غضبي عليك، ظلمتني

غضبي عليك، ظلمتني

تلك كانت ردّة فعل سارة (ساراي)، زوجة أبرام (=إبراهيم) حين قدّمت جاريتها لزوجها ليكون له منها ولد. فحبلت هذه الجارية التي اسمها هاجر، ورأت نفسها أكبر من سيّدتها فاحتقرتها. خافت سارة أن تقول شيئًا لتلك التي صارت زوجة «ثانية» لزوجها، فصبّت غضبها على إبراهيم: غضبي عليك. أنا ناقمة عليك. ظلمتني ظلمًا، وأنت المسؤول عن العار الذي لحق بي. كان لها عار العقم، وها حلّ بها عارٌ من جاريتها التي فعلت ما لم تستطع السيّدة أن تفعل. ونقرأ النصّ الكتابيّ:

وأمّا ساراي امرأة أبرام، فلم تلد له. وكانت لها جارية مصريّة اسمها هاجر. فقالت ساراي لأبرام: ''الربُّ منع عنّي الولادة. فادخُل على جاريتي لعلّ الربّ يرزقني منها بنين''. فسمع أبرام لكلام ساراي. فأخذت ساراي، امرأة أبرام، هاجر المصريّة، جاريتها، وأعطتها لأبرام لتكون له زوجة. فدخل أبرام على هاجر فحبلت. فلمّا رأت أنّها حبلت، صغُرت سيّدتها في عينيها. فقالت ساراي لأبرام: ''غضبي عليك! دفعتُ جاريتي إلى حضنك. فلمّا رأت أنّها حبلت صغرتُ في عينيها''. فقال أبرام لساراي: ''هذه جاريتك في يدك، فافعلي بها ما يحلو لك.'' فأخذت ساراي تذلّها حتّى هربت من وجهها. ووجد ملاك الربّ هاجر على عين ماء في البريّة.

1- بين الأميرة والجارية

ساراي أو سارة هي الأميرة. هاجر هي الغريبة وقد تكون الجارة. هي الجارية، وقد سُمّيت كذلك لخفّتها وكثرة جريها. وكانت تعتبر في العالم القديم تلك التي تساعد السيّدة على إعطاء أولاد لزوجها، إن كانت عقيمة. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى سارة، وبالنسبة إلى راحيل زوجة يعقوب. ولكن ما يلفت النظر في هذا النصّ، هو أنّه يذكر اسم الجارية، مع أنّ الجارية لم يكن لها اسم. فاسمُها في وظيفتها.

سارة هي امرأة إبراهيم التي رافقته في حلّه وترحاله. هي من يحبّها زوجها، ولا يزال يفضّلها مع أنّها لم تلد له. هنا نتذكّر امرأة ثانية لم تلد لزوجها. هي حنّة، أمّ صموئيل. حزنت لأنّ لا ولد لها. فقال لها زوجها: أما أنت خير من عشرة بنين. هنا تُحترم المرأة لنفسها، يحترمها الرجل، كما هي تحترمه. فالمرأة التي تكون في البيت ابنة أبيها، وحين تتزوّج تصبح زوجة فلان. وحين يكون لها ولدٌ ذكر تسمّى باسم ابنها البكر، تبدو وكأنّ لا اسم لها. وفي هذا لن تختلف كثيرًا عن الجارية: هي في خدمة الرجل، في خدمة أولاده.

في هذا الإطار تعيش سارة. هي متزوّجة. وكم تتمنّى أن تكون أمٌّا، شأنها شأن كلّ امرأة. لهذا، كان الكتاب قد قال: «كانت ساراي عاقرًا لا ولد لها». (تك 11: 30). والناس يعتبرون أنّ الأولاد عطيّة من الله. وبما أنّ سارة لا ولد لها، فهمت أنّ الربّ منع عنها الولادة. أمّا في هذا النصّ فنقرأ: «لم تلد له». وهكذا يكون الولد ابن إبراهيم. فيجب على المرأة أن تؤمّن لزوجها ما له ليستمرّ اسمه. أمّا هي فإن زال اسمها، لا بأس. فنحن نعرف قايين ولا نعرف امرأته. ونعرف هابيل ونوحًا وغيرهما، ولا نعرف اسم نسائهم.

ذاك هو المستوى البشريّ. والرجل يرى أنّ امرأته لم تعطه ولدًا، يطلّقها ويأخذ غيرها. وفي أحسن الأحوال يتزوّج عليها ويرميها في زاوية من زوايا البيت. وحتّى في أيّامنا، تبقى الصعوبات كثيرة في بيت لا أولاد فيه. تجاه عنف المجتمع، تصرّفت سارة تصرّفًا كاد يهدم لها بيتها. أدخلت بينها وبين زوجها امرأة أخرى. تلك هي التجربة البشريّة منذ البداية. منذ العيلة الأولى التي أرادت أن تصل «إلى معرفة الخير والشر». ما انتظرت الله أن يعطيها، بل طلبت من الحيّة التي تمثّل عالم الشرّ. أمّا سليمان فنال حكمة طلبها من الربّ «لكي يميّز الخير من الشرّ» (1 مل 3: 4). وكذا نقول عن جماعة برج بابل. أرادوا أن يصلوا إلى الله بقواهم الخاصّة مع ملك مستبدّ يجعل الناس يعملون في السخرة. فلم يصلوا. بل وصل إبراهيم الذي تلقّى نداء من الربّ فلبّى النداء.

وسارة طلبت وسيلة لكي يكون لإبراهيم ولد. ولو عارضت هذه الوسيلةُ أمرَ الربّ في بداية الكون: «يصير الاثنان (لا الثلاثة) جسدًا واحدًا». هل نسيت أنّ الربّ وعد إبراهيم وأنّه يفي بوعده ساعة هو يشاء؟ وربّما رأت الله «ضعيفًا» فأرادت أن تساعده، ولكنها أخذت طريق الوثنيّين، لا طريق المؤمن، كما سيفعل إبراهيم حين يحاول أن يذبح ابنه كما كان يفعل المحيطُ الذي يعيش فيه. وماذا كانت النتيجة؟ لم يكن لسارة ولد. والآن، لم يعد لها زوج بعد أن «ارتبط» إبراهيم بالجارية، وحسبها زوجة له، وأخذ يدعوها باسمها: هاجر. فكانت الصرخة. عادة نقول: ماذا فعلتُ للربّ ليفعل بي ما فعل؟ أمّا هي فصبّت جام غضبها على زوجها، واعتبرته المسؤول عن الوضع الذي هي فيه.

2- مسؤوليّة إبراهيم

ويُطرح السؤال: أين هي مسؤوليّة إبراهيم، بعد أن أطاع امرأته، ففعل كما طلبت منه؟ أترى قال شيئًا لامرأته فأحسّت بعارها؟ أترى هدّدها؟ في أيّ حال، سواء كان الوضع سيّئًا أو عبّر الرجل عن إرادته، فالمرأة لا يحقّ لها أن تعترض. أما هذا الذي حصل لسارة لمّا كانت مع إبراهيم في مصر: قولي أنتِ أختي. ما أجابت بشيء. والسكوت جواب. وحصل لها ما حصل. بحيث اغتنى إبراهيم بسببها. فيا ليت إبراهيم تصرّف كما تصرّف والد صموئيل حين قال لامرأته التي أحسّت أنّها ظلمت زوجها، فأخطأت في إحساسها: «لماذا يكتئب قلبك (يا حنّة)؟ أما أنا خير لك من عشرة بنين» (1 صم 1: 8)؟ ويا ليت سارة صلّت كما صلّت حنّة: «كانت تصلّي في قلبها، وشفتاها لا تتحرّكان ولا تُخرجان صوتًا... من شدّة الحزن والغمّ».

أجل، خطئ إبراهيم لأنّه لم يفعل. وخطئ لأنّه أطاع امرأته، وقبِلَ الشرّ الذي عرضته عليه. أما كان يجب أن يرفض لها ما تطلب؟ ولكنّ الأنانيّة هي هنا: لم تلد له سارة. إذن، يأخذ امرأة تلد له، وإن لم تكن امرأته. بل يجعلها زوجة له، وينسى ما يمكن أن يحصل لسارة التي صارت «جارية» تتكبّر عليها هاجر، بعد أن كانت السيّدة في بيتها. أمّا الخطأ الثالث والأهمّ، فهو أنّ أبرام نسيَ وعد الله: «من يخرج من صلبك هو يرثك». (تك 4). ومع أنّه آمن فحُسبَ له إيمانه برٌّا، إلاّ أنّه رأى الله تأخّر. وفعل كما فعلت سارة، فاراد أن يكون أحدُ خدمه وريثًا له: أليعازر الدمشقيّ.

وسقط إبراهيم في التجربة التي عُرضت عليه، فصار بيتُه جحيمًا. نال ولدًا من الجارية، لا من السيّدة، ولكنّ هذا الولد لن يكون له. هذا لم يفهمه إبراهيم الآن، ولكنّه سيفهمه فيما بعد: «سأرجع إليك في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة، ويكون لسارة امرأتك ابن» (تك 18: 10). وهكذا شابه أبو الآباء آدم، وسقط كما سقط أبوانا الأولان. وكما يسقط كلّ إنسان يجعل الله جانبًا، ويتصرّف بطرق بشريّة محضة. هو يتطلّع إلى الهدف، ويأخذ الوسائل التي يراها مناسبة، ولو كانت تحطيم الناس الذين حوله. أراد أن يرتاح ممّا يقوله المجتمع، فأساء التصرّف مع امرأته، وما منع عنها العنف الذي يحيط بها لأنّها «لم تلد له». وأراد أن يرتاح من غضب امرأته، فسلّم إليها الجارية التي أعطته ولدًا: جاريتكِ في يدك، فافعلي بها ما تشائين. ودخلت سارة في منطق العنف فطردت الأمة، وهكذا ردّت بطريقتها على تصرّف هاجر: أحسّت أنّها ذُلّت بعد أن حبلت جاريتُها، فأخذت تُذلّ الجارية حتّى هربت من وجهها. فمتى ينتهي منطق العنف هذا الذي تولّده خطيئة الإنسان؟ حين نعود إلى الربّ، أو ندعوه لكي يعود إلينا ويردّنا من عمق ضلالنا.

3- من أليصابات إلى مريم العذراء

روى إنجيل لوقا أنّ أليصابات وزكريّا كانا بارّين عند الله. يتبعان جميع أحكامه ووصاياه. ومع ذلك لم يكن لهما ولد. كم نحن بعيدون عن عقليّة تجعل غياب الولد من البيت عقابًا من الله، وغضبًا على المرأة. ففي سفر الحكمة يقول لنا الكتاب: «فهنيئًا للعاقر التي لم تتدنّس ولم تعرف الزنى، لأنّها ستنال ثمرتها في يوم الحساب» (3: 13). ويتابع سفرُ الحكمة فيقول: «خير للإنسان أن يكون بلا أولاد، لكنّه يمتلك الفضيلة، لأنّ ذكرها خالد، ولأنّها مكرّمة عند الله وعند الإنسان» (4: 1). فنسل الزنى يكون ملعونًا، وأبناء الزنى أشرارًا. فهناك نسلٌ من نوع آخر يتحدّث عنه آشعيا موجّهًا كلامه إلى أورشليم: «رنّمي، أيتها العاقر التي لا ولد لها. أجيدي الترنيم واهتفي التي ما عرفت أوجاع الولادة» (54: 3). ففي النهاية، سيكون أولادك أكثر من أولاد من لهنّ أولاد. ويتابع آشعيا فيقول: «لا تخافي، فأنتِ لا تخزين ولا تخجلين، لأنّ العار لا يلحقك» (54: 4). فالربّ هو عريسك، والقدير هو فاديك، وبرأفة أبديّة يرحمك.

هذا ما نطبّقه على النساء اللواتي انتظرن الربّ أن يعطيهنّ ابنًا. ويطبَّق بشكل خاصّ على أليصابات التي قال عنها الإنجيل: «كانت عاقرًا». كبرت في السنّ هي وزوجها. فكيف سيكون لهما ولد. ولكنّ الربّ هو العاطي. وحبلت أليصابات «فأخفت أمرها خمسة أشهر وكانت تقول: ''هكذا فعل لي الربّ لينزع عاري من بين الناس» (لو 1: 24-25). وسيتفوّق نسلُ أليصابات على نسل النساء اللواتي كثُر أبناؤهنّ. فكان الناس يقولون: ما عساه يكون هذا الصبيّ! وسيكون ذاك الذي يهيئ الطريق للربّ. كما كانت أليصابات العاقر، علامة بعيدة عن مريم العذراء التي ولدت وهي في البتوليّة، التي حبلت ولم تعرف رجلاً، فكان ابنُها أخًا لإخوة كثيرين.

هنا نعود إلى سفر الحكمة أيضًا الذي يتحدّث عن أولاد كثيرين لدى الأشرار، ولكن لا فائدة منهم (4: 3). هل هذا يعني أنّه من الأفضل أن لا يكون ولد في البيت؟ كلاّ ثمّ كلاّ. والطبّ الحديث يساعد عددًا من النساء ليكون لهنّ أولاد. غير أنّ الكنيسة لا تسمح بأيّة وسيلة كانت. هناك وسائل تحترم شريعة الله، تحترم الزواج، تحترم المرأة فلا تصير «آلة» لصنع الأولاد. وفي كلّ هذا، يبقى الزنى محرّمًا مهما كان الهدف صالحًا (متّى 5: 27؛ خر 20: 14؛ تث 5: 18). هكذا أخطأت سارة في ما فعلت، فما احترمت قدسيّة الزواج. وفي النهاية، كانت هي الخاسرة. أمّا أليصابات فانتظرت ساعة الله. وكذلك فعلت حنّة، أمّ صموئيل.

في هذا المجال، نقرأ المثل الإنجيليّ عن تلك المرأة التي قال فيها الصادوقيّون، الذين لا يؤمنون بالقيامة: لمن تصير في القيامة بعد أن تزوّجها سبعة رجال أخوة؟ نحن هنا أمام فرضيّة غير معقولة، وكأنّ الحياة في هذه الدنيا تشبه الحياة في الآخرة. هنا يتزوّج الرجل، وهناك يتزوّج، وتكون له النساء العديدات يخدمنه في هذه الدنيا وفي الآخرة. هذا ما يجعلنا في إطار مصر القديمة، حيث الملك يبقى الملك في الآخرة، ويبقى حوله الخدم والحشم كما كان الأمر على هذه الأرض.

سأل الصادوقيّون فجاء جواب يسوع قاسيًا: «أنتم في ضلال، لأنّكم تجهلون الكتب وقدرة الله. ففي القيامة (أي عالم السماء)، لا يتزوّجون (أي الرجال) ولا يزوّجون (أي لا تزوَّج المرأة لرجل)، بل يكونون مثل ملائكة في السماء» (متّى 23: 29-30). كان باستطاعة الرجل أن يطلّق امرأته أذا لم تعطه ولدًا. أمّا في المسيحيّة فلا، هذا إذا أردنا أن نسير في خطّ الإنجيل. وفي هذا يقول بولس الرسول بشكل مطلق، وبدون استثناء: «لا تفارق المرأة زوجها، وعلى الزوج أن لا يطلّق امرأته» (1كور 7: 11).

 

اعتبر الرسل أنّ مثل هذه الحالة لا تطاق، وأنّ كتاب الطلاق يعود إلى موسى (تث 24: 1)، فكيف يلغيه يسوع. تحدّث يسوع عن قساوة القلوب التي لا تريد أن تعرف الرحمة، ولا أن تسمع كلام الربّ، وعاد إلى ما قيل في الابتداء. وفي النهاية، أعلن أهميّة البتوليّة في الكنيسة. هناك من لا يتزوّجون من أجل الملكوت. هكذا كان يسوع. وهكذا كانت أمّه. وكذلك يوحنّا المعمدان. وهناك عددٌ كبير من البتولين والبتولات في الكنيسة، الذين أرادوا أن تكون عيلتهم أكثر من ابنين أو ثلاثة نحوطهم ونخاف عليهم بانتظار أن يتركونا.

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا من إبراهيم فوصلت إلى المسيح، ومن سارة إلى أليصابات العاقر ومريم البتول التي كانت حبلى من الروح القدس. انطلقنا من امرأة تريد أن يكون لها ولد، أو بالأحرى لزوجها، مهما كانت الوسائل القديمة منها والجديدة. نسيَتْ وعدَ الربّ وحاولت أن تتدبّر أمرها بنفسها وتبعها إبراهيم. فكان الفشل له ولها ولزواجهما. وحين ظهر ملاك الربّ لهاجر، عادت المسيرة الإيمانيّة تأخذ مجراها. عرفت هاجر موقعها، فعادت إلى بيتها وسمعت صوت الربّ فسمّت ابنها اسماعيل. وجاء الله «يزور» إبراهيم وسارة، في ممرا، قرب حبرون، ويجدّد لهما وعده. وكانت النتيجة كلام المزمور: إن لم يبنِ الربّ البيت، فعبثًا يتعب البنّاؤون... البنون ميراث من الربّ، وثمرة البطن ثواب منه (مز 127: 1، 3). فهنيئًا لمن يعرف أن ينتظر ساعة الربّ، فسيجد أن الربّ ينتظره ويفتح له طريق الح

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM