل تعلّق حميم بيسوع. هذا هو موقف التلاميذ الذين اكتشفوا مجد يسوع في قانا: "فآمنوا به" (2: 11) أي تعلّقوا به بطريقة نهائيّة. فالإيمان هو مبدأ الوجود المسيحيّ وقلبه. فالإيمان يلخّص مشاركة الإنسان في عمل الله (6: 29، 40). وقد وُعد المؤمنون بأنهارِ مياهٍ حيّة (هي صورة الروح 7: 37- 39) جرت من جنب المسيح ساعة تمجيده (19: 34). وينتهي خبر الظهورات الفصحيّة في تطويبة المؤمنين (20: 29: "طوبى للذين لم يروني وآمنوا"). فالإيمان يقود إلى الحياة (20: 31).

2- شخص يسوع
أوّلاً: يوحنّا ومرقس
هناك اختلاف واضح بين عرض مرقس لشخص يسوع وعرض يوحنّا له. ففي مرقس، لا يكشف يسوع عن نفسه إلاّ بطريقة تدريجيّة، فيفرض السرّ المسيحانيّ على الذين يلجون سرّ رسالته وشخصه. وسوف ننتظر مشهد قيصريّة فيلبّس ليسأل يسوع تلاميذه عن رأيهم فيه (مر 8: 27- 30). وما إن تفوّه بطرس بإعلانه المسيحانيّ حتّى فرض عليه يسوع الصمت. أمّا في الإنجيل الرابع، فما إن يلتقي التلاميذ بيسوع للمرّة الأولى حتّى يعبّروا عن حماسهم بأقوال متنوّعة: "لقد وجدنا المسيح"، "رابّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل" (1: 41- 49). ويسوع لا يعارض أفعال الإيمان هذه، بل يتجاوزها فيقدّم نفسه كابن الإنسان المتسامي على الملائكة (1: 51). وحين يلتقي السامريّة يعلن لها أنّه المسيح المنتظر (4: 26). وفي أوّل خطبة له في أورشليم قدّم نفسه أنّه الابن (5: 17- 21). وسيكرّر فيما بعد إعلاناته. والسؤال الحاسم الذي احتفظ به الإزائيّون في إطار الدعوة اليهوديّة يوم الجمعة العظيمة (مر 14: 61) قد قدّمه يوحنّا قبل ذلك بأشهرٍ عديدة (10: 24- 36).
وهناك سمات تجعلنا نعتقد أن ليس في يسوع ما يدلّ على بشريّته. هو يعرف كلّ شيء مسبقًا. لقد رأى نتنائيلَ تحت التينة قبل أن يلتقيَ به للمرّة الأولى (1: 48). هولا يثق بأهل أورشليم "لأنّه يعرفهم كلَّهم" (2: 24 ي). يعرف كيف يُطْعِمُ الجمع ولا يسأل التلاميذ إلاّ ليمتحنهم (6: 6). يعرف من هو الخائن مسبقًا (6: 64) كما يعرف أنّ لعازر قد مات قبل أن يصعد إلى بيت عنيا (11: 14). أمّا المعجزات فتبدو عند يوحنّا ظهورات إلهيّة (2: 11؛ 6: 20). يكفي أن يتكلّم يسوع ليقع الحرس الذين أتَوا ليوقفوه (18: 6).

ثانيًا: يسوع هو إنسان حقيقيّ
نحن لا ننكر هذه السمات التي تعطي يسوع في إنجيل يوحنّا تعبير وجه يختلف عمّا نقرأ عند الإزائيّين. ولكنّنا نحافظ على الطابع الواقعيّ لبشريّة يسوع. اختلف يوحنّا عن الأناجيل الغنوصيّة التي قدّمت وحيًا لا زمنيًّا عن مسيح روحاني. أمّا هو فظلّ أمينًا للإطار الزمنيّ للتقليد الإنجيليّ. سنشدّد على هذا الأمر فيما بعد. أجل، إنّ يوحنّا يستعمل كلمة إنسان ليصف يسوع (15 مرة). وإليك بعض العبارات: قالت السامريّة لأبناء بلدتها: "تعالُوا وانظروا انسانًا قال لي كلّ ما فعلت" (4: 29). ودافع جملائيل عن يسوع بهذه الكلمات: "هل تحكم شريعتنا على إنسان دون أن تسمعه"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM