نداء الله إلى إبراهيم

نداء الله إلى إبراهيم

مسيرة الإنسان، كلّ إنسان، تبدأ بنداء من عند الله. هو أوّلاً نداء إلى الحياة. فحين نولد نكون وكأنّنا سمعنا نداء من عند الربّ الذي فيه نحيا ونتحرّك ونُوجد (أع 17: 28). وتكون حياتنا البشريّة كلّها جوابًا على هذا النداء. غير أنّ هناك نداء من نوع آخر يسمعه الإنسان، لا على مستوى الجسد وحسب، بل على مستوى الروح. ذاك هو النداء الذي سمعه إبراهيم في أعماق قلبه، فانطلق وسار تلبية لنداء الربّ. هذا ما نقرأه في سفر التكوين (12: 1-6)

وقال الربّ لأبرام (=إبراهيم): ''إرحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّة عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة. وأبارك مباركيك وألعن لاعنك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض''. فرحل أبرام، كما قال له الربّ، وذهب معه لوط. وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لمّا خرج من حاران. وأخذ أبرام ساراي (= سارة، أي الأميرة) امرأته ولوطًا ابن أخيه، وكلّ ما كان يمتلكه. هو ولوط، والعبيد الذين حصلا عليهم في حاران. وخرجوا جميعًا قاصدين أرض كنعان. فلما وصلوا إلى أرض كنعان اجتاز أبرام في الأرض إلى بلّوطة مورة، في شكيم.

نتوقّف عند رحيل إبراهيم وطاعته، عند البركة التي نالها، فصار أبًا لجميع المؤمنين.

 

1. رحيل إبراهيم وطاعته

كان إبراهيم راعي غنم يسير بمحاذاة الأرض المزروعة. وقد يكون حصل ما حصل، فأجبر على ترك المكان، والانطلاق إلى حيث يقدر أن يهتمّ بماشيته من أجل حياته وحياة عياله. ومن خلال هذا الرحيل، يكون سمع صوت الربّ الذي يكلّمنا عبر الأحداث ويوجّه حياتنا كما يشاء مستعينًا بالظروف التي نمرّ بها.

انطلق أبرام من حاران على الفرات، التي كانت محطّة هامّة للقوافل، والتي عبدت «القمر» وكأنّه إله. فوصل إلى أرض كنعان التي امتدّت من مصر إلى تركيّا، وعُرف شعبها بالكنعانيّين (وكان منهم الفينيقيّون). وجعل إقامته في شكيم التي كانت عاصمة مملكة صغيرة، في الألف الثاني ق. م.، قبل أن تصير عاصمة مملكة الشمال بعد موت سليمان، سنة 933. هي القريبة اليوم من نابلس، في فلسطين. وقد يكون يوحنّا سمّاها في إنجيله «سوخار» (4: 5). كان لهذه المدينة معبد مع سنديانة يقيم قربها أحد الرائين. لهذا سُمّي الوضع «بلّوطة مورة».

هذه الأمور المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا، كانت الإطار من أجل مسيرة روحيّة سارها إبراهيم تلبية لدعوة الربّ. الله هو الذي اتّخذ المبادرة وتكلّم. وليس إبراهيم هو الذي عرض نفسه على الربّ مع قدراته، كشخص يطلب عملاً فيقدّم نفسه.

والله يكلّم الإنسان وينتظر منه الجواب. فإن لم يتكلّم كان كالأصنام التي لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشمّ. وكلامه يأتي في فعل الأمر: إرحل. فهو يعرف بداية طريق من يدعوه، ونهاية طريقه. فلا يبقى على الإنسان سوى الطاعة لكي تنجح حياته، وإلاّ لاحقته التعاسة كما لاحقت يونان الذي طلب منه الربّ أن يذهب إلى الشرق فذهب إلى الغرب. أو يمضي حزينًا مثل ذلك الشابّ الذي طلب منه يسوع أن يتخلّى عن ماله لكي يكون كاملاً (مر 10: 22).

وحين يدعو الله، فهو لا يدعو بشكل عام. بل يدعو كلّ واحد بمفرده. يناديه باسمه، وقد يناديه مرّتين ليدلّ على أهميّة النداء وعظمة الرسالة التي تنتظر من يدعوه. وإذ ينادي الربّ، لا يكتفي منّا بجواب على مستوى الكلام. هناك رسالة يجب أن نقوم بها: إرحل. وهو لا يقول لنا أبدًا سرّه. بل يطلب منّا الإيمان الذي يتخلّى عن أمور ثابتة على المستوى البشريّ، ليتعلّق فقط بمشيئة الله. كان إبراهيم من أرض محدّدة. قيل له. اتركها. كان يقيم في عشيرة. ترك تلك العشيرة. كما ترك بيت أبيه. ترك ناحور وحاران شقيقيه. ولكن إلى أين؟ الجواب: «إلى الأرض التي أريك». فالربّ يرينا في الوقت المناسب هدف المسيرة. أمّا الآن فيجب أن نمشي، وربّما في الظلام، في النفق الذي قد يكون طويلاً. ذاك كان وضع إبراهيم الذي سيعاتب الربّ المرّة بعد المرّة. «ما نفع ما تعطيني» (تك 15: 2)! ومع ذلك «رحل، كما قال له الربّ». وهكذا دلّ على إيمانه وعلى استسلامه التامّ بين يديّ الربّ.

2. البركة التي نالها إبراهيم

كان إبراهيم سخيٌّا حين تجاوب مع نداء الله. ولكنّه لن يكون أكثر سخاء من الربّ. من كان إبراهيم؟ كان راعيًا من الرعاة الذين كانوا يتوزّعون في ما يُسمّى الصحراء السوريّة والعربيّة. كان شخصًا مغمورًا، لا يعرفه سوى عشيرته وبيت أبيه. فصار اسمه عظيمًا. كان رجلاً لا ولد له. فماذا جعل الله منه؟ «أمّة عظيمة». وعده مثل هذا الوعد، ولا ولد له بعدُ. وحين يُدوّن هذا النصّ الكتابيّ، كان الشعب المؤمن الذي ارتبط بإبراهيم، سواء خرج منه على مستوى اللحم والدمّ، أو اهتدى إلى الإيمان بالله الواحد، كبيرًا جدٌّا. وفي زمن البشارة الإنجيليّة، سيكون أوّل المسيحيّين من اليهود أو من خائفي الله الذين سمعوا كلام الله في العهد القديم، فاستعدّوا هكذا لسماع كلام الله في العهد الجديد، واعتمدوا لمغفرة خطاياهم (أع 2: 38).

أمّا الوعد الأهمّ: «أباركك. فالبركة تدلّ على نجاح يمنحه الله بسخائه للإنسان. وهي علامة رحمة الربّ وحنانه. وحين يبارك الله، فهو يُغدق خيراته وأوّلها عطيّة الحياة. لا يكتفي الله بأن يبارك إبراهيم، بل يدعو جميع الناس لكي يباركوه. لهذا قال النصّ: «أبارك مباركيك». في صيغة الجمع. فهم كُثر. وحين يباركونه، يشاركونه في البركة التي نالها. وتُجاه المباركين الكثيرين، لا نكاد نجد لاعنًا واحدًا. نلاحظ هنا صيغة المفرد: ألعن لاعنك. أي من يريد أن يحرمك البركة، يُحرم منها هو. بل تنقلب عليه. إن هو دعا قوى الشرّ، فهذه القوى لن تصل إلى إبراهيم، بل إليه، فيكون كمن حفر حفرة فوقع فيها (أم 26: 27).

وهذه البركة لا تتوقّف عند بيت أبرام وعشيرته وأرضه. لا تنحصر في ما يملك من ماشية وعبيد وإماء. بل هي تصل إلى جميع عشائر الأرض. فعطايا الله لا حدود لها في الزمان والمكان. وإذ نتحدّث عن البركة، نلاحظ أنّ الفعل أو الاسمَ يردان خمس مرّات. فالرقم خمسة هو رقم مقدّس. وإن هو لجأ إليه الكاتب الملهم، فلأنّه أَراد أن يجعله يحلّ محلّ لعنات خمس سابقة. فمع إبراهيم تبدأ البركة ولن تتوقّف حتّى تصل إلى يسوع الذي فيه باركنا الله «كلّ بركة روحيّة في السماوات» (أف 1: 3).

جاءت اللعنة الأولى بعد الخطيئة. قال الربّ للحيّة: «لأنّك فعلتِ هذا، فأنت ملعونة من بين جميع البهائم» (تك 3: 14). مثّلت الحيّة الشرّ الذي صار حاضرًا في العالم، فجعلت فيه العداوة التي ألغاها المسيحُ سلامُنا (أف 2: 14-15). واللعنة الثانية ارتبطت بآدم: «تكون الأرض ملعونة بسببك» (تك 3: 17). كان العمل فرحًا ولذّة في الفردوس، في حضرة الله، فصار تعبًا وكدٌّا، وكانت النتيجة شوكًا وعوسجًا. ولكنّنا سننتظر النهاية مع سفر الرؤيا: «لا لعن بعد اليوم» (22: 3). أمّا شجرة الحياة، فلا تثمر مرّة في السنة فقط، بل اثنتي عشرة مرّة. واللعنة الثالثة ارتبطت بقايين بعد أن قتل أخاه. «ملعون أنت من الأرض» (تك 4: 11). خطئ الإنسان، فحلّت اللعنة عليه. ثمّ ارتدّت اللعنة من الأرض إلى الإنسان. ولكن حين ينال الناس الفداء. تزول اللعنة (روم 8: 23). واللعنة الرابعة لم تكد تظهر حتّى أطفأها نوح (تك 5: 29) الذي كان رجلاً بارًا لا عيب فيه. وسلك مع الله (تك 6: 9). واللعنة الخامسة رافقت حاماً في ابنه كنعان بسبب الزنى الذي يمارسه (تك 9: 25).

ولكنّ الله لم يسمح لهذه اللعنات أن تسيطر على البشريّة. ولم يُرِد لتأثيرها أن يمتدّ حين مجيء المسيح ونهاية العالم. بل هو جعل تجاه هذه اللعنات بركات وصلت بواسطة إبراهيم إلى البشريّة، إلى كلّ عشائر الأرض.

 

3. إبراهيم أبو المؤمنين

لعب إبراهيم دورًا كبيرًا في الكتاب المقدّس، فدُعي خليل الله (إش 41: 9). وسيقول فيه إشعيا أيضًا: «أنظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم. دعاه الربّ وهو رجل واحد، وباركه وكثّر نسله» (51: 2). وقال يشوع بن سيراخ: «إبراهيم كان أبًا عظيمًا لأمم كثيرة، ولم يُوجد مثله في المجد» (44: 19). هذا في العهد القديم. وسوف يكون صورة مشعّة في العهد الجديد، ولا سيّما في رسائل القدّيس بولس.

اعتبر الشعب اليهوديّ أنّ المؤمن يكون ابن إبراهيم حين ينال الختان. هي قرابة على مستوى اللحم والدمّ، لا تشرّف إبراهيم كثيرًا. أمّا بولس فشدّد على أنّ ارتباط المسيحيّين بالإيمان هو ارتباط على مستوى الإيمان. حين وعده الله بنسل كبير، وليس له بعدُ ولد، قال الكتاب عنه: «آمن إبراهيم بالربّ، لهذا اعتبره الربّ بارٌّا، برّره لإيمانه» (تك 15: 6). مثلُ هذا الإيمان هو ثقة بالله وبكلامه. وهذه الثقة، هي استسلام للربّ قبل أن تكون أعمالاً خارجيّة ملموسة. فهذه الأعمال تأتي فيما بعد، في جواب الإنسان على نداء الله، فيقول «آمين» لما يطلبه منه الربّ. أمّا النداء الذي وجّهه الله إلى إبراهيم، ويوجّهه إلى كلّ واحد منّا، فهو مجّاني وسابق لكلّ ما يمكن أن نعمله من أجل الربّ.

هنا نقرأ ما قاله القدّيس بولس في الرسالة إلى رومة: «وماذا نقول في إبراهيم أبينا في الجسد وما جرى له؟ فلو أنّ الله برّره لأعماله لحقّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول «آمن إبراهيم بكلام الله، فبرّره لإيمانه». من قام بعمل، فأجرته حقّ له لا هبة. أمّا من لا يقوم بعمل، بل يؤمن بالله الذي يبرّر الخاطئ، فالله يبرّره لإيمانه» (4: 1-5). فالله هو الذي بدأ يعمل في قلب إبراهيم، هو الذي دشّن فيه حياة من البرارة. عندذاك تجاوب إبراهيمُ مع مبادرة الله. ونحن مثله بعد أن نلنا ما نلنا من نعم. نحن ما نلناها بسبب استحقاقاتنا، بل بعطاء مجّانيّ من الله. فلا يبقى علينا سوى الأمانة لذلك الذي أحبّنا ونحن خطأة، والثقة بأنّه يفيض علينا بركاته بعد أن نلنا الخلاص بحياة يسوع وتصالحنا مع الآب (روم 5: 9-10).

 

خاتمة

بعد الخطيئة الأولى وما تبعها من خطايا وصلت بالبشريّة إلى الطوفان، وبعد التشتّت الذي عرفته البشريّة بعد برج بابل، انطلقت مسيرةُ الخلاص مع إبراهيم. وابتدأ كلّ شيء بنداء من عند الله يطلب التجرّد والتضحية، نداء يقتلعنا من محيطنا وبيتنا ويرسلنا. تجاوبَ إبراهيم وعمل بما أمره الربّ. ونحن ما الذي يمنعنا من سماع نداء الربّ والانطلاق في الطريق الذي يُرينا؟ من أجل هذا يبقى إبراهيم مثالاً لنا «نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة» (1 كور 10: 11) ونالوا الخلاص التامّ بيسوع الم

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM