الفصل العاشر الشتات المسيحيّ بعد سنة 70

الفصل العاشر
الشتات المسيحيّ بعد سنة 70

سبَّب دمارُ أورشليم في فلسطين انقلابًا سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا. وإعادة البناء التي تمّت في السنوات التالية جعلت الأمّة اليهودية تسير في خطّ تقليد الفرّيسيّين. بعد أن دمِّر الهيكل، لم يعد الحجّاج يأتون بأعداد كبيرة إلى الأرض المقدّسة. غير أنّ العلاقاتِ ظلّتَ متينةً بين المجموعات المحلّيّة وتلك المشتّتة في الإمبراطوريّة الرومانيّة والمملكة الفراتيّة اللتين يفصل بينهما نهر الفرات. وتد تأثّرت بهذا الوضع الكنائس المسيحيّة المتهوّدة والمقيمة في اليهوديّة والجليل وسورية. أمّا الكنائس المختلطة فلم تتأثّر تأثّرًا مباشرًا ولكنّها وجدت نفسها أمام حدث مهمّ في مخطّط الله. وبواقع الحال خسرت كنيسة أورشليم الأمّ التي أكرمها بولس وساندها (1 كور 16: 1؛ 2 كور 8: 9؛ روم 15: 26- 28؛ أع 21؛ 24: 17- 18)، علّة وجودها. وفعلت الظروف فعلها، فاكتسب الشتاتُ المسيحيّ مركز ثقل جديد ستظهر أهمّيّته مع الزمن. ففي عهد نيرون، قُتِل بطرس وبولس فختما شهادتهما الرسوليّة بالاستشهاد. وإذا عدنا إلى غل 2: 7- 8 نفهم أنّ رسالتهما رمزت باختصار إلى وحدة اليهود الذين بشّرهم بطرس، والأمم الوثنيّة الذين بشرّهم بولس في كنيسة انفصلت عن الوطن اليهودي ومؤسّساته. ونالت كنيسة رومة المحلّية، كحارسة قبرَيِ الرسولين والتقليد الذي يمثّلان وحدته، وضعًا خاصًّا وسط سائر الكنائس. ولهذا سيتحدّث كتّاب القرن الثاني عن "رئاسة المحبّة" (أغناطيوس الأنطاكيّ) أو "السلطة الرئيسيّة" (إيريناوس أسقف ليون).
وبدا الثلث الأخير من القرن الأوّل والربع الأوّل من القرن الثاني عصرَ انتقالٍ من زمن الرسل الذين ماتوا الواحد بعد الآخر، إلى زمن التنظيم الكنسيّ الذي رتّب بنيته وثبّت نظمه. في هذا الإطار نستطيع أن نتبع أَثَرَ كتابات العهد الجديد الأخيرة حتّى الوقت الذي فيه تثبّتت المجموعة كلّها. ونحن سنقسم هذه الكتابات حسب الفئات التالية: كتب تتعلّق بإعلان الإنجيل. كتب تحتفظ بتقليد الرسل بشكل رسائل. كتب تشهد على المواجهة التي تعرفها الكنائس. كتب تقدّم لنا نصّ التقليد اليوحنّاويّ. كتب تربط العهد الجديد بالآباء الرسوليّين فتقدّم الإشارات الأولى لوجود مجموعة محدّدة هي أسفار العهد الجديد.

أ- إعلان الإنجيل
وُجد التقليدُ الإنجيليّ حوالي سنة 70 بشكل مكتوب، لا في كتيّب مرقس وحسب، بل في مجموعات يذكرها. لوقا (1: 1) بصورة واضحة. لا نستطيع أن نحدّد مضمونها وعددها. وإنّ زمن السلم الذي رافق سلالة فلافيوس (بين 69 وسنة 95) أتاح للعمل الرسوليّ أن يمتدّ وينتشر. في هذا الإطار نجد عملَيْ متّى ولوقا المركَّزين على إعلان الإنجيل.

1- عمل متّى
أن يكون الإنجيل الأوّل قد نُسب إلى متّى الذي يربط به بابياس أسقف هيرابوليس مجموعة أقوال الربّ في اللغة العبريّة (أي في غير اللغة اليونانيّة، في اللغة الآراميّة)، فيجب أن توجد علاقة بين الإنجيل ومتى. لقد استعمل الكتيّبُ الحاليّ عملَ مرقس، ومرجعًا أو مرجعين مكتوبين، وتقاليد شفهيّة، وأعطانا كتابًا مؤلَّفًا بعناية واهتمام. نتخيّل المؤّلفَ "كاتبًا متعلّمًا في ملكوت الله يخرج من كنزه الجديد والقديم" (مت 13: 51). إنّه وحده يطبِّق على المرسَلين المسيحيّين المصطلحات المعمول بها في أدب الرابّانيّين: هناك الكتبة والحكماء بجانب الأنبياء (مت 23: 34). فالكتبة والحكماء المسيحيّون هم مسؤولون عن التقليد الإنجيليّ، كما كان الكتبة والحاخامون اليهود مسؤولون عن "تقليد الشيوخ".
وهناك إشارتان مهمّتان تجعلاننا في الخطّ عينه. أوّلاً: ذكر متواتر للكتب التي تمّت (مت 1 :22 ي؛ 2: 15، 17، 23؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35؛ 21: 4؛ 26: 54، 56؛ 27: 9؛ رج 3: 3؛ 11: 10). وهذا ما يدلّ على اهتمام دفاعيّ تجاه اليهود الذين يقرأون التوراة. ثانيًا: إنّ استعادة وتنظيم الموادّ الإنجيليّة يدلّ على اهتمام دائم بالسلوك (هلكه) المسيحيّ الذي بقي على ارتباط بالشريعة والأنبياء وجاء ليتمّمها (مت 5: 17): فعلى المؤمنين أن يمارسوا بِرًّا يفوق بِرَّ الكتبة والفرّيسيّين (مت 5: 20) على خطى يسوع الذي "أتمّ كلّ برّ" (مت 3: 15). نحن لسنا أمام تهويد جديد للإنجيل، فيُصَبُّ مضمون جديد في كلام الرابّانيّين، كما تُصَبّ الخمرة الجديدة في زقاق بالية (مت 9: 18). ولكنّ المحيط الذي يتوجّه إليه الكاتب هو محيط مسيحيّ متهوّد، غير أنّه محيط منفتح يحاول أن يتلمذ كلّ الأمم (مت 28: 19). هل كانت حدود جماعة متّى الجغرافيّة في الجليل أم في سورية (مت 4: 14- 16؛ 28: 16 ي)؟ لا تزال القضيّة موضوع جدال. هل نضع في هذه الجماعة "مدرسة متّى" المرتبطة بواحد من الاثني عشر يسمّيه مرقس ولوقا لاوي (مر 2: 14؛ لو 5: 27؛ مت 9: 9)؟ إلى من ننسب الإنجيل؟ إلى متّى، إلى مدرسة متّى؟
عرف الكاتب اليونانيّ الذي استعاد أقوالاً جمعها متّى، أن يُرتّب بانسجام موادَّ تقليديّةً ويعيدَ النظر فيها ويكيّفها واهتماماته التربويّة واللاهوتيّة. إنطلق من إطار قدَّمه مرقس، فبنى بواسطة كلمات يسوع خطبًا عديدة تشكل كلّ واحدة شميلة تدلّنا على تدخّل معلّم حكيم: فالسلوك المسيحيّ (مت 5: 7) والقواعد المعطاة للمرسلين الذين سيحملون الإنجيل (مت 10)، والتأمّل في ملكوت الله (مت 13) وقواعد تصرّف الجماعة (مت 18)، والتعليم عن مجيء المسيح (مت 24: 4- 25: 46)، كلّ هذا يقدّم قواعد سلوك عمليّ للمؤمنين ولخدَّام الكلمة. والتشديد على الصراع بين يسوع والفريسيّين (مت 21: 41- 43؛ 23: 1 ي؛ ق مع مر 12: 9- 11) يفهمنا أنّ رَذْلَ العالم اليهوديّ للكنائس المسيحيّة مسألةٌ معاصرة (مت 10: 17- 39؛ 23: 34؛ 24: 9- 13). واللمسات على بعض كلمات يسوع تدلّ على أنّ الهجومَ ضدّ أورشليم قد تمّ وانتهى (مت 22: 6- 7). والانفتاح الشامل على الرسالة يرتبط بالحدث (24: 14)، ولكن لا نجد أيّة معارضة مع السلطات الوثنيّة. قد نكون في سنة 80 تقريبًا. يتمتّع المؤلّف بحرّيّة أدبيّة كبيرة تجاه الموادّ التي وصلت إليه عبر التقليد الشفهيّ. هو يثبّتها ويستعملها ليترجم فكره اللاهوتي الخاصّ في مسيرة حياة يسوع أو في خبر الآلام والقيامة (27: 3- 9، 19، 43، 52- 53، 63- 66؛ 28: 9- 14)، أو في أخبار الطفولة (مت 1- 2).
في مقدّمة الإنجيل هذه ينبسط الإخبار (هاغادة) المسيحيّ ليقدّم تعبيرًا عن الكرستولوجيا. فنسب يسوع يؤسّس حقًا مسيحانيًّا لميراث المواعيد المعطاة لإبراهيم وداود (مت 1: 1- 17). والحبل به بالروح القدس لا يرتبط في هذا المكان بلقب ابن الله المتواتر عند متّى: فهذا المُعْطى الذي تسلّمه متّى من التقليد غير المكتوب والذي يُتمّ الكتاب (مت 1: 22)، قد وُضع في خبر دعوة يوسف (مت 1: 18- 25) الذي به يرث يسوع المواعيد (1: 16). وخبر زيارة المجوس الذي يفترض عملاً مدراشيًّا سابقًا على نصوص توراتيّة عديدة (عد 24: 17؛ اش 60: 1- 6؛ مي 5: 1) يعطي للملك المسيحانيّ امتدادًا مسكونيًّا. واضطهاد هيرودس والهرب إلى مصر (2: 13- 21) هما خبر اصطلاحيّ يتشبّه بنماذج توراتيّة (ق مت 2: 19- 21 وخر 4: 19- 20) ويعلن مصير يسوع العتيد: سيتجاهله الكهنة والكتبة (مت 2: 3- 6)، وسيلاحقه بغض السلطة السياسيّة (2: 16). كلّ هذا يترابط ليقوده إلى الناصرة حيث يبدأ دراما الحياة العلنيّة (2: 22 ي). فالكثافة التاريخيّة لهذه الأخبار تنحصر في عناصر تلتقي مع ما نجده في إنجيل لوقا. ولكنّ الكاتب يرجع إلى تفسير توراتيّ يشبه التفسير (بشِر) القمرانيّ، فيعطي على المستوى اللاهوتيّ قيمة لمعطيات تقليد غامض. قد يكوَن الأصل البعيد لهذا التقليد محيط يسوع العائليّ الذي دخل في الكنيسة بعد قيامته (أع 1: 14). ولكنّنا نحن هنا أمام فرضيّة عمل.
وهكذا يضمّ إعلان البشرى الآن كلَّ وجود يسوع على الأرض، منذ الحبل به وميلاده. وهكذا يختلف متّى عن الرسمة الأولى التي اتّبعها مرقس والتي بدأت بكرازة يوحنّا المعمدان ومعموديّته. وتنتهي البشرى على منظور لا حد له، يشدّد على حضور المسيح القائم في كنيسته الآن ويشمل كلّ الأزمنة (مت 28: 18- 20).

2- عمل لوقا
أوّلاً: الإنجيل وأعمال الرسل
عُرف لوقا "الطبيب العزيز" (1 كور 14؛ رج فلم 24) كرفيق بولس (2 تم 4: 11). فمقاطع سفر الأعمال المدوَّنة في صيغة المتكلّم الجمع تتيح لنا أن نتبع آثاره. يقول تقليد قديم إنّ أصله من أنطاكية، وإنّه اكتسب ثقافة يونانيّة عميقة ساعدته على تأليف أخبار رائعة. ولقد عرف أيضاً أن ينوّع أسلوبه فيقتدي بأسلوب مراجعه مع بعض اللمسات، أو يسير على خطى التوراة اليونانيّة ليتكيّف والظروف المذكورة ويعطي الأشخاص أقوالاً تليق بهم. كلّ هذا يدخل في هدفه كمؤرّخ يونانيّ يجعل فنّه في خدمة الكلمة ليساعد قرَّاءه على التحقّق من متانة التعليم الذي تسلّموه (لو 1: 3- 4). قدّم عمله إلى يونانيّ اسمه تاوفيلوس (هل هو اسم حقيقيّ أو اسم مستعار؟) فانبسط على كتابين يصوّران الزمنين اللذين فيهما انتشرت الكلمة: كتيِّب إنجيليّ يستند إلى بعض محاولات سابقة، وخبر يروي أعمال بعض الرسل فيدّل على الامتداد التدريجيّ للشهادة المؤدّاة للمسيح. ألَّف لوقا سفر الأعمال فاعتمد على وثائقَ تعطينا فكرةً كافيةً عن الكنيسة الأولى مع بُناها وحياتِها الداخليّة والوجهات المتعدّدة لأدبها الشفهيّ.
في أيّ محيط وفي أيّ زمن دوّن هذان الكتابان؟ قالوا: اليونان، سورية، آسية الصغرى، ولم يقدّموا برهانًا قاطعًا. لقد وجد لوقا في كنيسة من كنائس المتوسّط الشرقيّ. ولقد وصلت إليه الكتابات المسيحيّة الأولى التي انتقلت من كنيسة إلى أخرى. أمّا المقاطع المكتوبة في سفر الأعمال في صيغة المتكلّم الجمع فهي تدلّ على أنّه عرف الكنائس البولسيّة المتعدّدة وعرف اليهوديّة قبل سنة 70. ولقد عرف أيضاً بعض رسائل بولس، كما أنّه اتّصل بالتقليد اليوحنّاويّ. كتب في وقت استطاعت فيه الرسالة المسيحيّة أن تعمل في العمق في الأوساط الوثنيّة. والخبر الذي يقدّمه إلينا في سفر الأعمال يشدّد دومًا على العدالة الرومانيّة (أع 3: 13- 13: 28). ويعلن في الإنجيل براءة يسوع بلسان بيلاطس (لو 23: 13- 24). هذان الواقعان يدلان على هدف دفاعي غير مباشر: فحين تمّ الانفصال بين اليهود والوثنيّين، كان من المفيد أن تراعيَ السلطات مجموعات المؤمنين الموجودة في وضع حرج تجاه القانون الرومانيّ. لهذا تقرّ السلطات المعنيّة ببراءة يسوع وببراءة الرسل. ولكنّ هذا الدفاع يبقى متكتمًّا، وهو يدخل في عمل أدبيّ يهدف إلى بناء الإيمان في الكنائس التي ينتشر فيها.
تبدو بنيةُ هذه الكنائس متينةً والتواصلُ واضحًا بينها وبين زمن الرسل ومن خلال الألقاب المتنوّعة التي تلتقي في الرسائل البولسيّة لتدلّ على الخدَم، نرى في المستوى الأوّل الوظائفَ المسيحيّةَ المتهوّدة الأولى: القسوس (أو الشيوخ والَكهنة) في الكنائس المحلّيّة. إنّهم يقومون بمهمة المراقبة والرعاية (أع 20: 28؛ رج 14: 23). الأنبياء والمعلّمون (أع 13: 1- 3). إنّهم يتابعون نشاط الرسل في الرسالة. والمدبّرون (إيجومينوس: لو 22: 26؛ عب 13: 7- 17) الذين قدّم لهم الرسل نموذج خدمة تحدّده كلمة يسوع. فالاثنان والسبعون الذين أرسلهم يسوع اثنين اثنين (لو 10: 1) ينبئون بتعدّد المرسَلين المسيحيّين. ولكنّنا نجد أيضاً في الكنائس "إنجيليّين" (أع 21: 8؛ رج أف 4: 11؛ 2 تم 4: 5 حيث نحن أمام مهمّة عمليّة). هل يرتبط عمل لوقا بممارسة هذه الوظيفة التي كان نموذجها الكامل؟ الأمر ممكن. متى دوِّن عمل لوقا؟ حوالي السنة 80. فحين أورد لوقا خطبة يسوع عن أورشليم أوّن النصوص لتطابق كارثة سنة 70 (لو 19: 43 ي؛ 21: 20- 22). بالنسبة إليه هذا هو "زمن الأمم" بانتظار أن يأتيَ الانتهاء (لو 21: 25- 28).

ثانيًا: لوقا اللاهوتي
هناك نوعان من الموادّ يدعواننا إلى أن نرى في لوقا الرجل اللاهوتيّ. أوّلاً: في الإنجيل: اللمسات الأخيرة للموادّ التقليديّة، الشكل الذي فيه صبّ أقوال يسوع (مثلاً: لو 10: 29- 37؛ 15: 1- 32؛ 16: 19- 31)، تأليف المشاهد التي تسلَّمها من التقليد الشفهيّ (مثلا: لو 7: 36- 50؛ 10: 38- 42؛ 24: 13- 35). فإذا قابلنا لوقا بمتّى ومرقس اكتشفنا الهدف اللاهوتيّ في هذه المقاطع. ثانيًا: يدلّ تكوين سفر الأعمال على تواصل الفنون الأدبيّة القديمة التي مارستها الجماعة إلى أن أجاز فيها الإنجيليّ تعليمه الخاصّ. فحين جعل بطرسَ وإسطفانُسَ وبولسَ ويعقوبَ وبعضَ المجموعاتِ المسيحيّةِ يتكلّمون، كيَّف خُطَبَهُمْ على شخصيّتهم وقدَّم كرازة لليهود (أع 2: 22- 36؛ 10: 34- 43؛ 13: 16- 41) وللوثنيّين (أع 14: 15- 17؛ 17: 22- 31)، وتأمّلاً في التاريخ المقدّس (أع 7: 1- 50) ومدراشًا كرستولوجيًّا مبنيًّا على المزامير (أع 4: 25- 28) أو على الأنبياء (أع 15: 14- 18؛ 28: 25- 28)، وتنبيهًا لشيوخ الكنيسة (أع 20: 18- 35). وهكذا استعاد موادَّ قديمةً وأدخلها في لاهوت مبنيّ حول موضوع رئيسيّ هو موضوع الخلاص الذي حمله المسيح إلى كلّ الأمم (لو 2: 31- 32؛ أع 28: 28).
وتحدّث لوقا عن طفولة يسوع كما فعل متّى، فانطلق من تقاليدَ محدّدةٍ وأعطانا خبرًا أوجز فيه أهمَّ ما في تعليمه الكرستولوجيّ. شدَّد على التوازي بين يسوع ويوحنّا المعمدان لأنّه يوجد في الشرق جماعات من التلاميذ يرتبطون بيوحنّا (أع 19: 1- 7): حاول لوقا أن يجلبهم إلى المسيح فبيّن لهم أنّ يوحنّا كان السابق. واستعاد لوتا تراتيل مسيحيّة معروفة في كنيسته (لو 1: 46- 55، 68- 79؛ 2: 14) وزاد عليها ما ألَّفه بنفسه (لو 2: 29- 32). واهتمّ، كمؤرّخ، بالأخبار (لو 2: 2؛ 3: 1- 2)، ولكنّه ألَّفها بأسلوب التاريخ المقدّس لبنيان الإيمان أكثر منه لإشباع روح الفضوليّة. عاد إلى تذكّرات مريم (لو 2: 19- 51)، فدلّنا على أنّه اتّصل بها عبر الأوساط اليوحنّاويّة (نقرّب بين لو 2: 35 ويو 19: 25- 27). لاشكّ في أنّ هناك توازيات بين لوقا وتقليد يوحنّا الإنجيليّ. هل نتحدّث عن إخبار (هاغاده) مسيحيّ كما عند متّى؟ لا شكّ في أنّنا أمام إخبار لاهوتيّ وتقويّ. ولكنّ الرجوعَ إلى التوراة لدى متّى يختلف عمّا لدى لوقا. ثمّ إنّ لوقا يتفوّق على متّى بالكثافة التعليميّة والتجذّر التاريخيّ. غير أنّنا لسنا أمام عمل مؤرّخ، كما يقول العالم الحديث. خبر لوقا بسيط وعميق، اصطلاحيّ في شكله الإخباريّ ولاهوتيّ في هدفه. ينقصه العلم التاريخيّ ولكنّه يكتسب غنى تعليميًّا.

ب- رسائل تحتفظ بتقليد الرسل
نستطيع هنا أن نتفحّص بعض الرسائل الذي يختلف النقّاد على أصلها وزمان كتابتها: يع، عب، 1 بط. أمّا الرسائل الرعاويّة فسندرسها في الجزء الثالث من هذا الفصل.

1- رسالة يعقوب والتقليد المسيحيّ المتهوّد
كان يعقوب في التقليد القديم (1 كور 15: 5- 7) وسط مجموعة الرسل، كما كان بولس وسط مجموعة الاثني عشر. والرسالة التي تحمل اسمه تتوجَّه إلى الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات خارج فلسطين. نحن نتردّد في أن نرى فيها مقالة قديمة وسابقة لموت يعقوب (62 ب م)، حتّى وإن نسبنا عملاً تأليفيًّا إلى المترجم الذي كيّف النصّ قبل أن يجعله في لغة يونانيّة أنيقة. والعنوان هو المقطع الوحيد الذي يعيدنا إلى شخص يعقوب. فإذا تركنا العنوان، يبدو مجملُ النصّ بشكل مجموعة من التحريضات المختلفة والمتعلّقة بمسائل السلوك المسيحيّ. وهذا التوجيه العمليّ الذي لا ينفي التلميح العماديّ في أحد المقاطع (1: 16- 18)، يدلّ على اهتمامات الكنائس المسيحيّة المتهوّدة. إنّها تُعنى بأن تجعل الكلمة تمرّ في العمل (1: 22). وأن تدفعنا إلى ممارسة الشريعة (4: 11 ي) التي صارت شريعة الحرّيّة الكاملة (1: 25). وقد نتجت ردّة فعل على تجاوزات لبعض مبادئ وضعها القدّيس بولس (2: 14- 26): ونحن نفهم هذا الموقف فهما أفضل إن عرفنا أنّنا في زمن تَتَنَظَّمُ فيه الكنائس وتُتَدَاولُ فيها رسائل القدّيس بولس. يمكننا أن نفكّر بمحيط سوريّ لا تزال تحمل فيه الجماعة المسيحيّة اسم المجمع (2: 2)، كما هو الحال في الجماعة اليهوديّة. وعلى رأس كلّ كنيسة محلّيّة يلعب القسوس (أو الشيوخ) (5: 14) والمعلّمون دورًا هامًّا.
نستطيع أن نفكّك الرسالة إلى قطع مستقلّة تشكِّل كلّ منها رسمة وعظ موجَّهة إلى الجماعة الملتئمة في كنيسة. والإيرادات والتلميحات الكتابيّة هي عديدة، وهذا ما يفترض قراءتها في نصّها اليونانيّ. (4: 6؛ رج أم 3: 34 في السبعينيّة). ولكنّنا نحسّ أيضاً بتقنيّة المدراش في هذا المقطع أو ذاك. أمّا التلميحات إلى الكلمات الإنجيليّة. فتدلّ على أنّ للمؤلف مجموعة يعتمد عليها في كرازته. وقد تكون وجدت أيضاً مجموعة حكميّة هي صدى لكرازة يعقوب اسقف اورشليم. وهذا ما يبرّر عنوان الرسالة. متى دُوِّنَتْ رسالة يعقوب؟ في الزمن الذي دوِّن فيه إنجيل متّى، في سنة 80 تقريبًا، وفي المحيط المسيحيّ المتهوّد نفسه.

2- الرسالة إلى العبرانيّين ونقد العالم اليهوديّ
أشرنا سابقًا إلى عب وإلى زمن كتابتها. فإن دُوِّنت قبل سنة 70 نبحث عن قرّائها في فلسطين. هل هم الكهنة العديدون الذين أطاعوا الإيمان (أع 6: 7)؟ لو كان الأمر كذلك لتحدّث الكاتب عن الهيكل. هل هم جماعة قمران؟ ولكنّ الإشاراتِ ضعيفةٌ. وإن دوِّنت عب بعد سنة 70 وقبل سنة 95 (كما تقول رسالة إكلمنضوس الأولى) نبحث عن قرّائها في كنيسة مسيحيّة متهّودة في فلسطين (قيصريّة) أو سورية (أنطاكية). ومهما يكن من أمر، فعظمة العبادة اليهوديّة لا تزال قريبة لتؤثّر على المسحيّين الذين نالوا التدرّج العماديّ (6: 1- 5، 10: 32) فتجتذبهم أو تجعلهم يتأسّفون حين يرون العبادة المسيحيّة وما فيها من فقر.
ينطلق المؤلف في عمليّة دفاعيّة تعتمد على التوراة، فينتقد العالم اليهوديّ كؤسّسة عباديّة. إنّه قريب من تيموثاوس (13: 23)، ولكنّ الرسالة لا تعطينا اسمه، غير أنّه يتكلّم بسلطة ظاهرة. وما هو واضح هو تربيته في الإسكندريّة، وهذا ما يقود بعض الشرّاح إلى القول إنّه أبلّوس الذي تعرفه رسائل بولس وأعمال الرسل. ولكن لا برهانَ قاطعًا في هذا المجال. نحن هنا أمام معلّم مسيحيّ خبير بالكتب المقدّسة. أسلوبه وجدليّته ونهجه التأويليّ وطريقة تفكيره تجعله قريبًا من فيلون، ولكنّ توجّهه اللاهوتيّ يجعله فريدًا في العهد الجديد. يعطي تلميحات سريعة إلى بُنى الكنائس: فاسم الرؤساء أو المدبّرين هو اسم عامّ (لو 22: 26؛ أع 15: 22). وسيطبَّق على القسوس في كورنتوس (رسالة إكلمنضوس الأولى).
عب هي رسالة، إذا نظرنا إلى خاتمتها (13: 22- 25). ولكنها خطبة تحريضيّة (13: 52) لها مقدّمتها (1: 1- 4) ونهايتها (13: 20- 21). كُتبت لتُقرأ في جماعة ليتورجيّة. والتاريخ التكوينيّ يساعدنا على اكتشاف آثار عديدة لتأويل مسيحيّ يُسند العظة: عودة إلى الشهادات التي تؤسّس البرهان (1: 5- 14؛ 2: 5- 17)، رسمة عظة على مز 95 (3: 7- 4: 11)، على تك 14: 17- 20 ومز 110: 4 (ف 7)، على إر 31: 31- 34 (8: 6- 9: 18 يحيط به إيرادات للنصّ)، على خر 19: 16- 19 وحج 2: 6 (12: 18- 29). فقبل تأليف الخطبة كلّها نجد مواعظ على الكتاب المقدّس، كما كانت الحالة في الرسائل البولسيّة. ترك المؤلِّف جانبًا التعليم البدائيّ (6: 1) وانتقل إلى الأشياء الصعبة يعرضها. نلاحظ لديه تقاليدَ مسيحيّةً متهوّدة وهلّينيّةً تختلف عمّا في يع، وتقترب من إسطفانُس في انتقاده للشريعة العباديّة (أع 7). نحن هنا أمام تيّار خاصّ لا ينتمي إلى أيّ رسول، ولكنّه يجد مكانته الخاصّة في الكنيسة.

3- الرسالة إلى أفسس والتقليد البولسيّ
نلاحظ أوّلاً تجذّر أف البولسيّ. فهي ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالرسالة إلى كولسّي من جهة الأفكار التي توسّعها، والتلميحات إلى أسر بولس (3: 1- 4: 1) والتوازيات الأدبيّة. إنّها تستعيد مواضيعَ من الرسائل الكبرى مع بعض تبديل في المعاني يدلّ على تطوّر في التعبير اللاهوتيّ. ينطلق بولس من دعوته الخاصّة تجاه الأمم غير اليهوديّة (3: 8؛ رج غل 2: 7؛ روم 15: 15- 19) ليتوجّه إلى قرّائه الذين من أصل وثنيّ: لقد آمنوا بالإنجيل فجعلهم الله، بموت المسيح، "مواطني القدّيسين" أي أعضاءً في الشعب المقدّس (2: 11- 22). أتكون الرسالةُ موجّهةً إلى أفسس أم إلى كلّ مجموعة كنائس آسية؟ نحن نلاحظ تحوّلاً في الأعضاء الذين ينتمون إليها. حين تأسّست هذه الكنائس غلب عليها طابع التمازج. أمّا الآن، فلم يعد يدخلها أحد من اليهود. هذا ما حدث بعد مرور بولس. وهكذا يكون النصّ كتب حين كان بولس أسيرًا في قيصريّة (57- 59 أو 58- 60) أو في رومة (59- 60 أو 60- 62).
ولكن هناك إشارات تجعلنا في فرضيّة أخرى. فتطوّر اللغة اللاهوتيّة يبعدنا عن اللغة التي نجدها في كو. والطريقة التي بها تتكلّم أف عن الرسل والأنبياء (2: 20- 3: 5) تدلّ على ماضٍ سحيق. والتحديدات على بنية الكنائس الخِدَمِيّة (3: 11 ي) تتجاوز معطيات 1 كور وروم، وكأن عملا تنظيميًّا تمّ في ذلك الوقت. أمّا التلميحات إلى وضع الرسول الشخصيّ فهي قليلة جدًّا (3: 1؛ 4: 1؛ وق 6: 21 مع كو 4: 7 ي). والأمور الجديدة التي تغني التأمّل في المسيح وفي كنيسته، تدلّ على أنّ التعليم البولسيّ (المنبثق من رسائله) قد دوِّن بيد تلميذ من تلاميذ بولس حوالي السنة 70- 80، أي بعد موت الرسول. هذه فرضيّة قراءة لا تفرض نفسها وهي تتجاوز فكرة التلميذ السكرتير الذي يملي عليه الرسول فيكتب، ولكنّها تبيّن حيويّة وتأثير التقليد البولسيّ في محيط آسية الصغرى بعد دمار أورشليم. لم يكن المؤلّف مجدِّدًا، ولكنَّه كان ابنَ التقليد، فحاول أن يحافظ بقوّة على الإرث الذي تركه بولس. غير أنّه استعمل لغة جديدة ليعبّر بها عن التعليم الذي أخذه من بولس. لقد كان المؤلّف لاهوتيًّا مُبْدِعًا يعمل في تقليد حيّ فلم يُرَدِّدْ ميكانيكيًّا ما قاله بولس الرسول في زمان غير زمانه.
هل نحن أمام رسالة ذات هدف لاهوتيّ؟ قد يكون، ولكنّ النظريّة التكوينيّة توجّهنا نحو فرضيّة مختلفة. فلو قبلنا بصحّة نسبتها إلى بولس بسبب التلميحات إلى دعوة الرسول (3: 17 ي) وأسره (3: 1- 4: 1) وإرساله تيخيكس (6: 21 ي)، فنحن نكتشف فنونًا أدبيّة عرفتها الجماعات الكنسيّة: تنتهي المباركة الليتورجيّة في 1: 3- 14 بقطعة عماديّة (1: 13 ي). والتحريض العماديّ يتوجّه إلى المهتدين بعد قبول السرّ (ف 2). نجد مدراش مز 69: 8 (4: 1- 13) داخل تحريض على الحياة الجديدة في المسيح (4: 1- 6: 18). هناك نشيد عماديّ يشير إلى الطقس الذي نمارس (5: 14) ويدلّ على المكانة الليتورجيّة لهذا التحريض. إذًا نحن أمام مجموعة موحَّدة تدفعنا عناصرها في وجهة واحدة: نحن أمام خطبة نموذجيّة مؤلّفة من أجل التدرّج العماديّ حيث سينضمّ الوثنيّون المهتدون إلى الكنيسة. هذا ما يفسر طابع أف الخطابيّ وتوازياتها مع التعليم العماديّ الذي نجده في 1 بط.
بعد هذا لن نهتمّ للزمن الذي دوَّنت فيه أف. فتقليد الجماعات الليتورجيّة الذي رأينا تأثيره في أيّام الرسائل الكبرى يتفتّح هنا في محيط آسيويّ تكلَّف به تلاميذ الرسول منذ مروره في أفسس. أمّا كاتب أف فهو "راع ومعلّم" (4: 11) يتسلّم وظيفة جوهريّة في توزيع الخدم (4: 12). وإذا كانت وجدت مجموعة رسائل بولس في أفسس، كما قلنا سابقًا، فقد تكون هذه المدينة هي المكان الذي ألّف فيه نصّ هو أوّل شميلة للاهوت البولسيّ بعد الرسالة إلى أهل رومة.

4- رسالة بطرس الأولى وتقليد بطرس الرومانيّ
حين درسنا 1 بط أشرنا إلى ارتباط بعض مقطوعاتها بالليتورجيّا العماديّة. ما قلناه عن أف يتيح لنا أن نخطو خطوة في تقييم مضمونها ملاحِظين التوازيات في البنية: مباركة أولى (1 بط 1: 3- 5 وأف 1: 3- 12) تنتهي بخطبة في صيغة الخاطب الجمع (1 بط 1: 6 ي وأف 1: 15- 3: 21). التحريض عينه على سلوك يليق بدعوة المسيحيّ (1 بط 2: 11- 4: 11 وأف 4: 1- 6: 18) مع إعلان الواجبات الخاصّة بحالة كلّ إنسان (1 بط 3: 13- 4: 7 وأف 5: 21- 6: 9). أمّا خاتمة الخطبة في أف 6: 10- 18 (مع امتداده البولسيّ في 6: 19 ي) فتجد ما يوازيها في 1 بط 5: 8- 9. هذه الملاحظات الموضوعيّة تدلّ على أنّ جسم 1 بط بالنسبة إلى التقليد البطرسيّ هي مثل أف بالنسبة إلى التقليد البولسيّ، وإن اختلف زمان تدوين كلّ من الرسالتين.
غير أنّ 1 بط 4: 2- 5: 11 شكَّل قطعة مستقلّة لها بدايتها (أيّها الأحبّاء) ولها خاتمتها (5: 11: له العزّة إلى الأبد. آمين). أمّا إطار هذا المقطع فهو زمن الاضطهاد: هناك حريق وسط المؤمنين الذين يتألّمون كمسيحيّين (4: 12- 16). وفي تحريضات هذه البطاقة تَظْهَرُ بوضوح بنيةُ الكنائس الداخليّة: على رأسها قسوس (أو شيوخ أو كهنة) يقومون بوظيفة الرعاية (5: 1- 4). وهذا الوضع يوازي ما يفترضه لوقا في أع 20: 17، 28- 31 وما نجده في رسالة إكلمنضوس الأولى. والكاتب الذي يسمّي نفسه "الشيخ" (5: 1)، هل هو ذلك الذي ألَّف الخطبة العماديّة السابقة؟ مهما يكن من أمر، فالنصّان يرتبطان بواسطة العنوان (1: 1- 2) والخاتمة (5: 12- 14) التي تشير إلى بطرس المقيم في رومة (= بابل). توجّهت الخطبة العماديّة إلى وثنيّين اهتدوا إلى المسيحية. ولكن مجمل النص أُرسل الى المسيحيّين الذين يقيمون كغرباء (رج عب 11: 13؛ تك 23: 4= 1 بط 2: 11) في مقاطعات آسية الصغرى الوسطى والشماليّة. إنّ امتداد المسيحيّة إلى هذه الأصقاع ليس مستحيلاً قبل سنة 65. ولكنّه معقول في العصر الذي بعد الرسل. من هذا القبيل نفهم الموازاة بين 1 بط وأف. غير أنّ الاضطهاد المذكور في البطاقة الأخيرة يبقى غامضاً. فاضطهاد نيرون صار في رومة فقط، واضطهاد دوميسيانس كان متأخرًا (سنة 95). ولكنه وصل إلى آسية الصغرى (1 بط 1: 1) كما يقول سفر الرؤيا. أمّا في عهد ترايانس فقد تألّم المؤمنون لأنّهم مسيحيّون في بيتينية حين كان بلينوس الأصغر حاكمًا هناك (حوالي 110). ولكن هل نذهب إلى ذلك الزمان البعيد؟ ومهما يكن من أمر، فرسالة بطرس الأولى تدلّ على استمراريّة التقليد البطرسيّ في رومة. ألّفت في عهد نيرون أو دوميسيانس أو في بداية القرن الثاني.

ج- زمن المجابهات
1- المجابهات العقائديّة
ظلّ بولس عشر سنوات يحارب الفئة الراديكاليّة في المسيحيّة المتهوّدة (رج غل؛ فل 3؛ 2 كور 10- 13). ولقد احتفظ هذا التيّار بحيويّة حقيقيّة في بعض الكنائس المحلّيّة، وسيظهر بقوّة في القرن الثاني. وفي كنائس آسية حيث كان عدد المهتدين من الوثنيّة ضعيفًا، حذَّر بولس المؤمنين من الميول التلفيقيّة التي تشير إليها كو 2: 4، 16- 23؛ رج أف 5: 6. ويشير سفر الأعمال (20: 29- 30) إلى قلق بولس في الخطبة التي ألقاها أمام شيوخ أفسس: حذّرهم من الذئاب الخاطفة التي ستجتاح القطيع. ولكنّ لوقا يؤوّن في هذا المكان أقوالَ الرسول ليدلّ على مشاكل عصره (حوالي 85). ففي الرج الأخير من القرن الأوّل بدأت الأزمة حين أخذ بعض المعلّمين الكذبة ينشرون أفكارهم في الجماعات الشرقيّة. ونحن نجد رسائلَ عديدةً تبين ردّة فعل المسيحيّة القويمة ضدّ غنوصيّة سابقة لأوانها.

أوّلاً: رسالة يهوذا
يصعب علينا أن نحدّد موقع هذا المؤلَّف القصير جدًّا في الزمان وفي المكان. هل اسم يهوذا، أخي يعقوب (رج لو 6: 16 ولكن لا مر 3: 18 ومت 10: 3 حيث نجد اسمي تدّاوس ولابا) هو اسم المؤلّف أم اسم مستعار؟ وهكذا يكون وضع ج مثل وضع يهو. في أيّ مكان سنبحث عن قرّائه، والرسالة لا تتضمّن أي تلميح ملموس إلى جماعة خاصّة؟ ويتحدّد الزمان بعض الشيء حين يعيد الكاتب المؤمنين إلى "الإيمان الذي تسلّمه القدّيسون مرّة واحدة" (آ 3)، وحين يلمّح إلى الرسل وكأنّهم أشخاص من الماضي أنبأوا بالصعوبات الحاضرة (آ 17- 19). نستنتج من هذا أنّه لا ينتمي إلى مجموعة الرسل، وأنّ نظرته إلى المشاكل الحاضرة تذكّرنا بنظرة لوقا في سفر الأعمال. وهذا ما يجعلنا نفكّر بزمن يقع بين سنة 80 وسنة 95، أي قبل أن يبرز في الأفق الخطر الآتي من السلطات العامّة. فتجاديف (آ 8) الأشرار (آ 4) تحوِّل نعمة الله إلى فجور. إنّهم ينكرون الله. لا نجد توضيحًا عن هذه المجموعة، ولكنّ تعليمهم يجرّ الناس إلى فوضى أخلاقيّة. امتزجوا بالمؤمنين وما زالوا يشاركون في عشاء المحبّة في الكنائس (آ 12). نحن هنا أمام إشارة ليتورجيّة. وإذ أراد الكاتب أن يندّد بهذه المجموعة، وسّع بعض المواضيع التي أخذها من التوراة (آ 7، 11) وعالم الخطابة اليونانيّ (آ 12- 13). واستعمل أيضاً تقليدًا أسطوريًّا قد يكون جاء من "انتقال موسى" أو من كتاب مشابه، وأورد بوضوح آية من سفر أخنوخ (آ 14- 16). فيبدو هكذا أنّه متّصل بالعالم اليهوديّ الجليانيّ الذي امتلك لائحة موسّعة من الأسفار المقدّسة. ولكنّنا نلاحظ في الوقت عينه أنّ لائحة الأسفار القانونيّة لم تكن محدَّدة داخل بعض الكنائس، أو بالأحرى كانوا يستعملون بعض الكتب اليهوديّة المأخوذة من القطاع الجليانيّ. وينهي الكاتب رسالته فيعطي تعليمات تنظِّم سلوك المؤمنين (آ 20- 23). إنّه لا يقدّم شيئًا جديدًا، ولكن يُعْلِمنا عن بعض وجهات مفيدة في وضع بعض كنائس الشرق.

ثانيًا: الرسائل الرعائيّة
نشير هنا إلى ثلاث رسائل ني المجموعة الرعائيّة: 1 تم، 2 تم، تي. نسبتها الأدبيّة هي موضوع جدال كما رأينا، والآراء تتعارض.
فالأسلوب يفترض كاتبًا حرًّا في تأليفه. والمواضيع المطروقة تشير إلى مشاكل جديدة قرب مشاكل خاصّة طُرحت على مبعوثي بولس في تتميم رسالتهم. أمّا تعبير اللاهوت فيشبه قليلاً لاهوت الرسائل الكبرى (روم، 1 كور، 2 كور، غل) أو رسائل المنفى (كو، أف...) حتّى ولو قبلنا بتطوّر في فكر الرسول. وتنظيمُ الكنائس العمليّ وتسميةُ الخدَم يختلفان عما نجد في الرسائل الكبرى وفي أف. ويفترض مضمون التعليم عن الحياة المسَيحيَّة إطارًا إجتماعيًّا يختلف بعض الشيء. ثمّ إنّ المسائل العقائديّة والتنظيميّة المتعلّقة بالحاضر اليوميّ لا تشبه ما نجد في سائر رسائل مار بولس.
ومن جهة ثانية يُبرز النقّادُ التلميحات إلى مسيرة بولس الرسوليّة: دعوته (1 تم 1: 12- 14) آلامه (2 تم 3: 10- 12)، خيبات أمله مع بعض المؤمنين (1 تم 1: 20)، بل مع بعض معاونيه (2 تم 1: 15؛ 4: 9- 10؛ 14، 16)، فرحه بأمانة الآخرين (2 تم 1: 3؛ تي 1: 5؛ 3: 12- 13؛ 2 تم 4: 9)، تربية تلميذه تيموثاوس (2 تم 1: 5؛ 3: 14- 15). ومواجهته مع الموت القريب تترجمه 2 تم 4: 6- 18 في كلمات مؤثّرة خلال محاكمة تمّت في رومة، جعلت بعض النقّاد يتكلّم عن بطاقة حميمة قد أقحمت فيما بعد في تأليف لعبت فيه يد ثانية.
أراد الكاتب أن يدعو الكنائس لتحافظ على الوديعة (1 تم 6: 20؛ 2 تم 1: 14؛ 2: 2؛ 3: 14) كما سلّمها الرسول أوّلاً إلى تلميذيه تيطس وتيموتاوس، ثانيًا إلى المسؤولين عن الجماعات المحلّيّة الذين سينقلونها بدورهم ويسهرون عليها. ولكنّ هذه "الوديعة" قد تكيّفت تكيّفات عمليّة من أجل الوضع الذي تبدّل. والمقاطع اللاهوتيّة تفترض معرفة بالرسائل البولسيّة وقراءة مواظِبة للتوراة (2 تم 3: 14- 16). من هذا القبيل تشكّل هذه الرسائل محطّة في تكوين القانون (أي لائحة الأسفار المقدّسة) المسيحيّ. أمّا التلميحات إلى سيرة بولس فقد تعود إلى تقاليد شفهيّة.
إنّ الإطار التاريخيّ للتأليف يفسِّر مضمون هذه الرسائل الثلاث: فطبقًا لما أنبأت به الكتب (1 تم 4: 1) عانت الجماعات من دعاية المعلّمين الكذبة (1 تم 1: 3- 6؛ 4: 1- 7؛ 6: 3- 5، 9- 10؛ تي 1: 10- 16؛ 2 تم 2: 14- 18؛ 3: 1- 9، 13؛ 4: 3- 4) فوجب عليها أن تجابههم. وتيموتاوس وتيطس، مبعوثا بولس الخاصّان في رسالاته، هما نموذج هؤلاء المسؤولين عن الكنائس. فيجب أن توكل مسؤوليّة الإيمان في الكنيسة المحلّيّة، ومسؤوليّة الاجتماعات، ومسؤوليّة العبادة المسيحيّة إلى رجال أكْفاء. وتعطيهم الرسائل تعليمات محدّدة (1 تم 3: 1- 13؛ 5: 17- 22؛ تي 1: 5- 9). وبنية الخدَم هي قريبة ممّا نجد في سفر الأعمال، وهي امتداد لبنية المسيحيّة المتهوّدة مع وجود القَسوس أو الشيوخ (1 تم 5: 17- 22، تي 1: 5- 6). ولكنّها تستعيد أيضاً ألقابًا تشهد بها الرسائل البولسيّة (فل 1: 1): الأسقف مذكور دومًا في صيغة المفرد (1 تم 3: 1- 7؛ تي 1: 7- 9)، والشمامسة (1 تم 3: 8- 13) يمارسون وظيفة محدودة، ويتألّفون من رجال ونساء (1 تم 3: 11؛ رج روم 16: 1). فالمساندة المتبادلة في الجماعات تُبرز مجموعة الأرامل اللواتي يكرّسن حياتهن للصلاة وعمل الخير (1 تم 5: 3- 16). إلاّ أنّ دور النساء في الجماعات الليتورجيّة ظلّ متأخّرًا بالنسبة إلى 1 كور 11: 3- 4: فالقاعدة المتّبعة في 1 تم 2: 11- 15 والتي تستعيد 1 كور 14: 33- 34 تنتج في الظاهر عن اختبار طويل وجَّه الممارسة نحو النموذج اليهوديّ. أمّا التعليم المعطى لفئات المؤمنين المتعدّدة، فيبدو بشكل تحريض عماديّ (1 تم 6: 1- 2، 17- 19؛ تي 1: 1- 10): إنّه يشير إلى جماعات منظّمة يسير فيها كلّ شيء بترتيب، على أن تبقى الجماعة مكان التعليم، وقراءة التوراة وشرحها، والصلاة. الشيوخ يرئسون الجماعة الآن فيقومون بوظيفة التعليم (1 تم 5: 17).
ونستشفّ هكذا الحياة العمليّة للكنائس المحلّيّة في نطاق جغرافيّ يضمّ عدّة مقاطعات شرقيّة في أوروبة وآسية (بما فيها كريت: في 1: 5). المقطوعات الليتورجيَّة الواردة قليلة جدًّا (أناشيد، مباركة أو رسمة عظة). أمّا التعليم فيرجع إلى السلطة الرسوليّة ليؤسّس حقّا وضعيًّا من أجل الخير العامّ: نحن هنا أمام وجهة من التقليد يجب على الجماعات أن تحفظها. وهكذا استُعيد هنا الشكل الأدبيّ للرسالة ليحدّد بعض نقاط السلوك المسيحيّ، وقد استُعمل هذا الشكل لينظِّم ليتورجيّا عماديّة نوافق بطرس (1 بط) وبولس (أف).

2- المجابهة مع الإمبراطوريّة الوثنيّة المضطهدة: سفر الرؤيا
قبل سنة 70 وفي أيّام سلالة فلافيوس، تميّز موقف الكنائس تجاه السلطات السياسيّة بالولاء، ولكنّه لم ينعم بالاعتراف الشرعيّ الذي نعم به العالم اليهوديّ الرسميّ. وهذا الموقف نجده في روم 13: 1- 7 و1 بط 2: 13- 17، في سفر الأعمال وفي الرسائل الرعائيّة (1 تم 2: 1- 2: نجد الصلاة من أجل السلطة؛ تي 3: 1). وإذا جعلنا هذا الموقف خارج الإطار اليهوديّ، وجدناه أبعد من الجواب حول الجزية التي تؤدَّى لقيصر: في هذا الجواب رفع يسوع الجدال فتجاوز المستوى السياسيّ الذي حصر اليهود الوطنيّون فيه أنفسهم (مر 12: 13- 17). ولا يدلّنا أي نصّ من الرسائل أنّ هذا الموقف تبدّل على إثْر اضطهادات نيرون التي كان ضحيّتَها مسيحيّو رومة. أمّا في عهد دوميسيانس (95- 96) فاصطدمت الكنيسة بجملتها بالسلطة الوثنيّة التوتاليتاريّة، ودل سفر الرؤيا على ردّة الفعل المسيحيّة أمام هذه المسألة الجديدة التي ذكرتهم بسياسة أنطيوخس إبّيفانيوس المضطِّهدة تجاه العالم اليهوديّ.

أوّلاً: الفنّ الأدبيّ والتعليم
العالم الجليانيّ هو عالم وُلد فيه اللاهوت المسيحيّ. ارتبط ارتباطاً وثيقًا بالتقليد النبويّ، ولكنّه خضع لقواعد أدبيّة خاصّة فترك أثرًا واضحًا في بعض خطب يسوع التي استعادتها المجموعات الإنجيليّة (مر 13: 1 ي وما يقابله من نصوص عند الإزائيّين)، وفي مقاطع من الرسائل تتعلّق بيوم الربّ والدينونة والقيامة الأخيرة (1 تس 4: 13- 18؛ 2 تس 1: 6- 10؛ 2: 3- 8؛ 1 كور 15: 20- 28، 51- 53)، وفي التعبير عن الرجاء المسيحيّ (رم 8: 18- 22)، وفي الكرستولوجيا (كو 2: 15). ولكنّ "وحي يسوع المسيح" الذي وُهب لنبيّه يوحنّا (رؤ 1: 1) هو "الكلمة النبويّة" (رؤ 22: 18) التي ترجع إلى هذا الفنّ الأدبيّ اليهوديّ لتوجِّه إلى الكنائس تعليمَ رجاء في وقت محنة يهدّد فيه الموت المؤمنين "من أجل، شهادة يسوع كلمة الله" (رؤ 6: 9؛ 20: 4). التعليم واضح: بدأ التنين (= الشيطان) حربًا ضد المرأة صاحبة الاثني عشر كوكبًا (= المسيحية الجديدة)، أمّ الولد الذكر (= المسيح يسوع) وباقي أبنائها (= المسيحيّون) (رؤ 12: 5- 5، 13- 17). لهذا جعل سلطانه في يد وحش البحر (= سلطة رومة السياسيّة: 13: 1- 10) الذي يخدمه وحش الأرض (= العالم الوثنيّ المسيطر) ويلعب دور النبيّ الكذّاب (13: 11- 18). حين وُضعت رومة في هذا الإطار لم تعد حاملة السلطة الشرعيّة التي تحدثت عنها الرسائل سابقًا، بل صارت الزانية الكبرى، وبابل التوراة (رؤ 17: 18) التي ينتظرها قضاء الله مع كلّ محازبيها (رؤ 19؛ 20: 7- 12). وعدد الوحش (13: 18) يقابل اسم "نيرون قيصر" الذي انتقل إلى دوميسيانس، ذلك النيرون الذي عاد إلى الحياة. إذًا، تحارب الكنيسة على الأرض. ولكنّ استشهادَ أبنائها يدلّ على أنّها تشارك منذ الآن في مجد الحمل المذبوح الذي هو المسيح القائم من الموت (رؤ 4- 5)، وأنّها بفضل هؤلاء الأبناء تستطيع أن تنتظر المشاركة في أعراسه في العالم الجديد (رؤ 19: 6- 9، 21- 22).
وتُضَّم إلى تعليم الرجاء الذي يملأ السفر كلّه، سبعُ رسائل وجهَّها إلى كنائس آسية النبيُّ المنفيّ في جزيرة بطمس (رؤ 1: 4- 3: 22). إنّها تستعيد بشكل فرديّ تعليم الرجاء عينه، وتزيد عليه تنبيهات ملحَّةً تشير إلى الصعوبات الخاصّة بكلّ كنيسة. نلاحظ في هذه الكنائس نشاط المعلّمين الكذبة (النقولاويّين) الذين يشبهون أولئك المذكورين في رسالة يهوذا وفي الرسائل الرعاويّة (رؤ 2: 6، 14- 16، 20- 25). ونلاحظ أيضاً عداء اليهود (رؤ 2: 9؛ 3: 9) وسقوط المؤمنين في الفتور والتراخي (رؤ 2: 4- 5، 3: 2- 3، 15- 17). تلك كانت حالة كنائس آسية حوالي سنة 95.

ثانيًا: متى ألِّف سفر الرؤيا
إذا كان الوجه الأخير للكتاب يرتبط باضطهاد دوميسيانس (حوالي سنة 95)، يبقى لنا أن نُخضِع النصّ لعملين. الأوّل: تحليل يُبرز موادَّ خاصّة تتعلّق بالليتورجيّا (أناشيد وهتافات)، بالكرازة (التنبيهات التي تتضمّنها الرسائل إلى الكنائس)، بتفسير الكتب المقدّسة وقراءتها قراءة مسيحيّة (وبالأخصّ حزقيال ودانيال وغيرهما من النصوص الخاصة التي تؤلّف نسيج الكتاب). تقدّمُ لنا هذه العناصرُ معلوماتٍ عن الاجتماعات في الكنيسة (مثل الحديث عن يوم الربّ، رؤ 1: 10؛ رج 1 كور 16: 2؛ أع 20: 7). العمل الثاني: نكتشف طبقات مختلفة قد تكون دوِّنت في أزمنة متفاوتة. قد يكون هناك نصّ يهوديّ قديم أعاد كتابتَه مؤلِّف مسيحيّ. وقد يكون أنّ النبوءة الموجَّهة ضدّ رومة في أيّام دوميسيانس استعادت نصوصاً دوِّنت في أيّام فسباسيانس يوم ميَّز دمارُ أورشليم تاريخًا مهمًّا في الإسكاتولوجيا المسيحيّة المتهوّدة. وجاء أخيرًا ناشرُ الكتاب، فوضع في المقدّمة الرسائل السبع التي هي صدى للحروب العقائديّة ضدّ اليهود (2: 9؛ 3: 9) والنقولاويّين (2: 6، 14- 15) والأنبياء الكذبة الذين يميلون نحو الغنوصيّة (2: 20- 25).
وهكذا تُرينا النظرةُ التكوينيّة وراء الكتاب إطارًا ليتورجيًّا يفسر الخاتمة (22: 20 ي) بعد أن ترك أثره في التاريخ الإفخارستيّ (3: 20) وفي لوحات من الليتورجيّا السماويّة (ف 4- 5؛ 6: 9- 11؛ 7: 9- 12؛ 14: 1- 3؛ 15: 2- 4؛ 19: 1- 4). ولكنّ التاريخ التأليفيّ والبحث عن المراجع يذكّراننا أنّ الأدب الجليانيّ ليس فقط وعظاً وغناء دينيًّا واحتفالاً ليتورجيًّا بل تعليمًا مكتوبًا ومعروضاً ليتأمّل فيه القرّاء (1: 3؛ 22: 18 ي). وقد يكون الكتاب قرئ في الجماعة، والأمر واضح بالنسبة إلى الرسائل السبع.
أمّا الكاتب فهو نبيّ. اسمه يوحنّا (1: 1- 2). جعله التقليدُ يوحنّا بنَ زبدى، مؤلّف الإنجيل الرابع، لا شكّ في أنّ هناك تقاربًا بين الرؤيا والإنجيل الرابع: المسيح هو الحمل المذبوح وهو كلمة الله... في الكتابين. ولكنّ الفروقات الأدبيّة كبيرة بحيث يصعب علينا أن نتصوّر أنّ الذي كتب الإنجيل هو الذي كتب الرؤيا. يهتمّ صاحب سفر الرؤيا بشعب إسرائيل (7: 1- 8) بأورشليم وبهيكلها (11: 1- 3)، ويستعيد نصوصاً كتابيّة عديدة (خاصّة حز ودا)، وهذا ما يدلّ على أنّه مسيحيّ متهوّد. وهو يعارض العالم اليهوديّ المتصلّب (2: 9، 3: 9) ويقدّم صورة شاملة عن الكنيسة (7: 14- 17؛ 21: 24). لغة الكتاب لغة بربريّة، ولهذا قيل إنّه أُلِّف في الآراميّة. ولكنّ أفضلَ افتراض هو أن نقول بمدرسة يوحنّاويّة ترتبط بها كلّ الأسفار التي وضعها التقليد تحت اسم يوحنّا.

د- تقليد يوحنّا
1- الإنجيل الرابع
أوّلاً: الإنجيل والشهادة
منذ القرن الثاني اعتبر التقليد القديم أنّ آسية الصغرى هي الوسط الذي دوِّن فيه الإنجيل الرابع في بداية عهد ترايانس (98- 117)، وبعد عودة السلام الدينيّ الذي حمله نارفا (96- 98). فليس من سبب قاطع يدفعنا إلى تبديل هذه النظرة باسم النقد الداخليّ. ولكنّ مسألة التقليد التي سبقت الإنجيل تبقى مفتوحة، فكانت إطارًا لتاريخه التأليفيّ ولتنظيم الموادّ الأوّليّة.
وتبقى مفتوحة أيضاً مسألة العلاقات بين الكتيِّب الانجيليّ وبين الوسط الثقافيّ الذي فيه دوّن: تقليد يهوديّ امتدّ في رابّانيّة فرّيسيّة، تقليد إسكندرانيّ ارتبط بفيلون، أتّصالات بنظريّة هرمس والعالم الغنوصيّ المولود حديثًا.
أمّا الكتيّب في شكله الحاليّ وتكوينه الأدبيّ فهو يدخل في الفنّ الأدبيّ الإنجيليّ الذي تحدّثنا عنه آنِفًا: عودة تاريخيّة إلى يسوع، رجوع إلى الكتب التي تبرز شخصيّة يسوع، رجوع إلى الآنيّة المسيحيّة حيث يفعل المسيح القائم في كنيسته ويكشف لها سرّ نشاطه الخلاصيّ. ولكنّ هذا الإنجيل يحدّد نفسه شهادة (يو 21: 24). إنّ الكتاب يتأمّل في أعمال يسوع، ويستمع إلى كلماته انطلاقًا من الآنيّة المسيحيّة: ففي لحمة الأخبار والخطب، نرى المسيح يحقّق الخلاص لأناس أمناء لكلمته، وذلك من خلال الحجاب الرمزيّ لتاريخ تمّ سابقًا. إنّه يتوجّه إلى كنيسته ليكشف لها سرّ وجوده وأعماله. بعد هذا، لن نبحث فقط عن حقيقة أخباره وخطبه في التذكّر بما حدث في حياة يسوع على الأرض، وفي استعادة الأقوال عينها التي تلفّظ بها. إنّ هذه الحقيقة تكن أيضاً في الشهادة التي يقدّمها الإنجيليّ عن المعنى العميق لهذه الأحداث، وعن البعد الكامل لهذه الكلمات لمؤمنين يجدون نفوسهم أمام ربّهم. فقراءة الأخبار والخطب اليوحنّاويّة تكون على مستويين. أوّلاً: في الإيمان اليوم حيث ندرك حضور المسيح الحيّ بفضل عمل الروح (يو 14: 26؛ 16: 13- 14). ثانيًا: في التجذّر التاريخيّ الذي لولاه لم يكن للمسيح الحيّ وجه حقيقيّ. وإنّ دَمْجَ هذين الأفقين يُعطي الكتاب أصالته الأدبيّة التي لا تجارى.

ثانيًا: تكوين الإنجيل
قد أشرنا سابقًا إلى تجذّر التقليد اليوحنّاويّ في اليهوديّة قبل سنة 70، كما أشرنا إلى بعض موادّه كما نجدها في متّى ولوقا (حوالي السنة 80). هذه الإشارات تجعلنا نستشفّ كيف انتقل التقليد المرتبط بالتلميذ الحبيب (يو 21: 24) من اليهوديّة إلى سورية ثمّ إلى آسية الصغرى حيث دوّن. هذا التقليد كان موضوع وعظ قبل أن يجمع ويدوَّن، فارتبط ارتباطاً وثيقًا بالجماعات المسيحيّة حيث أخذت كرازة التلميذ مكانها، كتذكير للزمن الذي فيه تحقّق إرسال ابن الله في الجسد، وكإعلان لحضوره الآتي في كلمة يبشّر بها، وكقبول لجسده ودمه. هكذا نفسّر التداخل الدائم بين اللحمة الإخباريّة التي نرى فيها يسوع يتكلّم ويعمل وبين المواضيع الأسراريّة التي تتجلّى في هذه اللحمة فتربطها بالاختبار العماديّ والإفخارستيّ. أمّا فيما يخصّ تاريخ التقليد، فمن الممكن أن تكون أولى التآليف المكتوبة لبعض الموادّ قد ظهرت حوالي السنة 80، وأنّه وجد فيما بعد "كتاب الآيات" (ف 1- 12). ما عدا المطلع، "وكتاب المجد" (ف 13: 20). ولكنّنا لا ننسى الزيادات والتحويرات وانتقال بعض النصوص من مكان إلى آخر.
ووصلت هذه المسيرة التأليفيّة المعقّدة إلى نسخة إجماليّة نجد خاتمتها في 20: 30. ومن الممكن أن تكون بدايتها (كما في الأناجيل الإزائيّة) شهادة يوحنّا المعمدان (1: 6- 8، 19 ي). أمّا النسخة الأخيرة التي جهّزها تلاميذ الإنجيليّ بعد موته (21: 23) فقد تركت أثرًا ملحوظاً في الفصل الأخير (ف 21) وفي المطلع الحاليّ الذي يتكوّن من نشيد للكلمة (1: 1- 5، 9- 14، 16- 18). وقد ينسب إلى هذه النسخة الأخيرة تأليفات يوحنّاويّة قديمة مثل بعض التكرارات (يو 14 يقابل 16: 16- 31)، والتوازيات مع الأناجيل الإزائية (15: 18- 16: 4)، أو الزيادات (3: 16- 21؛ 3: 31- 36؛ 17: 3) أو كتلة ضائعة (12: 44- 50). كلّ هذه المسائل هي موضوع جدال بين الاختصاصيّين. ولكن مهما يكن من أمر، فهناك نفحة لاهوتيّة واحدة بين الطبقات التأليفيّة المختلفة، نكتشفها رغم التبدّل في المنظور بين نسخة وأخرى.
هنا نشدّد على دور الجماعة الليتورجيّة كمكان لتكوين كلّ النصوص اليوحنّاويّة، الشفهيّة منها والخطّيّة. هذا لا يعني أنّنا نُخضع الكتاب إلى دورة من ثلاث سنوات تقرأ فيها النصوص الكتابيّة (كما في العالم اليهوديّ، على ما يبدو). ولكن إذا تذكّرنا أنّ السنة الليتورجيّة المسيحيّة المركّزة على فصح يسوع قد استعادت الإطار العامّ للسنة الليتورجيّة اليهوديّة، نفهم أن يكون الكاتب جعل أعمال يسوع في إطار الأعياد اليهوديّة الكبرى: الفصح والمظالّ والتدشين (6: 4؛ 7: 2؛ 10: 22). وهكذا يدلّ على أنّ هذه الأعياد تمّت في يسوع. وفي المقابل كان كتاب الساعة (بدأ في 13: 1) قراءة ليتورجيّة للاحتفال بالفصح المسيحيّ.

2- رسائل يوحنّا
أوّلاً: أصل النصوص
جاءت رسائل يوحنّا الثلاث من محيط الإنجيل: فالنشيد للكلمة في الإنجيل يرتبط ارتباطاً وثيقًا بالرسالة الأولى (1 يو 1: 1). وفي الرسالتين الثانية والثالثة يسمّي الكاتب نفسه "الشيخ" دون اسم علم (2 يو 1؛ 3 يو 1). لسنا أمام لقب رسول، بل لقب رئيس كنيسة في محيط مسيحيّ متهوّد. من أجل هذا ميّزت بعض النصوص الآبائيّة بين يوحنّا الرسول ويوحنّا الشيخ. ولكنّ اسم يوحنا بن زبدى ولقب رسول هما غائبان أيضاً من الإنجيل والرسائل، غير أننا نجد في الرسائل والإنجيل تقليد التلميذ الحبيب عينه. قد يكون تدخّل مؤلّفون عديدون في تدوين كلّ هذه الكتابات. ولكنّ مؤلِّف الرسائل يمكن أن يكون مسؤولاً عن إحدى الطبقات التأليفيّة التي نكتشفها في الإنجيل.

ثانيًا: 1 يو: رسالة أم كرازة؟
الرسالة الثانية هي بطاقة موجّهة من كنيسة (السيدة المصطفاة) أفسس حيث يقيم الشيخ، وهي تستعيد مواضيع عديدة تتوسّع فيها 1 يو، وتناهض المضلّلين الذين يدلّون على أنّ المسيح الدجّال ما زال يعمل (2 يو 7- 11). ووُجّهت الرسالة الثالثة إلى تلميذ اسمه غايوس فأعطت إيضاحات عن حياة الكنائس في أرض آسية: عمل الوعّاظ المتجوّلين، استقبال سيّئ لرئيس كنيسة يهمّه المقام الأوّل، سلوك أخ (أو رسول) اسمه ديمتريوس. نحن هنا أمام رسالة شخصيّة وهي تختلف عن 2 يو الموجّهة إلى الجماعة لتقرأ قراءة علنيّة.
ولكنّ 1 يو تختلف عن الثانية والثالثة. لا عنوان لها ولا خاتمة، وهي لا تبدو بشكل رسالة إلاّ في المقاطع التي يقول فيها المؤلّف: "أكتب إليكم" أو "كتبت إليكم" (1: 4؛ 2: 21، 7- 8، 12- 14، 21، 26؛ 5: 13). أمّا مجمل الرسالة فيبدو بشكل خطبة أو سلسلة من الخطب، وهذا ما يقرّبنا من يع، 1 بط، أف، مع اختلاف في الأسلوب. إذًا، نجد في كلّ هذه الرسائل أساسًا أدبيًّا بلاغيًّا واحدًا. ثمّ إنّ الإطار العماديّ الذي سيطر على تأليف 1 بط وأف ترك آثارًا واضحة في المواضيع الموسّعة هنا: اعتراف وغفران الخطايا، قبول وصيّة المحبّة، حرب ضدّ الشرير، اعتراف بيسوع كابن الله الذي جاء في الجسد، التزام بالإيمان الذي يؤمّن النصر على العالم... لا شكّ في أنّ التحذير من المسحاء الدجّالين (2: 18- 19، 22- 23؛ 4: 1- 6) يتجاوز الإطار العماديّ. ونحن نفهمه في الحالة التي تعيشها كنائس آسية: الحرب ضدّ المعلّمين الكذبة كما في يهو والرسائل الرعائيّة. وتتوضّح طبيعة الخطر الذي يهدّد الإيمان. نحن أمام ظاهريّة (قالت: لم يكن جسد يسوع حقيقة) ماثلتها المسيحيّة القديمة بنظام قارنتيس. ولكنّ إقحام هذه الحرب في النصّ لا يمنع أن تكون العظات المجموعة قد شَكّلت أوّلاً خطبات نموذجيّة لليتورجيّا عماديّة، هذا مع العلم أنّ تمييز المقاطع وترتيبها يطرحان مشاكل صعبة. وهكذا تكون 1 يو بالنسبة إلى التقليد اليوحنّاويّ ما كانت أف بالنسبة إلى التقليد البولسيّ وما كانت 1 بط بالنسبة إلى التقليد البطرسيّ مع فارق في الأسلوب وفي تدخّل الكاتب الذي جمع هذه العظات وأعطاها شكلها النهائيّ.

3- جذور التقليد اليوحنّاويّ
من الصعب أن نضع في المكان عينه التقليد البولسيّ حول أف والتقليد اليوحنّاويّ حول يو، 1 يو، 2 يو، 3 يو. فصمت أغناطيوس الأنطاكيّ (+ حوالي 110) وبوليكربوس الإزميريّ (+ حوالي 150) يقلقنا. ولكنّنا نجد عوضاً عنه ما قاله بوضوح بوليكرتيس الأفسسيّ وإيريناوس أسقف ليون الذي هاجر من آسية الصغرى إلى الغرب. إذًا، نستطيع أن نحتفظ بهذا المُعْطى من التقليد القديم ونترك على غاربها المجادلات حول مدوِّني الإنجيل والرسائل والرؤيا. فهناك يوحنّا بن زبدى الذي هو التلميذ الذي كان يسوع يحبّه، ويوحنّا الشيخ، مؤلّف الرسائل الذي تدخَّل في مرحلة من المراحل في تدوين الإنجيل، ويوحنّا النبيّ ومؤلّف الرؤيا. إنّ تماثل الأسماء الثلاثة أنتج دمج هذه الأسماء في تقليد القرن الثاني.

هـ - نحو مجموعة الأسفار المقدّسة
1- قانونيّة الكتابات الرسوليّة
حين تتبّعنا أثر انتشار الكنيسة حتّى بداية القرن الثاني وجدنا نشاطاً أدبيًّا أصيلاً شكَّل على هامش التوراة اليهوديّة مجموعةً من النصوص الوظيفيّة تهدف إلى تغذية حياة الإيمان وتنظيمها والتعبير عنها. وكان لهذه النصوص طابع القاعدة الإيمانيّة، لأنّها الشاهدة الحقيقيّة للتقليد الرسوليّ، وهذا بِغَضِّ النظر عن هُوِيَّةِ كاتبها. وهذا الطابع لا يعني فقط الشكل النهائيّ الذي اتّخذته هذه الأسفار لتدخل في المجموعة الحاضرة، بل يضمّ كلّ مراحل تكوينها وتأليفها. فلقد لعب التقليد دوره في إنتاجها وحفظها قبل أن تنضمّ إلى مجموعة أوسع. فيمكننا في هذا المجال أن نتكلّم عن قانونيّة حيّة يشهد عليها استعمال الكنائس لهذه النصوص. وبفضل هذه النصوص استطاعت الكنائس أن تتحقّق من مكانة التعليم الذي تسلّمته وسلّمته، ومن أمانة حياتها الجماعيّة للإنجيل الذي أعلنه رسل المسيح القائم من الموت. وفي الوقت ذاته، قدّمت هذه النصوص مبدأَ تفسير ساعدنا على قراءة التوراة اليهوديّة قراءة مسيحيّة.
لا شك في أنّ كلّ شيء لم يحفظ في الأدب الأوّل الذي تساعدنا الأسفار الحاليّة على اكتشاف أَثَرِهِ. ولكن ما بقي لم يُحفظ مصادفة: نحن أمام وثائق متنوّعة كانت لها منذ البداية سلطتها في الكنائس. والمبدأ ذاته يسري بأولى حجّة بالنسبة إلى الأسفار نفسها التي دوّنت اتّفاقًا لتلبّيَ حاجاتٍ عمليّةً في زمان ومكان محدَّدين. ولقد شدّدنا دومًا على حياة الجماعة المسيحيّة كموضع إنتاج كلّ هذا الأدب المسيحيّ. فبعد أن كانت الإطارَ السوسيولوجيّ الذي فيه تكوّنت هذه النصوص، عملت على جمعها في شميلة (الأناجيل، أعمال الرسل، الرسائل، الرؤيا) ثمّ في مجموعات جزئيّة. ووجود هذه المجموعات نال تثبيتًا من آخر ما دوّنه العهد الجديد، عَنَيْتُ بهما نهاية إنجيل مرقس ورسالة بطرس الثانية.

2- آخر نصوص العهد الجديد
أوّلاً: خاتمة إنجيل مرقس
إنّ مرقس ينتهي فجأة في 16: 8 في عدد كبير من الشهود مثل الفاتيكانيّ والسينائيّ، يسندهما إكلمنضوس الإسكندرانيّ وأوريجانس. ولكنّنا نجد في مكان آخر ثلاث خاتمات تطرح علينا مسألة هامّة في عالم نقد النصوص، فتشهد على التقليد الذي حمل إلينا نصّ إنجيل مرقس، ولكنّنا نقيِّم كلّ خاتمة بحسب قِدَمِها. في هذا الإطار نتفحّص مجموعة النصوص التي توردها هذه الخاتمات بطريقة غير مباشرة. أوّلاً: قول عرفه إيرونيموس (القرن الرابع) ولم يكتب في مكان آخر. هو قول جليانيّ ولا يبدو قديمًا جدًّا. ثانياً: خاتمة قصيرة تطعّمت على آ 8 ففرضت عودة إلى لوقا (لو 24: 9- 12 يذكر بطرس) وإلى سفر الأعمال (إعلان شامل لتعليم الخلاص). ولكنّنا نشكّ في قدمها. ثالثًا: خاتمة طويلة (مر 16: 9- 20) هي الأكثر شيوعًا. اعتبرتها لائحة القانون التريدينتينيّ قانونيّة بسبب قيمتها الكبيرة. إنها نسيج تلميحات إلى متّى (آ 15- 16، ق مت 28: 19- 20)، وإلى لوقا (آ 12- 13 ق لو 24: 13- 35؛ آ 14 ق لو 24: 36- 49) وإلى يوحنّا (آ 9- 10 ق يو 20: 11- 18؛ آ 14 ق يو 50: 19- 23)، وإلى سفر الأعمال (آ 17- 18؛ ق أع 2: 4؛ 9: 18؛ 10: 46؛ 28: 3- 6، 8). فصاحب هذه النصوص عرف إذًا مجموعة تضمّ الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال. ولقد أقرّ القرّاء بسلطة هذه المجموعة في الثلث الأوّل من القرن الثاني.

ثانيًا: رسالة بطرس الثانية
أراد كاتب 2 بط الذي اختبأ وراء هامة الرسل، أن يحفظ في الكنائس تقليد الرسول الذي اختاره الربّ وجعله على رأس كنيسته. وهكذا تبدو 2 بط وصيّة تركها الرسول قبل رحيله (1: 13- 15).
عرف كاتب 2 بط رسالة بطرس الأولى واستقى منها (3: 1)، كما أفاد من رسالة يهوذا وتابع جهادها ضدّ المعلّمين الكذبة، وكيَّف نصّها حسب هدفه. وهو إلى ذلك عرف مجموعاتٍ إنجيليّةً أخذ منها بصورة خاصّة مشهد تجلّي يسوع (1: 16- 18). وهو يستعمل أيضاً رسائل القدّيس بولس. هو لا يحدّد الكنيسة التي إليها يتوجّه، ولكنّ التلميح إلى 1 بط يدلّ على أنّ قرّاءه يعرفون هذه الرسالة. إذًا، نحن في آسية الصغرى، والأخطار التي تهدّد الإيمان واضحة جدًّا وسببها معلّمون كذبة حاربهم يهوذا والرسائل الرعائيّة (2 بط 2: 1- 2؛ 3: 3- 7). إنّ تأثيرهم المضرّ يتنامى. فيجابههم المؤلّف ليس فقط بشهادة التوراة النبوية التي وضعها أناس ألهمهم الروح القدس (1: 20- 2) بل بالشهادة الرسوليّة التي كشفت معرفة المسيح الحقيقيّة (1: 12- 18). فعلى المؤمنين أن يتذكّروا "الأشياء التي قالها الأنبياء القدّيسون، ووصيّة الرسل" التي هي "وصيّة الربّ والمخلصّ" (3: 2).
وتتمثّل هذه الشهادة الرسوليّة بكتابات، يذكر منها المؤلّف رسائل مار بولس التي ضمّت في مجموعة تشمل الرسائل الرعائيّة، وهو يجعلها على قدم المساواة مع سائر الكتب (أي كتب التوراة). هذه أولى الإشارات إلى مجموعة مسيحيّة. ولكنّ لا بدّ من فهم هذه النصوص فهمًا صحيحًا، لأنّ "الجهّال وضعفاء النفوس يحرّفون معناها" (3: 16). هذا التلميح يدلّ على أنّ هراطقة ذلك الوقت يستندون إلى أسفار العهدين ليعطوا تعليمهم أساسًا ظاهرًا. أمّا الوضع المصوَّر هنا، فهو وضع بداية القرن الثاني. إذًا يمكن أن تكون 2 بط كتبت بين سنة 110 وسنة 125. وتقليد بطرس الذي تحاول أن تحافظ عليه بقوّة وتعطيه سلطة تعليميّة، والارتكاز على سلطة الأسفار النبوّية (أي كلّ أسفار العهد القديم) والكتابات الرسوليّة، يفسّران أنّ 2 بط دخلت بين الأسفار القانونيّة فكانت آخر حلقة منها، فربطت أسفار العهد الجديد بأقدم كتابات الآباء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM