الفصل الرابع عشر: من الإنجيل إلى الأناجيل

الفصل الرابع عشر
من الإنجيل إلى الأناجيل

لم يكتب سقراط كلمة واحدة، ولكنّ أفلاطون تلميذه دوَّن له فكره. والباحثون اليوم يدرسون أفلاطون ولكنهم يهتمّون بشخص سقراط.
وهكذا لم يكتب يسوع، بل كتب مرّة على الرمل (يو 8: 6). أمّا عمله وشخصه فما زالا أساس كتابات عديدة. والناس يدرسون الأناجيل اليوم ليقتربوا من شخص يسوع الذي سحرهم.
كلّ شخص هو سرّ مغلق ومن المستحيل أن نحصره داخل صورة واحدة. والأمر صحيح بالنسبة إلى شخص يسوع الذي رأى فيه المؤمنون المسيحَ وابن الله. لم يبق لنا فقط صورة واحدة عن يسوع، بل أربع صور هي الأناجيل الأربعة التي تحاول أن تقدّم لنا بعضاً من غنى ذاك الذي رأَوه بعيونهم، وسمعوه بآذانهم، ولمسوه بأيديهم (1 يو 1: 1).
وقبل أن نتوقّف على كلّ من الأناجيل الأربعة التي وُلدت في جماعات مختلفة، وقَدّمت لنا صورة خاصّة عن يسوع، نتعرّف إلى معنى كلمة إنجيل ونتتبّع مراحل تكوين الأناجيل وتدوينها.

أ- معنى كلمة إنجيل
1- البشرى أو الخبر المفرح
حين نتكلّم عن يسوع لا نشبه ذلك الذي يتكلّم عن سقراط أو بودّا. فحين نربط لقب المسيح باسم العَلم نقرّ بأنّ في هذا الشخص التاريخيّ الذي هو يسوع الناصريّ قد تمّ انتظار البشريّة الباحثة عن الله.
وما نقوله عن يسوع نقوله عن الإنجيل. فنحن لا نقدر أن نتكلّم عن الإنجيل إلاّ في الإيمان، كما لا نستطيع أن نقول يسوع المسيح إلاّ بالإيمان. فكلمة إنجيل هي نسخ الكلمة اليونانيّة المؤلّفة من لفظتين. "أو" أي حسن، صالح، مفرح. "وأنجيلو" أي أعلن، حمل خبرًا، بلّغ رسالة. في الخبر نعلن أنّ حدثًا ما حصل بتلك الصورة في وقت من الأوقات، أمّا الإنجيل فيجعلنا على مستوى التفسير والبحث عن مغزى. نحن نتعرّف إلى الحدث ولكنّنا نكتشف فيه بشارة وخبرًا مفرحًا. هذا يتضمّن اعترافًا وفعل إيمان.
لقد اختارت الجماعات المسيحيّة الأولى كلمة إنجيل، فدلّت على شيء فريد لم يحصل من قبل. أرادت أن تشهد عنه وكشفت على أنّها تريد أن تلتزم بهذا التعليم. فالخبر المفرح ينفي كلّ موقف محايد، ويُبرز اعترافًا واضحًا، ويعبّر عن فعل إيمان. هذه هي ردّة الفعل عند المسيحيّ. وقد يتعرّف غير المسيحيّ إلى واقع يسوع المسيح فيبقى بعيدًا أو يتّخذ موقفًا سلبيًّا. ولنتّخذ مثلاً ما كتبه المؤرّخ تاقيتس (55- 119): "إنّ هذا الاسم (مسيحيّ) قد جاء من المسيح الذي أسلمه إلى العذاب الوالي بيلاطس البنطيّ في أيّام الإمبراطور طيباريوس. إنّ هذه الشيعة البغيضة التي حوربت وقتًا من الزمن، عادت إلى الظهور لا في اليهوديّة فقط، موطن هذا الوباء، بل في رومة نفسها حيث تتبعها جماعة تتألّف من أكره وأسفل ما في العالم".
وحاول بعض المفكّرين اليوم، ولاسيّما اليهود منهم، أن يجعل الإنجيل خبرًا محايدًا. فترجم أحدهم بداية إنجيل مرقس: رأس خبر يشوع المشيح بن إلوهيم، بدل: إنجيل يسوع المسيح ابن الله. فمن خلال كلمة إنجيل نكتشف شاهدًا يلتزم بما يقول. ووراء كلمة خبر نتعرّف إلى رجل محايد يقدّم تقريرًا. إنّ حامل البشارة هو غير الصحافيّ الذي يقدّم بلاغًا.

2- كلمة إنجيل في أدب اليونان
عرفت الآداب اليونانيّة كلمة إنجيل (إوَنجليون)، فعنت بها الهديّة التي يحصل عليها حاملُ الخبر المفرح. في اليونانيّة الكلاسيكيّة (القرن الخامس، القرن الرابع ق م) عنى الإنجيل الهديّة، وعنى أيضاً الذبيحة التي نقدّمها حين يصلنا خبر سارّ. وفي اليونانيّة الهلّينيّة (بعد القرن الثالث) عنى الإنجيل الخبر المفرح نفسه فدلّ على إعلان نصر حربيّ. يستعمل هذه الكلمة بلوترخس المؤرّخ (45- 120 ب م) الذي عاصر البدايات المسيحيّة. وارتبطت الكلمة بالإمبراطور الرومانيّ الذي اعتُبر إلهًا، فكان إعلان ولادة وليّ العهد وبلوغه سنّ الرشد أو تنصيبه ملكًا بمثابة بشرى وخبر سارّ. وإليك بعض الأمثلة: كان بومبيوس (القائد الرومانيّ) يركب حصانه حين وصل إليه بعض محازبيه يحملون إليه بشرى (أو إنجيل). وكانت امرأته كورنيلية، فحملوا إليها بشرى وأخبروها أنّ الحرب انتهت. ونقرأ كلامًا منقوشًا يحتفل بمولد أوغسطس. يعود هذا الكلام إلى سنة 9 ب م وقد وجد في يريانيس من أعمال آسية الصغرى (تركيا الحاليّة): "يستطيع كلّ واحد أن يعتبر بحقّ هذا الحدث كأصل حياته ووجوده، كالزمن الذي لا يحقّ له بعده أن يَندم لأنّه وُلد... فالعناية قد أوجدت بطريقة عجيبة الحياة البشريّة وزيّنتها حين أعطتنا أوغسطس... لتجعله المحسن إلى البشر ومخلّصنا نحن ومخلّص الذي سيأتون بعدنا... إنّ يوم ميلاد الإله (أوغسطس) هو للعالم بداية بشارات (أناجيل) نلناها بفضله". ونقرأ أيضاً كلامًا منقوشًا في سرديس يعود إلى سنة 5 ق م ويعتبر بلوغ الوارث سنّ الرشد إنجيلاً وبشرى. ونقرأ أخيرًا في برديّة مصريّة تعود إلى سنة 237 ب م أنّ يوم تنصيب الملك هو خبر مفرح.
وهكذا تكثر في الحياة اليوميّة "الأناجيل" أو "الأخبار السارّة" وهي أحداث سعيدة تتوزّع حياة الملك، وهي انتصارات باهرة لمجد الملوك والقوّاد. أجل، عرف الوثنيّون بشارات عديدة، أمّا اليهود والمسيحيّون فلم يعرفوا إلاَّ بشرى واحدة، إلاَّ إنجيلاً واحدًا.
3- كلمة إنجيل في التوراة اليونانيّة
لم يخترع يسوع والمسيحيّون الأوّلون كلمة إنجيل، بل أخذوها عن التوراة اليونانيّة التي تستعمل فعل "أَنْجَلَ" نحو عشرين مرّة وكلمة إنجيل في المفرد والجمع ستّ مرّات. إليك هذه المقاطع: الأوّل على لسان داود بعد أن قُتل إشبوشت. قال: إنّ الذي أخبرني وقال لي: إنّ شاول قد مات وهو يظنّ أنّه يبشّرني نجبر، قبضت عليه وقتلته (2 صم 4: 10). الثاني يرتبط بمعركة داود ضدّ شاول. قال يوآب لأحيماعص بن صادوق: لست بصاحب بشرى في هذا اليوم، وإنّما تبشّر في يوم آخر. أمّا اليوم، فلا بشارة لك (2 صم 18: 20، 22، 25، 27). والثالث يروي كيف ترك الآراميّون حصار السامرة. قال الرجال بعضهم لبعض: ليس ما نصنعه حسنًا. إنّ يومنا هذا يوم بشرى ونحن ساكتون (2 مل 7: 9).
نلاحظ أنّ كلمة إنجيل تقابل كلمة بشرى في اللغات الساميّة أكانت العربيّة أو العبريّة. وسنقرأها خاصّة في أشعيا الثاني وأشعيا الثالث. وإليك بعض الأمثلة. قال النبيّ: "إصعدي إلى جبل عال، يا مبشّرة صهيون. إرفعي صوتك بقوّة، يا مبشّرة أورشليم" (إش 40: 9). إنّه يدعو صهيون وأورشليم لأن تحمل البشرى والخبر السارّ إلى أهل يهوذا بعد أن حلّ ما حلّ بهم من خراب. وأعلن النبيّ أيضاً: "ما أجمل أن نرى الآتين على الجبال المُسْمِعين بالسلام، المبشّرين بالخير، المُسْمِعين بالخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهك" (أش 52: 7). هنا ترتبط البشارة ببداية عهد الملك. ولكنّ الملك ليس هنا شخصاً بشر، إنّه الله بالذات. ونقرأ أخيرًا من أشعيا الثالث (61: 1) هذه العبارة التي ردّدها يسوع فجعلها برنامج حياته الروحيّة: "إنّ روح السيّد الربّ عليّ، وقد مسحني لأبشرّ المساكين، لأجبر المنكسري القلوب وأنادي المسبّبين بأنّهم أحرار والمأسورين بأنّ قيودهم سقطت" (رج لو 4: 18- 19). أجل إنّ البشرى التي تُعلَن هي بشرى مجيء ملكوت الربّ، وهذا المجيء قريب. أمّا علاماته فهي السلام والتحرّر والسعادة. كان شعب إسرائيل منفيًّا في بابل بعد نكبة سنة 587 ق م، فجاء النبيّ يقدِّم إليه إنجيلاً وخبرًا سارًّا. ولقد هتف المرتّل أيضاً: "لقد بشّرتُ بأعمالك في الجماعة العظيمة" (مز 40: 10). ودعا الجماعة قال: "رنّموا للربّ، باركوا اسمه، بشّروا من يوم إلى يوم بأنّه المخلّص" (مز 96: 2).
أجل، هناك بشرى واحدة لليهودي هي بشرى مجيء ملكوت الله. وفي هذا المعنى يستعمل يسوع كلمة إنجيل.

4- كلمة إنجيل في العهد الجديد
إذا قرأنا نصوص العهد الجديد نجد أنّ فعل "أنجل" استعمل 54 مرّة واسم إنجيل 76 مرّة. وتتوزّع هذه الاستعمالات على فئات ثلاث كبرى. أعلن يسوع بشرى (إنجيل) مجيء ملكوت الله. أعلن التلاميذ بشرى (إنجيل) يسوع. كتب مرقس إنجيل يسوع. وهكذا تبدّل المعنى. كان يسوع هو من يعلن الإنجيل فصار موضوع إعلان. لم يعد الرسل يتحدّثون عن ملكوت الله بل عن يسوع المسيح. ثمّ إنّ الإنجيل كان فعل إعلان ينتقل بالسماع من الفم إلى الأذن، فصار نصًّا مكتوبًا يقرأه المؤمنون على مدى أجيالهم.

أوّلاً: يسوع يعلن إنجيل الملكوت
وقف يسوع في خطّ تعليم أشعيا، واتّخذ من كلامه أساس الخطبة التي جعلها برنامج عمله في مجمع كفرناحوم. بعد أن قرأ أش 61: 1- 2 أعلن: "اليوم تمّت هذه الآية التي تليت على مسامعكم". (لو 4: 21). وهكذا قَدَّمَ مجيئه على أنّه سنة الرضى التي أعلنها النبيّ قال: إنّ ملكوت الله الذي تنتظرون جاء بمناسبة كرازته.
ويمكننا أن نقرأ نصوصاً أخرى. فالقدّيس متّى (4: 23) يتحدّث عن يسوع الذي يعلن بشارة (إنجيل) الملكوت ويشفي الشعب من كلّ مرض وعلّة (رج 9: 35). وهو يسمعنا كلامه الذي يبرهن ليوحنّا أنّ ملكوت الله قد جاء: العميان يبصرون، الكسحان يمشون، الصمّ يسمعون، الموتى يقومون، والفقراء يبشَّرون (مت 11: 5؛ لو 7: 22؛ رج أش 26: 19؛ 29: 18؛ 35: 5). هذه البشارة يعلنها يوحنّا قريبة (مر 1: 14)، وهي حين تعمّ الكون تدلّ على أنّ النهاية جاءت (مت 24: 14). أجل، كانت الشريعة وكتب الأنبياء حتّى يوحنّا، ثمّ ابتدأت البشارة بملكوت الله (لو 16: 16) مع يسوع ثمّ مع تلاميذه. مع فيلبّس الذي بشّر بملكوت الله واسم يسوع (أع 8: 12)، ومع بطرس (أع 10: 36) ومع بولس أع 13: 32) الذي أعلن أنّ ما وعد به اللهُ آباءَنا من بشارة قد تمّ في يسوع المسيح.
يوم بدأ التلاميذ يدوّنون الأناجيل، استعملوا كلمة إنجيل في معناها الثاني (الإعلان عن يسوع) محافظين على المعنى الأوّل. وهكذا نصل إلى جوهر كرازة يسوع الذي يعلّمنا أنّ ملكوت الله جاء بمناسبة تعليمه وأعماله وحياته.

ثانيًا: الرسل يعلنون إنجيل يسوع
كان يسوع يعلن ملكوت الله، وها هم الرسل يعلنون يسوع القائم من بين الأموات. فمنذ القرن الثاني ق م والأزمة المكابيّة، آمن بعض اليهود بقيامة الموتى وانتظروا أن تكون هذه القيامة الحدث الذي يشير إلى نهاية الأزمنة وإلى مجيء ملكوت الله. فحين نعلن أنّ شخصاً قام، حين نعلن أنّ الله أقام يسوع، فنحن نعلن في الوقت عينه أنّ ملكوت الله جاء وأنّ نهاية الأزمنة بدأت. أجل، إنّ حضور يسوع هو العلامة الجليّة أنّ هذا الملكوت قد جاء.
إذًا لا تكمن البشرى لدى المسيحيّين في مجموعة من الأحداث المتتالية والعابرة التي تزداد أهمّيتها أو تنقص، بل في حدث واحد رئيسيّ وأساسيّ: ففي يسوع المسيح اقترب الله من الناس بصورة حاسمة ونهائيّة. لقد جازف الربّ بنفسه من أجل البشريّة فدعاها إلى مشاركته في حياته. لم تعد معرفة الله والقرب منه والحياة معه حلمًا ممنوعًا عن البشر. ولم يعد الله كائنًا بعيدًا لا نصل إليه، ضائعًا في ضباب تساميه. بل تجلّى بيسوع المسيح في التاريخ كإله قريب، كإله يقدر كلُّ الناس في كلّ الأزمنة أن يبلغوا إليه كأبناء تصالحوا معه. لقد حقّق الله في يسوع المسيح مشروع الاقتراب الذي كشف عنه لآبائنا بواسطة الأنبياء (عب 1: 1). هذا هو الإنجيل الوحيد، هذه هي البشرى الوحيدة، هذا هو الخبر السارّ الذي يبدِّل مسيرة التاريخ ويحوّل آفاق الوجود البشريّ. وهكذا تتحقّق البشرى التي أنبأ بها أشعيا (51: 7) فردّدها القدّيس بطرس (أع 10: 36): أرسل كلمته إلى بني إسرائيل، أعلن بشارة السلام بيسوع المسيح الذي هو ربّ كلّ البشر.
هذه الآية التي أوردناها هي جزء (أع 10: 34- 43) من خطبة بطرس أمام أوّل مجموعة وثنيّة تدخل الكنيسة. إنّها تعلن الكرازة المسيحيّة الأولى. والرسالة إلى أفسس تعطي الإنجيل مضمونًا مناسبًا في إطار لاهوتيّ متطوّر حيث عبد المقابلة بين الإنجيل وبين ما يعلنه أشعيا. كانت خطبة بطرس تحدّد موقع الإنجيل بالنسبة إلى الله (أع 10: 36) أمّا أفسس (2: 15- 18) فبالنسبة إلى المسيح. إلاَّ أنّ المضمون الجوهريّ للبشرى يبقى هو هو: فبين الله والإنسان حلّ السلام بصورة نهائيّة وصارت المشاركة ممكنة. قال بولس الرسول: "فالمسيح هو سلامنا. جعل اليهود وغير اليهود شعبًا واحدًا... خلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا جديدًا. أصلح بينه وبين الله بصليبه فقضى على العداوة وجعلهما جسدًا واحدًا. جاء وبشّركم بالسلام (أش 52: 7) أنتم الذين كنتم بعيدين، كما بشّر بالسلام الذين كانوا قريبين (أش 57: 19). فلنا به جميعًا سبيل الوصول إلى الله الآب" (أف 2: 14- 18).
وإذا أردنا أن نقدّم رسمة سريعة نجمع مضمون الإنجيل في عبارة مثلّثة:
تدخّل الله بصورة حاسمة
تدخّل في يسوع المسيح
تدخّل من أجلنا.
فإن شدّدنا على القسم الأوّل، على الأصل والمبادرة، تحدّثنا عن إنجيل الله (روم 1: 1، 15، 16، 19...). أمّا إذا شدّدنا على القسم الثاني، على كيفيّة التدخّل، على الوجه التاريخيّ الملموس والشخصيّ الذي اتّخذه تدخّل الله، نتحدّث عن إنجيل المسيح (روم 1: 9؛ 1 كور 9: 12؛ 2 كور 2: 12...). وإذا فكّرنا بالذين وصل إليهم تدخّل الله نتكلّم عن إنجيل السلام، كما في نصّ أفسس الذي ذكرنا، أو عن إنجيل الخلاص كما في أف 1: 13.
ولقد تعمّق المؤمنون تدريجيًّا في مضمون الإنجيل ومداه وأوضحوا عناصر تدخّل الله في يسوع المسيح واكتشفوا السبل التي تقود إلى السرّ. فكان لنا أقدم الشهادات عن الإيمان المسيحيّ وهي التي سبقت زمن تدوين رسائل القدّيس بولس. وإنّ هذه الشهادات لفتت انتباهنا إلى القيامة وإلى ما صنعه الله من أجل يسوع: فيسوع هذا قد قام ونحن شهود على ذلك... فيسوع هذا الذي صلبتموه جعله الله ربًّا ومسيحًا (أع 2: 33- 36؛ رج 1 تس 1: 9 ي؛ 2 كور 4: 14؛ روم 10: 9؛ أف 1: 20؛ 1 بط 1: 21). وتوضح كلّ شيء على ضوء القيامة: هُوِيَّة يسوع، معنى موته وحياته الجديدة بعد القيامة. وهكذا ما أحاط الإنجيل فقط بما صنعه الله ليسوع، بل بمَا فعله لأجلنا بواسطة يسوع. وهذا ما يشهد عليه قانون الإيمان القديم الذي أورده القدّيس بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (15: 1- 15):
"أذكّركم أيّها الإخوة بالبشارة (الإنجيل) التي بشّرتكم (أنجلتكم) بها...
المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب.
قبر،
وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب.
تراءى لبطرس ثمّ للرسل الاثني عشر".
وهكذا أعاد بولس مضمون إنجيله الأساسيّ إلى السرّ الفصحيّ، إلى موت يسوع وقيامته وتوضَّح كلّ شيء على ضوء القيامة. فالقيامة هي جواب الله إلى ما عاشه يسوع. أحسّ الرسل بالأمر بطريقة غامضة قبل القيامة، ولكن جاء الموت فغطَّى كلَّ شيء وكاد اللهُ يبدو وكأنّه يتراجع عن مخطّطه. ولكنّ كلّ شيء صار واضحًا. عاد الرسل إلى الماضي وفهموا بطريقة أفضل معنى رسالة يسوع: ما عاشه، ما فعله، ما قاله. هذا هو مضمون الإنجيل، هذا هو تدخّل الله من أجل البشر. وفي النهاية عادوا إلى الحقبة السابقة لإعلان الإنجيل، بل لخلق الكون فقال يوحنّا الإنجيليّ (1: 1): "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله".
فإذا حدَّدنا موقع الإنجيل الرابع في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ، هذا يعني أنّ مسيرة الجماعات المسيحيّة الأولى التي رسمنا مراحلها الرئيسيّة، قد امتدّت سحابة ثلاثة أرباع من القرن. لقد عُنِيَتْ هذه المسيرة بتوضيح معنى الحدث الذي هو يسوع وإيجاد أبعاد الإنجيل، على ضوء القيامة. ونحن نستطيع أن نجد عبارات مكثّفة لكلّ هذه المسيرة في النشيد القديم الذي أورده القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيلبّي (2: 6- 11):
"فمع أنّه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمة (وجود سابق للكون)
بل تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد (وجود الابن على الأرض)
وصار على مثال البشر، وظهر بمظهر الإنسان،
تواضع فصار طائعًا حتّى الموت (الموت)
لذلك رفعه الله (القيامة والارتفاع)
ووهب له الاسم الذي يفوق كلّ الأسماء
كيما تجثو لاسم يسوع كلُّ ركبة (وضع يسوع الحاليّ)
ويشهد كلُّ إنسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ".
نجد قيامة يسوع وما سبقها: الموت، مجمل حياة يسوع على الأرض، وجود يسوع قبل خلق الكون. ونجد قيامة يسوع وما تبعها: الارتفاع بالمجد، إعطاء الروح القدس، عودة المسيح في النهاية. أما نكون هنا أمام بشارات عديدة؟ كلاّ. فالمسيحيّون الأوّلون وحَّدوا كلّ هذه الأمور حول شخص الله. فكلّ هذه الأحداث التي رسمت وجه تدخّل الله في ملء الزمان، شكّلت حدثًا واحدًا اكتشف فيه المؤمنون الخبر السارّ والمفرح، إنجيل الله.

ثالثًا: مرقس يكتب الإنجيل
بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله (مر 1: 1). هذه هي بداية إنجيل مرقس، وهي تدلّنا على الجديد الذي حمله إلينا هذا الكتيّب. حتّى الآن، كان الإنجيل يُعلَن بطريقة شفهيّة، من الفم إلى الأذن. وكان ناقلو التعليم أشخاصاً أحياء، كانوا رسلاً وأنبياء ومعلّمين وشيوخًا وكهنة، وقد اهتمّوا أوّل ما اهتمّوا لا بنقل كلمات يسوع نقلاً حرفيًّا بل بتطبيقها على حياة الجماعات المختلفة. وكان هؤلاء الشهود الأحياء الكافلين لصحّة هذه الكلمات. لقد اختلف المسيحيّون في البداية عن اليهود، فلم يكن لهم كتب خاصّة بهم تعتبر مقدّسة. وهم إذا كانوا يتحدّثون عن الكتب كانوا يشيرون إلى أسفار العهد القديم.
ولهذا حين دوّن مرقس إنجيلاً قدّم شيئًا جديدًا. وسيخبرنا التقليد أنّ الشهود الأحياء كانوا متردّدين حيال هذه المحاولة الجريئة. وقد استند أوسابيوس القيصريّ (265- 340) في تاريخه الكنسيّ (أنهاه حوالي السنة 325) إلى أقوال إكلمنضوس الإسكندرانيّ (150- 215) الذي يورد تقاليد الشيوخ القدماء في شأن تدوين الأناجيل: إليك الظروف التي دوِّن فيها الإنجيل بحسب مرقس: قدّم بطرس التعليم جهارًا في رومة، وعرض الإنجيل بقوّة الروح. وإذ كان سامعوه عديدين حثّوا مرقس، وهو الذي رافقه منذ زمن بعيد وتذكّر ذكرياته، على نقل ما قاله. وهذا ما فعله. فنقل الإنجيل إلى الذين طلبوه منه. ولما علم بطرس بالأمر لم يقدّم نصائح صنعه أو ليدفعه إلى مثل هذا العمل.
ما يسترعي انتباهنا من هذه الشهادة هو ارتباك بطرس أمام هذه المبادرة. أيوافق ويشجعّ، أيمتنع ويمنع؟ لم يفعل شيئًا.
لقد جمع مرقس عناصر مختلفة حملها التقليد، فنظّمها في قصّة أو خبر يسوع، وهكذا فتح الدرب أمام فنّ أدبيّ جديد لا يقابله أيّ كتاب في سائر الآداب. وستدوَن العصورُ الأولى أناجيل عديدة، ولكن الحسّ المسيحيّ سيميز الغثّ من السمين ويحتفظ بأربعة أناجيل.
إنّ هذا التجديد لبَّى حاجة ملحّة: بدأ الشهود الحقيقيّون يموتون. فكان من الضروريّ أن تواجه الكنيسةُ التفسيرات العديدة والمختلفة حول فكر يسوع، أن تضع حدودًا لا يتعدّاها المؤمنون، أن تغرز أصولها في حياة يسوع.
ولكنّنا دومًا أمام الإنجيل الوحيد الواحد الذي أعلنه شهود مختلفون سُمُّوا متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. في هذا المعنى نقول: الإنجيل بحسب لوقا، بحسب متّى أو مرقس... ولكنّ كلّ واحد منهم يشهد بطريقته الخاصّة وبأشكال مختلفة عن إنجيل الله الواحد.
وسوف ينتظر الآباءُ القرنَ الثاني المسيحيّ ليتحدّثوا عن الأناجيل بصيغة الجمع. فقد قال يوستينوس (+ 165): نقل إلينا الرسل في مذكّراتهم التي تسمَّى الأناجيل أنّ يسوع قدّم هذه التوصيات بشأن تأسيس سرّ الإفخرستيّا. وهكذا يكون يوستينوس أوّلَ شاهد عن استعمال أخذنا به، فصار الإنجيل لا المحتوى والمضمون، بل الكتيِّب الذي يحتوي هذا المضمون.
وقال إيريناوس (+ 202): إن سيِّد كلّ شيء أعطى الرسل السلطان أن يبشّروا بالإنجيل. بدأوا أوّلاً فأعلنوا هذا الإنجيل. ثمّ نقلوه إلينا بإرادة الله في كتب لتكون أساس إيماننا وعماده... والهراطقة أنفسهم يشهدون لمتانة الأناجيل.
بعد هذا ستنطبق كلمة إنجيل على أربع شهادات مدوّنة في العصر الرسوليّ هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. قالوا: الإنجيل بحسب مرقس. ثمّ قالوا إنجيل مرقس. وهكذا عبر نصف قرن انتقلنا من الإنجيل إلى الأناجيل. كيف تمّ هذا العمل؟ هذا ما سنتعرّف إليه حين نتحدّث عن تكوين الأناجيل.

ب- تكوين الأناجيل
إذا أردنا أن نُجمل تاريخ تكوين الأناجيل تظهر أمامنا طريقان. طريق أولى تتبع نظام الاكتشاف. فننطلق من فصول مختارة ونكتشف الطبقات المختلفة التي أوصلتنا إلى النصّ الذي بين أيدينا. وطريق زانية تتبع نظام التاريخ، فتلخّص أعمال الشرّاح. سنأخذ الطريق الثانية فزى كيف مررنا من الكرازة المسيحيّة الأولى على يد التلاميذ إلى النصّ الحاليّ الذي نقرأه اليوم في كلّ من متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا.
وتبرز أمامنا ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: يسوع يبشّر ويعمل في السنوات 28- 30.
المرحلة الثانية: يبشّرُ التلاميذُ في الجماعات المختلفة بيسوع القائم من بين الأموات. بدأوا يجمعون أقوال يسوع وأخبارًا من حياة يسوع. هذا ما نسمّيه تاريخ تكوين الأناجيل.
المرحلة الثالثة: جاء أربعة كتَّاب فجمعوا الموادّ المكوّنة هنا وهناك ودوَّن كلّ منهم إنجيله. هذا هو تاريخ تدوين الأناجيل الذي سنعالجه في القسم الثالث من مقالنا.

1- من يسوع إلى الأناجيل
إنّ يسوع هو الينبوع الأوّل للأناجيل. فكرازته وحياته اليوميّة خلقتا تيّارًا لا يزال حاضرًا إلى يومنا هذا. ولكنّ هذا التيّار أزعج السلطات في عصره فحكمت عليه بالموت. لو أنّ قصّة يسوع انتهت عند القبر لكتبنا سيرته كما تكتب سيرة العظام في التاريخ ولقدمناه نموذجًا للأجيال. ولكنّ موت يسوع لم يكن نهاية مصيره. فتلاميذه أعلنوا أنّه لم يزل حيًّا بعد موته، وأنّ الله أقامه من بين الأموات. والإيمان بقيامة المسيح يشكّل في نظرهم البشارة التي تعطي معنى جديدًا لحياتهم وتدفعهم إلى التبشير ثمّ إلى الكتابة.
ثمّ إنّ هذا الإيمان بالقيامة بدلَّ تبديلاً عميقًا طريقةَ الرسل في نظرهم إلى سيرة يسوع. لقد فتحت لهم القيامة أبعادًا جديدة على عمل يسوع وشخصه، وبدّلت طريقتهم في تفسير حياته. لا شكّ أنّ هذا التفسير يتدرّج إلى معرفة أفضل ليسوع، إلى اكتشاف لشخصيّته ودوافع عمله العميقة. ولكنّها تطرح على المؤرّخ سؤالاً: إلى أيّ درجة حوَّل هذا الإيمانُ ذكرياتِ الرسل عن أقوال يسوع وأعماله؟ كيف روَوا خبر يسوع بعد الفصح، هل استطاعوا أن يعودوا إلى يسوع كما وُجد في التاريخ؟ لقد وَجد المؤرّخون بعض المقاييس. أمّا نحن فنكتفي بالقول إنّ يسوع هو في أساس الأناجيل. ولكنّ ولادة هذه النصوص تبدأ حقًّا مع إيمان الجماعات المسيحيّة بقيامة يسوع المسيح.

2- الأمكنة التي وُلد فيها الإنجيل
إذا انتقلنا من يسوع إلى الجماعات لنحدّد العمل الذي تمّ على ذكريات يسوع نتوقّف عند وجهتين اثنتين. الأولى: الأمكنة التي ولد فيها الإنجيل. الثانية: الأشكال (أو الفنون الأدبيّة) التي اتّخذها الإنجيل. ونتوقّف على الأمكنة رابطين الإيمان بالإنجيل وبالجماعة المسيحيّة.

أوّلاً: من الإيمان إلى الإنجيل
قلنا إنّ الإنجيل هو تفسير خاصّ لأحداث حياة يسوع، وموقف إيجابيّ هو موقف الإيمان. والحكم التقييميّ على الحدث بشكل خبر سارّ ينبع من الإيمان. من هذا القبيل، يسبق الإيمان الإنجيل. فالإيمان ينظر إلى الحدث، يتأمّله، يتملّكه فيكتشف فيه بشرى وخبرًا سارًّا. ينطلق الإيمان من سلسلة من الأحداث التاريخيّة فيقرّ أنّ يد الله هي هنا.
كيف تمّ هذا التأمّل وهذا التملّك؟ ما الذي ساعد مسيرة الإيمان؟ ما هي الأمكنة التي تعمّقت فيها الجماعات الأولى بمعنى الحدث؟ هناك ثلاثة أمكنة. النشاط الليتورجيّ، التأمّل في الأسفار المقدّسة، الحياة اليوميّة.
كان النشاط الليتورجيّ أحد هذه الأمكنة المميّزة. فنحن نقرأ في أع 2: 42: وكانوا يداومون على تعليم الرسل وعلى الحياة المشتركة وعلى كسر الخبز والصلاة. هم يسمعون تعليم الرسل ويعملون به. هم يجتمعون للصلاة والاحتفال بالإفخارستيّا التي يدلّ عليها كسر الخبز.
تحدّثنا عن العبارات السابقة لرسائل القدّيس بولس. إنّها تشكّل أناشيد واعترافات إيمان وُلدت واستُعملت في إطار ليتورجيّ كالعماد وغيره. فالاحتفالات بالليتورجيّا والصلاة المشتركة كانت مناسبة لإعلان معنى الحدث وللتعمّق في سر المسيح. ويورد بلينوس الأصغر في بداية القرن الثاني ما عرفه عن المسيحيّين العائشين في منطقة البحر الأسود وعن اختباراتهم الجماعيّة. قال في رسالة بعث بها إلى الإمبراطور ترايانس لقد بيّن بحثي أنّهم يجتمعون في أيّام محدّدة، قبل شروق الشمس لينشدوا المدائح للمسيح كما لإله.
وكان الاحتفال الليتورجيّ بصورة خاصّة مناسبة لتذكّر ما عاشه يسوع وللتيقّن من حياته وحضوره اليوم ولإعلان الرجاء بمجيئه. نقرأ في 1 كور 11: 26 بلسان المسيح: إصنعوا هذا لذكري. فكلمّا أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس تخبرون بموت الربّ إلى أن يجيء. وإنّ ف 24 من إنجيل لوقا يعكس اختبارًا ليتورجيًّا عاشته الجماعة. شاركت في "كسر الخبز") (لو 24: 39) كما شارك تلميذا عمّاوس، فكانت مشاركتها المكان المميّز للتعرّف إلى الربّ.
والمكان الثاني هو التأمّل في الأسفار المقدّسة. وعادت الجماعة إلى التوراة تقرأها على ضوء الحدث الذي هو يسوع المسيح، وتتأمّل فيها وتحاول أن تفسّرها. وارتبط كل هذا النشاط بالليتورجيّا والكرازة وتعليم الرسل. كلّ هذا نكتشفه في نصوص العهد القديم التي وردت في أسفار العهد الجديد. ففي قانون الإيمان الأوّل نقرأ مثلاً: مات من أجل خطايانا، كما في الكتب (1 كور 15: 3- 5). وفي الإنجيل الرابع نقرأ هذه الآية: لم يفهم تلاميذه أوّل الأمر معنى هذه الأشياء، ولكنّهم تذكّروا، بعدما تمجّد يسوع، أنّ هذه الآية كُتبت عنه (يو 12: 16). كلّ هذا يجعلنا نعتقد أنّ تفسير الكتب شكّل وظيفة أساسيّة في حياة الكنيسة. وهذا ما ينعكس في خبر عمّاوس. قال لهما يسوع: ما أغباكما وأبطأكما عن الإيمان بكلّ ما قاله الأنبياء، أما كان يجب على المسيح أن يعانيَ هذه الآلام ليدخل في مجده؟ وشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدّسة، من موسى إلى سائر الأنبياء (لو 24: 25- 27).
انطلق التلاميذ من الكتب المقدّسة فاتّخذت أحداث حياة يسوع أبعادًا جديدة، وبدت على أنّها تَدَخُّلُ الله كما أُعلن عنه في العهد القديم. وهكذا تحدَّد شيئًا فشيئًا مضمونُ الإنجيل وتوضَّح وبرزَ كقمّة مخطّط الله وقصده النهائيّ.
والمكان الثالث هو الحياة اليوميّة التي ساعدت على توضيح مضمون إنجيل الله. فالحياة لها مشاكلها وحاجاتها ومسائلها واختباراتُها، وهي تتنوّع تنوّعَ الكنائس وأوضاعها الخاصّة. طُرح على الجماعة سؤال أو واجهت وضعًا جديدًا، فتعمّقت في وجهة من وجهات السرّ وتذكّرت هذا الحدث أو ذاك وردّدت هذه الكلمة أو تلك لتكون لها ضوءًا في طريقها.
ولنا مثال على هذا في ف 7 من 1 كور. لقد طرح المسيحيّون في كورنتوس سؤالات عن الزواج. فاجاب بولس: أمّا المتزوّجون، فوصيّتي لهم، وهي من الربّ لا منّي، أن لا تفارق المرأة زوجها (1 كور 7: 10). وهذا يعني: تذكّروا أنّ الربّ قال كلمته في هذا الشأن: ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان (مر 10: 9). وطُرح سؤالٌ آخر: هل نقبل الوثنيّين في الكنيسة؟ أعلن بطرس: تذكّرت ما قاله الربّ: عمّد يوحنا بالماء، وأمّا أنتم فتتعمّدون بالروح القدس (أع 11: 16). واستنتج حالاً: إذا كان الله وهب هؤلاء ما وهبنا نحن عندما آمنّا بالربّ يسوع المسيح، فمن أكون أنا لأقاوم الله (أع 11: 17)؟ ويمكننا أن نتخيّل حالاتٍ أخرى فَرضت عليهم أن يعودوا إلى أقوال يسوع وأعماله. هل نحافظ على الشريعة، على السبت، على فرائض الطهارة؟ ماذا يكون موقفنا أمام الغنى، أمام الضرائب، أمام الاضطهادات؟ ما رأيكم بالبتوليّة؟ كم مرّة يخطأ إليّ أخي وأغفر له (مت 18: 21)؟ من هو قريبي (لو 10: 29)، وكيف أحبّه؟ هل نبتعد عن الخطأة كالفرّيسيّين أم نفعل مثل معلّمنا الذي أكل مع العشّارين والخطأة (مت 9: 13)؟ تلك بعض الأسئلة التي طرحها التلاميذ على نفوسهم فوجدت من قال: أتذكّر أنّ الربّ قال يومًا... أو تصرّف على هذا الشكل. وهكذا سار المسيحيّون حسب الظروف والحاجات، وأخذوا يوضحون شيئًا فشيئًا مضمون الإنجيل.

ثانيًا: من الإنجيل إلى الإيمان وإعلان البشرى
إكتشفنا بدهشة أنّنا أمام خبر سارّ وأنّ هذا الخبر يهمّ كلّ البشر، فهل نقدر أن نحتفظ به لنفوسنا. هل نبقيه في حوزتنا؟ لا، بل هناك المشاركة والإعلان والإرسال. قال بطرس ويوحنّا: أمّا نحن فلا يمكننا إلاَّ أن نتحدّث بما رأينا وما سمعنا (أع 4: 20). وكتب بولس: الويل لي إن كنت لا أعلن الإنجيل (1 كور 9: 16).
فالإنجيل واقع نبشّر به، نبلّغه، نعرّف به، نعلّمه، وإليك بعض الأمثلة: أذكّركم أيّها الإخوة البشارة التي بشّرتكم بها وقبلتموها ولا تزالون عليها ثابتين، وبها تخلصون إذا حفظتموها كما بشّرتكم بها (1 كور 15: 1). وقال بولس أيضاً (2 كور 11: 7): أتُراني أذنبت حين حملت إليكم مجّانًا بشارة الله (رج غل 1: 11؛ 1 كور 9: 14)؛
لقد بَلَّغَنَا الرسلُ بشارةَ الله (1 تس 2: 9) وعرضوها علينا كرازة (غل 2: 2) ونادوا بها (1 كور 1: 23). عرّفونا بالإنجيل (1 كور 15: 1) وعلّمونا إيّاه بعد أن تعلّموه من يسوع المسيح (غل 1: 12). لهذا يستطيع بولس الرسول أن يقول "إنجيلي" أو "إنجيلنا". نقرأ في روم 2: 16: وسيظهر ذلك كلُّه في اليوم الذي فيه يدين الله تصرّف الناس السرّيّ حسب إنجيلي بيسوع المسيح (رج روم 16: 25). ونقرأ في 2 تم 2: 8: واذكر يسوع المسيح الذي أقيم من بين الأموات، وكان من ذرّية داود، كما جاء في إنجيلي (رج 1 تس 1: 5؛ 2 تس 2: 14؛ 2 كور 4: 3).
في هذا الإطار، ليس الإنجيل تابعًا للإيمان. إنّه يسبق الإيمان ويناديه. سمعتم الإنجيل الذي يخلّصكم والذي به آمنتم (أف 1: 13). لسنا في معرض نقل تعليم محايد، لسنا في معرض نقل مضمون موضوعيّ وجملة من المعلومات. بل علينا أن نُعلن الحدث كما أحسسنا به، كما تقبّلناه (1 كور 15: 1). نعلنه كواقع له معناه، كواقع مهمّ ينتظر منّا جوابًا وموقفًا عمليًّا. وهكذا نُشرت الكرازة بطريقة شفهيّة سحابة 20 سنة، أي منذ موت يسوع إلى أولى رسائل مار بولس، وأعلنت داخل الجماعة المسيحيّة أو خارجها. فتثبّتت المواضيع ونضجت البراهين وتوسّعت الذكريات. وإنّ بعض خطب أعمال الرسل تشهد على مسيرة التعليم الذي انتقل من الطور الشفهيّ إلى الطور المدوَّن. فإذا توقّفنا مثلاً عند خطبة بطرس الأولى (أع 2: 14- 36)، نرى فيها رسمة كرازة رسوليّة تتوجه إلى اليهود: يذكر بطرس صلب يسوع (آ 23) وقيامته بيد الله (آ 24) ولمحة عن عمله الرسوليّ (آ 22) وعن مجيئه النهائيّ. وتُقَدَّم هذه الأحداث كامتداد للعهد القديم وتتمّة للنبوءات التي تحقّقت في يسوع الربّ والمسيح (آ 36).

ثالثًا: جماعات متنوّعة
إنتشر الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات أوّلاً في جماعة التلاميذ في أورشليم، وفي اليهوديّة، وفي الجليل، أي في مجموعات من اليهود صاروا مسيحيّين. ولكن امتدّ الإيمان سريعًا في محيطات قريبة من العالم اليهوديّ كالسامريّين. وبعد سنوات تأسّس مركز رسوليّ جديد هو جماعة أنطاكية في سورية، ومن هذا المركز انتشر الإيمان المسيحيّ في العالم الوثنيّ فكانت أكثرَ الجماعات التي أسّسها بولس في حوض البحر المتوسّط. فالإحساس الدينيّ عند هؤلاء الوثنيّين يختلف عما نجد عند اليهود، ولهذا فقد طبع بطابعه الخاصّ الطريقة التي تقبّل بها هؤلاء الناس التعليم المسيحيّ. ونحن سنكتشف هذه الإحساسات عندما ندرس الأناجيل التي هي صدى لهذه الجماعات، وسنتّخذ الأمثلة.
ففي الجماعات المتهوّدة (أي يهود صاروا مسيحيّين) نجد في شهادة متّى التربية الدينيّة والتقوى الخاصّة بالشعب اليهوديّ. والرجوع إلى الأسفار المقدسة أمر أساسيّ، وستهتمّ هذه الجماعات بتحديد موقع عمل يسوع في مخطّط الله بفضل إيرادات محدّدة تشرح على طريقة الرابّانيّين (أي المعلّمين). حينئذ يبدو يسوع كموسى الجديد. جاء يُتِمُّ الكتب ويعطي شعبه شريعة جديدة. والكنيسة التي يتحدّث عنها متّى هي جماعة ذات بنية وتنظيم مع ليتورجيّتها وتعليمها. ونحن نكتشف هذه الكنيسة في نهاية إنجيل متّى (28: 16- 20): إنّها تعمّد، إنّها تتنظّم وهي تنعم بحضور الربّ في وسطها إلى انقضاء العالم.
أمّا الجماعات السامريّة فقد كانت مهيّأة لأن تعبد الله بالروح والحقّ، لا في أماكن محدّدة مثل هيكل أورشليم (يو 4: 24). وقد كانت منفتحة على كلّ العائشين على هامش المجتمع اليهوديّ: على البرص (لو 17: 11- 19) ولاسيّما ذلك السامريّ الغريب الذي ارتمى على رجله عند قدمي يسوع يشكره، على العشّارين (أي جباة الضرائب) ولاسيّما ذلك الذي قبله الله الرحوم وفضّله على الفرّيسيّ (لو 18: 9- 14). أجل، إنّ الحبّ المتجرّد يساوي ممارسة الشريعة مهما كانت دقيقة، والسامريّ الذي أشفق على الجريح (لو 10: 30- 37) هو مثال المؤمن بعد أن قال يسوع للمعلّم الذي سأله: إذهب أنت وأعمل مثله.
في الجماعات الأمميّة (أي الوثنيّون الذين صاروا مسيحيّين)، كان التعليم ينطلق أيضاً من الكتاب المقدّس، كما تشهد بذلك رسائل القدّيس بولس. ولكنّ الرسول لم يكن يهتمّ بإيجاد إيرادات محدّدة، بل بتحديد موقع المسيح في تيّار التوراة الروحيّ. هذا ما نكتشفه إذا قابلنا خطبة الجبل في متّى (5: 17 ي) حيث ترد نصوص التوراة، مع خطبة السهل عند لوقا (6: 27 ي). وإذا أردنا أن نبحث في الكتاب المقدّس عن صورة يسوع لن نجدها عند موسى، بل إيليّا، ذلك النبيّ الناريّ الذي دفعه الروح فذهب إلى الوثنيّين واجترح لأجلهم المعجزات (لو 4: 25- 26). كان الانفصال مؤلمًا بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، أمّا العالم الوثنيّ فلم يُحِسَّ بهذا التمزّق، فعاشت الجماعات الأمميّة شموليّة الكنيسة ببساطة وفرحت بكلّ ما قاله يسوع وعمله ليدلّ على وجه الكنيسة الشامل.
ويمكننا أن نتوقّف أخيرًا عند البنية الاجتماعيّة لهذه الجماعات. إنّ الديانة المسيحيّة نمت بسرعة في طبقات الشعب الوضيعة. هذا ما حدث في كورنتوس وقد قال بولس عن مؤمنيها: ما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر ولا من الأقوياء أو الوجهاء... الله اختار ما يعتبره العالم حماقة، ما يعتبره ضعفًا. اختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنّه لا شيء (1 كور 1: 26- 28). لقد اكتشف هؤلاء الناسُ حكمة حرمَتْهُم منها ظروفُ حياتهم، ونالوا قوّة ما كانوا ليجدوها في محيطهم. ولكن لا ننسَ أنّ الجماعات المسيحيّة الأولى عرفت منذ البداية أشخاصاً أغنياء ووجهاء لهم تأثيرهم في مجتمعهم. نذكر منهم على سبيل المثال برنابا (أع 4: 36؛ كو 4: 10) وفيلمون ذلك الغنيّ الذي اقتنى الضياع والعبيد (فلم 1- 2) وبرسكلّة وأكيلا (روم 16: 3؛ 1 كور 16: 19). ولكنّ الكنيسة، أحَوَتْ اغنياء أو فقراء، مدعوّةٌ لتسمع كلام يسوع عن السلطة في الكنيسة، عن الغنى والفقر، عن المغفرة وعن الحياة الأخوّية.

3- الأشكال التي اتّخذها الإنجيل
مهما كان الفكر مبتكرًا فهو سينصبّ في قالب، سيعبّر عن نفسه في فنون أدبيّة محدّدة. هناك فنون أدبيّة عامّة. مثلاً الحديث عن الألم هو هو في كلّ الحضارات وفي كلّ العصور. وهناك طرائق خاصّة. بعض الشعوب يفضّلون الأمثال وبعضهم الآخر يفضّلون الفكر المجرّد الذي يستنتج البراهين. وهكذا يفترق عالم الشرق حيث يسيطر التقليد الشفهيّ، عن عالم الغرب حيث تحتلّ الكتابة المكانة الأولى.
لقد كان يسوع وتلاميذه جهودًا من هذا الشرق. فأخذوا أساليب الشرق والطرائق التي عرفوها في محيطهم ليعبّروا عن حقيقة الإنجيل. وها نحن نتعرّف إلى ما سمّيناه الفنون الأدبيّة. هناك خبر المعجزة، والمثل، والقول الإطاريّ، والمجادلة، والبشارة والمدراش أو التعليق.

أوّلاً: خبر المعجزة
هناك طريقة لرواية المعجزة في العالم اليهوديّ والهلّينيّ والمسيحيّ لا تختلف كثيرًا من محيط إلى آخر. لقد عرف العهد القديم معجزات، ولاسيّما تلك التي اجترحها إيليّا وأليشاع، وعرف العالم اليونانيّ والرومانيّ أخبار معجزات نسبت مثلاً إلى أبولّونيوس (+ 97) المطبّب والشافي، وإلى فسباسيانس الإمبراطور الرومانيّ (69- 79).
أمّا في الأناجيل فأخبار الشفاء أو التدخّل في عالم الطبيعة أو طرد الشيطان تبدو بشكل رسمة في خمس نقاط:
مقدّمة تعرض الوضع.
طلب التدخّل من قبل شخص (أو محيطه) يدلّ على الثقة بيسوع.
تدخّل يسوع بشكل كلمة قصيرة أو حركة صغيرة.
النتيجة الحاصلة.
ردّة الفعل عند الحاضرين: الخوف، الدهشة.
نقرأ مثلاً معجزة طرد الشيطان من أحد الناس (مر 1: 23- 27): كان في المجمع رجل فيه روح نجس فأخذ يصيح (النقطة الأولى: عرض الوضع: المريض هو أمامنا): "مالنا ولك، يا يسوع الناصريّ؟ أجئت لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدّوس الله" (الممسوس يوجِّه الكلام إلى يسوع. هذه هي النقطة الثانية). فانتهره يسوع، قال: "أخرس واخرج من الرجل" (النقطة الثالثة: تدخَّلَ يسوع فأمر الشيطان بالخروج). فصرعه الروح النجس، وصرخ صرخة قويّة وخرج منه (النقطة الرابعة: النتيجة: شفاء الممسوس). فتعجّب الناس كلّهم وتساءلوا: ما هذا؟ أتعليم جديد يلقى بسلطان؟ حتّى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه (النقطة الخامسة: ردّة الفعل: تعجّبوا خافوا).
وإليك معجزة تهدئة العاصفة (مر 4: 37- 41): فهبّت عاصفة شديدة وأخذت الأمواج تضرب القارب حتّى كاد يمتلىء (الوضع: صورة عن العاصفة)... فأيقظوه وقالوا له: "يا معلّم، أما يهمّك أنّنا نهلك"؟ (التلاميذ يوقظون يسوع. طلب التدخّل). فقام وانتهر الريح وقال للبحر: اصمتِ اخرس (تَدَخَّلَ يسوع فأعطى أمره للعاصفة). فسكنت الريح، وحدث هدوء تامّ (النتيجة: هدأت العاصفة)... ولكنّهم كانوا في فزع شديد. وقال بعضهم لبعض: "من هذا؟ حتّى الريح والبحر يطيعانه" (ردّة الفعل عند التلاميذ).
ويمكنك أن تقرأ أيّ شفاء بحسب هذه الرقة التي اتّبعها الإنجيليّون كلُّ بطريقته. فإذا قرأنا متّى وجدنا أنّه لا يترك إلاَّ شخصين على المسرح، يسوع والمريض. ففي شفاء حماة بطرس (مت 8: 14- 15) يختلف متّى عن لوقا (4: 38- 39) ومرقس (1: 29- 31): يسوع شفاها فقامت تخدمه. ثمّ إنّ متّى يتوسّع أيضاً في الوجهة التعليميّة.
حين يجترح يسوع المعجزات فهو يريد أن يُبرز العلامات التي تعلن أنّ ملكوت الله جاء. هذا ما قاله لتلاميذ يوحنّا: العميان يبصرون، العرج يمشون، (مت 11: 5 ي؛ لو 7: 22 ي). ولكن لمّا روى الرسل المعجزات حدّدوا لها وظيفتين، وظيفة دفاعيّة ووظيفة تعليميّة. وهذا ما يوضحه كلام بطرس في خطبه. قال أمام الجموع المحتشدة يوم العنصرة: "كان يسوع الناصريّ رجلاً أيَّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والمعجزات والآيات كما أنتم تعرفون" (أع 2: 22). وقال أمام أهل بيت كورنيليوس: "مسح الله يسوع الناصريّ... فسار في كلّ مكان يعمل الخير ويشفي جميع الذين استولى عليهم إبليس لأنّ الله كان معه" (أع 10: 38). أظهر النصّ الأوّل أنّ بطرس نسب قدرة إلى رجل فأثار سؤالاً عند السامعين وفتح قلوبهم للتفسير الذي يعطيه المؤمنون: هذا الرجل هو المسيح الذي أرسله الله ليقيم ملكه. في النصّ الثاني، يعطي بطرس المعجزة وظيفة بأن تبيّن بطريقة منظورة العمل الخفيّ الذي تمّ بواسطة يسوع: الإيمان، التحرير من الشرّ...
ونلاحظ فرقًا أساسيًّا بين أخبار المعجزات في العهد الجديد وأخبار العالم الهلّينيّ. فهذه ترتبط بمعابد يريد القيّمون عليها المحافظة على النظام وعدم المساس بالبنى. وهي تبدو أعمالاً سحريّة وترتبط بأشخاص سرّيّين. أمّا معجزات يسوع فهي عكس ذلك. إنّها ترتبط به وبشخصه، وهدفها أن تزرعَ الخير وتبنيَ ملكوت الله.

ثانيًا: المثل
كان المثل في العالم اليهوديّ أكثرَ الطرق استعمالاً لتقديم فكرة، لعرضها، للدفاع عنها. وهو يبدو بشكل مقابلة يتوسّع فيها الراوي بشكل خبر. ففي أمثال الرابّانيّين، يبدأ الكلام بالعبارة التالية: بماذا يشبَّه هذا الشيء أو: مثل ملكوت الله... ونرى على المسرح ملكًا أو صاحب أرض.
حين يعرض المثل خبرًا معقولاً يشبه وضع سامعيه، فهو يدفعهم إلى أن يحكموا على الخبر ومن خلاله أن يحكموا على نفوسهم. مثلاً، حين أراد النبيّ ناتان أن يعيَ داودُ خطيئةً اقترفها لمَّا قتل القائد أوريّا الحثّيّ وأخذ له زوجته، روى له خبرًا. فأعطى داود رأيه: هذا الرجل يستحقّ الموت. فلم يبقَ لناتان إلاَّ أن يستنتج: أنت هو هذا الرجل (2 صم 12: 1 ي). يجب أن تكون التفاصيل معقولة لئلاّ تثيرَ شبهة لدى السامع. ولكنّ التفاصيلَ لا أهمّيّةَ لها في ذاتها. فما يهمّ هو أن تجعل الخبر قابلاً للتصديق.
بما أنّ المثل مقابلة، يجب أن نلخّصه في جملتين: كما أنّ... كذلك... لهذا نترك الأمور الثانويّة التي لا نجدها في الخاتمة. فإذا أخذنا مَثَلَ عمّال الساعة الحادية عشرة (أي الخامسة مساء) نجد خمس فئات من العمّال. ولكنّنا في النهاية لا نجد إلاَّ الفئة الأولى والفئة الأخيرة. فالفئات الثلاث الباقية قد وُضعت هنا لتجعل الخبر معقولاً (مت 20: 1 – 16).
يمكن أن يكون للمثل أكثر من خاتمة وأكثر من أمثولة بعد أن أعادت الجماعة قراءته وأوَّنته، وبعد أنْ طَبَعَهُ الإنجيليُّ بطابعه. وهذا التأوين يرتبط بتبديل السامعين: كان يسوع يحدّث اليهود ورؤساءهم. أمّا التلاميذ فيحدّثون المسيحيّين. إذًا بدّل النصُّ وجهةَ المثل وشدَّد على البعد الكرستولوجيّ فبيّن أنّ يسوع الذي تكلّم عن ملكوت الله تكلّم أيضاً عن نفسه وعن دوره في إقامة هذا الملكوت. ففي مثل الكرّامين القتلة (مت 21: 33- 44؛ مر 12: 11- 11؛ لو 20: 9- 18) اهتمّ يسوع أوّل ما اهتمّ بمصير الملكوت: إذا رفض شعبُ إسرائيل الابن، آخر مرسلي الله، فسيُعطى الملكوت لشعب آخر. ولكنّ الجماعة المسيحيّة أوردت آية من المزمور 118 فاهتمّت بمصير يسوع وجعلت من كلامه إعلانًا مسبقًا لموت المسيح وقيامته.
وقد يتبدّل السامعون فيشدّد المثل على الوجهة الأخلاقيّة كما في مثل المدعوّين إلى الوليمة. أدخل لوقا في حديثه الأسباب الرئيسيّة التي تجعل أبناء جماعته مهملين في إيمانهم (لو 14: 18- 20). أمّا متّى فزاد مقطعًا آخر (ثياب العرس) منبّهًا المسيحيّين: يمكن أن يُطردوا بعد أن دخلوا الوليمة (مت 22: 11- 14).

ثالثًا: القول الإطاريّ
نحن أمام قول وضع داخل إطار خبر. وهذا الخبر يمكن أن يكون معجزة أو جدالاً بين يسوع واليهود أو حادثة من حياة يسوع. إذًا، لا يشدّد النصّ على الخبر أو على الحادثة اللذين هما إطار للكلمة الواردة. ولنأخذ قولاً ليسوع: أريد رحمة لا ذبيحة (مت 9: 13؛ 12: 7؛ رج هو 6: 6): دخل هذا القول في جدال أوّل بين يسوعِ والفرّيسيّين لأنّ يسوع يأكل مع الخاطئين، وفي جدال ثانٍ لمّا قطف التلاميذ سنبلاً وأكلوه يوم السبت.
وإذا أخذنا شفاء الرجل الذي يده يابسة (مر 3: 1- 6)، فنحن نرى أنّ الكاتب لا يتبع رسمة خبر المعجزة التي تحدّثنا عنها. لا يقدّم لنا المريض، ولا يورد طلب شفاء، ولا يذكر دهشة أو إعجاب الحاضرين. ولكن منذ البداية توجّهنا آ 2 إلى سؤال عن السبت. وهدف الخبر أن يبرز هذا السؤال الأساسيّ: أيحلّ في السبت عمل الخير أم عمل الشرّ؟

رابعًا: المجادلة
المجادلة أو المخاصمة بين يسوع والفرّيسيّين فنّ أدبي عرفه الرابّانيّون وتمرّسوا به. إنّه نقاش بين اختصاصيّين. في هذا الإطار تبدو العودة إلى الكتاب المقدس العنصر الرئيسيّ، والمجادِل يهيئ الطريق لإيراد النصّ الكتابيّ.
لقد واجه يسوع خصومه وتلاعب بالبرهان الكتابيّ بفنّ مذهل. ولما واجه التلاميذ الخصوم عينهم عادوا إلى ما فعله وقاله يسوع.
قال تلاميذ يوحنّا: "لماذا نحن والفرّيسيّون نصوم كثيرًا، وتلاميذك لا يصومون"؟ فأجابهم يسوع: "أتنتظرون من أهل العريس أن يحزنوا والعريس بينهم" (مت 9: 14 ي)؟ وسأله الفرّيسيون ومعلّمو الشريعة: "لماذا لا يراعي تلاميذك تقاليد القدماء بل يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة"؟ فأجابهم يسوع: "يا مراؤون، صدق أشعيا في نبوءته عنكم كما جاء في الكتاب: هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلبه فبعيد عني. وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر" (مر 7: 5 ي؛ أش 29: 13). وسيجادل يسوع الفريسيّين. "ما قولكم في المسيح؟ ابن من هو"؟ قالوا له: "ابن داود". فقال لهم: "إذن كيف يدعوه داود ربًّا، وهو يقول بوحي من الروح: قال الربّ لربّي: إجلس عن يميني حتّى أجعلَ أعداءك تحت قدميك؟ فإذا كان داود يدعو المسيح ربًّا، فكيف يكون المسيحُ ابنَه"؟ فما قدر أحد أن يجيبَه بكلمة (مت 22: 41- 46؛ رج مز 110: 1). لقد طرح يسوع سؤالاً فأعطَوه جوابًا، ولكن بيَّن لهم أنّ هذا الجواب يتعارض والكتاب المقدّس.
لقد جمع مرقس (2: 1- 3: 6) خمس مجادلات بين يسوع وخصومه: حين قال للمخلّع: مغفورة خطاياك، قالوا في أنفسهم: إنّه يكفر. حين أكل في بيت لاوي، قالوا: ما باله يأكل مع العشّارين. حين كانوا يصومون، قالوا له: لماذا لا يصوم تلاميذك. حين قطف التلاميذ السنبل. وحين أراد أن يشفي رجلاً يوم السبت. وانتهى الجدال، فخرج الفرّيسيّون وتشاوروا مع الهيرودسيّين ليقتلوا يسوع (مر 3: 6). أجل لقد هاجم الخصومُ يسوعَ ظلمًا، ورفضوا أن يقبلوا تعليمه رغم أنّه أفحمهم.
وهناك مجموعة أخرى من المجادلات في أورشليم (مر 11: 27- 33. 12: 23- 37) تريد أن تبيِّن أنّ يسوع أسكت في النهاية خصومه.

خامسًا: البشارات
يعلن الله لشخص من الأشخاص أنْ سيكون له مهمّة وسط الشعب. هذا الفنّ الأدبيّ عرفه العهد القديم واتّخذه عنه العهد الجديد. وهو يتضمّن سبع نقاط:
* يعرض الكاتب المشهد والأشخاص.
* يأتي رسول من الله ويحيِّي الشخص المدعوّ.
* يندهش هذا الشخص ويعبِّر عن خوفه.
* يُعلن الرسولُ الإلهيّ المهمَّة.
* يطرح الشخص سؤالاً: كيف يكون هذا؟ فيحدِّد الملاكُ المهمَّة.
* وتُعطى علامة.
* ويعود الرسول الإلهيّ.
يمكننا أن نقرأ خبر جدعون لمّا بشّره الملاك (قض 6: 11- 24). جاء ملاك الربّ. قال: الربّ معك أيّها الجبّار. قال جدعون: إن كان الربّ معنا فلماذا أصابنا هذا كلُّه. هنا يعلن الملاك المهمّة: إنطلقْ بقوّتك وخلِّص بني إسرائيل من قبضة المديانيّين. يطرح جدعون السؤال: بماذا أخلّص بني إسرائيل وعشيرتي أضعف عشيرة في مَنَسَّى، وأنا الأصغر في بيت أبي؟ والعلامة: أنا أكون معك فتغلب بني مديان كما لو كانوا رجلاً واحدًا.
ويمكننا أن نقرأ بشارة الملاك لزكريّا بمولد يوحنّا المعمدان (لو 1: 5- 25).
زكريّا وأليصابات لا ولد لهما وقد كبرا في السنّ. وكان زكريّا يكهن حسب التقليد المتّبع عند الكهنة.
ظهر له الملاك واقفًا عن يمين مذبح البخور
حين رآه زكريّا اضطرب وخاف
كلمة الملاك: سيكون لك ابن
طرح زكريّا السؤال: كيف يكون هذا؟
أعطاه علامة: سيكون أخرس
وعاد الرسول الإلهيّ
ونتوقف أيضاً على بشارة مريم العذراء (لو 1: 26- 38))
كانت عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف
قال لها الملاك: افرحي
اضطربت لكلامه
أعلن الملاك المهمّة: ستحملين وتلدين ابنًا تسمّينه يسوع
كيف يكون هذا؟
الروح يحلّ عليك. أمّا العلامة فهي أليصابات العاقر
ومضى من عندها الملاك.
وهناك بشارات لإبراهيم (تك 12: 1 ي) وموسى (خر 3: 1 ي) ويوسف (مت 1: 18- 25) ورعاة بيت لحم (لو 2: 8- 15). المهمّ في هذه البشارات ليس نفسيّة الشخص المدعوّ، بل المهمَّة الملقاة على عاتقه.

سادسًا: المدراش أو التعليق
المدراش هو البحث والتعليق. هو أسلوب تأويليّ وثمرة هذا التأويل. ينطلق المؤمن من الكتاب المقدّس ليرى كيف تعنيه هذه الآية الآن. المدراش هو محاولة تأوين الكتاب المقدّس. هناك أنواع من المدراش. المدراش هلكه (درب، طريق): نبحث في الكتاب عن قواعد للسلوك، عن شرائع تساعدنا على تسيير حياتنا. المدراش هاغاده (روى، أخبر): نحاول أن نبنيَ الجماعة نجبر تَقويّ (حياة القدّيسين كتبت في هذا الإطار). المدراش بشر (فسّر): نبيّن كيف أنّ أحداث الكتاب أو أشخاصه تُحقّق نصّ الكتاب المقدّس.
لقد استعمل الإنجيليّون هذا الفنّ الأدبيّ بتحفّظ واعتدال وعكسوا وظيفته. ففي نظر يهوديّ من القرن الأوّل المسيحيّ يبدو نصّ موسى كقاعدة لأنّه موحى. والمدراش الذي هو تأوين للكلمة في الزمن الحاضر لا ينسى ارتباطه الجذريّ بالنصّ الملهم. أمّا المسيحيّن فقلبوا المعطيات: فيسوع القائم من الموت هو المرجع، وصارت التوراة خادمة لكلمة الله الجديدة، ليسوع المسيح. أجل، لقد حلَّ يسوع محلّ التوراة وصار الوسيط الوحيد بين الله والبشر. بعد هذا، لا يخدم المسيحيّ الأسفار المقدّسة، بل يخدم الربّ مستندًا بطريقة جديدة إلى الكتاب المقدّس. فاليهوديّ في مدراشه ينطلق من الكتاب المقدّس ليعود إليه في توراة أعيدت كتابتها وتكيّفت وعصرها. أمّا الإنجيليّ فينطلق من يسوع ويعلن هُوِيَّتَهُ ويروي عمله الخلاصيّ مستعينًا بالتوراة والتقاليد الشفهيّة الموجودة في هذا الكتاب الجديد الذي هو الإنجيل.
إذًا، نستطيع أن نسمّي أخبار الطفولة مدراشًا ونحن نتذكّر أنّ الإنجيليّ ينطلق من يسوع، يستند إلى أسفار التوراة ويعود إلى يسوع. فإذا أخذنا زيارة المجوس للطفل الإلهيّ (مت 2: 1- 12) ننطلق ممّا نعرفه عن يسوع الذي ولد في بيت لحم على أيّام هيرودس، ونتذكّر صراعه في أورشليم مع الفرّيسيّين وإعلانه لملكوت الله فنصل إلى نتيجتين ستعيشهما الكنيسة الأولى: رفض الشعب اليهوديّ أن يستقبل يسوع وحاول قتله. الثانية: عمل الوثنيّون ما لم يعمله اليهود فسجدوا للطفل وعبّروا عن إيمانهم به بأنّه الإله الذي يقدَّم له البخور وبأنّه الإنسان الذي يحنَّط جسدُه.

ج- تدوين الأناجيل
1- على طريق الأناجيل
وتكوَّنت في الجماعات المختلفة صورٌ عن يسوع ستنضمّ بعضها إلى بعض كما في سلسلة من اللقطات. وتقاربت مقاطع من فنّ أدبيّ واحد. فكان في يد الوعّاظ المسيحيّين لائحة من المواعظ أو الأمثال. وتجمّعت أقوال تلفّظ بها يسوع في ظروف متنوّعة، فشكَّلت تعليمًا منسّقًا نجد نموذجًا له في عظة الجبل في إنجيل متّى (ف 5- 7).
ولعبت الجغرافيا دورها. فتذكّر التلاميذ ما قاله يسوع وما صنعه في كفرناحوم، فتكوَّن ما سمّاه الشرّاح "يوم كفرناحوم" الذي فيه نرى نشاط يسوع كواعظ ومجترح عجائب. وتجمّعت ذكريات متعلّقة بشخص من الأشخاص: يوحنّا المعمدان، بطرس... وتنظَّم خبرُ الآلام في وقت مبكّر، منذ أُوقف يسوع في الجسمانيّة إلى دفنه.
وظهر ترتيبان نجد أَثَرَهُما في الأناجيل. الأوّل أخذه مرقس وتبعه كلّ من لوقا ومتّى. إنّه التقليد المثلّث. والثاني عرفه كلّ من متّى ولوقا، إنّه التقليد المثنّى. أمّا إنجيل يوحنّا فسنتحدّث عنه في وقته.
لقد حاول الشرّاح أن يكوِّنوا حياة يسوع فلا يتركوا تفصيلاً واحدًا. ودوَّن طاطيانس حوالي السنوات 170- 180 الدياتسارون. ولكنّ محاولته لقيت حربًا ضروسًا عليها في التقليد السريانيّ ولاسيّما بواسطة ربولا (+ 435).
وفي نهاية القرن الثامن عشر ظهرت كلمة الإزائيّين التي تدلّ على الإنجيليّين الثلاثة الأوّلين أي متّى ومرقس ولوقا. فقد وضع العالم الألمانيّ غريشباخ سنة 1776 نصوص كلّ من متّى ومرقس ولوقا الواحد بإزاء الآخر ليكوِّن عنها نظرة شاملة. وسنعود إلى المسألة الإزائيّة في فصل لاحق.

2- من الحدث إلينا: الأناجيل
إنطلاقًا ممّا قلنا، يمكننا أن نحدّد موقع الأخبار الإنجيليّة أو الأناجيل المكتوبة بالنسبة إلينا، وبالنسبة إلى ما سبق هذه الأناجيل.
تهدف هذه الأخبار إلى الشهادة عن الإنجيل، عن الخبر الطيّب السارّ. وهذا الإنجيل يتطلعّ إلى حدث أساسيّ هو تدخُّل الله في يسوع المسيح. وهذا التدخّل ظهر عبر سلسلة من الأحداث: القيامة وما سبقها، أي حياة يسوع قبل الفصح.
ولكنّ الأخبار دُوِّنت سنوات عديدةً بعد الأحداث التي ترويها. وهكذا انطبعت بمسيرة الإيمان التي حصلت في الجماعات المسيحيّة المهتمّة بتملّك معنى هذه الأحداث وإعلانها على الجميع. ثمّ إنّ هذه الأخبار دوِّنت على يد كتّاب مؤمنين، وقد كان لكلّ منهم نظرته الخاصّة إلى الأحداث وفهمه لها.
لهذا سنتوقّف على المراحل التاريخيّة والمراحل الأدبيّة.

أوّلاً: المراحل التاريخيّة
إذا أردنا أن نحدّد هذه المراحل المتعدّدة بحسب تسلسلها التاريخيّ نصل إلى الرسمة التالية: الحدث، الجماعات، الكتّاب، نحن. ونستطيع أن نجد هذه المراحل في مقدِّمة إنجيل لوقا (1: 1- 4): "لأنّ كثيرًا من الناس أخذوا يدوّنون رواية الأحداث التي جرت بيننا" (هذا هو الحدث).
كما نقلها إلينا الذي كانوا من البدء شهودَ عِيان للكلمة وصاروا عاملين لها (هذه مرحلة الجماعات التي شهدت وعملت).
رأيت أنا أيضاً، بعدما تتبَّعتُ كلَّ شيء من أصوله بتدقيق أن أكتبها لك حسب ترتيبها الصحيح (الكاتب).
يا صاحب العزّة تاوفيلوس، حتّى تعرف صحّة التعليم الذي تلقّيته (نحن القرّاء)".
فبين الحدث (أو الأحداث) ونحن القرّاء تقف الجماعات من جهة والكتّاب من جهة ثانية.
فما نُقل إلينا هو أحداثٌ فسّرَتْها في الإيمان الجماعاتُ المسيحيّة ثمّ الكتّاب. أحداثٌ أعيدت قراءتها على ضوء الفصح فتعمّقت الجماعات في مدلولها بالنظر إلى الكتاب المقدّس وإلى تساؤلات الجماعة وحاجاتها. ليست الأخبار الإنجيليّة وثائق من الأرشيف ولا محاضر رسميّة. وليست سيرة حياة يسوع، بل شهادة إيمان وإعلان بشرى نقلها المسيحيّون إلى الآخرين. ولا تهدف شهادتُهم إلى نقل الحدث من أجل ذاته (ما قاله يسوع وفعله في ذلك الوقت وفي ذلك المكان)، بل إلى التعبير عن المعنى العميق الذي تحمله هذه الأحداث. وهذا المعنى توضَّح مع الزمن بفضل الكرازة والخبرة ونضوج الإيمان عند الجماعات الأولى.

ثانيًا: المراحل الأدبيّة
ونعود إلى الرسمة لنحدِّدَ موقع الأخبار الإنجيليّة. هناك النصّ المكتوب بين أيدينا وهو يرتبط بالمرحلة الثالثة، مرحلة الكتّاب الذين هم متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. ولكنّ هذه الأخبار متجذّرة في تقليد ومطبوعة بما عاشته الجماعات المسيحيّة في الوقت الذي سبق التدوين. إذًا ترتبط المرحلة الثالثة بالجماعات فيكون لنا نصّ أوّلي ونصّ نهائيّ. فالنصّ الأوّليّ يكون على مستوى الجماعة، والنصّ النهائيّ يقدّمه لنا الكاتب.
كيف تتمّ مسيرة درس الأخبار الإنجيليّة؟ المراحل الثلاث الأولى (الحدث، الجماعات، الكتّاب) تعود إلى التأويل، والمرحلة الرابعة (نحن القرّاء) تعود إلى التفسيرة. المرحلتان الثانية والثالثة تعودان إلى النقد الأدبيّ. نحاول أن نفهم النصّ وشكله وبنيته ومضمونه (المرحلة الثالثة) وتجذّره وتعلّقاته لنصل إلى الحدث (المرحلة الأولى). فالحدث يرجع بنا إلى النقد التاريخيّ. وهو يسعى إلى الإجابة على السؤال: ما الذي حدث؟ هل جرت الأمور كما رواها الكاتب؟ هل تلفّظ يسوع بهذه الكلمة الواردة في النصّ؟ وهكذا نحاول أن نصل إلى الحدث من خلال النصّ وما سبقه من خلال التفاسير والتعابير التي نقلها الكاتب الملهم والذين جاؤوا بعده.
ولكن قبل أن نَطرحَ السؤال: ما الذي حدث؟ يجب أن نعبُرَ مراحل النقد الأدبيّ. فبعد أن نتفحّص النصّ (المرحلة الثالثة) ونكتشف كيفيّة تدوينه (المرحلة الثانية) نطرح الأسئلة عن تاريخيّته وصحّته (المرحلة الأولى). فإذا وردت كلمة من كلمات يسوع في شكلين متباينين (التطويبات في مت 5: 2- 12 ولو 6: 20- 26، الصلاة الربّية في مت 6: 9- 13 ولو 11: 2- 4) نتساءل أيّها أقدم وأقرب إلى الينبوع المشترك. وبعد هذا، نتساءل إن كان يسوع تلفّظ بهذه الكلمة في هذا الشكل.
ونصل إلى التفسيرة التي تفترض أيضاً تحليلَ النصّ. فبعد أن نكتشف ما يقوله النصّ، نقدر أن نبحث عمّا يقوله لنا اليوم. فعمل التفسيرة عمل تأوينيّ، يوضح لنا اليوم ما يقوله نصّ دوِّن في الماضي. إنّ هذا النصّ يتوجّه إلينا ويريد أن يكون لنا بشرى وخبرًا سارًّا. فكيف يلقي ضوءًا على حياتنا اليوم؟ هنا تبدأ عمليّة الوعظ وشرح النصّ الإنجيليّ على المؤمنين.

3- التأويل على مرّ العصور
إذا كانت التفسيرة تُعنى بشرح النصّ لتطبيقه على حاضر الكنيسة، فالتأويل يدرس النصّ من الناحية اللغويّة والتعليميّة ليزيل كلّ غموض فيه. لا نستطيع أن نفصل بين التفسيرة والتأويل وغرض كلّ منهما يتداخل في الآخر، ولكنّنا نميِّز بينهما لنشدّد على أنّ التفسيرة تركِّز على الناحية الآنيّة والحياتيّة، أمّا التأويل فيركِّز على الناحية العلميّة المجرّدة.
ونتساءل عن تاريخ التأويل عبر العصور.
إهتمّ دارسوا الإزائيّين مدّة طويلة بتكوين الأناجيل. تحرّوا عن الاختلافات والتشابهات، وحاولوا أن يحدّدوا كيف يرتبط نصّ بآخر علَّهم يصلون إلى الينابيع على مستوى التقليد الشفهيّ وعلى مستوى الوثائق المكتوبة. هذا ما قام به العالمان الألمانيّان ديبليوس وبولتمان اللذان سيطرا على تاريخ التأويل في النصف الأوّل من القرن الحاليّ. انطلقا من النصّ الإنجيليّ فأخذا الوحدات الأدبيّة ورتّباها (خبر معجزة، مثل، حكمة، كلمة إطاريّة) وبحثا عن الإطار الكنسيّ والظروف والحاجات التي فيها دُوِّنت الوحدات قبل أن تُجمع في الإنجيل كما نعرفه.
في هذه المدرسة قلَّل العلماء من دور الكتّاب وجعلوهم مجرّد مقمِّشين جمعوا موادَّ مصنّعة وأدخلوها في إطار مصطَنعَ. فقامت ردّة فعل على المدرسة التكوينيّة في المدرسة التدوينيّة. فهذه لم تتخلّ عن المرحلة الثانية (الجماعات المسيحيّة)، ولكنّها زادت اهتمامها بالمرحلة الثالثة، مرحلة الكتَّاب. توقّفت عند القرينة التي رُتِّبت في داخلها الوحدات الأدبيّة التي اكتشفتها المدرسة التكوينيّة. كانوا في الماضي يتوقّفون عند كلّ قطعة على حدة ويتأمّلون فيها وكأنّها لؤلؤة، ولكنّهم نَسُوا أنّها تدخل في عقد. أمّا اليوم فأدخلوا كلّ مقطع في إطاره التدوينيّ. وهذا يعني أنّ متىّ ومرقس ولوقا هم كتّاب بكلّ معنى الكلمة. لاشكّ في أنّهم استعملوا موادّ تقليديّة، ولكنّهم أدخلوها في نظرة لاهوتيّة خاصّة بهم. فيبقى علينا أن نكتشف رؤية كلّ من متّى ومرقس ولوقا ولاهوتهم وروحانيّتهم. بدأوا يطبّقون النصوص على حاضر كنيستهم وهم يفتحون الدرب لنا لنكتب الإنجيل اليوم في حاضر كنيستنا، لا كلامًا جافًّا وحرفا ميتًا بل بشارة تعجّ بالحياة، لأن كلام الرب هو روح وحياة (يو 6: 63).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM