الفصل السادس عشر: الإنجيل بحسب مرقس

الفصل السادس عشر
الإنجيل بحسب مرقس

ظلّت الأخبار عن يسوع متفرّقة مدّة أربعين سنة، ثمّ جُمعت شفهيًّا قبل أن تدوَّن. كانت هناك ملخّصات يستعملها الوعّاظ الذين يعلنون البشرى. فهذا الإنجيل الموجَّه إلى الوثنيّين هو أوّل رفيق للكازرين بإنجيل المسيح.
تقاليد تكوَّنت على ضوء المسيح القائم من بين الأموات والحاضر والفاعل في جماعته، وهي تفسّر من كان يسوع الخلّص، ومن هو الآن. وبدل أن يكتفي مرقس بجمع الأقوال أو بكتابة مقالة لاهوتيّة على غرار الرسالة إلى العبرانيّين، اخترع فنًّا أدبيًّا يعرض الكرازة داخل إطار حياتيّ. عاد إلى المراجع وتأثّر بجماعته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فلم يكن جمَّاعًا ومقمِّشًا فقط، بل كاتبًا مبتكرًا ولاهوتيًّا عميقًا.
فمن هو مرقس؟ بعد أن نتعرّف إلى كاتب الإنجيل الثاني وإلى جماعته، نقدّم جردة بالمواد التي استعملها، ونُبرز طرائقه في الكتابة قبل أن ندرس لاهوته.

أ- من هو مرقس؟
لم يوقِّع أحد الإنجيل الثاني. أمّا العبارة "حسب مرقس" فهي متأخّرة وتدلّ على اسم رومانيّ واسع الانتشار.

1- ماذا يقول بابياس والتقليد القديم عن مرقس؟
كان بابياس أسقف هيرابوليس في فريجية من أعمال آسية الصغرى وقد عاش حوالي السنة 110. أمّا شهادته فقد احتفظ بها أوسابيوس القيصريّ. قال: وهذا ما قال الشيخ: كان مرقس ترجمان بطرس. فكتب بدقّة، ولكن بدون نظام، كلّ ما ذكره ممّا فعله أو قاله الربّ. هو لم يسمع الربّ ولم يرافقه. ولكنّه رافق بطرس كما قلت. أمّا بطرس فكان يقدّم تعاليمى حسب الحاجات دون أن يجمع أقوال الربّ. من هذا القبيل لم يخطئ مرقس حين كتب ما تذكّره. وقد كان له مقصد واحد، هو أن لا يهمل شيئًا ممّا سمعه وأن لا يُضِلَّ أحدًا في ما سمعه.
تتضمّن هذه القطعة تقليد الشيخ المحصور في الجملة الأولى، ثمّ بابياس وفيه ثلاثة أمور: كان مرقس ترجمان بطرس، كتب بدقّة، كتب بدون ترتيب. وحاول الدارسون أن يشرحوا بعض كلماته. ترجم أي نقل حرفيًّا. الترتيب يعني التأليف الأدبيّ لا التسلسل الزمني.
أمّا أوسابيوس فيقول هو نفسه: أثَّرت تعاليم بطرس تأثيرًا عميقًا على السامعين، فطلبوا من مرقس أن يدوّنها. هو لم يتبع تسلسل الأحداث، ولكنّ هذا لا يؤثّر على الدقّة والأمانة في ما نقله عن بطرس.
وعلى خطى بابياس وردت شهادات عن مرقس في آسية الصغرى ومصر وأفريقيا الشماليّة ورومة. وها نحن نعطي بعضها. يوستينوس (حوالي 150). لا يسمّي مرقس، ولكنّه ينسب إلى "مذكّرات بطرس" تفصيلاً خاصا بمرقس: سمَّى ابني زبدى بوانرجيس أي ابني الرعد (3: 17). وقال إيريناوس (+ 202): بعد موت بطرس وبولس نقل إلينا مرقس، تلميذ بطرس وترجمانه، خطّيًّا ما وعظه بطرس.
وقال إكلمنضوس الإسكندرانيّ (+ قبل 215) الشيء عينه. وجعل أوريجانس (+ 253/ 254) الإنجيل بحسب مرقس في الدرجة الثانية وقد أُلِّف حسب تعليم بطرس.

2- ماذا يقول العهد الجديد عن مرقس؟
لا يذكر مرقس اسمه في إنجيله. أمّا العنوان والتقليد القديم فيقولان إنّ كاتب الإنجيل الثاني هو مرقس. لم يكن رسولاً، ولكنّه تبع بطرس الرسول. إنّ العهد الجديد يعطينا عنه بعض المعلومات المتناثرة هنا وهناك.
يذكر سفر الأعمال يوحنّا الملقّب بمرقس (أع 12: 12، 25؛ 15: 37). يذكره مرّة باسم يوحنّا (أع 13: 5، 13) ومرّة باسم مرقس (أع 15: 39). إذا تتبّعنا مسيرة الأحداث تيقَّنّا أنّنا أمام شخص واحد حمل اسمًا عبرانيًّا واسمًا لاتينيًّا.
هو ابن مريم من أورشليم. وكان بيت أمّه يستقبل الجماعة المسيحيّة للصلاة، وإلى هناك ذهب بطرس بعد أن نجا من السجن (أع 12: 12) فاستقبلته الخادمة (أع 12: 13). ثمّ نجد مرقس في رفقة برنابا وشاول. وخلال الرحلة يشير الكاتب إلى أنّ يوحنّا هو معاونهما (أع 13: 5). ولكنّه انفصل عنهما في برجة من أعمال بمفيلية وعاد إلى أورشليم (أع 13: 13). وبعد وقت أراد برنابا أن يأخذ معه نسيبه يوحنّا المدعوّ مرقس في الرحلة الرسوليّة الثانية (أع 15: 37)، فتذكّر بولس ما حصل له معه في بمفيلية ورفض أن يصطحبه. اختلف بولس وبرنابا بسبب مرقس، فذهب كلّ في طريقه، وأخذ برنابا مرقس معه.
سيُذكَر اسمُ مرقس في الرسائل البولسيّة. ففي كو 4: 10 نقرأ: "يسلّم عليكم أرسترخس رفيقي في السجن، ومرقس ابن عمّ برنابا، وهو الذي طلبت منكم أن ترحِّبوا به إذا جاء إليكم". ونسمع في 2 تم 4: 11 بولسَ يتوجّه إلى تلميذه: "خذ مرقس وجئ به، لأنّه يفيدني كثيرًا في خدمة الربّ". أمّا فلم 24 فتعتبر مرقس من رفاق بولس في العمل مع أرسترخس وديماس ولوقا. وأخيرًا نقرأ اسم مرقس في 1 بط 5: 13: "كنيسة بابل (أي رومة) وهي مثلكم مختارة من الله، تسلّم عليكم، ويسلّم عليكم مرقس ابني".

3- علاقة مرقس ببطرس
نتوقّف هنا على وجهتين: تأثير بطرس على مرقس، صورة بطرس في إنجيل مرقس.
لقد أكّدت تقاليد الأجيال الأولى ارتباط مرقس ببطرس. ثمّ إنّ العهد الجديد يذكر العلاقة بين الرجلين في أورشليم (أع 12: 12) وفي رومة (1 بط 5: 13).
وحاول الشرّاح أن يسندوا هذا الارتباط إلى براهين أدبيّة. فقد احتفظ مرقس بتفاصيل حيّة تدلّ على الشاهد العِيان. وبما أنّه لم يعش في جوار يسوع، فقد أخذ ما أخذ عن معلّمه بطرس. وهناك عبارات ساميّة عديدة تتوزّع إنجيل مرقس. ثمّ إنّ خبر الالام يشير إلى ذكريات بطرس التي دوّنها مرقس، وَبْينَها: حين سكبت الإمرأة الطيب على يسوع (14: 3- 9)، وحين تعشّى الربّ عشاءه الأخير مع تلاميذه (14: 22- 25)، وحين جاؤوا إلى جتسيماني (14: 32- 42) واعتقلوا يسوع...
يمكن أن تعود هذه التقاليد إلى بطرس، ويمكنها أن تعود إلى تقاليد قريبة من بطرس وقد اهتمّت بإبراز شخصيّته. ومهما يكن من أمر، فهناك تأثير بطرس على هذا الإنجيل إن من بعيد أو من قريب.
فكيف تبدو صورة بطرس في إنجيل مرقس؟ يقدّم لنا مرقس صورة عن بطرس تنطلق من التقاليد المتنوّعة. فمن خلال الإنجيل يظهر لنا بطرس شخصاً متحمّسًا، سحرته شخصيّة يسوع فعمي عن إدراك حقيقتها. رافق بطرس يسوع (1: 21) بعد أن اختاره مع أخيه أندراوس (1: 16) وشفى له حماته (1: 29- 30). سيعلن أنّ يسوع هو المسيح (8: 29)، ولكنّه يوبّخ معلّمه لأنّه يتطلعّ إلى طريق الالام (8: 33). رافق المعلّم مع يوحنّا ويعقوب إلى دار رئيس المجمع (5: 37) وعلى جبل التجلّي (9: 2) بانتظار أن يرافقه إلى جتسيماني (14: 33). ويحدّثنا مرقس عن بطرس الذي استولى عليه الخوف، فما عاد يعرف ماذا يقول على جبل التجلّي (9: 5)، والذي سمّاه يسوع "شيطانًا" لأنّ أفكاره "أفكار البشر لا أفكار الله" (8: 33). بعد العشاء، أعلن أنّه لن يترك المسيح ولو تركه الجميع (14: 29)، ولكنّه سينكر معلّمه ويخاف من جارية (14: 66- 72). ولكنّ بطرس سيعود إلى الربّ بتوبة صادقة فيبكي (14: 72) خطيئته بانتظار أن يكون له المقام الفريد بين الرسل (16: 7).
ويوم كفرناحوم (1: 16- 38) مليء بذكريات بطرس. صار تلميذًا يوم سمع النداء من أجل حياة مع يسوع ومشاركة في عمله الرسوليّ. وسيلعب مع رفاقه دور الشاهد. ارتبط بصورة خاصّة بيعقوب ويوحنّا، وتحدّث باسم التلاميذ مرارًا وكان الأوّل في لائحة الرسل. كان اسمه سمعان، فلقَّبه يسوع بطرس (3: 16).
لا نستطيع أن ننسب كلّ هذه المعلومات إلى مرقس. فصورة بطرس ودوره الرئيسيّ معروفان في التقليد. أمّا الوجهة السلبيّة فيمكنها أن تعود إلى محيط مسيحيّ يعارض بطرس: إنهم يحترمونه ولكنّهم يعارضونه (رج غل 1: 18- 19؛ 2: 1- 14). ولكن إذا قرأنا كلّ هذا في إطار توبة بطرس وحياته فيما بعد، نرى فيه تشجيعًا لأعضاء الجماعة: فليقتدوا ببطرس.

4- علاقة مرقس ببولس
يشدّد التقليد على علاقة مرقس ببطرس، ولكن يبدو أنّ العلاقة ببولس هي أقوى. إنّ إنجيل مرقس ورسائل بولس هي كلّ ما بقي لنا من آثار مسيحيّة بعد كارثة سنة 70. ثمّ إنّ مرقس هو مرجع رئيسيّ لكلّ من متّى ولوقا. ولكن من المفيد أن نقابل بين إنجيل مرقس والرسائل البولسيّة لا لنجد ارتباطات، بل لنفهم التلميحات إلى المسائل اللاهوتيّة التي تهمّ جماعة لوقا وجماعة مرقس. منها: عدم جدوى الشريعة، الخلاص بالإيمان، شموليّة الخلاص، الجديد الذي حمله يسوع.

ب- جماعة مرقس
ولد إنجيل مرقس في الكنيسة. هناك مجموعات من المسيحيّين عبَّروا عن إيمانهم الجديد وعن قصدهم في أن يسيروا على خطى يسوع. جمع مرقس هذه التقاليد بعد أن عاشها في جماعة قاسمها أفراحها وآلامها وآمالها. كيف بدت هذه الجماعة؟
إنّها جماعة تعيش في أزمة، إنّها جماعة تحدِّد شخصيّتها حين تكتب تاريخها، إنّها جماعة رومة.

1- جماعة تعيش أزمة
عرفت فلسطين ورومة اضطرابات خطيرة في السنوات 60- 70. ففي فلسطين كان التوتّر على أشدّه بين المحتلّ الرومانيّ وحركات الثوريّين الذي سُمُّوا بعض المرّات "جليليّين" (لو 13: 1؛ 5: 37). واندلعت الحرب اليهوديّة في سنة 54. وإنّ الاقتصاد والتجارة بدّلا التوازن الاجتماعيّ لصالح الفرسان الذين حاربوا والعبيد الذين تحرّروا. واتّسمت سنة 64 بحدثين هامّين: سقطت قيمة الدينار وأحرقت رومة. بعد موت نيرون اندلعت الحرب الداخليّة (1 حزيران 68- كانون الأوّل 69). حينئذ أعلن فسباسيانس نفسه إمبراطورًا (69- 79).
تأثّرت الجماعة المسيحيّة بهذه القلاقل، من قبل الجهود مرّة، ومن قبل الرومان مرّة أخرى. فحوالي سنة 43- 44 قطع هيرودس أغريبّا الأوّل بالسيف رأس يعقوب أخي يوحنّا (أع 12: 1). ثمّ استفاد اليهود من غياب السلطة فأعدموا يعقوب أخا الربّ سنة 62. فحلّ شمعون محلّه على رأس كنيسة أورشليم. وفي رومة سيتعرّف المؤمنون إلى الشهيدين بطرس وبولس بين سنة 64 وسنة 67.
لقد احتفظ إنجيل مرقس بأثر لهذه الأحداث، فشهد ردّة فعل الجماعة المسيحيّة تجاه ظروف الساعة. فالفصل 13 الذي يتوسّع في رؤيا تمثّل الإمبراطور كاليغولا في قسمات الخصم، هو صدى لهذه الفترة المتوتّرة. ففي مناخ الأزمة السياسيّة والاضطرابات الكونيّة، يدعو مرقس المسيحيّين إلى السهر وهم متيقّنون من مجيء ابن الإنسان (رج خاصّة 13: 24- 27). يمكن أن يأتي ملكوت الله بعد فترة محدّدة من الزمن (9: 1). ولكن يجب أن لا نتبع المسحاء الكذبة الذين سيظهرون في هذه الفترة.
ليس بأمر غريب أن يولد إنجيل في هذه الظروف. لقد أخذ يزول تدريجيًّا رفاق يسوع الأوّلون، فوجب أن تدوّن بدقّة الشهادة الرسوليّة. فالمجموعة التي تصيبها أزمة عميقة تعود إلى جذورها. هكذا عادت جماعة رومة إلى حياة يسوع، إلى بداية الإنجيل. جاءت التهديدات الخارجيّة والداخليّة. فأحسّ المؤمنون بالحاجة إلى التماسك. لم تَعُد التقاليد المنعزلة بكافية. لهذا عاشت جماعة مرقس وهي تكتب تاريخها. أرادت لنفسها أن لا تموت، فتركت لنا إنجيلاً.
إنّ نداء يسوع يفترض اقتلاع الإنسان من جذوره (1: 17، 20؛ 2: 14؛ 3: 13؛ 10: 21): يجب أن نترك العائلة والوظيفة. ولقد أعاد يسوع تحديد الرباطات العائليّة له ولتلاميذه. قال: "من هي أمّي ومن هم إخوتي؟ هؤلاء. هم أمّي وإخوتي، لأنّ من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمّي" (3: 33- 35). وقال في آذان تلاميذه: "ما من أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخوات أو أمًّا أو أبًا أو زوجةً أو حقولاً من أجلي ومن أجل البشارة، إلاَّ نال في هذه الدنيا، مع الاضطهادات مئة ضعف من البيوت والإخوة..." (10: 29- 30، رج 6: 1- 6). ويفرض يسوع على تلاميذه أن يتخلُّوا عن الأملاك (6: 8- 9؛ 10: 17- 31)، أن يتخلَّوا عن الراحة والطمأنينة (6: 11).
وإنّ جماعة يسوع تتبعه في حياته المتجوّلة. يستعمل مرقس عبارة "في الطريق" (8: 3، 27؛ 9: 33- 34؛ 10: 32- 52) وفعل تبع في أخبار الدعوات (1: 18؛ 2: 14- 15؛ 10: 21- 28، 32، 52) وسار وراء (1: 17، 20؛ 8: 33- 34). هذه الجماعة تتنقل دومًا في داخل الجليل من ضفّة البحيرة إلى الضفّة الأخرى، في المدن العشر، في أرض صور وصيدا وفي جوار قيصريِّة فيلبّس، وفي النهاية في أورشليم. يبدو أنّها تفضِّل القرى (1: 38؛ 6: 6 ب؛ 8: 27) على المدن حيث تلقى المعارضة (2: 1- 12؛ 3: 22؛ 7: 1). هي تتقدّم ولكنّها تتراجع أيضاً. وهي تنعم بحياة خاصّة وبتعليم خاصّ (4: 34؛ 6: 31- 32؛ 9: 28؛ 13: 3)، وتتميّز عن سائر التجمّعات كالعائلة (3: 31- 32)، أو الذين هم من الخارج (4: 11).

2- جماعة تكتب تاريخها
تعيش الجماعة على اتصال بمحيطها وتبني نفسها متجاوبة مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي أمامها. ولكن زخمًا داخليًّا يحرّكها كلّها فيجعل الجماعة تحيا وتكيِّف تاريخها.

أوّلاً: جماعة تتعرّف إلى يسوع
هذه الجماعة مدعوّة إلى أن تتعرّف إلى يسوع. فما يجعلها تحيا وما يحافظ على تماسكها هو بحثها الدائم عن يسوع. ففي نظر مرقس، لا تجد جماعة مسيحيّة هُوِّيَتها إلاَّ إذا اكتشفت هُوِيَّة يسوع، وهذا عمل لا تنتهي منه أبدًا، وصعوباته نعرفها عندما نتذكّر التلاميذ الذين لم يكونوا يفهمون يسوع. فالسرّ هو أمامنا دومًا. أن نكون رسلاً يعني أن نلتزم بكلّيّتنا بالسير على خطى يسوع تساعدنا بعض الأضواء في هذه الطريق المظلمة.
والجماعة تقدِّم لنا أمكنة تساعدنا على التعرّف إلى يسوع، نذكر منها شعائر العبادة والتعليم.
إذًا تذكّرنا شعائر العبادة، ولاسيّما الإفخارستيّا، فهمنا أنّ أخبار تكثير الخبز وُلدت في هذه المناسبة. ولقد رأى بعض الشرّاح أنّ المؤمنين كانوا يحتفلون بالفصح في أورشليم مرّة كلّ سنة، فيتذكَّرون ليلة يسوع الأخيرة وصلاة الجمعة العظيمة ووضع الجسد في القبر. من هذه الاحتفالات وُلد خبر الالام. وقال البعض الآخر: إنّ إنجيل مرقس كان يُقرأ كلّه على المعمّدين الجدد في السهرة الفصحيّة. وهذا يفرض جماعة التأمَتْ للاحتفال بالمعموديّة واستعدّت للممارسة المسيحيّة.
وهناك التعليم أيضاً. فالجماعة التي تحتفل هي التي تعلِّم أيضاً. هناك نصوص للمبتدئين، وهناك كتاب تثقيف للمسيحيّ. فإذا كان مضمون التعليم في مرقس أقلّ اتّساعًا منه في متّى ولوقا، فإنجيل مرقس يجيب على سؤالين جوهريّين للمسيحيّ الذي يريد أن يتعمّق في إيمانه: من هو يسوع؟ ماذا يعني أن تعيش مسيحيًّا؟
يشدّد مرقس بطريقته الخاصّة على التعليم، وإن لم تكن تعافه كثيرة. يستعمل كلمة علّم 17 مرّة (1: 21، 22؛ 2: 13؛ 4: 1، 2؛ 6: 2، 6، 30، 34؛ 7: 7؛ 8: 31؛ 9: 31؛ 10: 1؛ 11: 17؛ 12: 14، 35؛ 14: 49). يسوع يعلّم بصورة تكاد تكون متواصلة. ويتحدّث مرقس عن التعليم (5 مرّات) ويعود لقب المعلّم 12 مرة. يسوع هو رابّي (9: 5؛ 11: 21؛ 14: 45)، رابّوني (10: 51) أي المعلّم.

ثانيًا: جماعة تنفتح على الوثنيّين
وإذ تعرّفت الجماعة إلى يسوع، حملت هذه المعرفة إلى الوثنيّين. عاشت المسيحيّة الأولى مسائل الانفتاح على الوثنيّين وضمّ اليهود والوثنيّين في جماعة واحدة. ويشهد على ذلك أعمال الرسل (ف 10- 11؛ ف 15) ورسالة بولس إلى غلاطية (ف 1- 2). أمّا الرسالة إلى أفسس فتنظر إلى الأمور بهدوء (أف 3: 1 ي)، وتقدِّم لنا المثال عن تعايش يضمّ القريبين (أي اليهود) إلى البعيدين (أي الوثنيّين).
لقد اتّخذت جماعة مرقس موقفها بالنسبة إلى الانفتاح الرسوليّ وإدخال الوثنيّين إلى الجماعة. وقد أسّست إرادتها الشاملة في تصرّف يسوع الذي جاءت إليه جموع من كلّ بلد (3: 7- 8)، والذي ذهب إلى الوثنيّين في أرضهم (5: 1- 20؛ 7: 20). وعلامةُ الخبز أعطيت لليهود (6: 34- 44) كما لغير اليهود (8: 1- 10). وبين هذين الخبرين عن تقليد الخبز، يهاجم يسوع التمسّك الأعمى بالتقاليد (7: 1- 23) ويتقبّل فعل إيمان من المرأة السوريّة الفينيقيّة التي جاءت تطلب الشفاء لابنتها (7: 24- 30). ثمّ إنّ أوّل من أعلن أنّ يسوع هو ابن الله كان ضابطاً رومانيًّا، وقد فعل هذا ساعة كان حجاب الهيكل ينشقّ (15: 38- 39). وهكذا نرى أنّ جماعة مرقس تتوجّه إلى الوثنيّين، وتبقى بعيدة عن النُظُم اليهوديّة الآخذة في الانهيار. ولكنّها إذْ تقدّم صورتين عن الكتبة، فهي لا تدين الأشخاص ولا تحكم عليهم.

ثالثًا: جماعة تتنظّم
وبعد هذا، أخذت جماعة مرقس تتنظّم. ساعدت المؤمنين لكي يتعرّفوا إلى يسوع ويعلنوا اسمه للذين لا يعرفونه. وهكذا قامت بوظائفها المتعدّدة: أعلنت الإنجيل، علَّمت المؤمنين، إحتفلت بكسر الخبز، مارست الصلاة. انشغلت بالعمل لا بالتفكير في تنظيمها الداخليّ، فلم يحتفظ لنا مرقس إلاّ بالقليل عن حياتها.
هناك التلاميذ الذين يذكرهم مرقس 43 مرّة والذين يلعبون أدوارًا عديدة. هم الذين رافقوا يسوع خلال حياته على الأرض، هم المسيحيّون الذين يتابعون عمل الشهود الأوّلين. هم مسيحيّون معاصرون لمرقس، هم الجماعة كلّها، هم المسؤولون...
وهناك الاثنا عشر. يرد ذكرهم 11 مرة في الإنجيل (3: 14، 16؛ 4: 10؛ 6: 7؛ 9: 35؛ 10: 32؛ 11: 11؛ 14: 10، 17، 20، 43). إنّهم يشكّلون جماعة محدّدة. جُعلوا مع يسوع، وتجذّرت رسالتهم في رسالته. أقامهم المسيح (3: 14، 16) وأرسلهم (6: 7). كرزوا، علّموا، شفَوا، طَردوا الشياطين، مَسحوا بالزيت (6: 7، 13، 30)، وشاركوا يسوع في عشائه الأخير (14: 17). كان دورهم محدودًا، ولكنّه ما زال يتواصل في أيّام مرقس على يد الذين يسمَّون رسلاً (3: 14؛ 6: 30). فالجماعة ما زالت ترتّب بنيتها.
هناك أشخاص بارزون: بطرس، يعقوب، يوحنّا (5: 37؛ 9: 2؛ 14: 33) ومعهم أندراوس (1: 16- 20؛ 1: 29؛ 13: 3). هؤلاء هم الفاعلون الرئيسيّون، وسيتقبّلون معاونين آخرين (5: 18- 20؛ رج 9: 38- 41). وفوق كلّ هذا، يُدخل يسوع في قلب المسؤول عن جماعته القاعدة الأساسيّة وهي: التواضع في الخدمة، بذل الذات على مثال ابن الإنسان الذي جاء "ليَخدم ويَبذل حياته فديةً عن كثيرين" (10: 35- 45).

3- جماعة رومة
لو كنّا نعرف أين عاش مرقس وجماعته لَنَمَتْ معرفتُنا للإنجيل. ولكن هناك احتمالان: إنجيل جليليّ، إنجيل كنيسة رومة.

أوّلاً: إنجيل جليليّ
كشفت قراءة الإنجيل حسب المدى الجغرافيّ معارضة بين الجليل وأورشليم. فما لاشكّ فيه هو أنّ مرقس يشدِّد على أهمّيّة الجليل في كتابه. لقد جاء يسوع من الجليل (1: 9)، والجليل هو موطن الإنجيل (1: 14- 39) ومركز انتشاره وشهرته (1: 28). في الجليل دعا يسوع تلاميذه الأوّلين (1: 16- 20)، ومعهم تجول في كلّ أنحائه قبل أن يتركه في النهاية ليتوجّه إلى أورشليم. وأخيرًا سيُعطي لتلاميذه في الجليل موعدًا ليلاقونه بعد قيامته (14: 28؛ 16: 7).
توقَّف الشرّاح عند هذه المعطيات. فقال بعضهم: إنّ الجليل هو موطن المجيء. فبعد كارثة أورشليم ستجد الجماعة المسيحيّة موضعًا تنتظر فيه رجوع المسيح. وقال آخرون: الإنجيل هو ملتقى الشعوب، ولهذا يعطي الإنجيل طابعه الإرسالىّ. وقال آخرون أيضاً: انطلقت المسيحيّة الأولى من مركزين هما أورشليم والجليل. انطلق لوقا في سفر الأعمال من أورشليم وانطلق مرقس في إنجيله من الجليل، ووصلا كلاهما إلى قلب العالم الوثنيّ. وقد ذهب بعض العلماء إلى القول إنّ إنجيل مرقس كُتب في الجليل أو أقلّه في جنوبيّ سورية، أو في المدن العشر. ماذا نقول في كلّ هذا؟
أن يكون الجليل موضع مجيء المسيح، هذا يعني أنّنا نغالي في تفسير النصوص. فليست هذه المقاطعة المكان الوحيد المنفتح على الرسالة. ثمّ إنّ الاهتمام بالجليل يدلّ على قصد مرقس في اكتشاف حياة يسوع الذي عاش قسمًا كبيرًا من حياته الرسوليّة في هذه المنطقة. وهناك معلومات جغرافيّة غير دقيقة (رج 7: 31: كيف نمرّ من صور إلى صيدا نحو بحر الجليل، وصور هي جنوبيّ صيدا التي لا تتّصل بالجليل؟) تدفعنا إلى القول إنّ كاتب مرقس ليس من الجليل ولم يكن على علاقة بجماعة الجليل. إذًا، من أيّ كنيسة كان مرقس؟

ثانيًا: إنجيل كنيسة رومة
إعتاد الشرّاح أن يقولوا إنّ مرقس كان من كنيسة رومة. فهناك الآباء الأوّلون: إكلمنضوس الإسكندرانيّ، إيرونيموس، أوسابيوس القيصريّ، أفرام السريانيّ. وتحدّث بعض الشرّاح عن عبارات لاتينيّة في نصّ الإنجيل. وقال البعض الآخر: بما أنّ كاتب إنجيل مرقس لم يكن رسولاً، وجب عليه أن يفيد من هيبة كنيسة كبيرة مثل رومة ليفرض نفسه.
بالنسبة إلى الذين درسوا العلاقة بين المسيحيّة وحركة الغيورين، يبدر إنجيل مرقس الذي كتب بعد انتصار تيطس سنة 71 كدفاع عن المسيحيّة في رومة. إنّه ردّة فعل على أحداث طبعت بطابعها نهاية العالم اليهوديّ. حاول الكاتب أن يبعد المسيحيّين عن اليهود. حاول أن يبعد الإنجيل عن السياسة. مثلاً: دَفْعُ الجزية لقيصر، أو نَقْلُ مسؤوليّة موت يسوع من الرومان إلى اليهود.
وفي النهاية يبدو أنّ إنجيل مرقس دوِّن حوالي السنة 70 في جماعة رومة. إنّه يُبرز علاقة برسالة يسوع التي بدأت في الجليل، وينقل عددًا كبيرًا من التقاليد اليهوديّة. إنّه على كلّ حال نبت في جماعة اختارت أن تنطلق إلى العالم الوثنيّ وتحمل إليه اسم المسيح.

ج- الموادُّ التي استعملها مرقس في إنجيله
يوم كَتب مرقس إنجيلَه وُلِد فنٌّ أدبيٌّ جديد. ولكنّ كتيّبه لم ينطلق من لا شيء بل استند إلى عمل سابق قامت به الجماعة المسيحيّة: تذكّرت أقوال وأعمال يسوع، دوَّنت أخبارًا منعزلة وأقوالاً متفرّقة، جمعتها وهكذا حصلنا على نصوص متناسقة. إنطلقت الكرازة بالإنجيل من التاريخ فتحوّلت إلى خبر، وما عتمَّ الخبر أن صار في خدمة الكرازة فصار بدوره كرازة.
سنحاول إذًا أن ندخل في سرّ إنجيل مرقس فنبحث عن الموادّ التي استعملها. ونكتشف كيف بنى عمله في كتاب هو الإنجيل الثاني.

1- الموادُّ المستعملة
يتكوّن النصّ من مقاطع صغيرة مرتبطة بطريقة مصطنعة. ونحن نستطيع أن نتعرّف إلى كلّ مقطع بما نجده في بدايته وفي نهايته، وما نكتشفه في مضمونه. نستطيع أن نأخذ مثلاً: 1: 40- 45 الذي يتحدّث عن شفاء أبرص. البداية: جاءه أبرص يتوسّل إليه. النهاية: كان الناس يجيئون إليه من كلّ مكان. أمّا المضمون فهو أنّ هذا الأبرص الذي كان مرذولاً من الجماعة صار رسولاً ينشر خبر يسوع في كلِّ مكان. ونأخذ أيضاً 3: 1- 6 والشفاء في السبت. المضمون هو: هل يحلّ عمل الخير يوم السبت؟ والبداية والنهاية واضحان. رج أيضاً 4: 26- 29؛ 12: 1- 12.
نتوقّف إذًا على الوحدات الأدبيّة أكانت منفصلة أو مجموعة.

أوّلاً: الوحدات الأدبيّة
نستطيع أن نطبِّق على إنجيل مرقس النظريّة التكوينيّة لنكتشف هذه الوحدات. نجد أخبار معجزات. 17 معجزة. أربعة أخبار تورد انتصار يسوع على الأرواح النجسة (1: 23- 28؛ 5: 1- 20؛ 7: 24- 30؛ 9: 14- 29). ثمانية أخبار شفاء: الحُمَّى (1: 29- 31)، البَرَص (1: 40- 45)، المخلّع (2: 1- 12)، الرجل اليابس اليد (3: 1- 6)، المرأة النازفة (5: 25- 34)، خبران عن البحر (4: 35- 41؛ 6: 45- 52)، خبران عن تكثير الخبز (6: 30- 44؛ 8: 1- 10).
نجد مجادلات ومخاصمات وهي تحتلّ مكانة هامّة في الكتاب. يكوِّن الخبر إطارًا لكلمة يسوع التي تعطي حلاًّ لمسألة تطرحها الجماعة على نفسها: الصوم، ممارسة السبت، دمج اليهود والوثنيّين. نجد سبع مخاصمات: بمناسبة شفاء المخلّع (2: 1- 12)، لمّا كان يسوع يأكل مع العشّارين (2: 15- 17)، بمناسبة الصوم (2: 18- 20)، لما مرّ التلاميذ يوم السبت بين الزروع (2: 23- 26)، بمناسبة شفاء الرجل الذي يده يابسة (3: 1- 6)، حين أكل التلاميذ طعامهم بأيد "نجسة" (7: 1- 13)، حين سأل اليهود يسوع بأيّ سلطة يعمل هذه الأعمال (11: 27- 33). ونجد أربع مجادلات بمناسبة السؤال عن الطلاق (10: 2- 12)، والسؤال عن دفع الجزية لقيصر (12: 13- 17)، والسؤال عن قيامة الأموات (12: 18- 27)، والسؤال عن أولى الوصايا (12: 28- 34).
نجد وحدات تعني التلاميذ. تنتظم في هذه الفئة أخبار الدعوة (1: 16- 20، 3: 13- 19). وخطبة عن الرسالة (6: 7- 13)، وتعليمات متنوّعة (9: 33- 35؛ 9: 38- 40؛ 10: 35- 45).
ونجد أخبارًا عن يسوع وعن يوحنّا المعمدان. بعضُها يرتبط بسيرة يسوع أو يوحنّا (1: 2- 8؛ 1: 9- 13؛ 6: 14- 29؛ 9: 2- 8)، وبعضها يُبرز كلمةً من كلمَات يسوع (6: 1- 16؛ 10: 13- 16؛ 12: 41- 44؛ رج 3: 31- 35). ويأتي خبر الآلام (ف 14- 15) الذي يتبعه الإعلان عن القيامة والذي يشكّل خُمس الكتاب تقريبًا. فيه نكتشف سرّ يسوع كابن الله.
وعبد الأمثال والتشبيهات. هناك 12 مثلاً (عند متّى 33 مثلاً. عند لوقا 39 مثلاً) ومنها واحد خاصّ بمرقس (4: 26- 29: الزرع الذي ينمو). ما نلاحظه هو أنّ الأمثال مجموعة في إحدى خطبتي مرقس (4: 1- 34). أمّا ما تبقّى فنجده في البداية (2: 19- 22: العريس) أو في النهاية (12: 1- 12: مثل الكرّامين؛ 13: 28- 29: شجرة التين؛ 13: 34- 37: الرجل الذي سافر).
ونجد أقوالاً نبويّة ورؤيويّة. فخطبة مرقس الثانية (ف 13) التي تضمّ المثلين اللذين ذكرنا، تشتمل على القسم الأكبر من أقوال يسوع الرؤيويّة: هي كلام تنبّؤ وكلام تنبيه، وكلام تشجيع. وهناك تحذير على طريقة الأنبياء (12: 38- 40: تحذير من معلّمي الشريعة)، والإعلانات الاحتفاليّة التي تبدأ بلفظة" الحقّ الحقّ" (آمين) والتي نجدها خاصّة في القسم الثاني من الإنجيل (3: 28- 29؛ 9: 1- 41، 10- 15، 29- 30؛ 13: 3؛ 14: 9، 18، 25، 30).
ونجد أقوال حكمة قليلة في إنجيل مرقس، ونحن لا نستطيع أن نميّزها عن الأمثال (2: 21- 22، 27- 28). ونجد ملخّصات ومقاطع ننتقل فيها من وحدة إلى أخرى. يُوقف الكاتب توسّعه ليشدّد على وجهة من نشاط يسوع ويعطيه بُعدًا عامًّا. ففي 1: 32- 34، يقدّم لنا مرقس ملخصاً عمّا يمكن أن يكون المساء في حياة يسوع. وكذا نقول في 3: 7- 13؛ 6: 12- 13، 53- 56. أمّا آيات الانتقال فإليك بعضها: 1: 21- 22، 39؛ 2: 13؛ 4: 1؛ 5: 1؛ 6: 6 ب، 30؛ 9: 14، 30؛ 10: 1).
هذه هي الموادّ الأساسيّة التي تدخل في بناء الإنجيل. لا شكّ في أنّ قسم الأخبار مسيطر، ولكنّ أقوال يسوع تشكّل خطًّا لا ينقطع في هذا التقديم الإجماليّ. فنحن لا نستطيع أن نفصل الخبر عن الخطبة. يبقى أن نعرف كيف تجمّعت هذه الموادّ.

ثانيًا: كيف تجمّعت هذه الوحدات؟
لا نحسب أنّ إنجيل مرقس هو فسيفساء مبعثرة. فالوحدات الأدبيّة مجموعة:
سلسلة المعجزات 4: 35- 5: 43.
سلسلة المجادلات في كفرناحوم 2: 1- 3: 6.
أورشليم 11: 15- 12: 40.
مجموعة تعليمات- وضع التلميذ 9: 33- 50.
مشاكل الجماعة 10: 1- 45
خطبة الأمثال 4: 1- 34.
خطبة رؤيويّة 13: 1- 37.
خبر الالام 14- 15.
إذن يتألّف الإنجيل من معلومات ضُمَّت لأسباب متنوّعة: تقارب في الشكل الأدبيّ، متطلّبات العبادة، والتعليم، والرسالة...
ليست هذه المعلومات دومًا متناسقة: فوسط المجادلات في أورشليم، يُقحم الإنجيليّ مَثل الكرّامين القتلة. وتتضمّن الخطبة الرؤيويّة تنبّؤات وتحذيرات وأمثالاً... ونتساءل: كيف تنظّمت هذه المجموعات، وهل تنظّمت قبل مرقس أم أنّ مرقس هو الذي نظّمها؟ هنا تختلف الآراء. فأحد الشارحين الألمان يعتبر أنّ تقليد يوحنّا المعمدان وبداية رسالة يسوع (1: 2- 15) ويوم كفرناحوم (1: 21 أ- 29: 39) ومجموعة المخاصمات (2: 15- 3: 6) ومجموعة الأمثال (4: 2- 10؛ 13: 20، 26- 33) ودورة المعجزات (3: 7- 12؛ 4: 1، 35- 39، 41؛ 5: 1- 43؛ 6: 32- 56) ومجموعة التعليمات عن الزواج والغنى وطلب المراكز الأولى (10: 2- 12، 17- 27، 35- 45) وخبر الالام (8: 27- 33؛ 9: 2- 13، 30- 35؛ 10: 1، 32- 34، 46- 52؛ 11: 1- 23، 27- 33؛ 12: 1- 12؛ 13: 17، 34- 37، 41- 44؛ 13: 1- 2؛ 14: 1- 16: 8) سابق لمرقس. أمّا مرقس فنسَّقها في كتاب أبرزَ فيه لاهوتَه الخاصّ.

2- كيف بنى مرقس عمله؟
نبحث أوّلاً عن المقاييس. هناك مقاييس خارجيّة ومقاييس داخليّة.
عاد الشرّاح إلى العالم الهلّينيّ أو اليهوديّ ليبحثوا عن نموذج، عادوا إلى المأساة اليونانيّة أو إلى أعمال الشهداء. وبعضهم عاد إلى الآداب اليهوديّة ولاسيّما الرؤيويّة. توقّفوا عند الخطبة التي تشتمل على توطئة ثمّ عرض أوّليّ يتبعه قلب الخطبة وفيها البراهين. وكلّ هذا ينتهي بالخاتمة. أمّا العمل المسرحيّ فيتضمّن فترة أولى ينعقد العمل، وفترة أخيرة تحلّ العقدة، وقسم وسطيّ يتوسّع في درس الأزمة.
ونتوقّف عند المقاييس الداخليّة. فهناك إشارات إلى المكان (الجليل، أورشليم، أرض يهوديّة- أرض وثنيّة) وإلى الزمان، وإلى الأشخاص (يسوع، الاثنا عشر، التلاميذ، العائلة، الخصوم، الجمع) وإلى الملخَّصات...
وها نحن نقدم سفر مرقس انطلاقًا من المكان، انطلاقًا من الدراما، انطلاقًا من العلائق بين الأشخاص.

أوّلاً: حسب المكان
1- (1: 1- 13). على الأردنّ.
2- (1: 14- 9: 50): رسالة في الجليل مع تجاوز حدود الجليل.
(1: 14- 3: 35): في كفرناحوم وخارج كفرناحوم.
(4: 1- 5: 43): على شاطئ البحيرة.
(6: 1- 13): الناصرة وما حواليها.
(6: 30- 7: 23): على شاطئ البحيرة.
(7: 24- 9: 29): أرض يهوديّة وأرض وثنيّة.
(9: 30- 50): عبور الجليل، إقامة في كفرناحوم دون أن يعرف الناس به.
3- (10: 1- 52): صعود إلى أورشليم.
4- (11: 1- 15: 47): رسالة يسوع وآلامه في أورشليم.
5- (16: 1- 8): إعلان عن التجمعّ في الجليل.

ثانيًا: حسب توسّع الدراما
(1: 1- 13): إنجيل يسوع الذي هو المسيح وابن الله. سمّى الصوتُ السماويّ يسوعَ: "ابني الحبيب".
1- (1: 14- 8: 26): من هو يسوع.
(1: 14- 6: 6 أ): اقترب ملكوت الله الذي أعلنت عنه أقوال وعجائب يسوع.
ولكنّ هُوِيَّةَ يسوع ظلّت مخفيّة.
الشياطين يعرفون ويُجبَرون على الصمت، والناس يتساءلون.
(6: 6 ب- 8: 26): آراء الناس في يسوع. شارك الرسل يسوع في الرسالة، ولكنّهم لم يفهموه.
2- (8: 27- 16: 8): يسوع يكشف عن ذاته.
(8: 27- 15: 52): أعلن بطرس: "أنت المسيح".
وأعلن الصوت السماويّ: "هذا هو ابنيَ الحبيب".
وأعلن يسوع: "على أبنِ الإنسان أن يُرذل ويُقتل ويموت".
(11: 1- 13: 37): فشلُ ابن داود في أورشليم.
ابن سيّد الكرم.
ابن داود.
(14: 1- 15: 47): أعلن يسوغ أمام المجلس أنّه المسيح ابن الله.
جدال حول "ملك اليهود".
قال ضابط وثنيّ: كان هذا الرجلُ ابنَ الله.
(16: 1- 8): ضياع النسوة أمام وحي القيامة.

ثالثًا: حسب العلاقات بين الأشخاص
1- (1: 1- 13): يسوع ويوحنّا المعمدان.
2- (1: 14- 6: 6 أ): يسوع وتلاميذه، الجمع، الخصوم.
(1: 14- 6:3): المرحلة الأولى: يسوع والتلاميذ من جهة، الجمع الخصوم: نحن أمام مثلّث.
(3: 7- 6: 6 أ): المرحلة الثانية: انفصال عن الخصوم وعن أهل يسوع.
يُبعَد التلاميذُ عن الجمع.
يُميَّزون عن الجمع والخصوم.
3- (6: 6 ب- 10: 52): هوّة بين يسوع وتلاميذه.
(6: 6 ب- 8: 26): المرحلة الثالثة: يسوع وتلاميذه الذين لا يفهمون رسالته ولا رسالتهم.
(8: 27- 10: 52): المرحلة الرابعة: يسوع وتلاميذه الذين لا يفهمون طريقه ولا طريقهم.
4- (11: 1- 16: 8): يسوع وتلاميذه يواجهون الخصوم في أورشليم.
(11: 1- 13: 37): المرحلة الخامسة: المجابهة في أورشليم.
(14: 1- 16: 8): المرحلة السادسة: الالام والقيامة.
(14: 1- 42): يسوع يهيّئ تلاميذه لدراما الالام.
(14: 43- 15: 41): يسوع وحده أمام قضاته وجلاّديه.
(15: 42- 16: 8): النسوة وقبر يسوع.

رابعًا: بنية مقترحة
وإذ نعالج المقاييس الخارجيّة والداخليّة نستطيع أن نصل إلى بنية مقترحة.
(1: 1): بدء إنجيل يسوع الذي هو المسيح وابن الله.
(1: 2- 13): يوحنّا المعمدان ويسوع، عماد الماء والروح.
(1: 14- 3: 6): اقترب ملكوت الله، تعليم يدلّ على سلطان، ومجادلات.
(3: 7- 6: 6 أ): عائلة يسوع، الملكوت في أمثال، مجابهة قوى الشرّ.
(6: 6 ب- 8: 30): سؤال طرحه يسوع، والقسم المتعلّق بالخبز.
(8: 31- 10: 31): طريق ابن الإنسان والتلاميذ للدخول في الملكوت.
(10: 32- 12: 44): ابن داود يدين أورشليم.
(13: 1- 37): خطبة يسوع عن السهر.
(14: 1- 15: 47): الحكم على يسوع، "تجديف" ابن الإنسان، والاعتراف بابن الله.
(16: 1- 8): القبر المفتوح، وبلاغ الشابّ الملتحف بالبياض.
(16: 9- 20): الخاتمة التي زيدت فيما بعد.

3- تصميم مقترح
أ- (1: 1- 13): المقدّمة.
ب- (1: 14- 6: 13): الخبر، العمل الدراميّ ينعقد.
(1: 14- 15): تقديم.
11: 16- 25): افتتاح كرازة يسوع، دعوة الرسل الأوّلين.
* (1: 21- 3: 6): القسم الأوّل ويتألّف من متتاليتين يجمعهما خبر انتقاليّ (1: 40- 45).
(1: 21- 39): سلطة يسوع على الأرواح النجسة.
(2: 1- 3: 6): معارضة الكتبة والفرّيسيّين ليسوع.
(3: 7- 19): ملخص عن رسالة يسوع. نداء الاثني عشر وتنظيمهم.
* (3: 20- 5: 43): القسم الثاني ويتألّف من ثلاث نقاط.
(3: 20- 35): في البيت، أوّل تعليم بالأمثال، معارضة.
(4: 1- 34): خطبة الأمثال ثمّ خبر انتقال (4: 35- 41).
(5: 1- 43): معجزات.
(6: 1- 13): كرازة يسوع في مدينته، رسالة الاثني عشر.
وضعت العناصر الجوهرية ونظّم الموضوعان وهما هُوِيَّة يسوع والسير على خطاه. وبرزت المعارضات وارتسمت الانفصالات. كلّ الممثلين في الدراما صاروا حاضرين.
ج- (6: 14- 10: 52): قلب الدراما والبراهين.
(6: 14- 16): المقدّمة.
(6: 17- 26): استطراد.
* (6: 35- 8: 21): قسم أوّل هو "قسم الخبز". والموضوع الذي يوحّده هو التعرّف إلى يسوع. ولكنه لا يتمّ الآن. نلاحظ وحدة التأليف: فمعجزتا كسر الخبز تحيطان بجدال عن الطاهر والنجس. ويتجاوز الإنجيل إطار العالم اليهوديّ وينفتح على الوثنيّين. إذا أردنا أن نتعرّف إلى يسوع ندخل في بعد جماعيّ: ندخل في جماعة تضمّ اليهود والوثنيين.
(8: 22- 26): خبر انتقال.
* (8: 27- 9: 13): قسم ثان هو قلب البرهان بل قلب الإنجيل كلّه. يتعمّق سرُّ يسوع، وينكشف للتلاميذ سرُّ التزامهم على خطى المسيح.
(9: 14- 29): خبر انتقال.
* (9: 30- 10: 45): قسم ثالث يحدّده خبرَا شفاء ويميّزه عودة بعض المواضيع: في الطريق، الدخول في ملكوت الله. لقد تعلّمت الجماعة متطلّبات حياة التلميذ على خلى المسيح.
(10: 46- 52): خبر انتقال.
د- (11: 1- 15: 47): حلّ العقدة.
(11: 1- 12: 44): قسم أوّل.
(11: 1- 11): مقدّمة
(11: 12- 26): نقطة أولى.
(11: 27- 12: 12): نقطة ثانية. المعارضون يواجهون يسوع.
(12: 13- 34): نقطة ثالثة.
(12: 35- 40): خاتمة.
(12: 41- 44): خبر انتقال.
* (13: 1- 37): قسم ثان. الخطبة الرؤيويّة.
(13: 1- 4): مقدّمة.
(13: 5- 23): نقطة أولى: إعلان أحداث هائلة وتحذير من الذين يوهمون الناس أنّهم المسيح، وأنّهم يعرفون زمن مجيئه.
(13: 24- 27): نقطة ثانية: نقطة ثقل الخطبة: إعلان عن انقلابات كونية ومجيء ابن الإنسان.
(13: 28- 37): نقطة ثالثة تذكّرنا بالكارثة النهائية (آ 30- 32). يوجِّهُنا مثَلُ التينة ومثل الرجل المسافر نحو انتظار المسيح.
* (14: 1- 15: 41): قسم ثالث ويتألّف من وحدتين.
(14: 1- 50): الوحدة الأولى مرتَّبة حول عشاء يسوع مع الاثني عشر (14: 17- 31).
(14: 51- 52): خبر انتقال.
(14: 53- 15: 41): الوحدة الثانية وتتضمّن ثلاث نقاط
الأولى: محاكمة أمام المجلس ونكران بطرس ليسوع (14: 54- 72).
الثانية: محاكمة أمام بيلاطس واتّخاذ القرار الأخير (15: 1- 15).
الثالثة: الصلب (15: 16- 41).
(15: 42- 47): خبر انتقال.
هـ- (16: 1- 8): الخاتمة: عند قبر يسوع. تشكّل كلمات المرسل خاتمة وإرسالاً.
و- (16: 9- 20): النهاية. ظهور القائم من بين الأموات.

د- لاهوت مرقس الإنجيلي
1- مميّزات الأسلوب اللاهوتي
أوّلاً: الدينامية
منذ البداية نلاحظ الطرائق الديناميكية. فالكلمة الأولى "بدء" تتطلّب توسّعًا. ونكتشف في الآيات الأولى تسلسلاً تصاعديًّا: العهد القديم يعلن يوحنّا المعمدان (1: 2- 3)، يوحنّا المعمدان يعلن يسوع (1: 7: 8). يسوع يعلن الملكوت (1: 14- 15). وأخيرًا هذه التوازيات. بين الشعب ويسوع، بين يوحنّا المعمدان ويسوع فيبرز تفوّقُ يسوع.
خلال الإنجيل، نجد أنّ مرقس ينطلق من حادث محدَّد فيمتدّ ويعمّم: فبعد تعليم أعطي في كفرناحوم (1: 21) ننتقل إلى تأكيد عامّ عن سلطة كلمة يسوع وجِدَّتِها (1: 22، 27). وبعد إخراج روح نجس واحد (1: 23- 26) نتعرّف إلى سلَطان يسوع العامّ (1: 27، 34). بعد تصوير شفاء واحد نقرأ ملخصاً يذكّرنا بأشفية عديدة (1: 32- 34). بعد أن ظهر يسوع في كفرناحوم، أراد أن يمدّ نشاطه إلى مكان آخر (1: 38). بعد أن أعلن أنّ خطايا المخلّع غُفرت (2: 5)، نعرف أنّ ليسوع سلطانًا عامًّا على الخطيئة (2: 10). بعد دعوة العشّار لاوي (2: 13- 4)، نرى يسوع يدعو كثيرًا من الخطأة والعشّارين (2: 15- 16). وأخيرًا نسمع هذا النداء يتوجَّه إلى كلّ الخطأة: "ما جثت لأدعو الصدّيقين، بل الخطأة" (2: 17). ونلاحظ أيضاً أنّ الأمثال التي احتفظ بها مرقس تشدّد على النموّ.
وإذا قابلنا حادثينِ متوازيينِ نلاحظ توسّعًا مهمًّا في الحادث الثاني. فالتعليم الذي نستشفّه من خلال أوّل طرد للروح النجس (1: 23- 28) يتجاوزه التعليم الذي نكتشفه في ممسوس الجراسيّين (5: 1- 20). أوّل تكثير للخبز (6: 30- 44) اقتصر على العالم اليهوديّ، أمّا التكثير الثاني (8: 1- 9) فشمل أيضاً العالم الوثنيّ.

ثانيًا: الرمزية
ليست رمزيّة مرقس مصطنعة، وهو لا يكتفي بأن يلعب بين طبقات تنقّليّة. إنّه يشكّل الرمزيّة المشاركة التي تقيم علاقة ذاتيّة بين الشيء الذي يرمز والواقع المرموز إليه. فالشيء يُهَيّئ الواقع ويمهّد له. إنّ الرمز جزء لا يتجزّأ من الواقع المرموز إليه. ومن خلال المضمون الخاصّ وبفضل الامتدادات التي يمنحها الفكر لكلّ ما يحمل معنى ما، يحرِّك الرمز رنّاتٍ لا حدود لها. ففي نظر مرقس، معجزات يسوع واقع له معنى، أي موجّهة نحو هدف. ويكفي الفكر أن يترك هذه الديناميّة الخاصّة تقوده إلى هذه العجائب لكي يتأمّل في الخلاص الكامل. لا شكّ في أنّه من الضروريّ أن نتجاوز الحدث الخام لنفهم معناه. فالقدّيس مرقس يذكر أوّل تكثير للخبز والسير على المياه، ثمّ يعلّمنا: "لم يفهموا شيئًا من معجزة الخبز، لعمى قلوبهم" (6: 52؛ رج 8: 17- 21). ثمّ إنّه يسهّل على الفكر أن ينتقل من أمراض الجسد إلى أمراض النفس كما يشهد بذلك كلام يسوع الذي أورده مر 2: 17: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعوَ الصدّيقين بل الخطأة".
وهكذا لا يأخذ مرقس رمزية تنقلنا إلى طبقة أعلى نُسجن فيها. إنّه ينطلق دومًا من واقع بسيط وملموس. إنّه يرتفع من الأرض إلى اللامحدود. نحن لا نكاد نرى هذه الزاوية الوضيعة ولكنّها في الواقع انفتاح لا حدود له.

ثالثًا: عمليّة شدّ وضغط
تعبّر هذه الديناميّة وهذه الرمزيّة عن عمليّة الشدّ. وإذا أردنا أمثلة نموذجيّة نشير إلى تلاصق بعض المقاطع: العماد والتجربة من الشيطان، التجلّي والإعلان عن الالام، الدخول إلى أورشليم والالام. وإنّ أكثر الأحداث تتمتعّ بشدّ داخليّ: فالعماد هو في الوقت ذاته صورة عن تنصيب ملكيّ وإلهيّ وإعلان عن الموت. والعاصفة المهدّأة ترمز إلى عاصفة الجمعة العظيمة وتعبّر عن قدرة يسوع.
ويتوخّى مرقس أن يكشف سرّ يسوع عبر الهزء والسخريّات التي أشبعه إيّاها خصومه: حاولوا أن يهزأوا به فسمَّوه ملك اليهود وابن الله. ولكن ما أحسن ما يقولون. كلّ ما يريد مرقس أن يعبّر عنه من عمق يقدّمه بطريقة سلبيّة. فالنتيجة مدهشة على المستويَينِ الأدبيِّ واللاهوتيِّ. ففي هذه الحالة الوضيعة تتجلَّى حقيقة هذه الألقاب.

رابعًا: وجود المسيح
تتّخذ الميزات السابقة معناها حين ننظر إلى إنجيل مرقس بشكل وجود. لقد شدّد التأويل منذ بعض الوقت على أنّ الأناجيل ليست سيرة حياة يسوع، بل إعلان خلاص في يسوع المسيح. هذه الحقيقة التي أخذ بها معظم الشرّاح اليوم تحتاج إلى أن نُظهر فروقَها الدقيقة وأن نكمّلها. فالأناجيل ليست مجموعة أقوال، وليست عرضاً لاهوتيًّا على غرار الرسالة إلى رومة.
مرقس هو أوّل من عبّر عن الكرازة في إطار رسمة وجود المسيح. وهذا فُرض عليه لأسباب عدّة لا تمتّ بصلة إلى حشريّة كاتب السيرة أو إلى التعلّق بالماضي. أوّلاً، لأنّ حياة يسوع بما فيها من انجذاب وتحوّل وحركة هي للمؤمن أكثر من تعليم. نحن لا نتعلّق بواسطة الإيمان بأيّ مسيح ممجَّد، بل بالمسيح الذي تمجَّد لأنّه يَتّضع، أن يُفرغ ذاته. ثم إنّ الوحي بالخلاص لا يقوم في أحد الأسرار العقلانيّة أو إحدى الحِكَم ولو كانت حكمة التطويبات، ولا يقوم ببعض الممارسات ولو كانت ليتورجيّة. إنّ وحي الخلاص يتحدّد بالنسبة إلى الوجود البشريّ. وإنّ الوحي يؤثّر فينا، في وجودنا، مع ما يتضمّن من خبرة ووعي، من قلق ومن مجابهة للموت، من بحث عن السعادة وسير نحو المطلق، من انجذاب نحو الله وقرار خلاّق. ولهذا يهمّنا أن يُعرَض الوحي المُوحى عبر وجود يعبِّر عن نفسه، عبر وجود يسوع المسيح. وما نلاحظه هو أنّ مرقس استعمل في تصوير موت يسوع (فاختلف عن سائر الإنجيليّين) أبسط الكلمات وأعمّها. لقد مات يسوع كما يموت كلّ إنسان. وفي هذه المرآة يقدر كلّ واحد أن يرى موته الخاصّ.

خامسًا: الوجهة البصرّية
فبسبب هذا وبسبب عبقريّة مرقس الخاصّة، لم يظهر هذا الإنجيل كمجموعة اعتبارات مجرّدة، بل حاول أن يصوِّر أمام العين وجود المسيح. ولكن لا نخطئ فلسنا أمام تحقيق صحافيّ بل أمام عرض بصريّ للكرازة في إطار وجود إنسان من الناس. ولسنا أمام غياب فكر، بل أمام أسلوب بصريّ لا يعبّر عن نفسه باعتبارات مجرّدة بل ينقل إلينا بلغة الصور بديهاتِه وأفكارَه. نحن نعرف اليوم كم تستطيع الصورة أن تكشفَ عن عمق لاهوتيّ وروحيّ: فيسوع نزل في مياه المعموديّة ومنها صعد. مرَّ المسيح ودعا لاوي الجالسة إلى مكتبه. يسوع النائم في القارب يقوم ويهدّئ العاصفة. المسيح يطرد جوقة من الشياطين ولكنْ يطرده بعض الناس. المسيح الذي مات بدا مثل ستار يمزَّق.
فهذا الإنجيل البسيط يتمتعّ بغنى عميق، ببعض التماسك العناصر وبعض الغموض، لأنّ كاتبه يحاول أن يعبّر في إطار وجود بشريّ تدخّل الله في عالمنا مع كلّ الانجذابات التي يتطلّبه هذا الوجود.

2- المسيح المهان
لا نستطيع أن نفهم شيئًا من صورة المسيح كما يعرضها مرقس إن لم ننظر الخلفيّة التي رُسمت عليها. ولكن تأتي التحذيراتُ والتنبيهاتُ الكثيرة لتمنعَنا من فهم يسوع فهمًا سريعًا وخاطئًا. فحين يشدّد مرقس على صعوبة ولوج سرّ يسوع، فهو لا يريد أن يشدّد فقط على عدم الفهم عند الجمع (4: 10- 12) وعند عائلة يسوع (3: 31- 35. 6: 1- 6)، وعند تلاميذه (6: 52، 8: 17- 18، 21، 33). وهو لا يصيب فقط شخصاً أو مجموعة. فكلّ الذين في حضرة يسوع أصيبوا بالعمى، لأنّ ما يُتِمُّه يتجاوز العقل البشريّ. إنّه الكاتب ينبّهنا مسبقًا: أراد أن يصوّر في إنجيله يسوعًا محيّرًا. ينبّهنا مرقس إلى ذلك حين يشدّد على الجِدَّة التي حملها يسوع (1: 27) وهي جِدَّة لا تتوافق مع تقاليد الكتبة البشريّة (7: 1- 3)، ولا مع الشريعة (2: 15- 17) وأسمى الروحانيّات التي ولدتها (2: 18- 23). لا شكّ في أنّ آلامَ يسوع وموتَه هي في قلب هذه الجدّة التي لا تُفهم، ولكنّ حياة يسوع كلَّها تبدو كلغز يتوضّح لنا ببعض شروط (4: 10- 13). هذا اللغز لا يعني يسوع فقط بل يحيط بسرّ الملكوت: الله الزارع، الكلمة المرميّة في الأرض، الناس الذين زرعت فيهم.
وطبقًا للفكرة التي كانت لهم عن الله، كانوا ينتظرون مسيحًا قديرًا يسحق الأعداء بسرعة، يحفظ الأبرار من كلّ شرّ ويقيم مملكة منظورة. في هذا المعنى نستطيع أن نقرأ التصاويرَ المسيحانيّة التي نجدها في كتب تعكس العقليّة اليهوديّة في القرن الأوّل ب م مثل سفر أخنوخ (ف 70) وصعود موسى (ف 10). ولهذا سيتحيّر الناس: أن يَخرج المسيحُ من عائلة وضيعة في الناصرة، أن يظهر فقيرًا بدون قدرة ولا مجد، أن لا يحاول أن يفرض نفسه بالقوّة والمعجزات (8: 11- 12). وما لم يستطع أن يفهمه معاصرو يسوع ولا قرّاء مرقس هو أنّ يسوع ترك أعداءه يمسكون به ويهزأون به ويقتلونه. إن لم نفهم هذه النقطة نبقى على هامش شخصيّة يسوع كما رسمها مرقس.
لقد أراد بعضهم أن يجعل من إنجيل مرقس صورة عن الصراع بين المسيح والشيطان، فلم يصلوا إلى المشكلة الأساسيّة. فتحقيق دقيق لمسيرة الإنجيل الثاني يدلّ على أنّ هناك مرحلة أولى يحارب فيها يسوع القوى الشيطانيّة (1: 23- 28. وسيهتمّ دومًا بهذا الأمر: 5: 1- 20؛ 9: 14- 29). ولكنّ المهمّ هو تبديل قلب الإنسان. ولهذا أخذ يسوع يغفر الخطايا ويدعو إلى التوبة (2: 1- 17). ونصل إلى مرحلة ثانية أعمق من الأولى مع أنّها غير كافية: ما العمل حين يرفض الإنسان الغفران المعروض عليه؟ هل نقاصصه، نعاقبه، وفي النهاية نقضي عليه؟ لا، لأنّ ابن الله يترك نفسه تُسحق بالإرادة السيّئة التي لدى البشر المتمرّدين. هذه هي المرحلة الثالثة التي هي قمّة هذا الإنجيل وجوهره. لا شكّ في أنّنا نستطيع القول إنّه في عقليّة مرقس ومعاصريه يجب أن نحارب ضدّ الخطيئة والمجرِّب. ولكنّ كلّ مرحلة تتميّز بموقف مختلف لدى يسوع، وهذا يدلّ على أنّ نقطة الصراع قد تحوّلت وأنّ حقل الوحي قد بدّل مكانه.
ومن جهة أخرى نصل إلى هذه النتائج حين نأخذ بعين الاعتبار القسمين الكبيرين اللذين يركِّبان إنجيل مرقس. وهما يقابلان السؤالين التاليين: من هو (1: 14- 8: 30)؟ إلى أين يذهب (8: 22- 16: 8)؟ نحن نعرف كيف أن هذين السؤالين يوجدان في إنجيل يوحنا ويُضَمّان إلى سؤال ثالث: من أين يأتي؟ لم يتوسّع مرقس في هذا السؤال ولكنّه يقدّم لنا يسوع على أنّه ابن الله، وإنّ كلاًّ من هذه الأسئلة يرتبط بالسؤالين الآخَرَيْنِ. فما هو جوهريّ وما لا نستطيع. أن نفهمه هو آلام المسيح، لا آلام رجل عاديّ، لا آلام نبيّ ومجترح معجزات، بل آلام مسيح وُعد به أنّه آتٍ ليقيم ملكوت الله، وآلام ابن الله الذي يوحي إلينا الآب. فمن التعارض بين قدرة السماء التي يقدر أن يطالب بها وبين مهانة الصليب، ينبع شخص المسيح غير العاديّ.
ويمكننا أيضاً أن نعالج هذه المسألة منطلقين من المعجزات. لم يكن هدف مرقس أن يقدّم لنا فقط شخصاً يجترح المعجزات. بل أن يقدّم لنا في تعارض مثير ومعبّر مسيحًا له من القدرة لكي يتغلّب على الشياطين وعلى الأمراض، وله من الضعف أمام المعاملات السيّئة التي يَسِمُه بها البشر. وإنّنا نجد تفسير إحدى المعجزات التي وردت عند مرقس في العبارة التي نُسبت إلى أعداء المسيح على الصليب: "خلّص آخرين، ونفسه لم يقدر أن يخلّصها. إذا كان المسيحَ ملكَ إسرائيل، فلينزلِ الآنَ عن الصليب لزى ونؤمن" (15: 31- 32). إنّ موقع المعنى العميق للمعجزة في إنجيل مرقس هو في الوحي الذي يحمله عن الرباط الوثيق الذي يضمّ الضعف إلى القوّة في يسوع كما في أبيه.
كان من الصعب أن نعبّر عن هذا الوحي وهذا التجاذب القائم في حياة يسوع بين أصله الإلهيّ وانخفاضه الأرضيّ وتمجيده. ولكنّ مرقس نجح في التعبير عنه مستندًا إلى ما سمّاه السرّ المسيحانيّ. لا يكفي، لكي نفسّر هذا السرّ، أن نتحدث عن الأسباب التي برّرته خلال حياة يسوع. بل يجب أن نقول لماذا شدّد مرقس على هذا السرّ. لماذا أراد أن يضخّم هذا السرّ في وقت (حوالي 60- 70) خسر فيه هذا الموضوع أهمّيّته؟ في الواقع، أراد مرقس أن يضمّ في عرض ملموس وحيّ تأكيدين لاهوتيّين: منذ البداية، يسوع هو المسيح ومع ذلك كان عليه أن يتقبّل هذا اللقب من أبيه عبر الاتّضاع والصليب. وحين دوّن مرقس إنجيله كان هذا الموضوع رئيسيًّا ليؤسّسَ كرستولوجيا لا تساوم مع التبنّوية (تقول إنّ يسوع هو ابن الله بالتبنّي لا بالطبيعة) ولا مع الظاهريّة (تقول إنّ جسد المسيح لم يكن حقيقيًّا وبالتالي لم تكن آلامه وموته حقيقيّة)، ويبيّنَ للمؤمن وضعه كإنسان قد خُلِّص في الماضي ولكنّه يحتاج أيضاً إلى أن يُخَلَّصَ.
وهكذا كشف لنا مرقس معنى حياة المسيح: إنّه يسوع وابن الله الذي أرسله الآب. جاء ليخلّص البشر من أعدائهم، جاء ليغفر للخاطئ لا ليدمّر الخاطئ ويفرض نفسه عليه. هو يقف على مفترق الطرق لا ليحطّم قلوب البشر، بل ليتّضع وليتقبّل الهزء والطرد.

3- وحي الله
لا يقدِّمُ لنا يسوع كما نعرفه في إنجيل مرقس أيّ تحديد جديد عن الله، ولكنّه بحياته وشخصه يجدّد فكرتنا عن أبيه.
سيقدّم لنا يوحنّا الإنجيليّ يسوع على أنّه صورة الآب: "من رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9). "أنا والآب واحد" (يو 10: 30). ولكنّنا نستشفّ الفكرةَ عينَها في إنجيل مرقس. في هذا الإطار نقدر أن نفهم العماد الذي يشير إلى موت يسوع وتنصيبه مسيحًا، فيعلن الصوت السماويّ أنّه الآبن (1: 11). وهذا ما نسمعه في التجلّي وقبل الالام: فبعد الشريعة والأنبياء وبحسب شهادتهم، هذا هو الوحي السامي الذي يطلب منّا الصوت السماويّ أن نسمعه لأنّه آتٍ من الابن (15: 39). وبعد هذه التأكيدات الاحتفاليّة، نجد تلميحاتٍ مباشرةً (إعلانات الشياطين) أو غير مباشرة (5: 19- 20. أبّا في 14: 36، موت يسوع في 15: 38 يكشف قدس الأقداس) تذكّرنا دومًا أنّ يسوع هو صورة أبيه. لهذا فإنّ موقفه المسيحانيّ، ولاسيّما وقت الالام، أوحى إلينا الله.
وحين رفض الكتبة والفرّيسيّون مرسلاً من إله يغفر للخاطئين بدل أن يعاقبهم (2: 1- 12، 17:13)، يتقبّل الهزء بدل أن يفرض نفسه بقوّة وجلال، كانوا يستندون إلى نظرة إلى الله يجب على المسيح أن يأخذ بها. رفضوا أن يحوّلوا فهمهم لله. ولكن لا نحكم عليهم سريعًا، فعائلة يسوع وسكّان الناصرة (6: 1- 6) وحتّى تلاميذه (8: 33؛ 9: 32) لم يقدروا أن يتبعوه وأن يتقبّلوا وحيًا مشكِّكًا عن إله يفضّل الذلّ على فرض نفسه بالقوّة.
والشكّ الكبير هو أنّنا حاولنا عبر العصور أن نفسّر معطيات العهد الجديد (ومنها معطيات مرقس) بطريقة تجعلها "معقولة". إذا أردنا أن نفسّر الصليب فصلنا الآب عن الابن، جعلنا الآب يواجه الابن، فيصبح الابن ذبيحة تقدر وحدها أن تهدّئ غضب الله. فنحن إن وجدنا في إنجيل مرقس أيّ تلميحاتٍ إلى الذبائح وموضوع عبد الله، فهي قليلة جدًّا. لقد استند مرقس إلى العهد القديم، ولكنّه توخّى أن يقدّم لنا موت المسيح بما فيه من فرادة وجدّة. هذا الموت ساعدنا على الدخول نهائيًّا في قدس الأقداس (15: 38) وأوحى إلينا وجه الله الحقيقيّ (9: 7؛ 14: 65؛ 15: 38- 39). لا نستطيع أن نستند إلى المزمور 22 الذي يجعله مرقس على شفتَي يسوع المائت لكي نقول إنّه كانت مسافة بين يسوع وأبيه. هذه القراءة الروحيّة لا توافق التفسير التأويليّ. في الواقع إنّ عبارة "متروك من الله" تعني في التوراة حالة من الألم والشقاء، لا حالة الخاطئ أو الهالك. إنّ هذه الصرخة تشدّد عند مرقس على حالة الضعف العظيم التي وجد يسوع نفسه فيها: إلى أيّ حدّ هو متروك بين أيدي أعدائه؟ ولكنّه في الوقت عينه يكشف لنا أنّ الله يُسْلِمُ نَفْسَهُ إلى أيدي البشر في شخص ابنه. وإذ يعمل هذا يغفر لهم شرط أن يكتشفوا فيه هذا الحبّ المتواضع والسريع العطب.

4- الإنسان والإيمان
إذن، ما يُطلَب من الإنسان قبل كلّ شيء هو الإيمان. وهذا يعني أنّه لا يحاول أن يضع يده بنفسه على إمكانيّة القرب من الله، بل إنّ الوجه الحقيقيّ المتواضع والمهان لحبّ الله قد أوحي إلينا في يسوع. فإنْ قَبِل الإنسان هذا الحبّ وتجاوب معه يخلص مثل الضابط الذي عبّر عن إيمانه عند قدم الصليب، ويقدر أن يدخل في قدس الأقداس (15: 38- 39). إنّ موضوع الإيمان موجود في كلّ إنجيل مرقس. سنعالج بعض جوانبه.

أوّلاً: الارتداد
الارتداد هو جزء من الإيمان. كان الشرّاح يفكّرون في الماضي أنّ العهد الجديد هو امتداد للعهد القديم، وكانوا يرون في الارتداد تبديل اتّجاه من أجل العودة إلى الله. نحن لا ننكر عمق هذه النقطة، ولكنّ دراسةَ الألفاظ تبيّن أنّ الوضع ليس بهذه البساطة. فإنّ العهد الجديد عامّةً، ومرقسَ خاصّةً، يستعمل لفظة قلّ وجودها في السبعينيّة اليونانيّة. فكأنّي به يفضّل لفظة جديدة تدلّ على التوبة مع التشجيع. إذا أردنا أن نعطي هذه الكلمة كلّ مضمونها يجب أن نستقيَ من أخبار الارتداد. فدعوة لاوي والوليمة مع الخطأة (2: 13- 17) تلقي ضوءًا فريدًا على 1: 15 مثلاً. فالارتداد ليس مجهودًا بشريًّا سابقًا للإيمان، إنّه نداءٌ آتٍ من الله بيسوع المسيح، إنّه نداءُ المسيح الذي يجعل نفسه رفيق الخطأة في مناسبة وليمة حميمة. وإذ يتعرّف الإنسان إلى نعومة هذا النداء يصل إليه بحبّ متواضع، يمكنه أن يجد التشجيع ويبدّل عقليّته. ولكنّنا قد أصبحنا في إطار الإيمان.
هكذا نفهم ملخّص الكرازة المسيحيّة الذي قدّمه إلينا مرقس 1: 15: "توبوا وآمنوا بالإنجيل". فقوّة "توبوا" تأتي أوّلاً من شكل النداء الذي أطلقه يسوع. فهو الذي يجعل الإنسان يتعرّف إلى حالته كخاطئ ويشجّعه، عارضاً عليه حبّه كما تجلّى بالصليب وبالإنجيل.

ثانيًا: الإيمان والشريعة
في أخبار المعجزات ولاسيّما في ممسوس كفرناحوم (1: 21- 28) وفي شفاء المخلّع (1: 40- 45) أراد مرقس أن يحدّثنا عن الخلاص بالإيمان. فتجاه عجز الشريعة التي تقدر فقط أن تتحقّق من أمر ما، تعمل كلمة يسوع بفاعليّة من أجل الخلاص. والمعارضة بين الإيمان والشريعة تصل إلى قمّتها في المجادلات الخمس (2: 1- 3: 6). فالمسيح لا يقدّم فقط تعمّقًا في الشريعة بحيث يكفي أن ندخل إلى باطنها وأن نطبّقها بتعقّل (كما في قطف السنابل: 2: 23- 27 أو في حدث الرجل اليابس اليد: 3: 1- 6)، بل يعارض الشريعة وبالأخص في الوليمة مع الخطأة (2: 15- 17). أمّا المثلان الصغيران عن الثوب الجديد والخمرة الجديدة (2: 21- 22) اللذان يليان مجادلة مع الفرّيسيّين وتلاميذ يوحنّا (2: 18- 20) فهما يدلاّن على عدم التوافق بين يسوع وأسمى أشكال الروحانيّة اليهوديّة. فالجديد الذي يراه مرقس في يسوع وفي الإيمان المسيحيّ (1: 27؛ 2: 21- 22) لا يرتبط بالزمن (الجديد بعد القديم)، ولا هو قضيّة درجات. الجديد هو أمر جذريّ ونوعيّ. فالشابّ الغنيّ الذي تحدّث عنه مرقس (10: 17- 31) هو نموذج مثاليّ للشعب اليهوديّ. إنّه يمارس الشريعة بأمانة ويبحث عن الحكمة. يجتذبه شخص المسيح ولكنّه لا يقبل أن يتخلّى عن خيراته الكثيرة التي هي ربما خيرات أخلاقيّة وروحيّة آتية من الشريعة. إنّ مرقس لا يحتقر هذا الشابّ واهتماماته الأولى. إنّ مرقس يتباعد عن الشريعة، ولكنّه لا يرذل العهد القديم. إنّه يقرأه كإعلان نبويّ وكتهيئة للإنجيل (1: 1- 2).

ثالثًا: مضمون الإيمان
ليس الإيمان تعلّقًا فارغًا من أيّ مضمون. في 1: 15 يقول لنا مرقس: آمنوا بالإنجيل. وفي مقطع العاصفة المهدّأة (4: 35- 41)، لا يقوم إيمان التلاميذ بأن يوقظوا المسيح ويثقوا به لينجوا من كلّ ما يضرهم، بل أن يتبعوه عبر العاصفة. فالإيمان يَقبل أن يمرّ عبر موت المسيح وقيامته. والخلاص أكيد ويصل إلينا عبر الأحداث الطبيعيّة والمحيّرة شرط أن نعيشها بحبّ متواضع لله والبشر. لا يؤمن المسيحيّ أنّه، بعد انتصار المسيح، قد حُمي من الألم والموت. مثل هذا الوهم وُجد في كنيسة تسالونيكي وفي الحركات الألفانيّة (اعتقاد بأنّ المسيح سيملك ألف سنة). أمّا المسيحيّ فعليه أن ينطلق في الطريق عينها التي اتّبعها المسيح (10: 30 "مع الاضطهادات"؛ 10: 38؛ رج 8: 34- 38). وهذا يعني أنّ الإيمان المسيحيّ جديد بالنسبة لكلّ عاطفة دينيّة وكلّ امتزاج في النشاطات البشرّية. فنحن نمارس الإيمان عبر مسيرة الأحداث العاديّة وفي عملنا اليوميّ. إنّ مرقس لا يتخلّى عن واقع حياتنا الملموس، الذي عبره ينكشف مطلقُ الله حاملاً معه تحرّك الإيمان.

رابعًا: تعبير أسراريّ عن الإيمان
لا نجد عند مرقس الإيمان من جهة والأسرار من جهة ثانية. حينئذ تكون الأسرار ممارسة خلاصيّة تعارض الإيمان. فمكانة الأسرار في الإنجيل الثاني ضئيلة. ولكنّ هذا لا يعني أنّ لا أهمّيّة لها ولا مدلول. فالسرّ في نظره لا يرتبط بالإيمان، إنّه تعبير عنه، إنّه نقطة الوصول بالنسبة إليه. فإذا كان الإنسان يُقِرُّ بالإيمان أنّه لا يقدر أن يخلّص نفسه بنفسه، حتّى ولا بأعمال الشريعة، فهو ينتظر الخلاص كعطيّة مجّانيّة آتية من الله بعمل المسيح وكلمته. وهذا العمل وهذه الكلمة اللذان يتوّجان إيمان الإنسان يشكّلان ما نسمّيه اليوم سرًّا. فالمعموديّة هي عند مرقس قريبة من مدلولها الاشتقاقيّ (10: 39): إنّها تغطيس، إنّها إغراق، إنّها غرق في مياه الموت مع المسيح. والقيامة مع المسيح (1: 10- 11) وفي الروح (1: 8، 10) هي النتيجة الخلاصيّة (16: 16) المباشرة.
والمقطع عن العشاء الأخير (14: 22- 24) وخبرا تكثير الخبز (6: 30- 44؛ 8: 1- 10) يشهدان على وجود الإفخارستيّا في جماعة مرقس: هذه المشاركة في موت المسيح تحمل إلى المؤمن عطيّة الحياة الفيّاضة.
ومن خلال هذه الأسرار التي نكتشفها بسهولة، يجب أن ندرك عند مرقس ما يُسمَّى ولادة السرّ: ففي أخبار الأشفية تبيّن الرمزيّة بوضوح أنّ المسيح يغفر بكلمته الفاعلة وينجّي ويشفي ويخلّص، ولكن يجب أن نلاحظ أنّ يقين الخلاص المعطى لنا لا يعفينا من أن نعيش الواقع الذي انخرطنا فيه. قال يسوع لتلميذيه: "أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سأشربها، أو تعتمدا بالمعموديّة التي سأعتمد بها" (10: 38)؟

خامسًا: موضع الإيمان
إذا توقّفنا عند ظاهر الأمور وجدنا أنّ الكنيسة تحتلّ مكانًا ضئيلاً في الإنجيل الثاني. ولن نبحث فيه عن عبارات تجعل من الكنيسة جماعة وسيطة بها نخلص، أو مؤسّسة بشريّة على غرار المجتمعات البشريّة. فالقدّيس مرقس يشدّد على وحدة المسيح في آلامه: إنّه وحده حتّى الموت، وسينعزل شيئا فشيئًا (لا تُذكر النسوة إلا بعد موته). فما أراده مرقس ليس فقط أن يصوّر عزلة وألم يسوع على الصليب، بل أن يؤكّد أنّ المسيح وحده يخلّص. إلاَّ أنّنا نشاهد عند مرقس ولادة الكنيسة: يدعوها المسيح، يغفر لها، يوحّدها بنفسه، يتكلّم باسمها ويجعلها تعمل باسمه (16: 20). فنحن نرى كيف دعيت جماعة التلاميذ (1: 16- 20) وتنظّمت (3: 13- 15) وأرسلت (6: 7- 13). ولكنّ هذا الإرسال وهذا التنظيم يتجذّران في الاتّحاد بالمسيح (3: 14: ليكونوا معه) الذي يعطي وحده الوجود والتماسك لهذه الجماعة البشرّية. بعد أن سبقهم في طريق الخدمة (9: 33- 37، 10: 41- 45) سلّمهم رسالة يقدر وحده أن يعمل فيها بفاعليّة (16: 16- 20).
وهكذا نشاهد ظهور "الخِدم". يتجنّب مرقس أن يستعمل ألفاظ العهد القديم والديانات الوثنيّة ليدلّ على هذه الخِدَم، لأنّنا أمام رسالة جديدة وأصليّة. فالمرسل لا يمارس وظيفة وساطة: إنّه يعلن ويترك المسيح يعمل. فإعلان الكلمات، أكان قبل القيامة أو بعدها، يرافقه عمل خلاصيّ. وهذا ما تشدّد عليه الوجهة الفاعلة في إنجيل المسيح. يمكننا أن نقول إنّ الخادم هو في نظر مرقس علامة فاعلة لعطيّة الله بيسوع المسيح. وإذا أمكن أخيرًا أن نرى عبر العلامات المرسومة في نهاية إنجيل مرقس، رموزًا عن هذه الفاعليّة الأسراريّة، وبقدر ما ترافق هذه العلامات الأحد عشر والذين سيؤمنون (16: 17)، يمكننا أن نفهم أنّ هذه السلطات الخلاصيّة ليست ملك الرسل الذين يمارسونها وحدهم، بل أعطيت لمجموعة الشعب المسيحيّ ككلّ، وتحيلنا دومًا إلى عمل المسيح الحاضر.

سادسًا: نتائج الإيمان في الوجود المسيحيّ
كلّ ما سبق يعني الوجود المسيحيّ. ولكنّنا نستطيع أن نرى أيضاً عند مرقس ميزات طريقة حياة. ولا يقوم هذا الموقف المسيحيّ كتوطئة للخلاص. فنداءات المسيح تسقط فجأة على الرسل الأربعة الأوّلين (1: 16- 20) وعلى لاوي (2: 13- 14) وكأنّ لا فائدة منها ولا من عدمها. ولكن بما أنّ المسيحيّ يخلص مجّانًا فعليه أن يعيش عيشًا يطابق القداسة التي نالها. فما هو مطلوب من الرسل ومن كلّ مسيحيّ هو أن يحبّ المسيح ويفضّله على كلّ شيء بحيث يتخلّى عن كلّ شيء أو يكونَ مستعدًا للتخلّي عن كلّ شيء.
ويشدّد مرقس على روح الخدمة ليعبّر عن المحبّة المتواضعة التي تدفع المسيحيّ إلى العمل. فالتواضع المطلوب ليس فضيلة بين الفضائل، إنّه ميزة الحبّ الحقيقيّ. لهذا عاش يسوع هذا الشكل من الحبّ وحقّقه (10: 45) فأوحى أنّ حبّ الله الذي أنشده العهد القديم في صور الزوج والأمّ والأب، يتجاوز أشكال الحبّ هذه التي يمكنها أن تتضمّن عاطفة تملكيّة أو أبويّة. إذا كان المسيح ابن الآب وصورته قد دلّنا على المحبّة المتواضعة، فعلى المسيحيّ، أكان رسولاً (9: 33- 37؛ 10: 41- 45) أو طفلاً (10: 13- 16)، أن يعيش بحسب هذا المثال.

الخاتمة
لن نبحث في إنجيل مرقس عن توسّعاتٍ كبيرةٍ تصلح لأن تكون الجواب الوافي لكلّ مشاكلنا اللاهوتيّة والروحيّة. ولكنّه أعطانا أفضل من ذلك: قدّم لنا الحياة المسيحيّة حين ظهرت كالنبتة التي تطلع من الحبّة. فهذه الديناميّة البِذَاريّة تساعدنا على فهم عمل المسيح الخلاصيّ ووحيه عن الآب والإيمان الذي يقدّمه للإنسان. فعلى كلّ عصر أن يجمع هذه البذار ليجعلها تثمر. ولكنّ ما قدّمه لنا مرقس يساعدنا على أن ندرك نقطة الانطلاق والجوهر وهو موت الله الوضيع الذي يوحي إلينا بالآب ويفتح للبشر طريق الإيمان. أمّا قيامته فهي تكفل لنا حضوره الفاعل في العالم.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM