على صورة الله ومثاله

على صورة الله ومثاله

في القرن الخامس ق.م. بدأ عدد العبيد يتكاثر، فصار العبد شيئاً يُشرى ويُباع فيساوي حيواناً من الحيوانات او شيئاً من الأشياء. فتحدّث الكاتب عن صورة الله. في ذلك الوقت، سيطرت القوّة فصار الضعيف كلا شيء. والفقير اشتراه الناس بنعلين سواء في القضاء او في سوق النخاسة، فتحدّث الكاتب عن الانسان الذي يشبه الله بالعقل والحريّة والإرادة. في أيام ضاع الانسان فما عاد يعرف من هو شريك حياته. ما عاد يعرف هل يصعد أم ينحدر، جاء كلام الربّ في سفر التكوين: «لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا». هذا المبدأ الأساسي في العالم القديم، الذي يعارض فكر البشر والمجتمع، ما زال سارياً اليوم مهما كانت الظروف التي نعيش والحضارة المتطوّرة التي نعرف. ونقرأ النصّ الكتابي:

وقال الله: '' لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا، وليتسلّط على سمك البحر وطير السماء وجميع وحوش الأرض وكلّ ما يدبّ على الأرض''. فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلق البشر، ذكر وأنثى خلقهم. وباركهم الله فقال لهم:'' انموا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلّطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الذي يدبّ على الأرض''. وقال الله:'' ها أنا أعطيتكم كل عشب... وكل شجر...''. فكان كذلك. ونظر الله إلى كل ما صنعه، فرأى انه حسن جداً. وكان مساء وكان صباح يوم سادس (تك1: 26- 31).

1- لنصنع الإنسان

وقف المؤمن في الهيكل يُنشد عظائم الله. انطلق من الليل فوصل إلى النهار. انطلق من العالم المادي فوصل إلى النبات والحيوان. ورأى الله ان كل ذلك حسن، جميل. أتُرى الله يخلق شيئاً لا يكون صالحاً؟ مستحيل! فينبوع كل جمال لا يخلق إلاّ الجمال. وينبوع كل حياة لا يخلق سوى الحياة. ولكن الخلق ما زال ناقصاً. من يكون سيّد هذه الخلائق كلها؟ الانسان، باسم الله. ارتاح الله حين أوجد من يتابع عمله في الكون، من يقوم مقامه، فقال: «فرأى انه حسن جداً». لا حُسن بعده. أجل، الانسان قمّة الخلق، ولا يمكن لخليقة أخرى مهما كان جمالها أو عظمتها أن تتفوّق عليه. شبّهوا الانسان بقصبة ضعيفة، وهذا صحيح على مستوى الجسد. ولكنه بعقله إرفع من الأكوان جميعاً.

كيف خلق الله النور؟ قال: «كن»، فكان النور. كلمة واحدة كانت كافية. وقال الآباء السريان: إشارة واحدة باليد او بالعين. فقدرةُ الله لا محدودة، والطبيعة تطيعه طاعة العبد لسيّده. وخلق الله أيضاً بيده حين صنع ما صنع، كما يفعل الفنّان الذي ينفّذ لوحة فنّية: صنع الله الكواكب، صنع الشمس والقمر. ثم صنع وحوش الأرض من كل صنف. اما بالنسبة إلى الإنسان، فالسلسلة لا تسير في الخطّ عينه. بل يبدو خلقُه خارجَ مسيرة الخلق التي تحدّث عنها المؤمن. لا شكّ في أنه خُلق في اليوم السادس، مع سائر الحيوان، لأن الحياة التي فيه مثل الحياة التي فيهم. والدم، والحياة، والنفس او التنفّس والتحرّك. من جهة، قيل عن الانسان أنه «حيوان». وأضافوا هو «عاقل». بل اعتبر الذين يوقفون تفكيرهم في هذه الدنيا أن «مصير بني البشر والهيمة واحد، فكما يموت الانسان تموت هي، ولهما نسمة واحدة» (جا 3: 19).

هذا على المستوى الخارجيّ. ولكن المستوى الداخليّ هو الأهمّ. فالإنسان خُـلق على صورة الله ومثاله. وما خُلق من دون استعداد، بل إن الله شاور نفسه، شاور الأرض والسماء، شاور الملائكة. بل كانت مشورة داخل الثالوث الأقدس، لأن هذا الإنسان في النهاية سيدخل في عيلة الثالوث، فيكون الواحد منا ابناً (وبنتاً) مع الابن الوحيد يسوع المسيح. وقال الله: «لنصنع الإنسان». هي صيغة الجمع. ما قولكم لو نصنع الانسان، ويكون مختلفاً عن سائر الخلائق.

صورة الله مطبوعة فيه، كما تُطبع صورةُ الأب في وجه ابنه وصورة الام في وجه ابنتها. والانسان يحاول ان يتمثّل بالله. أن يتشبه بهذا المثال الذي يتعرّف إليه طوال حياته. فالقديس بولس يطلب منّا أن نتشبه بالله كالأبناء الأحبّاء (اف 5: 1). حين نعيش المحبة بعضنا لبعض. حين نسامح بعضنا بعضاً. حين نتخلّص من كل حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة (أف:4: 31).

نحن على صورة الله بعقل يفكّر، وحرّية تقرّر، وإرادة تنفّذ: نحن على صورة الله حين نخلق الجديد في العالم. انموا واكثروا. هذا على مستوى العائلة البشرية. وتسلّطوا، والسلطة تعني الاهتمام. فكما ان سلطة الوالدين تعني الاهتمام بأولادهم، فسلطة الانسان على الكون تعني أن نحافظ على جمال الكون، بل أن نضيف اليه جمالاً على جمال. مع الله فلح آدم الأرض وزرعها. مع الله بنى المدن واشتغل في المعادن. مع الله عزف بالعود والمزمار (تك 4: 17- 22) على ما يقول المزمور: «هللوا له بصوت البوق، هللوا له بالعود والكنّارة، هللوا له بالدفّ والرقص، هللوا له بالأوتار والمزمار» (مز 15 : 3-4). الانسان صورة الله، فيعود بصلاته إلى الله ليجد الأصل الذي به يجب أن يقتدي، بل هو يحمل صلاة الخليقة فتنطق السماء، بفمه، مجد الله، ويخبر الفلك بشفتيه، بعمل يدَي الرب (مز 19:1).

2- لا تصنعو لكم

عظيمٌ هو الانسان وارتباطُه بالله ارتباط مباشر. ولكنّه يبحث عن ارتباط آخر، عن إله آخر يعبده، وما هو بإله بل صورة من الخشب او الحجر. لهذا، قال الله في الوصيّة الأولى:

«أنا الربّ الهك...لا يكن لك آلهة سواي. لا تصنع لكن تمثالاً منحوتاً ولا صورة شيء... (خر 20: 2- 4). بحث الانسان عن الله، وتوقّف في منتصف الطريق. رأى جمال المخلوقات، فعبد هذا الجمال. عبد الشمس والقمر اللذين هما مصباحان في نظر الله من أجل خدمة البشر. رأى قوّة بعض المخلوقات، فعبد هذه القوّة. خاف من بهيموت التي كانت تمثل البهيمة في كل فظاظتها وعنفها. وخاف من لاويتان الحية الملتوية التي تلف الانسان. وفي النهاية، صارت الآلهة مبعث خوفٍ، فبنى لها الهياكل كي يأمن شرها. وحين يتعبّد الانسان لما هو أدنى منه، ينسى أنه صورة الله. ينسى أن عليه ان ينظر إلى الله وحده، ثم ينظر إلى الطبيعة كما خرجت من يد الله فيكتشف كم ربّها أعظم منها، أجمل منها.

وأراد الانسان أن يمسك الله بيده، أن يراه بعينيه، ولكن الله لا يُرى. ولا يمكن الاقتراب منه، لأنه نار آكلة. فما العمل؟ نصنع آلهة تمشي أمامنا، مثل الأمم الوثنية. هذا ما فعل الشعب العبراني في برية سيناء. غاب موسى حاملُ كلمة الله، وطال غيابه. قالوا لهرون: «اصنع لنا آلهة تسير أمامنا» (خر 32 : 6)، فصنع لهم عجلاً على ما في أرض مصر أو أرض كنعان. فأصعدوا له المحرقات وقدّموا له الذبائح (خر 32: 6). وعيّدوا العيد يأكلون ويشربون ويمرحون (خر 32: 6). ماذا كانت ردّة فعل الله؟ قال لموسى : «فسد شعبك» (آ 7). هي الخطيئة ترافق الانسان منذ البداية، بل إن هذا الانسان يريد ان يصير الله (تك 3: 5)، أن يصل إلى الله كما في بناء برج بابل (تك 11 : 4).

ولكن رغم الخطيئة، رغم الخروج من الفردوس، لم يخسر الانسان صورة الله هذه. فآدم المولود على صورة الله، «وَلد ولداً على مثاله كصورته» (تك 5: 3). بعد الخطيئة، قال الكاتب عن الله الذي خلق الانسان: «على مثال الله صنعه» (تك 5: 1). وبعد الطوفان قال مانعاً سفك الدم: «فعلى صورة الله صنع الله الانسان» (تك 9 : 6).

تشوّهت هذه الصورة، لا شكّ. فسُدت، لا شكّ. ولكنها لبثت حاضرة. غطّاها الطين والوحل، وهي تنتظر من ينظّفها، من يعيد إليها بهاءها الأول. ولكن هذا يتعدّى امكانية الانسان. فهو خاطىء وما زال يغوص في عالم الخطيئة وينسى الينبوع الذي خرج منه. فالعبرانيون اعتبروا أن الخصب يصل إليهم من عند بعل الذي صنعوا له صنماً يسجدون أمامه ويطلبون عونه. فجماعة المؤمنين التي كوّنها الربّ «لا تعرف (أو لا تريد أن تعرف) أني أنا أعطيتها القمح والخمر والزيت وأكثرتُ لها الفضة والذهب، فصنعت منهما تمثالاً لبعل» (هو 2 : 10). وغرق الانسان في عبادة الاصنام إلى أن جاء وقت أُسلم فيه إلى الشهوات والفجور، إلى فساد العقول، إلى كل أنواع الاثم والشر والطمع والفساد (روم 1 : 24-29).

هل ييأس الانسان من نفسه بعد ان أعلِن غضبُ الله من السماء على كفر الناس وشرّهم (روم 1 : 28)؟ كلا. قال الرسول: «ولما كنا ضعفاء، مات المسيح من أجل الخاطئين في الوقت الذي حدّده الله» (روم 5: 6). لو كنا ابراراً، ربّما مات أحد عنا. ولكننا خطأة، ومع ذلك «برهن الله عن محبّته لنا بأن المسيح مات عنا ونحن بعدُ خاطئون» (آ 8). وهكذا صالحَنا الله بموت ابنه حين كنّا أعداءه، فالشكر له. وها نحن نستعيد صورة الله في جمالها، حين يتجسّد يسوع المسيح، فيأخذ صورة الانسان ويحمل إلى الانسان صورة الله.

3- هو صورة الله

مع يسوع تعود الخليقة إلى بداية جديدة. في هذا قال الرسول: «هو صورة الله الذي لا يرى وبكرُ الخلائق كلها» (كو 1: 15). قال سفر التكوين في البداية إن الله خلق السماء والأرض. وقالت الرسالة إلى كولوسي: «به (بالمسيح) خلق الله كل شيء في السماوات وفي الأرض» (1: 19). ولكن بدلاً من أن يبدأ بولس كلامه عن خلق السماء والأرض وما فيهما، بدأ بالإنسان والانسان الذي هو يسوع المسيح: الذي «كان لنا به الفداء أي غفران الخطايا» (كو 1: 14). انتهى الخلق الاول بالانسان الذي وجب عليه أن يتسلّط على الخلائق باسم الله، أن يكون صورة الله في الكون، كما صورة الامبراطور في مدينة من المدن تدلّ على سلطانه. ولكن الانسان سقط وسقطت معه الخليقة، فأنّت من عبودية الفساد. لهذا بدأ الخلق الثاني مع المسيح الذي هو صورة الله. وحين عادت الصورة، لا إلى بهائها الاول الذي هو بهاء بشري يعكس بهاء الله، بل إلى بهاء أجمل، إلى بهاء ذاك الذي هو صورة الله، والصورة الكاملة للانسان لأنه ابن الله. فمن رآه رأى الآب (يو 14: 9).

في القديم تاق البشر إلى رؤية الله، ولكن ذلك كان مستحيلاً. قال يوحنا: «ما من أحد رأى الله. الابن الوحيد هو الذي اخبر عنه» (يو 1: 18) وما اكتفى بأن يخبر عنه بكلامه كما فعل الانبياء، بل بحياته كلها، لأنه والآب واحد. لا يتكلّم إلا بما يسمعه من الآب. لا يفعل شيئاً لا يرى الآب يفعله. وطعامه أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. وهكذا كان يسوع الصورة الكاملة عن الله. لم يقل بولس عن يسوع إنه صورة الله ومثاله. بل فقط صورة الله. على الانسان أن يجاهد لكي يتمثل بالله. أما يسوع فهو المساوي للآب في الجوهر. وهو لا يفترق عن أبيه إلاّ في أنه الابن تجاه الآب.

إلى هذه الصورة نتطلّع وقد حلّ فيها الملء كله (كو 1: 19). وكما اننا ابناء مع الابن، صرنا صورة مع من هو صورة الله. في هذا يقول الرسول مستلهماً نص سفر التكوين: الرجل هو صورة الله. هو مجد الله، وهو يعكس هذا المجد (1كور 11: 7). هذا في العمق. يبقى عليه أن يحمل هذا المجد في حياته وفي اعماله على ما يقول يسوع في انجيل متى: «ليضىء نوركم أمام الناس ليشاهدوا اعمالكم الصالحة ويمجّدوا اباكم الذين في السماوات» (5: 11).

هنا ندخل في تاريخ الخلاص حيث يعمل الله مع الذين يحبّونه. دعاهم بأسمائهم وهم يلبّون النداء. اختارهم اختياراً خاصاً. أما الهدف فلكي «يكونوا على مثال صورة ابنه حتى يكون الابن بكراً لاخوة كثيرين» (روم 8 : 28-29). في هذا قال يعقوب السروجي: «بالعقل شابه آدم الرب شبهاً روحياً، وشابه الابن بجسمه شبهاً جسدياً». فكما أن المسيح هو إله وانسان، ارتبط الانسان بالله الآب بواسطة الروح القدس، وبجسمه ارتبط الابن المتجسّد. لهذا قال الرسول: «ومثلما لبسنا صورة الأرضي، فكذلك نلبس صورة السماوي» (1كور 15: 49). لبسنا صورة آدم، وهنا نحن نلبس صورة المسيح. لبسنا الانسان القديم، والآن صرنا خليقة جديدة، فيبقى علينا أن نسلك في هذه الحياة الجديدة: نمتنع عن الكذب والغضب والسرقة وكل شر، بحيث لا نعطي إبليس مكاناً (أف 4: 25-28). وان تكلّمنا، كان كلامنا من أجل البنيان وإفادة السامعين، ونمارس اللطف والرحمة والمغفرة «كما غفر الله لنا في المسيح» (اف4: 32).

خاتمة

منذ البدء خلق الله الانسان على صورته ومثاله، فما أعظم قدره! تشوّهت الصورة بالخطيئة، ولكنها ما ضاعت، بل ظلّت حاضرة وانتظرت ان يأتي المسيح ويجددها، وهو الذي جاء ليخلق كلّ شيء جديداً. جاء من هو صورة الله الكاملة، فكان مثالَنا في الحياة الجديدة. ولكن مع أنه في صورة الله أخذ صورة العبد وصار طائعاً حتى الموت والموت على الصليب، لذلك رفعه الله. وتلك مسيرتنا في خطى الابن: نمرّ في الموت فنصل إلى الحياة. نمرّ في الألم فنصل إلى المجد. نخسر صورة آدم الاول لنأخذ صورة آدم الثاني في البرّ والقداسة فننال الاسم الذي ناله يسوع، ننال الاسم المسيحيّ الذي به وحده نخلص. وكل هذا نناله بالروح الذي يأتي لنجدة ضعفنا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM