الفصل التاسع عشر
الإنجيل والتاريخ
خلال الفصول السابقة كان اهتمامنا بالنصوص الإنجيليّة. ولكن يُطرح السؤال: ما الذي حدث في الواقع؟ وهذا السؤال لا نجيب إليه انطلاقًا من النقد الكتابيّ وحده. فهو يتطلّب استعمال النقد التاريخيّ ويلزم بمواقف واعية لدى المؤرّخ. ويُطرح السؤال بطريقتين: ماذا نعرف عن يسوع وعمّا قال وفعل؟ كيف نصل إلى يسوع؟ نتوقّف عند الحدث وعند طريقة معرفتنا للحدث.
كان الجواب الكلاسيكيّ يستند إلى معطيات تقليديّة. كان الشرّاح يرون في مؤلّفي الأناجيل شهودًا رأوا بعيونهم أو بعيون غيرهم حياة يسوع: كان متّى ويوحنّا رسولين رافقا الربّ يسوع. واتّصل مرقس ببطرس فكان شاهدًا من خلاله. وارتبط لوقا ببولس وبالمراجع التي يحدّثنا عنها في مقدّمته. أمّا اليوم فقد ضعف هذا التأكيد الإجماليّ عن صحّة الأناجيل الأدبيّة. إذا طبّقنا الأسلوب النقديّ الحديث نستطيع أن نسميَ كتَّاب الأناجيل "شهودًا". ولكنّ ارتباطهم بمتّى وبطرس وبولس ويوحنّا لا يكفل لنا شهادتهم بطريقة حرفيّة.
حاول الشرّاح في القرن العشرين أن يتفحّصوا بعناية كيف كان كتّاب الأناجيل صادقين ومطّلعين. ولكنّ الدراسات السابقة أظهرت أنّهم كانوا قبل كلّ شيء "خدّام الكلمة". وقد اهتمّوا أن ينقلوا المعطيات، كما جمعوها، في منظور محدّد. لقد فرضت عليهم في شكل ثابت. اختاروها ووضعوها في رسمة إجماليّة قبلوها من التقليد. خضع الإنجيليّون الثلاثة الأول لهذه الرسمة، أمّا يوحنّا فتجرّأ على قلبها رأسًا على عقب. أمّا الرباطات التي بها جمعوا موادّهم فهي ظاهرة وتتيح لنا أن نعود إلى مرحلة سبقت الواقع الإزائيّ. بعد هذا، هل نستطيع أن نقول إنّ الكتّاب مسؤولون عن الموادّ التي كان لها وجود أدبيّ مستقلّ؟ أجل، بمعنى أنّهم خبروا مكانة التقليد الذي قبلوه. لا، بمعنى أنّهم لا يجعلون نفوسهم فوق الكنيسة التي تنقل هذا التقليد. وختام القول، أنّ البرهنة الكلاسيكيّة ناقصة: فعلى النقد التاريخيّ أن يُخضع لتحقيقه كتاب الأناجيل وأن يتعرّف إلى الجماعة التي كانت الأناجيلُ صوتَها.
1- المؤرّخ يبحث عن يسوع الناصريّ
لنقل في بداية كلامنا: لا يستطيع أيّ نصّ أدبيّ أن يستند إلى تقليد المخطوطات كما تستند الأناجيل، سواء في عدد الشهود أو في قدمها. مرّت مئة سنة بين تدوين الإنجيل الرابع ونشرته الكاملة في برديّة بودمر رقم 2 التي نشرت سنة 1956. أمّا بين ما دوّنه أفلاطون الفيلسوف اليونانيّ ومخطوطات كتابته فهناك ثلاثة عشر قرنًا. فقابل. ولا ننسى ترجمات الأناجيل في القبطيّة والسريانيّة العتيقة واللاتينيّة العتيقة، وبعض مخطوطاتها يعود إلى القرن الثالث. ثمّ هناك شهادات عند كتّاب مسيحيّين أمثال يوستينوس الذي كتب في السنوات 150- 170. ولكنّ كلّ هذا رفد خارجيّ للنقد التاريخيّ الذي عَمَلهُ أن يتحقق من موادِّ النصوص الإنجيليّة ليتعرّف إلى متانة المعلومات التي يقدّمها.
1- معايير صدق التقاليد
هل نستطيع أن نسند الصدق التاريخيّ إلى شهادة متينة لكلمة يسوع لأنّها قديمة في التقليد الإنجيليّ أو لأنّها موجودة في ينابيع عدّة؟ إذا أردنا أن نصل إلى يسوع عبر التقليد الإنجيليّ وجب علينا أن نرجع إلى معايير أخرى. وقد احتفظ النقّاد بمعيارين يطبّقانِهِمَا بطريقة مختلفة.
أوّلاً: معيار الاختلاف
حين يقابلون بين ما نسبه الإنجيليّون إلى يسوع وبين العالم اليهوديّ المعاصر والعالم المسيحيّ، يكتشفون مشابهات واختلافات. فكلّ ما لا يأتي من المحيط اليهوديّ ولا من المسيحيّة الأولى يكون صادقًا. مثلاً: بين التعليمات المعطاة للتلاميذ تعليمة يأمر فيها يسوع تلاميذه بأن لا يتوجّهوا إلى الوثنيّين ولا إلى السامريّين. يجب أن نعتبر هذه التعليمة صحيحة لأنّها تعارض الرسالة المسيحيّة الأولى. فبمعيار الاختلاف نبرز أصالة يسوع الجذريّة، نبرز ما به يتميّز عن عصره. ولكن نخاطر فننتزع يسوع من محيطه. والحال أنّ يسوع تكلّم ككلّ يهودي وتصرّف كما يتصرّف كلّ يهوديّ. مثلاً: حين قال إنّه سيقوم في يوم من الأيّام. ونخاطر أيضاً في أن نقطع المسيحيّة عن كلّ ارتباط بمؤسّسها حين تبدو هذه العبارة أو تلك لاحقة للفصح. كلّ ما نقدر أن نفرضه هو معادلة بين أقوال يسوع وأقوال المسيحيّين الأوّلين.
ثانيًا: معيار التماسك
يفترض هذا المعيار أنّ التعبير عن شخص أو عن تعليم يصدر عن مركز واحد يضمّ العناصر المتعدّدة. فإذا استطعنا بوسائل أخرى أن نبيّن أنّ إحدى كلمات يسوع صحيحة أو أنّ إحدى المعطيات الإخباريّة أكيدة، فهذه المعرفة الإجماليّة تؤثّر على نصوص حلّلناها وما تأكّدنا منها. قد يُفرض هذا التماسك من الخارج بواسطة المسيحيّة الأولى أو بواسطة التأويل. ولكنّه يساعدنا وحده على فهم شخصية يسوع. مثلاً: إذا كان المنظور الإسكاتولوجيّ الخاصّ بيسوع يبرّر هذا القول أو ذاك، فلا ننسى أنّه كان ليسوع أيضاً منظور لاهوتيّ بفضل علاقته الخاصّة بالآب. فعيار التماسك يستند في النهاية إلى مجموعة أسفار العهد الجديد: ننطلق من معرفة كلّ هذه الكتب فنصل إلى معرفة أجزائها.
هذان المعياران ضروريّان لندرك الواقع الأصليّ بطريقة متواصلة، لا متقطّعة. فالمعيار الأوّل الذي يشدّد على التحليل لا يسمح لنا أن نجمع النتائج فنكوّنَ شخصيّة يسوع. والمعيار الثاني يشدّد على الشميلة التي تحاول أن تتطلعّ إلى كلّ شخص يسوع، ويرتبط أكثر من الأوّل بنظرة المسؤول. المعيار الثاني مهمّ كالأوّل، والأوّل يحقّق في قيمة الشميلة التي توصّل إليها الثاني. فإذا أراد النقد التاريخيّ أن يقوم بعمله أحسن قيام، وجب عليه أن يطبّق هذين المعيارين على مختلف المستويات التي نجدها في التقليد الإنجيليّ: مستوى المضمون، مستوى شروط النقل، مستوى التفاصيل.
2- مستويات التقليد المختلفة
أوّلاً: كل مستوى المضمون
إنّ المعطيات الخارجة عن الأناجيل تتيح لنا أن نتحقّق، بطريقة سلبيّة، أنّ المعطيات الإنجيليّة لا تعارض التاريخ.
فالوضع الذي يصوّر الأناجيل يقابل حالة فلسطين قبل سنة 70. ثمّ إنّ هذه الصورة لا تنفصل عن اللحمة الإنجيليّة.
من جهة اللغة: دوّنت هذه الكتابات في لغة يونانيّة تدلّ على اتّصال بالعهد القديم، وعلى أصل فلسطينيّ سابق لانتشارها وسط الجماعات الهلّينيّة. من جهة الجغرافيا: أحسّ الشرّاح أنّهم أمام إنجيل خامس. من جهة الأركيولوجيا (علم الآثار): تؤكّد الحفريّات التي تمّت منذ أكثر من قرن على تحديد مواضع ذكرها الإنجيل: كفرناحوم، الناصرة، نائين، قيصريّة فيلبّس وقيصريّة البحر، الطريق من أورشليم إلى أريحا، بركة بيت زاتا، هذا فضلاً عن مغاور قمران. من جهة التاريخ والسياسة: حدّثنا المؤرّخ يوسيفوس عن الصراعات بين اليهود والسامريّين، بين الفرّيسيّين والصادوقيّين. وتظهر الحياة الاجتماعيّة على حقيقتها قبل دمار أورشليم. ونتعرّف إلى العادات الدينيّة في ذلك الزمان: الأعياد، الحجّ إلى الهيكل، الصلاة في المجمع، راحة السبت. وتنعكس في هذه الحياة التيّارات الفكريّة: التيّار الإسكاتولوجيّ، التيّار المسيحانيّ، التيّار القمرانيّ...
وإذا عدنا إلى ما قبل سنة 50، نرى أنّ أعمال الرسل والرسائل البولسيّة تبيّن تطوّر الجماعة المسيحيّة تطوّرًا سريعًا إنْ في تنظيمها أو في توجّهات تفكيرها.
بدأت النظم المسيحيّة في زمن بولس تتميّز عن نظم المجمع. هناك نظام تدريجيّ تراتبي، وهناك الهرطقات التي بدأت تظهر، وهناك الاضطهادات، وهناك النظرة الشاملة إلى الرسالة. أمّا الأناجيل فتقدّم ديانة جديدة غير منفصلة عن المجمع، وتحدّثنا عن معلّم يهتمّ مع تلاميذه باحترام الشرائع الموسويّة بما فيها من أمور خاصّة (مت 10: 5؛ 15: 24). وإذا كان هناك من اضطهاد، فالكلمات المستعملة غامضة إذا قابلناها بكتب منحولة ظهرت في ذلك الزمان.
توجّه التعليم المسيحيّ في أيّام بولس نحو منهجة العقيدة عن يسوع المسيح (كرستولوجيا)، عن الخلاص، عن الروح القدس والكنيسة، عن التقليد الذي هو وديعة. أمّا في الأناجيل فلا نجد اهتمامًا بشميلة عقائديّة أو نظرية لاهوتيّة. مثلاً: عن لاهوت المسيح أو وجوده قبل الزمن. والتعابير قديمة (ابن الإنسان، ملكوت السماوات) وهي ستزول فيما بعد.
ولقد تبدّلت الميول أيضاً. اهتمّ بولس بمحاربة المتهوّدين (الذين يحاولون أن يفرضوا الشرائع اليهوديّة على المؤمنين) وروّاد المدرسة الغنوصيّة. أمّا يسوع فيحارب الفرّيسيّين والصادوقيّين، وهذا ما يعود بنا إلى الماضي.
ثانيًا: على مستوى النقل
إذًا، على مستوى المضمون، بدت الأناجيل مجذّرة في التاريخ. فماذا نقول عن مستوى التقليد عامّة والتفاصيل الإخباريّة خاصّة؟ لقد اعتقد البعض أنّ الإنجيل جمّل الواقع وقرّبه من المثاليّة. وهذا عائد إلى طبيعته كإنجيل وخبر طيّب، يريد أن ينعش إيمان قارئيه. كيف نثق بالتقليد حين يرتبط ارتباطاً وثيقًا بالإيمان؟
نجد الجواب الأوّل بفضل معرفتنا بالجماعة المسيحيّة المسؤولة عن هذا التقليد. لسنا أمام جمهور مغفّل وغير معروف بل أمام جماعة لها بنيتها: الشهود هم هنا وهم مكلّفون بنقل تذكّراتهم، وهكذا يجذّرون حاضر حياة الكنيسة الغنيّة بماضٍ لا يزال حيًّا فيهم. ثمّ إنّ الكنيسة تتكوّن من جماعات عديدة تراقب الواحدة الأخرى. ونجد بين هذه الجماعات علاقاتٍ عديدةً بعضها متقارب وبعضها متباعد. فهذه الجماعات المتعدّدة والمركّزة، كوَّنت موادّ التقليد لتحميَه من أيّ انحراف جوهريّ عن فكر يسوع كما فهمته على ضوء قيامته. وموقف الجماعات تجاه التقليد المتعدّد يقوم بأن نهمل التباعدات الطفيفة ونشدّد على التوافق الأساسيّ.
وقال بعض الشرّاح: كما كان تلاميذ الرابّانيّين أمينين لتعليم الآباء فلا يحوّرون فيه شيئًا، كذلك كانت الجماعة المسيحيّة الأولى لتعليم يسوع الناصريّ الذي صار بالنسبة إليهم تقليدًا مقدّسًا. هذا هو المناخ الأوّل ولكنّنا لا نستطيع أن نماثل الجماعة المسيحيّة بجماعة رابّانيّة. فالأمانة ليسوع هي في أمانة الروح، وهي تعطينا حرّيّة حقّة تجاه حرفيّة التعليم. فالتكرار المادّيّ لا يدلّ على الأمانة المسيحيّة. ولنا مثل في طريقة بولس في إيراد أقوال يسوع. نقرأ في أف 5: 2: تعرفون أنّ يوم الربّ يجيء كاللصّ في الليل. يعود بولس إلى لو 12: 39- 40 ولكنّه لا ينقله نقلاً حرفيًّا. ويعود بولس إلى وصيّة الربّ فيقول: لا تفارق المرأة زوجها (1 كور 7: 10) فيورد حديث يسوع عن الزواج والطلاق (مت 19: 1- 12؛ مر 10: 1- 12؛ لو 16: 18) ويعطي بعض الفرائض الجديدة التي تنبع من تعليم يسوع (رج أيضاً 1 كور 9: 14؛ 11: 23- 25؛ 13: 2، روم 14: 14).
أجل، ليس من هوّة بين يسوع والكنيسة الأولى. وإنّ درسًا سوسيولوجيًّا يساعدنا على الوصول، عبر الجماعة الرسوليّة، إلى الجماعة التي ألّفها يسوع مع تلاميذه، إلى الجماعة السابقة للفصح. فهذه الجماعة هي محيط حياتيّ صحيح تكوَّن فيه تقليد يسوع. فالشرّاح يقرّون أنّ يسوع جمع تلاميذ ارتبطوا بكلمته، وساروا إلى الرسالة بناء على أمره، ومارسوا بعض قواعد حياتيّة أخذوها عنه. فالمؤرّخ يستطيع أن يرجع من إيمانهم الفصحيّ بيسوع القائم من الموت، إلى تعلّقهم السابق للفصح، فيكتشف بين الحقبتين تواصلاً أكيدًا. فتعلّق التلاميذ بكلمة يسوع ليس خضوعًا وحسب. إنّه يؤسّس تقليدًا مقدّسًا بدأ قبل الفصح وامتدّ إلى ما بعد الفصح وظلّ في جوهره هو هو.
إنّ هذا البرهان يلائم خاصّة أقوال يسوغ. ولكن إذا عدنا إلى الأخبار المتعلّقة بيسوع، وجدنا أنّ تدخّل الجماعة مهمّ فيها. ولهذا يجب أن نطبق القواعد التي تدلّ على تاريخيّة التفاصيل. على كلّ حال، يمكننا القول إنّ عرض واقع الإنجيل التعليميّ أقرب إلى الرسم منه إلى الصورة الفوتوغرافيّة، أقرب إلى التذكّر منه إلى تقرير صحافيّ.
ثالثًا: على مستوى التفاصيل
لا نستطيع أن نتوقّف عند كلّ التفاصيل لأنّها كثيرة جدًّا، وقد حاول كلّ إنجيلي أن يطبّق هذه التفاصيل على حاجة هذه الكنيسة أو تلك. ولكنّ هذا لا يعني أنّه من السهل تشويه التقاليد الأصليّة، بسبب طبيعة الجماعة. ولكنّ بعض التقاليد تحوّلت، ولا عجب في ذلك، لأنّ الكنيسة هي التي تنقل إلينا فهم الوقائع. فإذا أردنا أن نفهم أحداث ماضي يسوع وأقواله ننظر إليها ونسمعها برفقة الكنيسة. مثل هذا الأسلوب علميّ وتقليديّ: فالأناجيل تكوّنت في جماعة هي خليّة من خلايا الكنيسة.
مثلاً: كلمة "أبّا" هي التي استعملها يسوع نفسه، لأنّ هذه التسمية غير موجودة في العالم اليهوديّ المعاصر. ولكن ماذا نقول عن كلمات العشاء السرّيّ؟ هل قال: هذا هو جسدي؟ الكلمة اليونانيّة "سوما" لا تقابل حرفيًّا الكلمة الآراميّة. وهناك عبارة ترد في مت 8: 22: "دع الموتى يدفنون موتاهم". لم تخترع الجماعة الأولى هذه العبارة لأنّها تعارض عادات اليهود الشرعيّة. أمّا بالنسبة إلى الأخبار فنقول إنّ يسوع أخذ فعلاً عشاء أخيرًا مع تلاميذه، أنّه بارك الله وكسر الخبز وأعطاه إيّاهم وتلفّظ بكلمات تفسيريّة على طريقة الأنبياء: كلّ هذا يتوافق مع العالم اليهوديّ وتسمية الكنيسة الأولى للإفخارستيّا: "كسر الخبز". وقصارى القول، إنّ لتفصيل الخبر قيمة بالنسبة إلى مجمل الخبر، وهو يساعدنا على الوصول إلى معنى الخبر وإن لم يكن وحده مؤكدًا وثابتًا.
3- نتائج النقد التاريخيّ
بعد أن غربلنا في غربال النقد التاريخيّ الأقوال والأخبار مستعينين بمعيارَيِ الاختلاف والتماسك، يبقى أن نشير إلى خطوط تنسيق حياة يسوع ورسم صورة عن يسوع الناصري.
أوّلاً: تنسيق حياة يسوع
نسارع إلى القول إنّنا لا نقدر أن نقدّم آخر التفاصيل عن مكان وزمان حياة يسوع. ولكنّنا نجد بعض نقاط نستدلّ بها. بدأ يسوع رسالته في ظلّ يوحنا المعمدان، ثمّ أعلن في الجليل مجيء ملكوت الله. هنا اصطدم بسوء فهم الجليليّين وعداوة الرؤساء الروحيّين وريبة هيرودس. فترك هذه المنطقة وبعد أن أقام وقتًا تصيرًا على حدود البلاد صعد إلى أورشليم حيث بقي بضعة أشهر. وذهب إلى شرقيّ الأردنّ ثمّ عاد إلى العاصمة اليهوديّة يوم الشعانين. فانطلاقًا من هذه المعطيات نستطيع أن نقسم رسالة يسوع قسمين رئيسيّين: أوّلاً: تقديم تعليم عن مجيء ملكوت الله القريب ونداء إلى التوبة. ثمّ فترة من التنقّلات كرّسها لتربية تلاميذه وتثقيفهم. ثانيًا: إعلان احتفاليّ كشف فيه شخصيّته.
كلّ نقد عقلانيّ يقبل بهذا الحد الأدنى من المعلومات. فهل نستطيع أن نذهب أبعدَ من ذلك ونحدّد التسلسل الزمنيّ لحياة يسوع؟ حاول أحد الشرّاح أن يجعل عماد يسوع يتمّ في كانون الثاني سنة 28. ثمّ حدّد تاريخ سائر الأحداث. ولكنّ هذه المحاولةَ فاشلةٌ سلفاً لأنّها تظنّ أنّ باستطاعتها أن تحدّد روزنامة حياة يسوع. أن نبحث عن زمن العشاء السرّيّ أو موت يسوع، أن نبحث عن زمن ميلاد يسوع يرتبط بعض الارتباط بمعطيات الإيمان. فسّر الخلاص يندرج في التاريخ البشريّ. أمّا أن نؤكّد أنّ خطبة الجبل ألقيت في 19 حزيران سنة 28، وهدأت العاصفة في كانون الأوّل سنة 28 وتجلّى يسوع على الجبل في 6 آب 29... مثل هذه الأقوال تبعدنا عن النقد السليم والصائب. وإنّنا نغوص في متاهات خطيرة فنضع على المستوى عينه، معطيات هامّة وتفاصيل خياليّة. فإذا شككنا في هذه انجرفنا إلى الشكّ في تلك.
إنّ هذه المحاولة لاكتشاف الأسس التاريخيّة الوضعيّة تقوم بأن نستجوب الوثائق الإنجيليّة، لا بحسب فنّها الأدبيّ بل ضدّ منظورها. وهي تعيد بناء مسلسل الأحداث بمعزل عن مدلولها الدينيّ وتزيد عليها بعض التفاصيل، ولكنّ مثل هذا العمل له تأثيره السيّئ في نطاق الإيمان.
ثانيًا: وجه يسوع
يقول عامّة الشعب إنّنا لا نصل إلى أيّ شيء أكيد عن وجه يسوع. فهذا ليس بصحيح. وها نحن نقدّم اإلى القارئ بعض الأمور الواضحة.
فيسوع يبدو شخصيّة أصيلة. إنّه من عالم معروف، هو عالم فلسطين في القرن الأوّل المسيحيّ. ظهر أمام معاصريه كأنّه رابّي (أو معلّم) أو نبيّ، دون أن يقدروا على أن يحصروه في أيّة فئة من الفئات. هذا الرابّي يتكلّم بسلطة محيّرة فيقلب عادات ذلك الزمان. وهذا النبيّ لا يبرّر رسالته إلاّ بأعمال عجائبيّة وبأمثال تدلّ على قوّتها المباشرة والمدهشة. لا شيء بينه وبين الطبيعة، بينه وبين الآخرين، بينه وبين أقواله، حتّى ولو كانت الكتب المقدّسة. الله أبوه هو هنا وهو يبرّر حرّيّته العجيبة. هذا هو الشخص المذهل الذي يطلّ على القارئ.
ونستطيع أن نرسم تعليم يسوع وتصرّفه بثقة كبيرة. من الأكيد أنّ يسوع أعلن أنّه يدشّن زمنًا جديدًا بكرازته: فملكوت الله الذي أنبأ به الأنبياء يقوم الآن بطريقة نهائيّة. وهو لا يقوم بعنف كما فكّر بذلك يوحنا المعمدان أو جماعة الغيورين، فيتطلعّ إلى الملكوت الآتي. يتعرّف السامع إلى هذا الملكوت في شخص يسوع الذي يتكلّم. كلّ هذا يبرّر تصرّفًا غريبًا لدى يسوع الذي يقلب حواجز بناها الرؤساءُ الروحيّون ويعاشر الخطأة خلال الولائم ويعمل الخير يوم السبت.
لا يوجّهنا فكر يسوع إلى نهاية الزمن فقط، بل إلى التعرّف إلى الله. ففي أعماق هذا الحاضر الجديد الذي يؤوّن ملكوت الله، هناك علاقة مدهشة بين يسوع والله الذي يسمّيه أبيه. يسوع هو الابن، وكلامه يفرض على سامعيه تعلّقًا جذريًا به كما بكلام الله نفسه. هذا هو الأساس التاريخيّ للتعرّف إلى شخص يسوع المسيح: علاقة فريدة تربط بين يسوع والله أبيه.
ويعبّر يسوع عن هذه العلاقة الفريدة مع الله بشكل علاقة فريدة مع كلّ البشر. هذا هو أساس التعليم عن الكنيسة. إنّ يسوع يتقبّل كلّ بشر دون تمييز في جنس أو عرق. وأخيرًا يثبت يسوع بُعد موته لا بإعلان عن الفداء، بل حين ضحّى بحياته من أجل الآخرين فتمَّم ذاته في موت عن الجميع.
قد يتحسّر البعض على قلّة الاستنتاجات الأكيدة. أجل إنّ البحث الدقيق يتيح لنا أن نعرف حدود معرفتنا. ولكنّ تلك هي العلاقة لنبدّل الهدف الذي نتوخّاه من بحثنا. فالنتيجة التي نصل إليها هي غير ما كنّا ننتظره. فالتاريخ بأحداثه يصل إلى الإنسان يسوع الناصريّ. ولكنّ يسوع طرح على معاصريه، عبر أقواله وتصرّفاته وأعماله، سؤالاً ظلّ مطروحًا أمام المؤرّخ نفسِه: "وأنتم من تقولون إنّي هو"؟ هذا السؤال هو الحدث الأساسيّ الذي يظهر وسط البحث التاريخيّ. وهو يدعونا إلى أن نفكّر في طبيعة هذا البحث: كيف نعرف حدث يسوع؟
ب- كيف نعرف حدث يسوع؟
حين تحدّثنا عن البحث عن الحدث الذي يقوم به المؤرّخ ليصل إلى يسوع، تكلّمنا كما لو أنّ المؤرّخ هو شاهد أمام شيء يحاول أن يحيط بحدوده. ولكنّ الأمر ليس هكذا. فأمام شخص يسوع، أكثر من أمام أيّ حدث من الماضي، يتدخّل المؤرّخ إمّا ليفهم النصوص الإنجيليّة التي هي في أساس معرفته، وإمّا ليعدّ تصوّره الخاصّ عن يسوع. ثمّ لا ننسى أنّ النصوص الإنجيليّة تشكّل تفسيرًا للحدث الذي تشير إليه.
1- أوهام المدرسة الوضعيّة
تقف هذه المدرسة عند الظواهر والوقائع اليقينيّة ولا تريد أن تتعدّاها.
يجد المؤرّخ (أو المؤمن) في نفسه رغبة سرّيّة في أن يتعرّف إلى الحدث في حدّ ذاته. فإن أزلنا الأوهام التي إليها يقود هذا الأمل الكاذب، نكون قد هيّأنا أنفسنا بطريقة أفضل لنعرف شروط كلّ قراءة صحيحة للأناجيل. تارةً نحاول أن نحيط بالحدث ونحصره. هذا هو المذهب التاريخيّ. وطورًا نقاوم الحدث فنغيب في عالم الارتياب الذي يقتل المعرفة الحقيقيّة ليسوع في ملء واقعه.
أوّلاً: المذهب التاريخيّ
إنّه يريد أن يزيل كلّ العوامل الذاتيّة التي تقود معرفة الواقع التاريخيّ إلى الخطأ. وهو مقتنع أنّ العقل لا يخلق الحدث بل يتأمّل فيه. وهو يهتمّ بأن يحافظ على الواقع وعلى قيمته. لا شكّ في أنّ الواقع موجود في حدّ ذاته وبمعزل عنّا، وأنّ الحقيقة ليست تابعة لفكرنا. ولكن هل يحقّ لنا أن نعالج الغرض المعروف والفكر العارف كشيئين موضوعين الواحد بجانب الآخر؟ وإذ يفعل المذهب التاريخيّ هذا يفصل واقعين تربطهما المعرفة فتكون قيمتها في هذه العلاقة المتبادلة. وهكذا تصل الموضوعانيّة التاريخيّة إلى أوهام تحسنا واقعًا. فالنقّاد الذين يقعون في هذه التجربة يظنّون أنّهم يعرفون يسوع الناصريّ حين يجرّدون الوثائق الإنجيليّة من منظور الإيمان الذي فيه دوّنت. ويرتأون أنّه لا يجب أن نحتفظ إلاّ بالوقائع الخام وبأقوال يسوع عينها. هذه الطريقة ضروريّة لأنّها تثور ضدّ خطر التفسيرات الذاتيّة التي تحرّف تصوّر الواقع. ولكنّها لا تكفي لتسمح لنا بتنظيم المعطيات التي نحسبها وضعيّة.
نجد مثلاً عن هذا الموقف في كتب يرامياس الشارح الألمانيّ. في نظره، يقوم مثال العمل التاريخيّ بأن نكتشف من خلال الحجاب الذي وضعته الكنيسة الأولى على التاريخ السابق للفصح، سمات يسوع الناصريّ وأقواله الحقيقيّة. هذه ردّة فعل سليمة ضدّ الرافضين لهذا البحث، ولكنّها ردّة فعل ناقصة. حصر يرامياس نفسه في إعادة بناء الأقوال والقرينة الأصليّة في نظره، فلم يهتمّ بتفاسير الشهود الأوّلين. حينئذ حسب نفسه أنّه يقدر أن يقدّم "تعليم أمثال يسوع" أو "لاهوت العهد الجديد". ولكن هل إنّ هذه الموادّ المنقّاة والمحرّرة من أيّ رباط بالكنيسة الأولى، تعبّر عن فكر يسوع الكامل؟ هل نستطيع أن نفسّرها دون الرجوع إلى القرينة الأصليّة؟ ثمّ، هل إنّ التفسيرات المميّزة التي تقدّمها الأناجيل غير نافعة؟ لا شكّ في أنّه يجب، قدر الإمكان، أن نعود إلى الحدث الأوّل، إلى كلمة يسوع بالذات. ولكنّ هذا العمل يتطلّب بحثًا نقديًّا آخر: فإذا نظرنا إلى الأمثال، يؤول بحثنا إلى تثبيت تاريخ التفاسير التي تعطينا إيّاه الوثائق الإنجيليّة. فإذا توقّفنا عند الطريقة الأولى (تنقية الموادّ) وتركنا الثانية (البحث عن القرينة) نصل إلى نهج موضوعانيّ ووهميّ. وإذا تجاهلنا المعطيات التاريخيّة والوثائق التي تشهد لها نُحِلّ لاهوت المؤرّخ الشخصيّ محلّ الفكر الحقيقيّ ليسوع ولاهوت شهوده المميّزين.
ثانيًا: المذهب الارتيابيّ
هذا المذهب هو ردّة فعل أمام المذهب التاريخيّ الذي يحصر نظرته في التاريخ الموضوعيّ إلى أقصى حدود الموضوعيّة. بدأ بولتمان أبحاثه عن إيمان المسيحيّين الأوّلين وعن تنوّع عباراته الأدبيّة وعن علاقته بالأوساط الثقافيّة التي تأثّر بها هذا الإيمان. ولكنّه جعل الارتياب مبدأ لا يحيد عنه. قال: لا يستطيع المؤرّخ أن يتجاوز عتبة الإيمان الفصحيّ، لأنّه يظلّ محصورًا في إيمان الجماعة الأولى. إذًا، لا يستطيع أن يصل إلى يسوع الناصريّ كما عرفه الرسل في الفترة السابقة للفصح.
ويزاد على هذا الارتياب في عالم التاريخ، نظريّةٌ عن طبيعة الإيمان. يقول: لن يبحث الإيمان عن برهان في حدث يستطيع العقل أن يدركه بوسائله الخاصّة. وإلاّ صار الإيمان عملاً بشريًّا لا نعمة إلهيّة. إذًا، نرذل كلّ المحاولات التي تريد أن تكتب "حياة يسوع" انطلاقًا من الأبحاث النقديّة: فالإيمان يتوجّه إلى الله الحيّ وهو يتقبّل كلمته مرّة واحدة في عثار الصليب. فهو لا يتوجّه إلى رسم يسوع التاريخيّ الذي يجعله الموضوعانيّون موضوع إيمان للمؤمن. وهكذا يقطع بولتمان الإيمان المسيحيّ عن كلّ ارتباط تاريخيّ فيضيع شخص يسوع الحقيقيّ الذي نعرفه من خلال الأناجيل.
2- الشرط الواقعيّ للبحث التاريخيّ عن يسوع
تعيق المدرسة الوضعيّة عمل النقد الكتابيّ، وهي تؤثّر على عقليّة الناس العاديّة في المحيط الذي نعيش فيه. وهي تصل إلى المؤمنين الذين يظنّون أنّهم يدافعون عن إيمانهم حين يدافعون عن نظرة موضوعانيّة للتاريخيّة المنسوبة إلى النصوص الإنجيليّة. فإذا أردنا أن نتخلّص منها نتساءل عن الشرط الواقعيّ لكلّ بحث تاريخيّ يتعلّق بيسوع. ويمكننا أن نعالج هذه المسألة في ثلاثة مستويات: مستوى إيمان المؤوِّل الذي بدأ بحثه كمؤرّخ. مستوى طبيعة المسيرة العقلانيّة. بالتالي مفهوم اليقين في عالم التاريخ. مستوى حدث يسوع الذي ندركه فقط عبر النصوص التي تفسّره.
أوّلاً: البحث التاريخيّ وإيمان المؤوّل
هل نظرة المؤرّخ تجاه يسوع هي نظرة المؤمن أو اللامؤمن؟ فكل تأويل للأناجيل يوجّهه بالضرورة موقف القبول أو الرفض نحو ذلك الذي نريد أن نعرفه. فالمؤلّف لا يقدر أن يضع إيمانه جانبًا عندما يكون أمام مقاطع ذات بُعد عقائديّ. لا حاجة إلى "سيكولوجيا مشتركة" لنقدّم رسمًا موضوعيًّا لشخص يسوع ورسالته. لا حاجة إلى فلسفة "سليمة" تستقلّ عن الإيمان: فكلّ بحث تاريخيّ في إطار دينيّ تسبقه نظرة إيمان أو لا إيمان. فليس اللامؤمن في وضع أكثر موضوعيّة من المؤمن، لأنّ له أفكاره المسبقة وهو يحاول أن يجد تماسكًا بينها وبين نتائج بحثه. فمَن تخيّل أنّه يوجد مؤرّخ حياديّ بحث عن السراب. فالعالم الذي ولد فيه قد سمع عن ذلك الرجل الذي طرح يومًا هذا السؤال: "وأنتم من تقولون إنّي هو"؟ فأمام هذا الرجل الذي جعل الكثيرين يؤمنون به، لا يقدر المؤرّخ أن يكون لا مباليًا. فعليه أن يجيب عاجلاً أو آجلاً على السؤال المطروح. وجوابه يؤثّر على تحاليله.
ثمّ إنّ المحاولة التاريخيّة ليست عملَ إنسان واحد، بل ثمرةُ تشارك بين مؤرّخين تتنوّع أفكارهم المسبقة. هذا لا يعني أنّ المؤمن يحصل من اللامؤمن على حقيقة التاريخ، ولا أنّ موضوعيّة الوقائع تنبت من التقارب بين نظرات المؤرّخين. ولكنّ اللامؤمن يساعد المؤمن، خلال مسيرته العقلانيّة، على أن يرفض نورًا يأتيه من الإيمان لا من البحث التاريخيّ. ومقابل هذا، يحذّر المؤمن من ميله إلى إلغاء السؤال المطروح عليه في نهاية بحثه. فكلّ مؤرّخ يعي وعيًا أفضل الحدود التي تفرضها على بحثه ثقافته الشخصيّة. فمن خلال الحوار يحفظ المؤرّخ نفسه من الاكتفاء الذاتيّ ومن سرعة التصديق ومن العقلانيّة.
ثانيًا: المسيرة العقلانيّة واليقين التاريخيّ
على هذا المستوى الثاني يقوم الحوار، لا بين المؤمن واللامؤمن، بل بين مختلف الاختصاصيّين الذين يتفحّصون النصّ. هناك افتراضات وأفكار مسبقة توجّه بحثنا. فرجل العلم يدعو المؤرّخ لأن يتعرّف إلى واقع، ويفهمه أنه أمام افتراضات. كما أنّ المؤرّخ مشروط بالعالَم الثقافيّ الذي يعيش فيه وبتقدّم العلوم المعاصرة. فإن تأكّد ممّا يقول فهو يتصرّف داخل عالم محدّد.
فإن يكن الأمر هكذا، فما هي طبيعة اليقين التاريخيّ الذي نصل إليه في مسيرتنا العقلانيّة؟ ليست يقينًا ميتافيزيقيًّا ولا يقينًا حسابيًا (2+2= 4) ولا يقينًا فيزيائيًّا. نحن هنا على مستوى يقين العلوم الإنسانيّة المشروطة دومًا باكتسابات تدريجيّة في إطار محدّد. في هذا المعنى يكون اليقين التاريخيّ شيئًا معقولاً ليس من المعقول أن نرفضه. وهذا ما يفسّر تعدّد وجوه يسوع أو أنواع لاهوت العهد الجديد. الموضوعيّة حقيقيّة، ولكنّها ترتبط بسلسلة معارف تحدّد المنظور الذي فيه نتأمّل في شخص يسوع. ولكن يطرح سؤال: إلى أيّ حدّ يرتبط إيماننا بيقين تاريخيّ؟ نجيب: لا يرتكز إيماننا على يقين تاريخيّ مع أنّه يفترض كثيرًا من اليقينات التاريخيّة.
ثالثًا: حدث "يسوع" وتفسيراته
وفي مستوى ثالث يتمرّس الفكر في مادّة البحث التاريخيّ. ما هي هذه المادّة الموضوعة أمام المؤرّخ، أمؤمنًا كان أو غير مؤمن، في هذه الشميلة أو تلك؟ إنّها تظهر أمامنا بشكل نصّ يعود إلى حدث ويرتبط به. فما هي العلاقة بين الحدث والتفسير؟ إذا أردنا أن نفلت من إطار المدرسة التاريخيّة والمدرسة الإيمانيّة (تتعلّق بالإيمان دون العقل)، يجب أن نقيم حركة دائريّة بين الواقع الخام الذي على مستوى الظواهر الملاحَظة، وبين التفسير الذي يكشف المعنى، بين السؤال الذي يطرحه شخص داخل التاريخ والجواب المعطى في فعل الإيمان. أمّا المبدأ المحرّك لهذا التعارض الجدليّ فهو الجواب الذي قدّمته الكنيسة الأولى على السؤال: من هو يسوع الناصريّ؟ ولكنّ هذا الجواب يعيد المؤرّخ إلى السؤال، والسؤال يتطلّب من قِبَله جوابًا. يقف يسوع أمام المؤرّخ في وحدة سريّة، عبر حدث يفلت منه ساعة يظنّ أنّه أمسك به. فعليه إذًا أن يبحث عن مدلوله. أليس هذا هو معنى كلّ سؤال؟ فالسؤال يحمل بعضاً من الجواب الذي يثيره. ولكنّ السؤال ليس الجواب بعد، والجواب يعني سرّ يسوع الذي يستطيع المؤرّخ أن يحسّ به، ولكنّه لا يُعطى له بمجرّد بحثه التاريخيّ.
ونقدر أن ندرك العلاقة بين الحدث وتفسيراته بفضل الرباط الذي يوحّد مختلف التفاسير التي تقدّمها الأناجيل والكلمة التي يعتبر المؤرّخ أنّ يسوع تلفّظ بها. ولنأخذ مثلاً على ذلك تطويبة الفقراء. في نظر لوقا، يتوجّه يسوع إلى الفقراء ويميّزهم عن الأغنياء. في نظر متّى، يطوّب يسوع الذين يقبلون داخليًّا بفقرهم. ولكنّ المؤرّخ يعتبر أنّ هذين التفسيرين اللذين طبّقًا كلمة يسوع على حالة معيّنة حدّدا وضيّقا منظورها الأصليّ. لم يكن هدف يسوع أخلاقيًّا (لوقا) ولا تعليميًّا (متّى). لقد كان نبيًا يعلن أنّ الذين ينتظرون كلّ شيء من الله سيكافأون في شخصه. فما الذي يربط هذه المنظورات الثلاثة: المنظور الأخلاقيّ والمنظور التعليميّ والمنظور النبويّ؟ أوّلاً: يتوازن تفسيرا متّى ولوقا. فمتّى يساعد لوقا على أن لا يجعل غرض التطويبة حالة سوسيولوجيّة. ولوقا يساعد متّى على أن لا يترك التطويبة تتبخّر في "روح فقر" لا يبالي بشقاء الناس. ثانيًا: ننطلق من معرفتنا لما استطاع يسوع أن يقوله فنقول إنّ التفسيرين ليسا فقط تطبيقًا أخلاقيًّا: إنّهما يتّخذان معناهما بالنسبة إلى شخص يسوع الذي يكلّم الفقراء ويأتي إليهم. هذه هي العلاقة المثلّثة والديناميكية التي من خلالها يظهر معنى التطويبة التي وعد بها يسوع. فالحقيقة ليست في واحد من الأقطاب الثلاثة ولكن في علاقة مدلول كلّ قطب من الثلاثة. لا نمزج، لا نجمع ولا نطرح: فحين يحدّد المسؤول موقع التفاسير والكلمة الأصليّة يحدّد في الوقت ذاته موقعه من كلمة الله.
خاتمة
في نهاية هذا الفصل، لم يعد السؤال المطروح علاقة الأناجيل بالتاريخ، بل علاقة الأناجيل بالمؤرّخ. فلا تاريخ من دون مؤرّخ. فالبحث عمّا يتكلّم عنه النصّ أبعد من النصّ، يؤول بنا إلى أن نخترع حدثًا جديدًا. فالأناجيل هي وحدها سيرة المسيح التي يمكن أن تكتب. فلا يبقى علينا إلاّ أن نفهمها قدر الإمكان. هذا الكلام يعني أنّ النصّ ليس شيئًا نرميه بعد أن نستعمله. إنّه يرتبط بالحدث الذي يشهد له. لن يجد المؤرّخ الحدث إلاّ في النصّ.
ولكن ماذا يدرك في الواقع؟ حين يكتشف المؤرّخ شخص يسوع كمركز المنظور الذي يوحّد معطى التقليد المتعدّد، فإنّ هذا المشخص يفلت منه. بل هو يدفعه إلى البحث أيضاً بسؤال جديد يتعدّى كفاءته واختصاصه. فيسوع الذي هو يَنبوعُ نورٍ يضيء على كلّ الإنجيل وعلى عمل المؤمنين، يبقى سرًّا يعمي ساعة نظنّ أنّنا قبضنا عليه. وهكذا يقف المؤرّخ أمام يسوع كما أمام لغز. من هو هذا الرجل؟ وإذ يورد الشهود أعماله وأقواله، فهم يدلّون على أنّ كيانه لا ينحصر في غرض يسيطر عليه الفكر البشريّ، أكان هذا الغرض إلهيًّا أو عبارة عقائديّة أو لقبًا كرستولوجيًّا. نستطيع أن نلتقي يسوع ولكن كَسِرٍّ لا يُسْبَرُ. نُدركه عبر الحدث ولكن في أبعدَ من هذا الحدث. وفي النهاية، الحدث هو يسوع نفسه الذي يأتي إلى المؤرّخ كسؤال. واللامؤمن لا يسمع جواب المسيحيّين الأوّلين إلاّ بقدر ما ينير هذا الجواب المعنى الحقيقيّ للسؤال. ويستند المؤمن إلى السؤال ليبحث عن سرّ لا يستطيع بشر أن يستنفده. وإنّ يسوع يقدّم نفسه إلى كلّ مؤرّخ كسؤال يجب أن يوضح. طُرح هذا السؤال في الماضي على معاصري يسوع، ولا يزال يطرح اليوم في قلب كلّ إنسان: وأنتم من تقولون إنّي هو؟