فــي البدء خلق الله السماء والأرض

فــي البدء خلق الله السماء والأرض

مضى العبرانيون إلى المنفى البابليّ، فرأوا الناس يعيّدون للاله مردوك الذي سيطر على الاله تيامات وما يحمل معه من شرّ وفوضى وخراب، وأعاد ترتيبَ الكون. اتُـرى مردوك هو الاله الحقيقي؟ وما يكون مصير سائر الآلهة في بلاد الرافدين من شمش (الشمس) وسين (القمر) وانو وانانة (امرأته) وانكيدوا (ابنه)؟ لا يمكن ان يكون سوى إله واحد. وما من خالق إلاّ الربّ. وحده قال فكان كل شيء، وأمر فكان كل موجود (مز 33). وانسان اليوم الذي تَقدّم في اكتشافاته وابتكاراته، وصلت به الأمور فحسبَ أنه سيّد الطبيعة مع ان للطبيعة سيّداً واحداً هو الله الذي يملك بحضوره السماوات والأرض. وما اجمل ذاك الصاعد إلى القمر ينشد عظمة الخالق فيتلو أولى آيات سفر التكوين: في البدء، خلق الله السماوات والأرض. ونحن نتأمل في عمل الله الخالق لنصل في النهاية إلى الله المخلّص الذي اعاد الخلق إلى بهائه كما خرج من يد الله.

في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خالية خاوية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه. وقال الله: ''ليكن نور''، فكان نور. وسمى الله النورنهاراً والظلام سمّاه ليلاً. وكان مساء وكان صباح: يوم اول...'' (تك 1: 1-5).

 

1- البداية

انطلق سفر التكوين، بل الكتاب المقدس كلّه، من فعل ايمان عميق، بالله الخالق. هذا الاله ما وُجد شيء قبله. بل هو خَلق. وسوف يُعلن سفر المكابيين الثاني: من لا شيء. ستقول ام الشبّان السبعة كلاماً بسيطاً لأولادها، كلاماً تعرفه كل امرأة في فلسطين. طلب منها انطيوخس المضطهد أن تُقنع ابنها ليتجاوز شريعة الله فينجو بنفسه. فقالت: «انظر، يا ولدي، إلى السماء والأرض وكل ما فيهما، واعلم أن الله خلق كل شيء من العدم، وكذلك الجنس البشريّ. فلا تخف من هذا الملك السفاح» (2 مك 7: 28-29). فمن يكون إلهه خالق السماوات والأرض لا يمكن أن يخاف. لهذا يهتف المزمور: «معونتنا باسم الربّ خالق السماوات والأرض» ( مز 124: 8). ويؤكّد في ذلك الوقت: «لو لم يكن الله معنا»، ماذا كان اصابنا؟ ولكن الله معنا.

هذا الاله خلق السماء والأرض، أي الكون كله وما يحتويه. كانوا يتحدّثون عن النور والظلام كعنصرين يخرجان عن سلطان الله. وارتبطت بعض البدع بالنور وبملاك النورالذي يمكن أن يحلّ محل الله. كما ارتبط غيرها بملاك الظلام، بابليس. كلّ هذه أمور تحاول أن تبعد الانسان عن ينبوع كل نور في العالم. عن ينبوع كل خلق. عملُه فصل النور عن الظلام، والخير عن الشرّ، والبحر عن اليابسة، بعد ان هدّد البحر والمياه الأرض بالطوفان.

هذا الاله خلق الكون وما فيه في ستّة ايام. ومع ذلك، نقول في صلواتنا: خلق بإشارة، بكلمة. وما احتاج إلى ستة ايام. لحظة واحدة كافية. وبحث الباحثون عن معنى ستّة ايام: هل هي حقبات الأرض التي كانت ستاً فصارت اربعاً؟

نحن لا نربط كلام الله بما يقوله العلم الذي يتطوّر، بل ينكر اليوم فرضيّة قالها بالأمس. كلام الله يفتحنا على خبرة حميمة، خبرة الايمان والحوار مع الله. اما العلم فيفتحنا على خبرة ثانية قد تقودنا إلى التأمل في جمال الطبيعة والانشاد معها: «السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه» (مز 19: 1). اما الخلق في ستّة ايام، فيجعلنا في إطار ليتورجيّ، فيوصلنا إلى اليوم السابع، اليوم الذي استراح فيه الله من عمله، مع انه يعمل دائماً. هذا اليوم هو لراحة الانسان من عمله الاسبوعيّ المضنيّ. في ستة ايام يلتصق وجهه بالأرض. وفي اليوم السابع يرفع عينيه إلى العلاء: «رفعتُ عينيّ إلى الجبال» (مز 121: 1). من هناك يأتي عوني. بل سيصعد المؤمن إلى الجبل المقدّس، إلى هيكل أورشليم، ويفهم أن يوماً في ديار الربّ يساوي ألفاً في أي مكان آخر.

هذا الاله خلق بالكلمة. قال: «ليكن نور»، فكان نور. وقال: «ليكن جلد»، فكان جلد (او فلك) سمّاه سماء. قال: «لتجتمع المياه»، فاجتمعت المياه. عشر كلمات تلفّظ بها الله، فتمّ الخلقُ كله وصولاً إلى الانسان قمّة الخلق. لا شكّ في أن هناك تقليداً آخر يتحدّث عن الله الذي جبل الانسان تراباً من الأرض، والذي صنع المرأة من ضلع رجل، والذي يغرس جنّة في عدن. ذاك هو أسلوب يجعل الله قريباً من الانسان، لئلا يخاف الانسان أن يقترب منه. يجعله شبيهاً بالانسان لكي يحاول الانسان ان يقتدي به. يندم الله لأنه خلق الانسان، فيندم الانسان على شرّه. يفرح الله حين يرى الكون جميلاً، فينشد المؤمن: «أيها الربّ ربّنا ما أعظم اسمك في كل الأرض» (مز 8: 2). اما هنا، فالله يخلق بكلمته التي يرسلها فتنطلق ولا تعود إلا بعد ان تكون نفّذت إرادته: «وكما ينزل المطر والثلج ولا يرجعان ثانية إلى السماء، بل يرويان الأرض ويجعلانها تجود فتنبت نبتاً وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي: لا ترجع فارغة اليّ، بل تعمل ما شئت أن تعمله وتنجح في ما أرسلتها إليه» (اش 55: 10-11). بكلمات عشر تكوّن الكون. وبكلمات عشر يتكوّن الشعب المؤمن. فالوصايا العشر التي نعيش بحسبها تجعل من يمارسها يحيا.

 

2- في البداية خلق

خلق هو فعل خاص بالله. هذا ما ينشده اشعيا ويُكرّره. يطرح السؤال على المؤمن وعلى اللامؤمن الذي قد يسمعه: «اما عرفت؟ اما سمعت أن الربّ إله سرمدي، خلق الأرض بكاملها» (اش 40: 28)؟ وكان سبق وقال في آ 26: «ارفعوا عيونكم وانظروا من خلق السماوات هذه؟ من يعدّ نجومها واحدة واحدة ويدعوها جميعاً بأسماء...؟ بل هو يتفقدها واحدة واحدة بحيث «لا يُفقد منها واحد». وإذ يريد النبيّ ان يجعل من يدعوه الله يثق ولا يخاف، يذكّره بعظمة ذاك الذي يقول له: «انا دعوتك..» نقرأ: «هذا ما قال الرب، خالقُ السماء وناشرها، باسط الأرض مع خيراتها، وواهب شعبها فسحة الحياة روحاً للسائرين فيها» (أش 42: 5).

لا شكّ في أن هناك استعمالاً للفظ «الخلق» على مستوى الشعراء والفنّانين والمبدعين. ولكن الانسان لم يكن «ليخلق»، ليُبدع، لو لم يكن على صورة الله، ومثاله. علمُه من الله، معرفته من عنده تعالى. حين خلقه الله، ميّزه عن النبات والحيوان، ميّزه عن الخليقة كلها، بل جعله يسودها باسمه. وهو يفعل الآن. وهنيئاً له إن هو عرف انه «خالق» في خط الذي هو وحده خالق السماء والأرض. فالربّ جعل الانسان عظيماً، فأشركه في عمله منذ بداية الكون. غرس الرب الجنة، وطلب من آدم أن يفلحها ويزرعها. كانت الأرض تائهة لا تعرف اين تسير. فوجّهها الله وطلب من الانسان ان يتابع فيجعل الأرض اكثر جمالاً. كانت الأرض فارغة، فملأها الرب بحضوره ومجده، فكان فيها كل ما هو حسن. والانسان هو الشاهد لهذا الحضور: مجدُ الله الانسانُ العائش والعاملُ والسائر في طريق الربّ ليقود الخليقة إلى الربّ، لا ليبعدها عنه بواسطة الخطيئة، لا ليجعلها في عبوديّة لا تخرج منها إلاّ بيسوع المسيح.

الله خلق وخلق كلّ شيء. خلق الشمس التي ألّهها الأقدمون. وخلق القمر (سين) الذي أُلّـه على جبل سيناء. كما خلق التنانين العظام التي خاف منها البشر واعتبروا ان الله نفسه لا يقدر أن يقاومها. هنا نعود إلى أيوب فنسمع الله يريه عظمة الخليقة. أراد أيوب أن يقف على مستوى الله ويجادله كما يفعل الانسان اليوم. ولكنه في النهاية فهم أن الصمت هو أعظم جواب تجاه ما فعله الله في العالم، ولا سيّما حين نختبر حضور الله هذا في العالم. قال ايوب: سمعتُ عنك. واليوم رأتك عيناي. وهذا يكفي. ماذا سمع من الله؟ «أين كنت (يا ايوب) حين اسّستُ الأرض؟ من أقرّ حجمها إن كنت تعلم، أم من مدّ عليها الخيط فقاسها؟ على أي شيء رست قواعدها، ومن الذي أرسى حجر زاويتها؟ من حجز البحر بأبواب حين تدفّق من رحم الأرض؟ هل انت في أيامك أمرت الصبح وأرسلت الفجر إلى موضعه» (أي 38 : 4-11)؟ أسئلة طُرحت في سفر ايوب. ويطرحها العلماء اليوم فيرون أنهم يغوصون ولا يستطيعون ان يصلوا إلى النهاية. وكلّ ما احسّوا انهم اقتربوا من الهدف ابتعد الهدف عنهم. وكل ما شعروا انهم أمسكوا الله، كان الله ذاك البعيد. فنقول له ساجدين: يا رب، ماذا تريد ان نعمل؟

 

3- بداية البدايات

كانت بداية اولى حين خلق الله السماوات والأرض. اما البداية الثانية، بداية البدايات وأرفعها، فنقرأ عنها في مطلع إنجيل القديس يوحنا: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» ( يو 1: 1). وهذا الكلمة صار جسداً وسكن بيننا فابصرنا مجده الذي هو مجد الله. مع ذاك الذي هو الكلمة وابن الله، تنطلق الخليقة الجديدة التي ستجتمع كلها فيه، في ذلك الذي هو رأسها ويقودها إلى الحريّة والمجد.

إن كان العهد القديم قد تكلّم عن الله الخالق، فالعهد الجديد يشدّد على دور يسوع المسيح في عمل الخلق. قال يوحنا: «به كان كل شيء وبغيره ما كان شيء ممّا كان. فيه كانت الحياة، وحياته كانت نور الناس. والنور يُشرق في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه» (يو 1: 3- 5). كل شيء أي السماوات والأرض وما فيها، كان حاضراً حين تكوّنت الخليقة. إذن، وجوده كان ضرورياً. هنا نتذكّر ما قال سفر الأمثال عن الحكمة التي ستجد كمالها في يسوع المسيح: «قبل ان تُخلق الجبال، وقبل التلال وُجدتُ، حين لم تكن أرض ولا مياه، ولا حفنة من تراب الكون. وكنتُ حين كوّن السماوات، وحوّق حول وجه القمر، وثبّت الغيوم في العلاء وفجّر ينابيع المياه» (أم 8: 25- 28). كانت الحكمة مثل مهندس أمام الربّ تنفّـذ ما يطلب منها. وبيسوع المسيح، الابن الوحيد، وُجدت الخليقة. اما هو الكلمة، كما قال يوحنا؟ والله خلق بكلمته. خلق بابنه فلا شيء يمكنه ان يرتفع فوق هذا الابن، الذي ما اكتفى بأن فصل النور عن الظلمة، بل جعل النور يدحر الظلمة ويحلّ محلها؟ انه نور العالم. ومعه لا يكون ظلام. والخلائق كلها تخضع له، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى. أكانت سلاطين ام قوّات. كل شيء هو له وبه فله المجد إلى الأبد.

غير ان الابن الذي شارك الآب في عمل الخلق، أراد أن يأخذ جسداً مخلوقاً، أراد أن يُولـَد من امرأة، شأنه شأن كل انسان. قال لوقا: الروح يحلّ عليك ( يا مريم)، وقوّة العلي تظللك. بقوة الروح تجسّد الابن في حشا البتول. أخذ جسماً من جسمها ولحماً من لحمها ودماً من دمها. هي حقاً أمّه. وإذ صار الابن بشراً، لبسَ الضعفَ، وتحمّل الألم، بل ذاق الموت من أجلنا ومن اجل خلاصنا نحن البشر. وهو صار بكر الخليقة، بكر الخلائق كلها (كو 1: 15). وإذ يموت، يكون بكر الراقدين ليكون بكرَ الذين يقومون من الموت. صار خليقة ليرفع الخليقة إليه. صار انساناً مائتاً لكي يقيم البشر معه. انحدر إلى الاتضاع فرفعنا جميعاً معه لكي نُصبح خليقة جديدة بعد أن زال القديم، حين صالحنا الله بالمسيح (1كور5: 17-18).

 

خاتمة

من بداية يعمل الله فيها بكلمته ، إلى بداية البدايات مع حضور ابن الله في العالم لكي يجعل كلّ شيء جديداً، بعد ان اجتمع فيه الخلق كلّه لكي يمجّد الله. من خلق اول حلّ فيه الروح على المياه فأخرج منها كلَّ حياة، إلى خلق ثانٍ حلّ فيه الروح على مريم العذراء، فوُلد منها المسيح في ملء الزمن، بكر الخلائق كلها. بعد اليوم لا نمجّد الخالق بصفته الاله الواحد، بل نمجّد الآب والابن. ونقول مع صاحب سفر الرؤيا: «لله الآب، الجالس على العرش في السماء، وللحمل الذي هو ابن الله المتجسّد الذي كان ذبيحة فحمل خطايانا، الحمدُ والاكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور» (رؤ 5: 13).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM