مخافة الله عند الوثنيّين

مخافة الله عند الوثنيّين

اعتاد المؤمن ولا سيّما في الديانات التوحيديّة أن يعتبر نفسه وحده أهلاً للخلاص. فإذا أراد الذين لا يؤمنون إيمانه أن يخلصوا، فعليهم أن يعتنقوا دينه. فأنا وحدي من الشعب المختار، أمّا الآخرون فمرذولون. أنا وحدي أعمل الخير، وكلّ ما يفعله من لا يؤمن إيماني، إنّما هو شرّ. وخارجًا عن الجماعة التي أنتمي إليها، لا يمكن لأحد أن ينال الخلاص، بل هو ماضٍ إلى الهلاك، إلى النار. هذا ما ظنّه إبراهيم نفسه حين اعتبر أنّ مخافة الله لا يمكن أن توجد عند الوثنيّين. ولكن بما أنّه «نبي» كما يقول نصّ سفر التكوين (20: 7)، فهم أنّ كلّ إنسان يستطيع أن يفعل الخير، لأنّ الضمير الذي هو صوت الله فينا، موجود لدى المؤمن أو من لا يؤمن إيماني. وشريعة الربّ مكتوبة في قلوب جميع البشر. يبقى علينا أن نكتشفها ونشهد لها، نحن الذين وصلت إلينا في الوحي، لئلاّ يجدّف أحدٌ على اسم الله بسببنا إن نحن خالفناها (روم 2: 24). ماذا يعلّمنا الكتاب المقدّس في هذا المجال؟

1- إبراهيم في جرار

يروي سفر التكوين في الفصل 20 أنّ إبراهيم انتقل إلى الجنوب، إلى النقب، ونزل بمدينة جرار التي لم يبقَ منها اليوم أثر. هو وحده مع امرأته. غريب في أرض غريبة. إذن، هو ضعيف ولا يقدر أن يدافع عن نفسه. من أجل هذا أخذت منه امرأته. وإذ أراد أن ينجو بحياته، قال: «هي أختي». فأخذها ملك جرار. هذا ما كان يُفعل في القديم، بل اليوم في أماكن عديدة. يستبيح الملك لنفسه كلّ شيء، كما فعل آخاب حين أخذ أرض نابوت، وكما فعل داود حين قتل أوريّا الحثّي (وهو غريب) وأخذ له امرأته بتشابع، بل هذا ما يفعله القويّ مع الضعيف في كلّ العصور، أو الجماعة المسيطرة مهما كان نوعُ سيطرتها.

ولكن يبدو أن ملك جرار هذا، واسمه أبيمالك (أي أبي ملك، الله هو أبي وهو ملك)، عرف أنّ سارة ليست أخت إبراهيم، بل زوجته. أتراها قالت له بعض الشيء؟ الأمر ممكن. فالكاتب لا يتوقّف عند الظروف البشريّة، بل يرفعنا دومًا إلى مستوى الوحي ويُفهمنا أنّ أبيمالك عرف حقيقة سارة. الله كلّمه، كما كلّم إبراهيم. وهدّده كما سوف يهدّد شعب يهوذا وإسرائيل مرارًا، إن هم خطئوا. إن كنت اقتربت من هذه المرأة، سوف تموت. سمع ملك جرار صوت الله الحقيقيّ. وبينّ أنّه بريء. قال: بسلامة قلبي ونقاوة يديّ فعلت هذا. واللافت هنا أنّ الربّ اعترف بأنّ هذا الملك تمتّع بسلامة القلب ونقاوة اليدين. لهذا قال: «أنا عرفتُ». والمعرفة في الكتاب المقدّس تعني القرب. ولأنّ الربّ عرف أبيمالك، منعه من الخطيئة. كيف ذلك؟ هذا يبقى سرٌّا بين الله وكلّ واحد منّا.

سمع أبيمالك صوت الله، كما سمعه صموئيل. وأطاعه طاعة لا تردّد فيها. لهذا يقول الكتاب: «بكّر في الغد واستدعى جميع رجاله وأخبرهم بكلّ ما جرى، فخافوا خوفًا شديدًا» (تك 20: 8). أجل، انتقلت مخافة الملك إلى قلب عبيده. من يخاف الله يحفظ وصاياه: لا يقتل، لا يسرق، لا يزني، لا يظلم قريبه. وهذا ما فعله ملك جرار، فردّ لإبراهيم ما أخذ منه، وعوّض عليه. كان إبراهيم قد ظنّ أن ''لا وجود لخوف الله في هذا المكان'' (20: 11). ولكن كلاّ. أمّا كيف اكتشف أبيمالك صوت الله؟ من خلال الظروف التي حدثت له. لأنّ الله يكلّمنا بواسطة الأشخاص، وقد يكون كلّم الملك بواسطة سارة الضعيفة التي لم يكن لها من يدافع عنها سوى الله. ويكلّمنا أيضًا من خلال ما يحصل لنا. ويبدو أنّ زوجة أبيمالك لم تحبل. فرأى الملك في هذا العقم إشارة جعلته يسمع صوت الله ويطيعه بحيث لا يخطأ.

2- خبرة يونان

اختبر إبراهيم «وهو نبيّ يصلّي» (تك 20: 7) وجود مخافة الله عند الملك الوثنيّ، ورأى كيف أنّ هذه المخافة انتقلت إلى عبيده. فالكتاب يقول إنّ بإمكان الجميع أن يكتشفوا وجود الله. يكفيهم أن ينظروا إلى الطبيعة، إلى الأرض وما عليها، والسماء بكواكبها ونجومها. وإن هم لا يكتشفون هذا الوجود، فلا عذر لهم. إن كانوا عبدوا النجوم لأنّهم فُتنوا بجمالها، فليعرفوا كم الربّ الذي خلقها هو أجمل منها. وإن عبدوا بعض المخلوقات بسبب عظمتها، فعليهم أن يصلوا إلى صانعها الذي هو أعظم منها (سفر الحكمة 13: 1-6).

وما اختبره إبراهيم، اختبره نبيّ آخر متزمّت اسمه يونان. عاش في أيّام يربعام الثاني (783-743 ق.م.)، كما يقول سفر الملوك الثاني (14: 25). طلب منه الربّ أن يمضي إلى نينوى ويدعوها إلى التوبة. نتذكّر هنا أنّ نينوى وقعت على شاطئ دجلة، تجاه الموصل الحاليّة، في العراق. كانت عاصمة الأشوريّين الوثنيّين. بل أكثر من ذلك، عُرفت بالظلم والوحشيّة والهمجيّة التي مارستها في المنطقة، من دمشق إلى السامرة وصيدا...

رفض يونان أن يمضي إلى تلك المدينة الوثنيّة، بل الخاطئة التي وصلت شرورها إلى السماء. وبدلاً من أن يمضي من فلسطين ويتوجّه إلى الشرق، أخذ الطريق المعاكسة، ومضى باتّجاه الغرب. ركب سفينة، بعد أن حسب أنّ يد الله لن تصل إليه في البعيد هناك.

لا شكّ في أنّه خاف، وخوفه يرمز إلى خوف شعوب قاست الأمرّين من هذه الجيوش. ثمّ هو اعتبر أنّ كلامه لن ينفع في شيء. أتُراه بهذه البلاهة ليمضي ويدعو هذه المدينة إلى التوبة؟ وإن هي تابت هل ستكون توبتها أفضل من توبة أورشليم أو السامرة؟ ستكون «كسحابة الصبح وكالندى الذي يزول باكرًا» (هوشع 6: 4).

وأعطاه الربّ علامة أولى. حين كان في السفينة، هبّت عاصفة، فأخذ البحّارة الوثنيّون يرفعون الصلوات إلى الله ويقدّمون الذبائح. أمّا هو «فاضطجع واستغرق في النوم» (يونان 1: 5). وهكذا احتاج إلى أشخاص لا يؤمنون إيمانه أن يعلّموه اللجوء إلى الله.

ورُمي يونان في البحر، ونجا من الموت. واعتبر أنّ الأمور انتهت هنا. ما أراد بعدُ أن يسمع صوت الله، ولا رفع إليه دعاء. أمّا البحّارة فصرخوا إلى الربّ وقالوا: «أيّها الربّ لا تهلكنا بسبب هذا الرجل» (1: 14). ويتابع النصّ في 1: 16: «فخاف الرجال الربّ خوفًا عظيمًا».

وعاد الربّ يقول ليونان: «قم اذهب إلى نينوى، المدينة العظيمة، ونادِ بما أقول لك» (3: 1). حينئذٍ «قام يونان وذهب إلى نينوى كما كلّمه الربّ» (3: 3). وأخذ ينادي أهلها بالتوبة. ولكن هل تتوب هذه المدينة العظيمة التي يستغرق اجتيازها ثلاثة أيّام؟ نعم. سوف تتوب ولو كانت خاطئة. لأنّ الربّ لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن الخطيئة لكي يحيا. هذا ما قال حزقيال. وهذا ما اختبره يونان. بدأ يقول وكأنّه يتشفّى بما ستصير إليه المدينة: «بعد أربعين يومًا تُدمّر نينوى» (3: 4). وفي الواقع، سيقف في نهاية الأربعين يومًا، شرقيّ المدينة، وينتظر دمار المدينة عقابًا لها على أفعالها. ولكنّ الربّ لم يدمّر.

فهذا الملك الوثنيّ «الشرّير» تاب هو وعبيده. بل والحيوان الذي يملكون. يقول سفر يونان: «وبلغ الخبر ملك نينوى، فقام عن عرشه وخلع رداءه ولبس مسحًا وجلس على الرماد» (3: 6). تلك هي علامات التوبة المنظورة. وما فعله هذا الملك، طلبه من عبيده: صيام، مسوح، صراخ إلى الله. «لعلّ الله يرجع ويندم». (3: 9). وفي الواقع، رجع الله وندم. وما دمّر المدينة.

عندئذٍ غضب يونان. أين هذا الإله العادل لا يعاقب كلّ ظالم على الأرض، ويسمح له أن يرتاح ويمرح في خير سلبه من الضعفاء؟ تعجّب النبيّ أوّلاً. فالوثنيّ لا يقدر أن يعرف الله. يجب أن يصير منا، ويعتقد عقيدتنا ليحقّ له الخلاص. ثمّ رفض تصرّف الله الذي لا ينتقم من الظالمين. ولكن سيقول الربّ في الرسالة الثانية لبطرس: الله يتأخر في عقابه، «الله يصبر عليكم لأنّه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع» (2 بط 3: 9).

 

3- لم أجد مثل هذا الإيمان في إسرائيل

تلك كانت صرخة يسوع أمام تصرّف قائد المئة، الرومانيّ، الوثنيّ، الذي يمثّل الاحتلال في الأرض المقدّسة، ويدنّس الهيكل حين يدخله مع جيشه ليفرض الأمن. لاقى يسوع الإيمان عند العديدين الذين جاؤوا يطلبون الشفاء أو المغفرة. مثلاً، قال للخاطئة: «إيمانك خلّصك فاذهبي بسلام» (لو 7: 50). وليائيرُس، رئيس المجمع، الذي جاء من يخبره بأنّ ابنته ماتت بحيث انتفت الحاجة إلى إزعاج المعلّم. فقال يسوع: «لا تخف! يكفي أن تؤمن فتُشفى ابنتك». (لو 8: 50). ومع ذلك، هتف الربُّ حين سمع كلام قائد المئة: «ما وجدتُ مثل هذا الإيمان حتّى في إسرائيل» (لو 7: 19).

فهذا الرجل الوثنيّ آمن، وعبّر عن إيمانه بطريقة دلّت بأفصح صورة أنّه مقتنع كلّ الاقتناع بقدرة يسوع على المرض. قابل بين تصرّفه مع رؤسائه ومرؤوسيه، وتصرّف يسوع. يكفي قائد المئة أن يقول للجندي: «اذهب»، فيذهب. ويكفي يسوع أن يقول للمرض «انصرف» فينصرف وتعود الصحّة إلى المريض.

هنا نتذكّر أن لوقا كتب إنجيله ووجّهه إلى الوثنيّين. فهم أيضُا مدعوّون إلى الخلاص، بل سيكون لهم الأفضليّة، والمثال على ذلك الابن الأصغر في مثل الابن الضال (لو 15): ذبح له أبوه العجل المسمّن. أمّا إنجيل متّى، فبدا مرتبطًا بالعالم اليهوديّ، وفهم الرسل في بادئ الأمر أنّهم لن يذهبوا إلى الوثنيّين، ولن يدخلوا إلى مدن السامريّين بل يمضون فقط إلى «الخراف الضالّة من بني إسرائيل» (متّى 10: 5-6). وهم سيغضبون على امرأة وثنيّة جاءت تطلب الشفاء لابنتها. فالخبز هو للبنين، هو لأبناء الشعب المختار. هو للذين في الداخل، من أهل البيت، لا للذين من الخارج الذي يُدعون «الكلاب» لأنّ الكلب يعيش خارج البيت، ومن ليس من ديني لا يُعتبر إنسانًا. كم نحن بحاجة حتّى اليوم أن نفهم أنّ الإنسان، أيٌّا كان، هو على صورة الله ومثاله. فلا يحقّ لي أن أقتله أو أسلبه أو آخذ منه ما يملكه، لأنّه ليس من ديني.

تأخّر الرسل ليفهموا هذه الحقيقة، ورافقهم يسوع في عدم فهمهم. ولكنّهم في النهاية سمعوه يقول لهم: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (متّى 28: 19)، لا الأمّة اليهوديّة وحدها. فالله ليس إله شعب، بل هو إله جميع الشعوب. ولا هو إله دين واحد، بل، كما قال بطرس الرسول: «فمن خافه من أيّة أمّة كانت وعمل الخير كان مقبولاً عنده» (أعمال الرسل 10: 35). كان اليهود الذي رافقوا بطرس يعتبرون أنّ الإنجيل لا يمكن أن يصل إلى الوثنيّين، فعليهم أن يُختتنوا، أن يدخلوا في شعب خاصّ ليخلصوا. ولكنّهم أخطأوا خطأ فادحًا، وفي النهاية، رُذلوا لأنّهم أرادوا أن يستأثروا بالله وكأنّه لهم وحدهم. أمّا كورنيليوس، رئيس الفرقة الرومانيّة، الذي كان تقيٌّا يخاف الله (أع 10: 1)، فنال الروح القدس مع جميع أهل بيته وتعمّدوا باسم يسوع المسيح (10: 47-48).

خاتمة

في عالم يعرف تمازج الشعوب والأديان، نحتاج الكثير الكثير لكي نقبل الآخر وإن اختلف عنّا بالبلد والعرق والدين والطائفة. فالله هو إله الجميع، لا إله فئة من الفئات. والافتخار في هذا المجال، يدلّ على أنّنا ما زلنا أطفالاً ولم نصل إلى النضوج الذي يريده الربّ لكلّ واحد منّا. إنّ مخافة الله موجودة لدى كلّ إنسان. وإن حسبتُ نفسي من أبناء إبراهيم وما أثمرت ثمرًا يليق بالتوبة، صرتُ كشجرة يجب أن تُقطع وتُلقى في النار. فهم إبراهيم أنّ مخافة الله موجودة عند أناس ليسوا من قبيلته. وفهم يونان أنّ نينوى الوثنيّة الشرّيرة تابت وعادت إلى الربّ، ساعة رفضت أورشليم فلحقها الدمار سنة 587 ق.م. وفهم الرسل أيضًا. ونحن أيضًا نتعلّم أن نكتشف مخافة الله أينما وُجدت، ولا نحسب نفوسنا من صنف مميّز، لأنّنا من ديانة مميّزة. فالربّ وحده يعرف الذين هم له، وهو وحده سيحاسب كلّ واحد على كلّ عمل من أعماله، شرٌّا كان أم خ

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM