في أيّام نوح، عهد مع العالم

في أيّام نوح، عهد مع العالم

حين نحتفل بعشاء الربّ في القدّاس الإلهيّ، نتحدّث عن العهد الجديد بدم المسيح، ونربط عادةً هذا العهد بالعهد الذي قطعه الربّ على جبل سيناء، مع الشعب، بوساطة موسى والسبعين شيخًا. غير أنّ هذا العهد يبقى محصورًا في شعب من الشعوب، ولا يصل إلى جميع الشعوب إلاّ مع يسوع المسيح. أمّا العهد مع نوح فيربط الله بالبشريّة كلّها، ويبدو عودة إلى الله مع آدم إذ تنمو البشريّة وتسود الكونَ كلّه بحيث تقدّمه لله، فيكون ذاك الذي ''ارتدى العزّة واتّزر بها، وثبّت الكون في مكانه فلا يتزعزع إلى الأبد...» (مز 93: 1). من أجل هذا، نتوقّف عند العهد مع نوح ونقرأ سفر التكوين (9: 8-15)

وقال الله لنوح وبنيه: ''أقيم الآن عهدي معكم ومع نسلكم من بعدكم، ومع كلّ خليقة حيّة معكم... أقيم عهدي معكم فلن ينقرض ثانية بمياه الطوفان أي جسد حيّ...''. وقال الله: ''هذه علامة العهد الذي أقيمه بيني وبينكم...''.

1- عهد ثانٍ

ما نقرأه في هذا المقطع، دوّنه الكاتب الكهنوتيّ الذي وضع اللمسات الأخيرة على نصّ أسفار موسى الخمسة، بدءًا بسفر التكوين. وإذا كان آدم قد جاء في أوّل أيّام تاريخ البشريّة، فنوح جاء في اليوم التالي. هناك عهد أوّل مع آدم: انموا واكثروا؛ ولكن جاءت الخطيئة، فكان عهد ثانٍ مع نوح، يعيد الرباط بين الله والبشر، الذي انقطع بفعل آدم.

أ- من عهد إلى عهد

حين خلق الله العيلة الأولى، أقام عهدًا مع البشر الذين خلقهم على صورته ومثاله. «انموا، واكثروا، واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلّطوا على سمك البحر...» (تك 1: 8). وترافق هذا العهدُ مع المباركة التي تدلّ على ملء خيرات الله. على فردوس يقيم فيه الله مع الإنسان. ذاك كان العهد مع آدم.

ومع نوح، كان عهد آخر هو امتداد للسابق وتجديد له. وسيقول الله لنوح ما قاله لآدم: «انموا واكثروا، واملأوا الأرض» (تك 9: 1). هي كلمات جديدة تؤسّس بشريّة جديدة. فكما أنّ كلّ إنسان هو ابن آدم، كلّ إنسان أيضًا هو ابن نوح. وقد حاول الكتاب أن يجمع في أبنائه الثلاثة، البشريّة كلّها. عالم الشرق مع سام. عالم أفريقيا مع حام. عالم أوروبّا مع يافث. وهكذا، لم يعد الله إله شعب واحد، هو الشعب العبرانيّ. وأوّل مخطّط خلاصيّ في البشريّة لم يظهر لموسى والشعب العبرانيّ، بل لنوح والبشريّة كلّها. وهكذا كان عهدٌ نوحيّ (نسبة إلى نوح) قبل العهد الموسويّ حيث نقرأ: «وأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال: ''هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الربّ به على جميع هذه الأقوال» (خر 24: 8).

ب- عهد أوسع

إنّ أقوال الله في شأن نوح، تعبّر عن إعطاء طعام من أجل آدم: «أعطيتكم كلّ عشب يبزر بزرًا على وجه الأرض كلّها... وجميع وحوش الأرض... أعطيها كلّ عشب أخضر طعامًا» (تك 1: 29-30). أمّا الآن، فتنوّع الطعام. لم يعد على مستوى النبات، بل امتدّ إلى لحم الحيوان: «كلّ ما يدبّ هو لكم طعامًا كالبقول من النبات. أعطيكم كلّ شيء» (تك 9: 3). أجل، كلّ شيء هو للإنسان. في خدمة الإنسان. من أجل حياة الإنسان.

ولكنّ هناك منعًا: «لا تأكلوا لحمًا بدمه» (تك 9: 4). عاد التقليد الكهنوتيّ الذي دُوّن في جوّ كهنة أورشليم، إلى التقليد اليهوهيّ الذي سبقه، فتحدّث عن الله القريب من الإنسان. لماذا؟ لأنّ الإنسان الذي يعتاد على ذبح الحيوان، قد لا يعرف أن يقف عند حدّ. فهناك أكلة لحوم البشر، ومن بمصّ دماء أخوته. فقد كانوا يعتبرون أنّهم يأخذون قوّتهم حين يأكلونهم. من أجل هذا، كان تشديد على الاكتفاء بالعشب وثمار الأشجار. هكذا يُوضع حدّ للعنف في العالم.

وتابع النصّ: «من سفك دم الإنسان، يسفك الإنسان دمه» (تك 9: 6). هو تشديد على احترام الحياة، وهذا الاحترام يستند إلى تعليم يعلن أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله. هذا ما يعود بنا إلى كلام عن «الصورة». فالصورة هي الحياة. وتجاهها، تبدو الأصنام صورًا كاذبة، لأنّ لا حياة لها وبالتالي لا تشبه الله.

2- عهد مع الحياة والحيوان

منع الله آدم أن يأكل لحمًا بدمه لأنّ حياة كلّ حيّ في دمه. هذه الفريضة التي تعدّاها العهد الجديد فلم يعد يَعمل بها، تدلّ على ارتبط الإنسان بعالم الحيوان، وبالتالي بالحياة ككلّ.

أ- الإنسان والحيوان

ما يلفت النظر في العهد مع نوح، هو أنّ الله يقطع عهدًا مع كلّ جسد، مع كلّ لحم ودم. يعني مع الإنسان ومع الحيوان. «أقيم الآن عهدي معكم... ومع كلّ خليقة حيّة معكم، من الطير والبهائم ووحوش الأرض» (تك 9: 9-10). مهما كانت نظرتنا إلى الحيوانات، فدخولهم (وكأنّهم أشخاص) في رفقة الإنسان في عهد مع الله، يجعلهم في الدرحة التالية بحيث نرفض ما يقوله العهد القديم في هذا المضمار. كان آدم يأمر الحيوانات. أمّا نوح فصار قائدها بلا منازع حين أخذها في سفينته (الرسم الذي أمامنا يرينا نوحًا الذي لا ينفصل عن الحيوانات التي سيحافظ عليها من الفناء، حتّى تلك التي ليست طاهرة). فنوح يمسك هنا حياة العالم كلّه. هو سيّد الحياة، والسيّد الوحيد بعد الله، وبشكل لم يعرفه آدم.

للحيوانات دورها في نفس الإنسان، لأنّها تمتلك الحياة التي تتعدّانا، والتي لا تنحصر فينا. نحن مسؤولون عن هذه الحياة، بحيث لا نسحق الحيوان الذي هو جزء من الخليقة. ونحن في علاقة مع الحيوانات كالحوذيّ مع الجياد التي يقودها. فالحيوان، بل الطبيعة كلّها، تمجّد الإله بواسطة الإنسان. حسب التوراة، تبدأ الحياة مع الحيوان، الذي يقف عند عتبة حياة الإنسان، وانحطاطها وفشلها. وهكذا وسّع الله القدير دائرة الحياة ولم يحصرها، بحيث جعل للإنسان مدى يتجاوز ما عند الإنسان.

ب- في عالم الخطيئة

يختلف عهد نوح عن عهد آدم، لأنّه يتضمّن عناصر ومعنى لا يمتلكها العهد الأوّل. كانت بداية مع آدم. وهي بداية ثانية مع نوح، وهذا ما يدلّ على تبدّل نوعيّ. فالعهد النوحيّ يأتي بعد امتداد الخطيئة امتدادًا واسعًا، وبعد طوفان عمّ المسكونة. في هذا المناخ، يبدو هذا العهدُ عهدَ غفران ورحمة. ومع ذلك، «كان نوح إنسانًا بارٌّا كاملاً في عصره، وسكن مع الله». هذا يعني أنّ نوحًا ليس خاطئًا غفر له، وأنّه لم يكن بارٌّا خلّص الناس الذين كانوا في أيّامه. هو لم يخلّص سوى أسرته وبعض أجناس الحيوان. فوظيفته مختلفة: نوح هو البار الذي يحمل الخلاص إلى المستقبل. كلّ شيء يبدأ من جديد انطلاقًا من شرّ شامل اتّخذ فيه الخير حيّزًا محدودًا. وهكذا عرف الكاتب الملهم يأسًا على مستوى البشريّة، فطرح على نفسه سؤالاً حول المستقبل.

وجاء الجواب يحمل في ذاته جوهر عهد جديد، جوهر عهد أبديّ. هذه السمة الأساسيّة لم تتجلّ في العهد الأوّل. هذا يعني أنّ حنان الربّ اتّسع ساعة امتدّ الشرّ وانتشر. بعد أن بيّن الإنسان ما في داخليّته، جاء الله كفيلاً بأنّ حنان الربّ لا يُقهر أبدًا. رأى التقليد اليهوهيّ عهد الله الجديد والأبديّ في توالي الفصول التي تؤمّن النتاج الزراعيّ. ورأى الكهنوتيّ هذا العهد في تواصل الحياة على الأرض: فالعهد يُعطي الأمل بالحياة بكفالة إلهيّة.

والاتّفاق لا يكون اتّفاقًا بدون وثيقة. من يقوم بهذه الوظيفة؟ قوس قزح. قال الربّ: «أراها وأتذكّر العهد الأبديّ» (9: 16). حين ننظر نحن إلى قوس قزح، نتوقّف عند الألوان السبعة. أمّا الأقدمون، فيفكّرون في القوس النشّاب، وارتباطها برموز إله الحروب. فالبروق والرعود والأمطار والأنوار والرياح ترتبط بالإله المحارب. والطوفان أحد أسلحة الربّ. وقوس قزح ليست فقط سلاحًا، منها تخرج السهام. فهي تدلّ أيضًا على راحة المحارب إن هي عُلّقت في الحائط. وهكذا صار السلاح رمزًا يكلّمنا عن السلام على مثال السيف الذي صار سكّة للفلاحة، والرمح الذي صار منجل حصاد (أش 2: 4). فسلام الله يجمع الأضدّاد. حسب خبر نوح، خطيئة الإنسان هي العنف، والعنف يجد عقابه في ذاته. «من يسفك دم الإنسان يُسفك دمه» (تك 9: 6). ومع ذلك، فعقاب الطوفان جاء من الله نفسه. والسلام الجديد ليس النسيان، بل السلام المعلّق الذي يحعل الله يتذكّر العهد الأبديّ.

3- من الخطيئة إلى النعمة

ما حصل من طوفان تبعه عهد جديد، وجد صداه في نهاية التاريخ، بحيث تحدّث يسوع عن الأيّام الأخيرة عائدًا إلى «أيّام نوح» (لوقا 1: 26). ولكن قبل ذلك، ذكر أشعيا النبيّ ما قيل عن نوح وربطه بخلق جديد: «كذلك يكون في أيّام نوح. لأنّي كما حلفتُ لنوح أن لا تعبر المياه على وجه الأرض فيما بعد، فكذلك حلفت أن لا أغضب عليك ولا أوبّخكِ (يا أورشليم). الجبال تزول، والتلال تتزعزع، أمّا رأفتي فلا تزول عنك. وتعهّدي بسلامتك لا يتزعزع. هكذا قال ربّك الرحيم» (54: 9-10). هو الربّ يكلّم مدينته وشعبه بواسطه نبيّه: بعد الغضب الرحمة، وبعد العقاب الغفران... «سأبني أسوارك بحجارة كريمة، وأؤسّسك باللازورد، وأجعل شرفاتك ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمان، وجميع حدودك حجارة ثمينة» (54: 11-12).

من هذا المنطلق نصل إلى العهد الجديد مع فكرتين أساسيّتين. الأولى تبيّن أنّ بداية الخلاص مع يسوع كانت مع الخطيئة. ثمّ جاءت النعمة. والثانية، تبيّن تضامن الخليقة كلّها مع الإنسان.

أ- دخلت الخطيئة

بعد أن صوّر الرسول حالة البشريّة، سواء جاءت من العالم الوثنيّ، أو من العالم اليهوديّ، على أنّها بشريّة خاطئة، قال في الرسالة إلى رومة: «بالخطيئة دخل الموت، وسرى الموت إلى جميع البشر لأنّهم كلّهم خطئوا» (5: 12). فالتدبير الأوّل (روم 5: 12-21) هو تدبير الخطيئة ومناخ غضب الله وعقابه. والتدبير الثاني، هو تدبير النعمة. لا شكّ في أنّ التدبير الثاني يتفوّق على الأوّل، كما المسيح يتفوّق على آدم، حسب ما تقول الرسالة عينها: «كما سادت الخطيئة للموت، تسود النعمة التي تبرّرنا بربّنا يسوع المسيح للحياة الأبديّة» (5: 21).

أجل، الخطيـئة تفصل الإنسان عن الله وتقوده إلى الموت. هذا ما حدث لجيل نوح، كما سيـحدث لجيل موسـى الذي عبـد العجد الذهبيّ وخان ربّه. هو الحدث الروحيّ الذي يعبّر عنه الموت على مستوى الجسـد. من أجل هذا، تجسّد يسوع المسيح من أجل عهد جديد مع البشريّة، يقودها شيـئًا فشيئًا إلى الخلاص. أمّا العلامة فهي صليب المسيح، الذي قتل العداوة وهدم الحواجز وجعل من الشعوب المختلفة شعبًا واحدًا. ذاك ما كان عليه الوضع قبل برج بابل وما سيعود إليه في خبرة العنصرة حيث الشعوب كلّها تلتقي في أورشليم.

ب- جاءت النعمة

لا لم يُخلق الإنسان للموت، بل للحياة. وحيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة، وكلّ هذا بنعمة مجّانيّة من لدنه تعالى. هنا نكتشف مرحلتين تقابلان ما كان في الابتداء وتعارضه. بدأ الإنسان فسقط في الخطيئة، فجرّ في سقطته عالم الحيوان والنبات، بل الأرض كلّها صارت ملعونة. وفي مسيرة الخلاص، استعاد الإنسان حرّيته التي أضاعها بالخطيئة، تبرّرَ، عاد إلى جماله الأوّل، فعادت الخليقة إليه. هذا ما يتوسّع فيه بولس الرسول في الرسالة إلى رومة.

بعد الصراع الذي يعيشه الإنسان في أعضائه، فيفعل ما لا يريد، ويكره ما يريده، يفهم أنّ عليه أن لا يعيش من بعد بحسب الجسد، لأنّ روح الله يسكن فيه (8: 9). هذا الروح يقودنا، يجعلنا أبناء الله، يعلّمنا كيف نصرخ: أبّا، أيّها الآب. وما دُمنا أبناء الله، فنحن ورثة الله وشركاء المسيح في ملكوته. نشاركه في آلامه لنشاركه أيضًا في مجده.

وكما سقطت الخليقة مع الإنسان، ها هي تقوم معه. خضع الإنسان للباطل فأخضعها. وحين يتحرّر تتحرّر معه. هذه الخليقة تئنّ وهي تنتظر أن تتحرّر من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرّيتهم ومجدهم (روم 8: 21-22). نحن هنا في ملء تحقيق ما رمزت إليه الحيوانات التي جمعها نوح في السفينة. وفي خطّ ما قاله أشعيا عن سلام يعمّ العالم، فيسكن الذئب مع الحمل، ويبيت النمر بجانب الجدي، ويرعى العجل والشبل معًا (11: 6). عندئذٍ يكون عهد الله مع البشر كاملاً، فيصل إلى جميع المخلوقات بدءًا بالحيوانات إلى أن يأتي وقت يصبح فيه الله كلاٌّ في الكلّ. حينئذٍ نستطيع أن نتحدّث حقٌّا عن العهد الجديد النهائيّ بدم المسيح، الذي كان العهد مع نوح صورة بعيدة عنه، لأنّه ما توجّه فقط إلى شعب من الشعوب، بل إلى جميع الشعوب. فصحّ ما قيل لإبراهيم: بك تتبارك جميع الأمم (تك 12: 2)

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا. انطلقت مع نوح بعد أن زال عالم خاطئ، عالم من العنف، وبدأ عالم من البرارة بدءًا بنوح الذي كان بارٌّا في جيله، عالم من السلام. مع نوح، حملت الحمامة غصن الزيتون علامة السلام. وحدّثنا القدّيس بولس عن يسوع الذي هو سلامنا. مع نوح كانت علامة العهد مع الله والبشر قوس قزح. ألقى الله سلاحه. علّق قوسه في الغمام، كما يعلّق المقاتل سلاحه على جدار. والمسيح مات على الصليب، فأخذ على عاتقه شرّ الخطيئة ولعنة الشريعة، وعلامة العهد كانت دمه الخاصّ الذي سفكه من أجل خلاص البشر، فتألّم ومات وقبر، ولكنّه قام في اليوم الثالث. هذا هو العهد الذي لا ي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM