الفصل الخامس فلسطين: الأدب اليهوديّ

الفصل الخامس
فلسطين: الأدب اليهوديّ

يبدو أدبُ العالم اليهوديّ القديم، حتّى دمار أورشليم سنة 70 ب م، متشعّبًا ومتفرّقا. سنتحدّث عن ذلك الذي كُتب في اليونانيّة في فصل لاحق نجمع فيه كلَّ ما يعني يهود الشتات. ولكن لا ننسى أنّ اليونانيّة حفظت لنا من الضياع نصوصاً عبريّة وآراميّة عديدة. ثمّ إنّ هناك كتبًا تعود إلى السامريّين الذين انفصلوا عن اليهود بعد زمن الإسكندر، وأخرى تعود إلى جماعة قمران أو الإسيانيّين، سنتحدّث أيضاً عنها.
أمّا في هذا الفصل فنعالج أوّلاً: الترجوم والمدراش والتأويل اليهوديّ القديم. ونعالج ثانيًا الأسفار المنحولة التي ترجع إلى محيطات متعدّدة تمنعنا من اكتشاف قاسم مشترك يجمع بينها.

أ- الترجوم والمدراش والتأويل اليهوديّ القديم
احتلّت التوراة مكانة هامّة في العالم اليهوديّ. بدأ عزرا ونحميا عمل البناء وكمّله "السوفريم" أو رجال الأسفار والكتب، وعاونهم في ذلك نظام المجمع ليجعل الشريعة دستور الحياة اليهوديّة. إذن لا بدّ من جعلها في متناول الشعب. وظهر عمل التفسير والتعليم في نح 8: 1 ي. فانطلاقًا من نصّ كتابيّ محدَّد يَبرز نشاط أوّل هو ترجمة النصّ العبريّ الذي لم تعد تفهمه الجماعة. وهكذا حصلنا على السبعينيّة أو الترجمة اليونانيّة والترجوم أو الترجمة الآراميّة. ويَبرُزُ نشاطٌ ثانٍ على مستوى التأويل. وهكذا حصلنا على المدراش (من فعل درش. في العربيّة درس: بحث، فسّر الكتاب، تفحّصه).
نلاحظ في الكتابات البيبليّة الأخيرة عمل تفسير وتكييف للنصوص السابقة. مثلاً: قراءة التاريخ المقدّس في مز 78؛ حك 10- 19؛ حز 17. ونكتشف في هذا العمل الطرائق المدراشيّة التي ستتوسّع في آداب الرابّانيّين وفي الترجمة السبعينيّة وفي كتابات قمران.

1- الترجوم
الترجوم هو الترجمة والنقل. ولكنّه يدلّ عادة على ترجمات التوراة إلى الآراميّة لتُقرأ في المجامع. إنّ عادة ترجمة التوراة عادة قديمة سبقت المسيحيّة، ولكنّنا نجهل الزمن الذي فيه تراجعت العبريّة فلجأ المؤمنون إلى الترجمة في أرض فلسطين.
نحن نملك اليوم تراجيم (جمع ترجوم) التوراة كلّها (ما عدا عزرا ونحميا ودانيال) وقد أُلِّفت على مدى عشرة قرون من الزمن. بدأ الترجوم كتفسير شفهيّ نقلته الذاكرة، وتحقّق توافقٌ لتفسير المقاطع الصعبة والقراءات المعروفة وبالأخصّ قراءات الأعياد. وحين دُوِّنت هذه التراجيم صارت الإسهابات تقليديّة وأُقحمت في الترجمة الكاملة. وهكذا تضمّنت النسخاتُ الترجوميّةُ طبقاتٍ تحريريّةً تعود إلى أوقات مختلفة. طابعها الأوّل طابع شفهيّ، والإطار الذي ولدت فيه هو المجمع.
اكتشفت تراجيم في قمران (أجزاء من لا 16 وأي 17- 42)، فدلّ هذا الاكتشاف على وجود نصوص مكتوبة في القرن الأوّل ق م. هذا يؤكّد البراهين التي استنتجها العلماء من إيرادات نصوص العهد الجديد (أف 4: 8 تورد مز 68: 19) ويوسيفوس، والنصوص السريانيّة التي نُقلت في القرن الأوّل ب م فجاءت قريبة من الترجوم الفلسطينيّ. ولكنّنا لم نتأكّد بعد من استعمال تراجيم قمران في المجامع.
ويعود ترجوم البنتاتوكس (أسفار موسى الخمسة) الرسميّ (أونكلوس) وترجوم الأنبياء (يوناتان بن عزيئيل) إلى تحرير فلسطينيّ في آراميّة أدبيّة. وهذا التحرير كان أساس النشرات المتدرّجة في أكاديميّات بابل (حتّى القرنين الرابع والخامس ب م). وجاءت تراجيم أخرى للبنتاتوكس من فلسطين فمثّلت تفرّعات لشكل من الترجوم الشفهيّ لم يدوَّن يومًا في نسخة رسميّة موحّدة، بل دوِّن في القرنين الثاني والثالث في نمط من الآراميّة العامّيّة التي تكلّم بها الناس في القرن الأوّل ب م.
إنّ أهمّيّة الترجوم لتفسير العهد الجديد معروفة، لأنّ الموادّ التي ينقلها قديمة، وهي تبيّن كيف كانوا يفهمون التوراة في ذلك الوقت. فالعهد الجديد لم يرث توراة مترجمة فقط، بل توراة مفسّرة. كانوا يستندون إلى الترجوم لفهم نصّ كتابيّ. وبما أنّ الترجوم يصدر عن المجمع فهذا يعني أنّ التأويل الذي يقدّمه هو تقليديّ ومشترك بين الجماعات. ونشير إلى أنّ النسخات الفلسطينيّة لم تخضع لمراقبة الرابّانيّين فقدّمت لنا تفاسير نجد ما يوازيها في بعض الكتب المنحولة مثل سفر اليوبيلات.
ليس الترجوم نقلاً بالمعنى الحديث. ولهذا تكن أهمّيته في أساليب التفسير والتقنيّات التأويليّة وموقفه تجاه النصّ الملهم. كلّ هذا يجعلنا قريبين من النشاط المدراشيّ. فقبل الترجمة نفهم النصّ ونتفحّصه. وعلى النقل أن يجعل النصّ حيًّا وآنيًّا، واضحًا ومفهومًا، وأن يُكَيِّفَه بحواشي وإسهابات مع أفكار من الزمن والمحيط الذي ولد فيه. وهكذا يرتبط الترجوَم والمدراش بإطار واحد. أما الفرق الأساسيّ فالترجوم يظلّ ضمن حدود ترجمة تفسيرية، أما المدراش فيطلق العنان لتفسيره.

2- المدراش
المدراش ظاهرة معقَّدة ومحيِّرة، لأنّهُ ينطوي على كلّ البحث الكتابيّ كما كان الأقدمون يفهمونه. أمّا سِمته الجوهريّة فارتباطه بالكتاب وتأوينه للكتاب في كلّ وجهاته. وهو من جهة مضمونه يبدو في شكلين. فالبحث في الأقسام الإخباريّة أعطانا المدراش هاغادة (أي أخبر. من هنا المدراش الإخباريّ) الذي يتفحّص معنى الأخبار البيبليّة ويتوسّع فيها ليوضح معنى أحداث الماضي. أمِّا البحث في الأقسام التشريعيّة فيؤول إلى المدراش هلكه (أي سلك. من هنا المدراش السلوكيّ) الذي يصوغ قواعدَ عمليّةً ويحاول أن يجد تبرير العادةِ أو العُرْفِ. فالمدراش الإخباريّ يضمّ كلّ القصص والأساطير والتوسّعات الأخلاقيّة والتقوّية. والمدراش السلوكيّ يدلّ على تشريع محدَّد أو مجمل التشاريع.
ونتيجة هذا البحث (مدراش في المعنى العامّ) هي المدراشيم (أو المدارش). احتفظ العلماء بالتسمية ليدلّوا على تجميعات رابّانيّة متأخّرة، إلاّ أنّنا نستطيع أن نجعل معها بعض النصوص المنحولة (اليوبيلات، فيلون المزعوم...) وكتابات قمران (أبّوكريف التكوين). وتفسير (بشر في العبريّة) قمران هو شكل مدراش خاصّ وتأوين تاريخيّ يطبّق النبؤات القديمة على وضع خاصّ بجماعة العهد الجديد ويرى أنّها تَمَّتْ في هذه الجماعة. وقراءة الحاضر والمستقبل في الإعلان النبويّ على ضوء مجيء المسيح هي سِمة تميّز تأويل العهد الجديد.

3- مبادئ وقواعد التأويل اليهوديّ القديم
إنّ طريقة معالجة النص الملهم تدلّ على حرّيّة خلاقة وتكشف طرائق وأساليب ستصاغ فيما بعد في تواعد محدّدة.
فالمبدأ الأساسيّ هو أنّ الكتاب ملهَم. ونحن نلاحظ علاقة بين توسع المدراش والوعي التدريجيّ لقانون الأسفار المقدّسة. فلا يمكن أن تتضمّن التوراة خطأَ أو تناقضاً. لهذا يُحاول المدراش أن يجد تناسقًا بين النصوص التي تبدو متنافرة لأوّل وهلة (مثلاً: خر 12: 19 وتث 16: 8 عن الخبز الفطير أو تك 4: 26 وخر 6: 4 عن كشف اسم الله)، وأن يملأ فراغاتٍ ظاهرةً، وأن يشرح كلّ الصعوبات والتعقيدات (1 صم 13: 1). بما أنّ الكتاب هو كلام الله، فكلّ شيء فيه له معناه وبعده: كلمة لا قيمة لها، لفظة تتردّد، حدث بسيط. كلّ هذا له مدلوله العميق ويتطلّب بحثًا. وبما أنّ الوحي الإلهيّ انتهى، فكلّ شيء قد قيل. فعلى التوراة أن تقدّم الجواب لكلّ المسائل والحقائق والتقاليد التي تتوافق وكلَّ عصر. فعلى المفسّرِ أن يكتشف من خلال المعنى الحَرفيّ المدلولاتِ الخفيّةَ، وأن يفهم التعليم العمليّ الذي يجيب عن تساؤلات جديدة تطرحها أوضاع متغيرة. لهذ نقبل بسهولة أن يكون للنصّ الواحد معانٍ متعدّدة.
وهناك مبدأ أساسيّ آخر: يجب أن نعتبر التوراة كوحدة متكاملة. فكلّ مقطع يفسّره الكتاب كلّه. لا يهتمّ الشارح بالتقاليد والقرائن المختلفة والمفارقات التاريخيّة. تكفيه تطابقات لفظيّة ووجود كلمة واحدة في مقطعين ليؤسّس تأويلاً بالقياس. فَيُكَمِّلُ نصّاً غامضاً بنصّ أوضحَ ويستعين بتعليمات تاريخيّة مأخوذة من قرينة أخرى. ويربط بين مقاطع متلاحقة فيعطيها معنى جديدًا (مثلا بين عد 19 وعد 20 طقس ماء الطهور وموت مريم). ويقابل المدراش بين شخصين مختلفين (سام وملكيصادق، لابان وبلعام) ويعطي اسمًا لمن لا اسم له، ويعيد تأليف خبر بيبليّ منطلقًا من معطيات شعبيّة صارت تقليديّة. ويزول كلّ منظور تاريخيّ فيصبح عالم التوراة عالم المفسّر.
كلّ هذا وصل بنا إلى قواعد تفسيريّة تُنْسَبُ أقدمُها إلى هلاّل (بداية القرن الأوّل ب م) ولكنّها مأخوذة من العالم الهلّينيّ. أمّا أشهر قاعدتين فهما: البرهان بالحريّ، والبرهان بالقياس.

ب- الأسفار المنحولة في العالم اليوديّ الفلسطينيّ
استُعْمِلَت كلمة أبوكريف (أي منحول) لتدلّ على آداب الغنوصيّين الخفيّة، ولكنّها امتدّت إلى كلّ الأسفار التي رُذِلَتْ من بين الأسفار القانونيّة وكانت غريبة عن آداب الرابّانيّين. لا وحدة تجمع بين هذه المؤلّفات. بعضها كُتب في العبريّة، أو الآراميّة، والبعض الآخر دُوِّن مباشرة في اليونانيّة. بعضها ارتبط بمحيط قمران الكهنوتيّ وبعضها الآخر بالتيّار الفرّيسيّ، أو جاء من عالم الشتات. هناك مؤلّفات دوِّنت في العبريّة والآراميّة، ولكنّ المخطوطات لم تحتفظ لنا إلاّ بالنصّ اليونانيّ أو اللاتينيّ أو الآراميّ أو القبطيّ أو الحبشيّ أو السلافيّ. ولكن في أيّ حال، رذلها الرابّانيّون المتشدّدون فحافظ عليها المسيحيّون. ولكنّنا وجدنا أيضاً أجزاءً من هذه الأسفار المنحولة في مغاور قمران وفي خزانة (غنيزه) القاهرة.
يمكننا أن نقسم هذه الأسفار المنحولة كما نقسم أسفار التوراة. ولكنّنا احتفظنا بالفئات التالية: أخبار ممزوجة بالأساطير، تعليمات في شكل إخباريّ، تعليمات في شكل أقواليّ، نصوص شعريّة (مزامير أو حكم) ورؤى. بالإضافة إلى ذلك هناك مؤلّفات قصّرها الناسخون المسيحيّون وحوَّروها وصحّحوها. وهناك مؤلّفات ضاعت ولم يبق لنا منها إلاّ ما نقرأه عند الآباء أو الكتّاب السريان والبيزنطيّين.
نترك جانبًا الكتب الآتية من العالم اليوناني أو من مغاور قمران، لأنّنا سنعود إليها. ونلاحظ أنّ الكتَّاب اختبأوا وراء شخصيّة معروفة في التوراة: آدم وحواء، أخنوخ، نوح، إبراهيم وسائر الآباء، لاوي وسلالته إلى موسى، داود وسليمان، الأنبياء.

1- حول شخصية "النبيّ" أخنوخ
أوّلاً: الأدب الأخنوخي القديم
يبدأ "أبّوكريف التكوين" الذي وجد في قمران، بخبر سيرَوي منسوب إلى لامك: قَلقَ بسبب ولادة ابنه نوح العجيبة، فأرسل أباه متوشالح ليسأل جدّه أخنوخ في الفردوس. وهنا تأتي سلسلة من الأخبار والرؤى أبطالها هم آباء ما قبل الطوفان. أمّا أخنوخ "الذي اختطفه الله" (تك 5: 24)، فكان النبيّ المفضّل الذي استُودع أسرار الله وأعلن عنها. وتوسّعت أسطورته بعد أن اتّصلت بأساطير البابليّين التي عرفها يهود الشتات الشرقيّ. هناك تكوّنت التقاليد المجموعة في الكتب الأولى المنسوبة إلى أخنوخ: دوّنت في الآراميّة ووجدت منها أجزاء في مخطوطات عديدة في قمران.
أمّا أقدم الكتب فهو "الكتاب الفلكيّ" (أخنوخ 72- 82) الذي يحدّد أسس روزنامة شمسيّة نجدها في "اليوبيلات" وقد استعملتها جماعة قمران وعرفها المؤرّخ الكهنوتيّ. ويمكننا أن نحدّد القرن الثالث كزمن لتأليف "كتاب الساهرين" أو الملائكة الساقطين المسؤولين عن إفساد الأرض قبل الطوفان (تك 6: 1- 3). فهذا المؤلَّف المتعدّد العناصر (1 أخنوخ 1- 36) عُرف في اليونانيّة والآراميّة. يقدّم لنا شهادة أخنوخ على الساهرين ويروي أسفاره إلى فردوس الِبرّ حيث سينقله الله.
أمّا "كتاب الأحلام" (1 أخنوخ 83- 90) فهو رؤيا معاصرة لسفر دانيال (164 ق م). لم يعرف صاحبُ "اليوبيلات" (بين 125 و110) إلاّ هذه الكتب الثلاثة. بعد هذا انضمّت إليها "رسالة أخنوخ" (1 أخنوخ 91- 104) التي أقحمت فيها "رؤى الأسابيع" التي تعود إلى نهاية القرن الثاني. وأتاحت لنا محفوظات قمران أن نستعيد "كتاب الجبابرة" (رج تك 6: 4- 6) الذي احتفظ به المانويّون.
هل كوّنت هذه الكتب الخمسة بنتاتوكسًا منسوبًا إلى أخنوخ؟ مهما يكن من أمر، إنّ المؤلَّف نال في الترجمة اليونانيّة زيادات نكتشفها بسهولة (1 أخنوخ 106- 107، 108). ووضع "كتاب الأمثال" (1 أخنوخ 37- 64؛ 69: 26- 29) في وسط المجموعات مع زيادات يكون بطلها نوح (65: 1- 69: 25) وأخنوخ (70- 71). إنّ لجزء "الأمثال" أهمّيّة لاهوتيّة كبيرة لأنّه يلخِّص اعتقادات كاتبهِ الإسكاتولوجيّة، ويقدّم لنا، بشكل ديَّان في اليومِ الأخير وصانع الخلاص، شخصاً مسيحانيًّا يسمّيه تارة مختارَ الِبرّ وطَورًا ابنَ الإنسان. قد يكون الكاتب قدَّم في شميلة واحدة ثلاث صور موجودة في الكتب النبويّة: المسيح الداوديّ في أش 11، المختار في أش 42 و49، ابن الإنسان في دا 7. ربط العلماء هذا القمقم بقمران، ولكن لا ذكر فيه للمسيحانيّة الكهنوتيّة. وقال آخرون إنّه كتاب مسيحيّ دوِّن في القرن الثالث، ولكن لا تلميح فيه إلى موت المسيح. لهذا اعتبر الآخرون أنّنا أمام مؤلّف يهوديّ دوّن في القرن الأوّل ب م.
انتشر سفر أخنوخ في اليونانيّة في المحيط المسيحيّ (رج يهو 14- 15) واحتفظ لنا الآباء والمؤرّخون البيزنطيّون والبرديّات بأجزاء مهمّة منه. أمّا النصّ الكامل فموجود في ترجمة حبشيّة، وقد جُعل مع سائر أسفار التوراة. يبدو الكتاب تجمّعًا من الفنون الأدبيّة. ولكنّ الفنّ السائد هو الرؤيا: كشفُ أسرار السماء والأرض، كَشفُ مخطّطات الله في التاريخ. يشدّد أخنوخ على الإسكاتولوجيا الفرديّة أكثر من دانيال. وإنّ العهد الجديد سيستعمل الصور عن الفردوس والجحيم والبحر الأوّل كما وجدها في أخنوخ.

ثانيًا: الأدب الأخنوخيّ الحديث
يلتصق "كتاب أسرار أخنوخ" (2 أخنوخ) بالكتاب السابق ويأخذ عددًا من عناصره: اختطاف أخنوخ الذي يَعْبُرُ سبعَ سماوات، كشف أسرار الأرض والسماء، الإنباء بالطوفان، والتعليمات إلى متوشالح. ويزيد: مولد ولد عجيب سيُرفع إلى الفردوس لينجو من الطوفان ويصبح كاهن البشريّة: إنّه ملكيصادق المولود من عذراء. احتفظت لنا اللغة السلافيّة بترجمتين، وقد نُقلت القصيرة منهما في القرن العاشر عن اليونانيّة.
أمّا "كتاب أخنوخ الثالث" فهو تقميش رابّانيّ يعرّفنا بصوفيّة المركبة (رج حز 1- 3) اليهوديّة. دوِّن في القرن الثالث أو بعد ذلك، ولكنّه استعاد موادَّ قديمةً قد تُلقي ضوءًا على مقاطع من العهد الجديد (2 كور 12: 1- 4 أو سفر الرؤيا).

2- كتاب اليوبيلات
إنّ كتاب تقسيم الأزمنة حسب "يوبيلاتها وأسابيعها" هو في الواقع "رؤيا موسى" الذي نال وحيًا على جبل سيناء حين تلقّى فرائض الشريعة كلَّها. يستعيد الكاتب في هذا الإطار الاصطلاحيّ التاريخ الكتابيّ منذ الخلق إلى الخروج من مصر، ويدخله في 50 يوبيلاً من السنين. وبعد هذه الفترة الرمزيّة، يدخل إسرائيلُ إلى إرض الموعد. يطالب الكاتب بالأمانة للروزنامة الشمسيّة كما نجدها في سفر أخنوخ. وإذ يأخذ موادّ إخباريّة فهو يلخصّها تارةً ويتوسّع فيها طورًا، مستعينًا بأساطيرَ استقاها من سفر أخنوخ أو وصيّة لاوي أو أبّوكريف التكوين، وكلّها محفوظة في المحيطات الكهنوتيّة المتشدّدة. نكتشف في هذا الكتاب روح جماعة قمران في صراعها المرير ضدّ السلالة الحشمونيّة المتَّهمة بتدنيس الهيكل... وُجدت أجزاء من النصّ العبريّ في مغاور قمران ومقاطع يونانيّة وسريانيّة ولاتينيّة. أمّا النصّ الكامل فهو محفوظ في اللغة الحبشيّة. يبدو أنّ الكتاب دُوِّن في أيّام يوحنّا هركانس بين سنة 125 وسنة 110 ق م.

3- الوصيّات (جمع وصيّة)
إنّ لفنّ الوصيّة الأدبيّ سوابق في التوراة (تك 49؛ تث 33؛ 1 مل 2؛ طو 4؛ 14: 3- 11). قبل أن يموت السلف يعطي أبناءه تعليمات يوجّهها إلى نسلهم: ينقل إليهم إيحاءات حصل عليها ويُنْبِئُهم بالمستقبل. يستفيد الكاتب من إطار إخباريّ (هاغاده) أسطوري فيقدّم قواعد حياة (هلكه) حكيمة ومقاطع جليانيّة.

أوّلاً: وصيَّات الآباء
وصلت إلينا من خزانة القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر أجزاء من "وصيّة لاوي" في الآراميّة. ثمّ وجدت "وصيَّات الآباء الاثني عشر" في مخطوط يونانيّ في جبل آتوس في اليونان. ووصلت إلينا أيضاً من مغاور قمران أجزاء من "وصية نفتالي" في العبريّة. تعود "وصيّة لاوي" إلى القرن الثالث ق م وهي ترتبط بمعهد شكيم القديم، وتبرِّر حقوق الكهنوت اللاويّ، وتحدِّد قواعد ليتورجيّة لتكريس الكهنة وتقديم الذبائح، وتشدِّد على ضرورة حياة مقدّسة. صارت هذه الوصيّة إرث قمران، فاستعملها كتاب "اليوبيلات". وزيدت على هذا المؤلَّف القديم وصيّتان أخريان: أقوال ورؤى عمران بن قهات بن لاوي المعروفة بواسطة أجزاء من المغارة القمرانيّة الرابعة. ثم "وصيّة قهات"، المعروفة بجزء واحد. ولكنّنا نجد عند الآباء أثرًا لهذه النصوص المترجمة إلى اليونانية. وتذكر "التأسيسات الرسوليّة" "كتاب الآباء الثلاثة" الذي يشير إلى هذه الوصيَّات الثلاث. نحن إذًا أمام مؤلَّف سبق الإسيانيّين وفرض نفسه في قمران.
أيّن دونت "وصيّات الآباء الاثني عشر" التي وصلتنا في ترجمة يونانيّة (نسخات عديدة) وترجمة أرمنيّة؟ في محيط ساميٍّ. ولكن يبدو أن يدًا مسيحيّة زادت بعض الأمور. مثلاً: الكاهن الجديد، ابن داود وابن لاوي هو يسوع.

ثانيًا: وصيَّات أخرى
ترد "وصيّة موسى" تحت اسم "انتقال موسى"، لأنّها ارتبطت بكتاب منحول عرفته العصور المسيحيّة القديمة. نملك مقاطع في اليونانيّة ونصّاً لاتينيًّا يكاد يكون كاملاً. أمّا الأصل فآراميّ أو عبرانيّ، ودليلنا إلى ذلك طرق التعبير الساميّة. الإطار هو خبر أسطوريّ: قبل أن يموت موسى، سلّم إلى يشوع وصيّته وأقامه في وظيفته (1، 11- 13). أمّا الوصيّة فرؤيا تكشف مستقبل إسرائيل (5- 10) وترسم الخطوط الكبرى لتاريخه. يندِّد الكتاب بالملوك الكهنة الحشمونيّين والكهنة الصادوقيّين والمعلّمين الفرّيسيّين (5: 1- 6: 1) ويتحدّث عن مُلك هيرودس وخلافته ويصل إلى حرب فاروس وعزل أرخيلاوس وينتهي بتوسعّ على الأزمنة الأخيرة: محنة واضطهاد، هرب الكاهن الأمين (تاكسو) إلى الصحراء، نهاية العالم وخلاص إسرائيل. ألِّف الكتاب بين سنة 7 وسنة 30 ب م في محيط أسيانيّ، فدلّ على القلق الإسكاتولوجيّ الذي حرَّك العقول في اليهوديّة قبل رسالة يوحنّا المعمدان ويسوع المسيح.
والمؤلَّف المسمَّى "وصيّة إبراهيم"، ليس وصيّة بل أسطورة تتعلّق بموت إبراهيم. أعطيَ لإبراهيمَ أن يتأمّل في السماء وأن يرى جرائم الأرض ودينونة النفوس المثلّثة. من هذا القبيل انتمى الكتاب إلى الأدب الجليانيّ. دوِّنت "وصيّة إبراهيم" في القرن الأوّل أو الثاني ولكنّها حوِّرت فيما بعد. ثمّ كانت ترجمات عديدة في العصر الوسيط قامت بها جماعات مسيحيّة وزادت عليها وصيّة إسحق ووصيّة يعقوب. هذا ما نجده في القبطيّة والعربيّة والحبشيّة.
"وصيّة أيوب" هي تفسير أسطوريّ لعناصر مأخوذة من سفر أيّوب. نجد خطبًا وأناشيد وصلوات مطبوعة بالطابع الأخلاقيّ. وفي النهاية يحمل الملائكة نفس أيّوب إلى السماء. دوِّن الكتاب حوالي السنة 40 وأشار إلى هجمة الفراتيّين على فلسطين. دوِّن في العبريّة أو الآراميّة، ولكن لم يبقَ لنا إلاّ الترجمة اليونانيّة.

4- مزامير سليمان
تتضمّن مجموعة المزامير المنسوبة إلى سليمان 18 مزمورًا. دوّنت في العبريّة ونقلت إلى اليونانيّة ومنها إلى السريانيّة. هناك تلميحات تاريخيّة تشير إلى احتلال بومبيوس لأورشليم سنة 63 وموته بعد معركة فرساليس سنة 48. إذًا، دوَّنت مزامير سليمان بين سنة 69 و47. أين دوِّنت؟ في محيط فرّيسيّ يشدّد على المسيح الداوديّ وعلى الرجاء بالقيامة.

5- توسّعات إخباريّة
أوّلاً: "القديميّات البيبليّة" لفيلون المزعوم
يروي هذا الكتاب التاريخ المقدّس منذ آدم إلى موت شاول. يستعيد عناصر من النصّ التوراتيّ ويقحم بينها تقاليد إخباريّة مثلاً: في زمن القضاة، تمتدّ قصّة قناز (قض 3: 9- 11) على فصول عديدة. من هذا القبيل تذكّرنا "القديميّات" بأبّوكريف التكوين الذي وُجد في قمران. كاتبها هو كاتب فرّيسيّ جمع عناصر تستعمل للوعظ في المجامع. أُلّف الكتاب في القرن الأوّل ب م وربمّا قبل سنة 70. ألِّف في العبريّة ونقل إلى اليونانيّة ثمّ إلى اللاتينيّة.

ثانيًا: توسّعات إخباريّة أخرى
نجد سلسلة من الأسفار المنحولة تدور حول شخص آدم. نقلت عن اليونانيّة إلى السريانيّة والعربيّة والقبطيّة والحبشيّة والأرمنيّة. نحن أمام مؤلَّفات مسيحيّة استَقَت من عناصر تعود إلى العالم اليهوديّ. أقدم هذه الكتب "رؤيا موسى". إنّه مدراش يتوسعّ في تك 1- 4. يتأمّل في خطيئة البدايات وتوبة آدم وحوّاء (كتاب اليوبيلات) وفي حياتهما حتّى موتهما. حصل موسى على كلّ هذه المعرفة يوم تسلَّم لوحي الوصايا.
عرف الرابّانيّون والآباء تقليد "استشهاد أشعيا" الذي اندمج في كتاب يبدو قسمه الثاني بشكل رؤيا مسيحيّة يصعد فيها أشعيا إلى السماء ويحصل على وحي عن المسيح الآتي. قد يكون الكتاب دوِّن في القرن الثاني ب م على يد مسيحيّ من أصل يهوديّ.
ووُجد "استشهاد أشعيا" في "حياة الأنبياء" وهو جملة أخبار تستند إلى مجموعة يهوديّة دوِّنت في الآراميّة أو العبريّة في القرن الأوّل أو القرن الثاني. ولكن جاءت يد مسيحيّة فحوّرت النصوص الأصليّة فلمّحت إلى مت 5: 12؛ 23: 23، 30- 31، 37.

6- رؤى منحولة
دشّن الأدبَ الجليانيّ سفرُ دانيال وسفرُ أخنوخ. وستتكاثر الكتبُ الجليانيّة. ذكَرنا "وصيّةَ موسى" و"صيّة إبراهيم". وقدّمت لنا مغاورُ قمران أجزاءً عديدة. وسوف تتكاثر بعد سنة 70 ودمار أورشليم قبل أن تقاوم السلطات الرابّانيّة التيَّار الفكريّ الذي تمثّله هذه الأسفار.

أوّلاً: سفر باروك الثاني
تقع "رؤيا باروك" (محفوظة في ترجمة سريانيّة) في إطار إخباريّ يقرّبها من "أخبار إرميا". نرى النبيّ قبل وبعد دمار أورشليم. ينقسم الكتاب سبعة أقسام محدّدة في أماكن مختلفة: في أورشليم، في الهيكل، في حبرون، تحت السنديانة. يتضمّن القسم الأخير رسالة باروك. تتكوّن الأقسام الأولى من صلوات وأسئلة يطرحها النبيّ وأجوبة يرسلها الله. أمّا الأسئلة فتدّل على اهتمامات الكاتب: معنى دمار أورشليم، دينونة الله العادلة، مبدأ الثواب والعقاب الفرديّ، مجيء المسيح، مصير البشر الأخير.
دوِّن الكتاب بعد سنة 70 ولكن قبل "رسالة برنابا" (حوالي سنة 140) التي تذكر الكتاب. دوِّن في فلسطين وأرسِل إلى الجماعات اليهوديّة في الشتات. اقتصر تأثيره على العالم السريانيّ دون غيره.

ثانيًا: سفر عزرا الرابع
"رؤيا عزرا" الكبيرة هي كتاب مؤلَّف من سبع رؤىً. في الثلاثة الأولى يحصل النبيّ على جواب عن أسئلة تثيرها في عقله محنةُ إسرائيل. ونلاحظ اعتبارًا عن نتائج خطيئة آدم وعن الإسكاتولوجيّا الفرديّة. في الرؤى الثلاث اللاحقة، يتأمّل عزرا في أورشليم المرسومة بشكل امرأة، ويتحدّث عن التاريخ مستعينًا برمز النسر الكبير. ويدلّ على مجيء المسيح بصورة إنسان. وتتعلّق الرؤية الأخيرة بأسطورة عزرا الذي تنسب إليه الأسفار القانونيّة الأربعة والعشرون وسبعون كتابًا مخفيًّا.
دوّن الكتاب في الآراميّة، فضاع الأصل ووجدت ترجمات منها اللاتينيّة والسرّيانيّة.

ثالثًا: رؤى أخرى
الرؤى الأخرى عديدة ولكنّها اقتباسات مسيحيّة لتقاليد ونصوص يهوديّة. احتفظت لنا اللغة القبطية "برؤيا إيليّا" التي تتضمّن صورة عن المسيح الدجّال. واحتفظ لنا الخطوط القبطيّ عينه "برؤيا صفنيا" وتأمّلها في السماء وجهنّم. ثمّ إنّ "رؤيا باروك اليونانيّة" هي خبرُ سَفَر إلى السماء وجهنّم. ودوِّنت "رؤيا إبراهيم" في لغة ساميّة في القرن الأوّل أو الثاني ب م على يد يهوديّ صاحب ميول غنوصيّة. وهناك "رؤيا عزرا اليونانيّة" التي هي كتاب مسيحيّ. أمّا "رؤيا حزقيال" المعروفة في إيرادات آبائيّة فتعود إلى العالم اليهوديّ. ولكنّنا لا نعرف متى دوِّنت.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM